رحلة مع حكاية المصريين والدستور (
18 )
معارك الدستور... سنوات الهدوء
عماد أبو غازي
بعد شهور
قليلة من عودة العمل بدستور 1923 توفي الملك أحمد فؤاد وخلفه على عرش مصر ابنه
فاروق، وخلال سنوات حكم فاروق الستة عشر تحول الصراع الدستوري إلى أسلوب جديد،
أسلوب الصراع بالنقاط وليس بالضربات القاضية.
فاروق في طريقه لآداء اليمين
المعركة الأولى التي تهاونت فيها
حكومة الوفد كانت معركة اختيار رئيس الديوان الملكي، فبعد تولي فاروق سلطاته
الدستورية كاملة وانتهاء مرحلة الوصاية على العرش بأشهر قليلة، وفي شهر أكتوبر
1937 عين الملك فاروق علي باشا ماهر رئيسًا للديوان الملكي دون مشاورة الحكومة.
علي ماهر
وكان الصراع حول السلطات الدستورية للملك قد بدأ مع أول حكومة دستورية شكلها سعد
زغلول بعد صدور دستور 23، يومها أصر سعد على أن اختيار رئيس الديوان وموظفي
السرايا يجب أن يحظى بموافقة الحكومة، وانتصر في معركته، لكن حكومة الوفد سنة 1937
لم تتمسك بحقها في الموافقة على تعيين رئيس الديوان، وتغاضت عن إصدار الملك لقرار
تعيين علي ماهر وسكتت عنه، فاتجه الملك ورئيس ديوانه إلى انتزاع مزيد من السلطات
الدستورية من الحكومة، كأن يكون للملك الرأي النهائي في منح الرتب والنياشين، وفي
تقديم مشروعات القوانين للبرلمان، وفي تعيين موظفي السرايا.
وتفاقمت الأزمة بين الملك
والحكومة، وقبل أن ينتهي عام 37 كان فاروق قد أقال حكومة النحاس باشا مستندًا إلى
المظاهرات المعارضة للحكومة التي توجهت إلى قصر عابدين، ومنتهزًا فرصة الانشقاق
الذي وقع في حزب الوفد، وجاء في أسباب إقالة الحكومة: "مجافاتها لروح الدستور
وبعدها عن احترام الحريات العامة وتعذر إيجاد سبيل لإصلاح الأمور على يد وزارة
يرأسها مصطفى النحاس".
محمد باشا محمود
وفي نفس اليوم كلف الملك محمد باشا
محمود بتأليف حكومة جديدة ضمت خليطًا من الساسة الجاهزين للمشاركة في كل
الانقلابات الدستورية، وأجلت الحكومة انعقاد البرلمان شهرًا ثم استصدرات مرسومًا
ملكيًا بحله، وأجرت انتخابات جديدة تحت إشرافها، إنتهت إلى حصول حزب الوفد على 12
مقعدًا فقط نتيجة للتزوير المفضوح.
وعن هذه الأزمة الدستورية ودور
محمد باشا محمود فيها، قال محمد زكي عبد القادر في كتابه "محنة الدستور 1923
ـ 1952":
"لكن خطأه وخطأ غيره ممن
أقدموا على هذه التجارب غير الدستورية أنهم ربطوا بينها وبين قوة الوفد، على أن
النظر العميق كان يجب أن يهديهم إلى ما هو أقوم من هذا سبيلًا، فإن المطالبة
بالدستور والتلهف لتحقيقه والحرص عليه كان في مصر قبل حركة عرابي، وبعد حركة
عرابي، وفي أيام مصطفى كامل، وقد طالب به حزب الأمة الأب الروحي لحزب الأحرار
الدستوريين الذي يرأسه محمد محمود، ولئن كانت أخطأ الوفد قد أضعفته، فإن الإيمان
بالدستور لم يضعف، والنفور من الحكم المطلق كان يزداد يومًا بعد يوم."
لقد شاركت أحزاب الأقلية (الأحرار
الدستوريين والسعديين والحزب الوطني) الملك فاروق ورئيس ديوانه علي ماهر في أول
معركة ضد الشرعية الدستورية، معركة كان هدفها نقل السلطة من الشعب إلى الملك،
وآداتها تزوير الانتخابات، ولم تستمر حكومة محمد محمود في الحكم كثيرًا فقد
استقالت الحكومة بناء على تبليغ من الملك في أغسطس 1939.
وفي ظل برلمان أتى بالتزوير، توالت
على حكم البلاد ثلاث حكومات، برئاسة علي ماهر ثم حسن صبري ثم حسين سري، وفي فبراير
عام 1942 وبعد تأزم موقف الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وتقدم القوات الألمانية
في الأراضي المصرية من الغرب، وتفاقم الأزمات التموينية وزيادة الغضب الشعبي في
الداخل أرغم الإنجليز الملك على تكليف النحاس برئاسة الحكومة في حادثة 4 فبراير
الشهيرة.
وبعد أن تولى النحاس الحكم أجرى
انتخابات برلمانية جديدة في شهر مارس فاز فيها الوفد بأغلبية كبيرة، واستمر الوفد
في الحكم قرابة عامين مستندًا إلى أغلبية برلمانية كبيرة، ومعتمدًا على انكماش دور
السرايا وتدخلاتها من تأثير الصفعة التي تلقها فاروق من الإنجليز؛ لكن مع اقتراب
نهاية الحرب العالمية وتغير موازين القوة لصالح الحلفاء، لم يعد الإنجليز في حاجة
لحكومة الوفد التي تستند إلى أغلبية شعبية حقيقية، فأعطوا الضوء الأخضر لفاروق
ليطيح بحكومة النحاس، فأقال الملك الحكومة في أكتوبر 1944، وكلف أحمد ماهر زعيم
السعديين بتشكيل الحكومة الجديدة، وجاء في خطاب الإقالة: "لما كنت حريصًا على
أن تحكم بلادي وزارة ديمقراطية تعمل للوطن وتطبق أحكام الدستور نصًا وروحًا، وتسوي
بين المصريين جميعًا في الحقوق والواجبات، وتقوم بتوفير الغذاء والكساء لطبقات
الشعب؛ فقد رأينا أن نقيلكم من منصبكم، وأصدرنا أمرنا هذا لمقامكم الرفيع شاكرين
لكم ولحضرات الوزراء زملائكم ما أمكنكم أداؤه من الخدمات أثناء قيامكم
بمهمتكم."
وقع هذا الانقلاب الدستوري الخامس
في تاريخ مصر بنفس أسلوب الانقلاب السابق عليه، مرسوم من الملك بإقالة حكومة تتمتع
بالأغلبية البرلمانية، ثم تكليف حكومة جديدة لا يساندها البرلمان، ثم حل البرلمان
وإجراء انتخابات جديدة، وفي هذه المرة قاطع الوفد الانتخابات وفاز السعديون
بالأغلبية، واستمر الانقلاب الدستوري خمس سنوات، انتهت في منصف عام 1949 بتشكيل
وزارة ائتلافية برئاسة حسين سري باشا سرعان ما حلت محلها وزارة محايدة أجرت
انتخابات جديدة في 3 يناير 1950 فاز فيها حزب الوفد بأغلبية ساحقة وشكل حكومته
الأخيرة التي أقالها الملك عقب حريق القاهرة في يناير 1952.
خطاب العرش
لقد استمر الصراع الدستوري طوال
عصر فاروق وعصف الملك بالحكومات المنتخبة ثلاث مرات، ونجح في ظل انقلاباته
الدستورية في توسيع سلطاته على حساب سلطات الحكومة البرلمانية خطوة بخطوة، فانتزع
حق تعيين رئيس الديوان وموظفي السرايا، ثم حق تعيين موظفي السلك الدبلوماسي
مُجردًا الحكومة من سلطاتها على الدبلوماسيين المصريين في الخارج ومسيطرًا بذلك
على رسم السياسة الخارجية وتنفيذها، ثم أصبح رأيه مقدمًا في تعينات الوظائف الكبرى
في الدولة، كما انتزع الملك حق تعيين قائد الجيش، فضلًا عن السيطرة على الأزهر
والمعاهد الدينية.
وهكذا انتهى الحال قبيل انقلاب
يوليو 1952 بمصر بلد دستوري انتهك فيه الملك سلطات الحكومة البرلمانية وتغول على
حسابها، فأفرغ دستور البلاد من محتواه، في ظل خنوع حكومات الانقلابات الدستورية،
وتراجع مقاومة الحكومات الشعبية تدريجيًا أمام ضغوط الملك وتسليمها له المرة وراء
المرة، انتهى الحال والبرلمان معطل والأحكام العرفية معلنة في أعقاب حريق القاهرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق