الثلاثاء، 21 فبراير 2017

هذا المقال نشر للمرة الأولى في 2008 بجريدة الدستور القاهرية، أعيد نشره بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الأستاذ هيكل

هيكل... وأرشيف مصر القومي

عماد أبو غازي

  الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل ليس مجرد كاتب صحفي متميز، ولم يكن فقط رئيسا لتحرير الجريدة الأولى في مصر خلال الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي، أو رئيس مجلس إدارة مؤسسة صحفية كبرى في مصر، جعلها الأكبر بجهده ورؤيته، وليس المحلل السياسي الأهم في منطقتنا العربية وحسب، إنه فوق ذلك كله جزء من تاريخ مصر الحديث والمعاصر، اقترب من مواقع السلطة في مرحلة حاسمة في تاريخنا وكان فاعلا فيها بدرجة كبيرة دون أن يتطابق معها، لذلك فشهادته على التاريخ وللتاريخ تعد وثيقة حية عن مرحلة غابت وثائقها أو غيبت.
 وقد كتب هيكل العديد من الكتب التي تناول فيها تاريخنا بعين المحلل السياسي والمشارك في الأحداث في آن واحد، ولعل من أهمها ثلاثيته "ملفات السويس" و"سنوات الغليان" و"الانفجار"، تلك الثلاثية التي تناولت حرب الثلاثين عاما من أجل السيطرة على المنطقة العربية، والتي أكتمل صدورها في عام 1990، في لحظة فارقة من تاريخ المنطقة بل من تاريخ العالم، لحظة "ملحق" حرب الثلاثين عاما، عندما ارتكب صدام حسين جريمته الأخيرة، ومع قراءة ثلاثية هيكل بدى بوضوح كيف أن العرب لا يتعلمون من أخطائهم، "ولا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون".
 ورغم أهمية كتابات هيكل إلا أن أحاديثه الأخيرة على قناة الجزيرة والتي امتدت الآن لشهور طويلة تكتسب أهمية أكبر بكثير، أولا لأنها شهادة حية موثقة على التاريخ تأتي في لحظة كما أكد هيكل أكثر من مرة بعدت فيها الأحداث بما يتيح له أن يتحدث بحرية أكبر، وثانيا لأن استخدام الحديث التلفزيوني المباشر يتيح تواصلا إنسانيا مع المتلقي قد لا يتوفر في الكلمة المكتوبة، كما أن التلفزيون بالتأكيد أكثر انتشارا من الكتاب، وتصل الكلمة والصورة عبره إلى قطاعات أوسع بكثير من الجمهور الذي لا يقرأ ما يُكتب، ثالثا أن الحديث التلفزيوني حتى ولو كان مسجلا ومراجعا أكثر تلقائية وصدق وحميمية من الكتاب.
  وبغض النظر عن اختلاف الناس مع هيكل أو اتفاقهم معه فيما يقوله أو بعبارة أدق فيما يصل إليه تحليله للأحداث فلا يستطيع أحد أن ينكر أهمية شهادة الرجل على التاريخ، رغم أن له انحيازته، التي هي أمر طبيعي، وقد أكد الأستاذ محمد حسنين هيكل في أحاديثه بقناة الجزيرة على ذلك عندما قال: "سئلت كثيرا جدا عما إذا كنت أنا منحازا أو غير منحاز، وأنا بأقول بوضوح كده، نعم أنا منحاز، ولكن مسألة الانحياز لا بد أن توصف، أخجل من انحيازي إذا كان انحيازا لنظام أو انحيازا لرجل لكني لا أخجل من انحيازي إذا كان انحيازا لوطن ولأمة، وأنا أتصور برضه ويشفع لي تجربة طويلة يعني هو أني واحد بلا مطامع، أن أقول إنه حتى هذه اللحظة أنا أقدر أتكلم في هذا الموضوع وأقول والله أنا منحاز ومنحاز لوطن وأمة وليس لرجل وشخص"، كما أكد أيضا على أن ما يقدمه محاولة للتحليل والفهم عندما قال: "بترجى أنه لا أحد يتصور أنه في أحد يملك حقيقة ولا في أحد يملك حكمة ولكن كلنا بنحاول"
 وقد قدم الأستاذ هيكل من خلال برنامجه في قناة الجزيرة قرائته للتاريخ وشهادته عليه، معتمدا على ذاكرته الحية لفترة عاصرها وشارك في أحداثها، وعلى ما لديه من وثائق ومستندات، أو بالأحرى من صور لوثائق ومستندات وصلت إليه بحكم صلته بالرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات، وهي مجموعة شديدة القيمة والأهمية من الوثائق غير المتاحة للباحثين الذين يدرسون تاريخ هذه الفترة، فهي وثائق لا تملكها دار الوثائق القومية أو أية جهة أخرى تيح وثائقها للدارسين، الأمر الذي يدفع من يدرسون تاريخ مصر بعد انقلاب يوليو 1952 إلى الاعتماد على الأرشيفات الأجنبية التي تفتح أبوابها ووثائقها للباحثين بمجرد انتهاء مدد الحظر القانوني التي لا تتجاوز عادة الثلاثين عاما، خاصة الأرشيفين البريطاني والأمريكي، بما فيهما من وثائق ترتبط بتاريخ مصر والمنطقة، أو الاعتماد على الصحف والدوريات أو ذكريات الساسة، وهي مصادر أقل قيمة.
  وقد فتح حديث الأستاذ في الحلقة التي أذيعت في يوم الخميس 13/11/2008 قضية الوثائق التي بحوزته وهي قضية مهمة طالما لف الناس وداروا حولها دون اقتحامها بالشكل الذي اقتحمها به الأستاذ هذه المرة.
 كيف وصلت هذه الوثائق إلى هيكل؟
 وهل هي أصول أم صور؟
 وهل يحق له الاحتفاظ بها؟
ثلاثة أسئلة تبحث عن إجابات.....
 لقد أكد هيكل على ما كان معروفا وشائعا بين الناس من أنه كان يكتب للرئيسين عبد الناصر والسادات، فقال: "أنا كنت موجودا كتبت له كل كلمة تقريبا في خطبه وفي خطاباته العامة للناس كتبت كل رسائله تقريبا لرؤساء الدول لكن كان هناك شيء مهم جدا وهو أنه لم أكتب إلا ما أنا إما أنا مقتنع به أو ما أنا متفق عليه، يعني إذا كان هناك رأي في موضوع أنا بأفهم فيه أو بعرف عنه حاجة أقدر أقول أتكلم فيه وأقدر أفتي وأقدر أجاوب بدون أن أحتاج إلى أحد لكي يعطيني تعليمات مفصلة وبالفعل مع جمال عبد الناصر وحتى مع أنور السادات... بأقول إنه في سنة 1967 أنا لم أكتب ولا بيان فيما يتعلق بقفل خليج العقبة إطلاقا رغم أنني كتبت تقريبا كل شيء قبلها، في مراسلات جمال عبد الناصر على سبيل المثال مع كل رئيس أميركي وفي مراسلات أنور السادات مع كل رئيس أميركي وكل رئيس سوفياتي وكل رئيس في العالم الثالث وكل رئيس عربي وأنا كتبتها كلها وكتبتها..."، هذا الدور كان يقتضي بالطبع أن تتاح للرجل بعض وثائق الدولة حتى يتمكن من القيام بالدور المكلف به.
 ويروى الأستاذ هيكل قصة على سبيل المثال يدلل بها على كيفية وصول الوثائق إليه وينفي ما يوجه إليه من اتهامات، يقول: "لما آجي على سبيل المثال التأشيرات وأشوف لأنه أنا هنا برضه أقدم أوراق اعتماد لأنه في ناس بيتصوروا أنه في وثائق بتتاخد كده، أنه في ورق بيتاخد، ما عنديش ورق يتاخد، اللي عندي كله هو إما ما أرسل إلي رسميا نسخ من وثائق أرسلت إلي رسميا لأنه طلب فيها رأيي أو طلب فيها دوري وكانت موجودة مشاع عند غيري، يعني على سبيل المثال أنا قدامي ورقة هذه هي من رئاسة الجمهورية ورقة كاتبها سكرتير الرئيس للمعلومات في ذلك الوقت السيد سامي شرف، في جواب جاي من كينيدي وهو جواب مهم جدا في مرحلة بالغة الأهمية من علاقتنا بالأميركان، بيقول إيه الجواب؟ بيقول تعليمات الرئيس، ترسل نسخة إلى السادة، سري للغاية وشخصي. من هم؟ بغدادي، المشير، كمال حسين، علي صبري، دكتور فوزي، حسين ذو الفقار، صلاح نصر، محمود رياض، ويطلب من كل منهم أن يجهز ملاحظاته على الرسالة، وبعدين ترسل نسخة سري للغاية وشخصي لهيكل، إمضاء جمال عبد الناصر. ما فيش ورق بيروح لواحد بس ... لكن أنا بعمل إيه هنا؟ أبص ألاقي لو كملت الملف ده لآخره ألاقي ثلاث ورقات مهمين في خطاب الرئيس كينيدي الأصلي اللي هو جاء لي فيه إشارة واحدة من جمال عبد الناصر ليس فيها إلا شيء واحد، كلمة واحدة، هيكل، جمال، هيكل وتوقيع جمال، لا عندي تعليمات ولا عندي تفاصيل ولا حيقول إيه ....... لكن هنا كانت القاعدة أن كل ورقة ترسل لي نسخة منها، كل خطاب من رئيس دولة ترسل لي نسخة منه وأنا كنت بأرد، بتكلم، ممكن يبقى في مشكلة فيها ممكن.... الوثائق والورق كله ما عنديش تعليمات فيما أفعله لا من جمال عبد الناصر ولا من أنور السادات ولكن هذا جواب مثلا، بأقول، من كينيدي على سبيل المثال، وأنا قدامي في نمرة واحد رسالة كينيدي نفسها، نمرة اثنين بخط يدي الرد عليها، نمرة ثلاثة الترجمة، لأنه بتتعمل باللغة العربية في القبل ليشوفها الرئيس وبعدين تتعمل ترجمة لها، كل ده وأنا بأشتغل عملي الرئيسي هو سواء في الأخبار أو في الأهرام أو صحفي محترف قاعد بيشتغل لكنه بيشعر أنه في دور أو في ما يمكن أن يؤديه هناك ما يتجاوز دور الصحفي وهو يؤديه وبلا ثمن، بلا أجر..."
 ويذكر الرجل بأمانة أن الوثائق العسكرية بدأت تصل إليه بعد هزيمة 1967 فيقول:" أنا فضلت لغاية 1967 في طول الفترة حيث دخلت وحيث انهمكت من قبل السويس لغاية 1967 لا أقارب الموضوعات العسكرية ولكن ابتداء من سنة 1967 أصبحت الأمور العسكرية بأتكلم مش الأمور العسكرية العسكرية البحتة ولكن ما يتصل بالمعركة أصبحت أراه وأصبحت أتابعه لأنها أصبحت مسألة حياة أو موت……….. أنا عايز أقول إن كل ورقة جاءت لي في 1967 محالة إليّ بتوقيع من الفريق محمد فوزي وهو قائد القوات المسلحة، وبطلب من جمال عبد الناصر، لأنه كان مهما جدا أن أكون على علاقة وعلى فهم ونحن، ده ما كان....... بأقول هنا ثاني إنه كله ورقة، أنا اقتربت من موضوع الحرب اقتربت ولكن اقترابي له بدأ بعد 1967 لأنه وعبد الحكيم عامر موجود ولازم أعترف بهذا وعبد الحكيم عامر كان موجودا بعد السويس، فترة بعد السويس إلى، جاءت حرب اليمن وجاءت ظروف مقدمات 67 في تصورات معينة فيما يتعلق بالقوات المسلحة أنا واحد من الناس اللي كنت بناقش فيها، لكن بناقش فيها من بعيد، بناقش فيها لأن هذا موضوع أنا لا اختصاص فيه ولا علم لي فيه ولا أريد أن أتدخل فيه لأن الموضوع يتعلق بالقوات المسلحة، ..... موضوع القوات والسلاح أنا أعرف حدودي وألزمها ولا أقترب منها، لكن بعد 67 والموضوع أصبح مش حرب بقى ولا موضوع قتال لكن موضوع إستراتيجي، قومية بحالها في عالم متغير، كل الأشياء جاءت لي وجاءت لي، أنا مثلا الفريق فوزي حتى مش بس الملفات دي وأنا حأتكلم عليها ولكن حتى تطورات بناء الجبهة الشرقية الفريق فوزي "عزيزي الأخ محمد حسنين هيكل، صباح الخير، أرفق مع هذا كذا ملف عن الجبهة الشرقية، أرفق لديك.." إلى آخره، أرفق اللي حاصل فيها إيه لأنه عايز أقول إنه إذا كانت هناك مشاركة سياسية أنا ما بشتغلش باشكاتب يعني أحد يقول لي اكتب حاجة يعني ما لم أكن فاهما ومقتنعا باللي بأعمله ما أقرب منه، ليس هناك ما يدعو للاقتراب منه...."
 ويكشف هيكل في هذه الحلقة من برنامجه عن بعض الوثائق المهمة الموجودة بحوزته، والتي تتضمن تقويما لما حدث في حرب 1967، يقول: "عايز أقول إنه أنا لا أعلم في تاريخ مصر قضية حقق فيها وحقق فيها رسميا ووثقت بمقدار حرب 67 أنا النهارده جايب معي برضه في صدد تقديم أوراق اعتماد بعض التحقيقات اللي، صور بأقول صور، يعني صور التحقيقات أوراق تحقيقات بلا حدود في كل ما جرى للقوات سواء في سيناء سواء في ضربة الطيران سواء في كل ما له علاقة بالمعركة، كل تفاصيل المعركة حقق فيها تفصيلا وحقق فيها بتحديد المسؤوليات وحقق فيها بالدرجة الأولى لكي تكون الصورة واضحة عندما يجيء وقت التصحيح.... أريد أن يعرف أي أحد، كل الناس أن هذا موضوع جدي جدا أخذ جد في وقته وأخذ جد بعد وقته، ولا يستطيع أحد ولا يملك أن يتستر عليه لأن هذا ملك للناس الذين دفعوا فيه دما ودفعوا في أعصابا ودفعوا فيه ثروة .... عايز أقول إن 67 حقق في كل شيء فيها لحتى السياسة العمل السياسي ... في تصرفات القيادة وكيف فعلت؟ حقق في القرارات السياسية التي اتخذت وأدت إلى أزمة أيام من أول 14 مايو لغاية 5 يونيو، ووضعت كل القرارات المتخذة بشأنها في ملفات درست .... عايز أقول، أضيف إضافة ثانية وهذا كله يجري، جمال عبد الناصر طلب من قائد القوات البرية في ذلك الوقت اللواء مرتجي أنه يقعد يتفرغ يكتب تقريرا كاملا عما جرى لأنه مش تقرير تحقيق بس يعني الكلام التحقيق أسهل الأشياء ولكن التقارير والتحقيقات تحدد المسؤوليات ولكن أيضا تلفت النظر إلى ما هو ضروري من الواجبات، وقعد الفريق مرتجي على سبيل المثال في بيته  قعد شهرين وأعطي الخدمات اللازمة مساعدين وسائل الخرائط  وكتب تقريرا هو سماه مذكرة عن حالة واستعداد القوات المسلحة والإعداد والتجهيز للعمليات وسير المعركة وإدارتها، وهو اختار أن يسمي التقرير "أمانة"، ولما قدمه لجمال عبد الناصر حط أوله خطابا بيقول سيدي الرئيس باحترامي وكذا أنا طلبتم مني أن أقول كذا وأنا بأقولها، بأعمل ما جرى من أول 5 يونيو والتجهيز لحرب وسير المعركة حتى يوم 9 يونيو وقد أعطيت هذا التقرير الكلمة، الوصف الكودي "أمانة" لأنه فعلا كان مطلوبا منه أن يكتب بكل ما هو ممكن وبالتقرير كتب، ثم إن هذا التقرير ده راح، لم يكن سرا، هذا التقرير طبعت منه حوالي 12، مش حوالي بالتحديد 12نسخة كان عندي الحظ أنه يجي لي نسخة منها، لأنه كان مطلوبا أن أفهم إذا كان لا بد أن أشارك وأن أعبر على الأقل أشارك بالتعبير على أقل تقدير فلا بد أن أكون فاهما لماذا جرى، وقد درست طبعا طبيعي درسته دراسة كافية جدا..."
 هذا الكلام المهم للأستاذ هيكل يكشف آليات العمل التي جعلت بعض وثائق الدولة تنتقل إلى حوزته، لقد انتقلت إليه بشكل طبيعي ورسمي، في إطار مهام تم تكليفه بها من القيادة السياسية، أو لأخذ مشورته في قضايا رأى رئيس الجمهورية أن يستعين بمشورته فيها، أو لتقديم الدعم له فيما يكتبه باعتباره أكثر الصحفيين قربا من الرئيس، ولا يمكن لأحد أن يؤاخذه على ذلك أو يحاسبه عليه، كما لا يمكن أن نلوم النظام حينها، فالرجل كان أحد المستشارين المقربين جدا من رئيس الدولة في معظم عصر عبد الناصر ولعدة سنوات من عصر السادات، وبعيدا عن توليه المسؤلية الرسمية كوزير للإعلام لفترة محدودة، وبعيدا عن دوره الصحفي، كان هيكل بشخصه ورؤيته ومواقفه قريبا من قمة السلطة وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون على صلة بوثائق الدولة السياسية، ثم العسكرية بعد هزيمة 1967 ومرحلة الإعداد للمعركة، وإذا كان توافر مثل هذه الوثائق تحت يديه أعطاه ميزة لم يحصل عليه غيره من الكتاب والصحفيين فهذا شأن آخر بعيد تماما عن القضية الرئيسية، وهي مدى مشروعية حيازة هيكل لما يحوزه من وثائق، تلك القضية التي يبدو من حديث هيكل أنها تطرح عليه كثيرا، حيث يقول: " ولكن في سؤال مرات بيتقال لي وهو ده من الأسئلة أيضا، ليه عندك هذا الكلام؟ يعني ليه عندي؟ لأنه جاء لي بالطريق الشرعي المطلوب أن أعمل فيه وأن أضيف من جهدي وهو صورة من صور، وصور كلها في الدولة أين هي هذه الصور في الدولة؟"
 والحقيقة أن سؤال هيكل أكثر مشروعية من أسئلة الذين يلومون عليه وجود تلك الوثائق لديه، فالمفترض أن تكون أصول الوثائق التي انتهى استخدامها في كل مؤسسات الدولة وفي مقدمتها رئاسة الجمهورية في حوزة الأرشيف القومي لمصر، أي في حوزة دار الوثائق القومية، وفقا للقانون وللأعراف العالمية في مجال الأرشيف، حتى تكون هذه الوثائق تحت أعين الباحثين الذين يكتبون تاريخ مصر.  
 أما عن طبيعة ما يملكه هيكل، هل يملك وثائق أصلية أم صور أو نسخ بمعنى أدق؟ فإن وصول بعض الأصول إلى رجال قريبين من السلطة بحكم عملهم أمر طبيعي لا غبار عليه، لكن ما قدمه هيكل وما أكد عليه أكثر من مرة أن ما بحوزته صور أو نسخ، وأن ما يعرضه علينا على الشاشة صور ضوئية من تلك النسخ، فيقول: "وبالتالي فأنا ما لدي من هذا الموضوع كل ما جاءني بالطريق الرسمي وجائتني صور منه بمعنى أنه ما لدي هو صور اللي أنا جايبه وعارضه معي النهارده هو صور من صور…"
 وهي نسخ أو صور لها قيمة الأصل خصوصا في ظل غياب تلك الأصول وعدم إتاحتها للباحثين، الأمر الذي يؤكده هيكل عندما يقول: "ما أجيئ به هنا هو صور من الصور وهي لها قيمة الوثيقة...".
 يبقى السؤال الأخير والأهم هل يحق للأستاذ هيكل أن يحتفظ بهذه الوثائق، أو بمعنى أدق بهذه النسخ؟ والتي يبدو من حديثه أنه يحتفظ بها خارج البلاد، فهو يقول: "صوري الأصلية اللي أنا أخذتها من الأصل الوثائقي اللي جاء لي أنا محتفظ بها بعيد..."
 في الحقيقة الموضوع شائك وملتبس، لقد صدر في منتصف السبعينات تعديلان لقانون الوثائق أعقبهما ثالث في مطلع الثمانينيات، بتشديد العقوبة لتصل إلى السجن لكل من حاز وثائق سرية بحكم عمله أو آلت إليه بطريق من الطرق وأفشى فحواها، ونعرف نحن المشتغلين بالوثائق تلك التعديلات باسم قانون هيكل، فقد كان مفهوما أن الهدف منه منع الأستاذ هيكل من نشر ما لديه من وثائق أو الاعتماد على المعلومات الموجودة بها في كتبه، الآن معظم تلك الوثائق أصبحت خارج الحظر القانوني، فأصبح من حق الرجل أن يستخدمها كيفما شاء، لكن هل كان عليه أن يسلم تلك الوثائق إلى دار الوثائق القومية، القانون المصري لا يلزم الأفراد بتسليم وثائقهم لأرشيف الدولة القومي، والوثائق التي بحوزة الرجل ليست الأصول، والجهات الرسمية التي تحوز الأصول هي التي ينبغي أن تسلمها إلى دار الوثائق القومية، خصوصا تلك الوثائق التي انتهت مدد حجبها وهي في القانون المصري 30 سنة، يمكن أن تمتد في حالة الوثائق المصنفة بدرجة سري للغاية أو سري جدا إلى خمسين سنة، أي أن كل وثائق الدولة حتى عام 1958 ينبغي أن تكون في دار الوثائق القومية الآن، وكل الوثائق المصنفة بدرجة سري والتي ترجع إلى ما قبل عام 1978، وكذلك الوثائق غير المصنفة بدرجات السرية والتي تعود إلى ما قبل عام 1993 لابد أن تكون الآن في دار الوثائق القومية، فهل هذا واقع الحال؟ بالطبع لا.
 هل يعني هذا أن هيكل وحده هو الذي يستطيع استخدام تلك الوثائق؟
 في الحقيقة أبدى الأستاذ بادرة طيبة عندما قال بالحرف: " بيقولوا لي بتطلع قوانين الوثائق، وأنا في وقت من الأوقات أنا مستعد بآخذ ده كله بأوديه الصور اللي عندي كلها بتروح حيث ينبغي أن توجد...أنا مستعد أعطي ده كله بكره الصبح، دلوقت حالا، كل الصور الموجودة عندي لأنها صور وعندي منها صور، ولكن أين تذهب؟"
 هذا ما ينبغي أن نجيب عليه، أين تذهب هذه الوثائق؟
 لقد طرح هيكل ثلاثة أماكن وردت على ذهنه ليسلم له ما لديه من وثائق ولكنه تراجع عنها جميعا، يقول: "فكرت تستنى في الأهرام لكن شفت ما جرى في الأهرام" وهو محق في هذا تماما فليس الأهرام أفضل مكان تذهب إليه الوثائق، فلا هو أرشيف ولا حاله أصبح يسر، فكر كذلك هيكل في مكتبة الإسكندرية وهي أحد الأماكن التي يمكن أن تحتفظ بنسخة من هذه الصور خاصة وأن لديها مشروعا ضخما على شبكة الإنترنت باسم ذاكرة مصر يضم صورا لآلاف الوثائق، والمشروع مكان مناسب تماما ليعرض الأستاذ هيكل ما بحوزته من وثائق من خلاله مثلما فعلت عائلات كثيرة، منها أسرة الرئيس الراحل أنور السادات وأسرة بطرس باشا غالي وأسرة محمد محمود باشا وأسرة الدكتور علي باشا إبراهيم وأسرة يوسف درويش المحامي اليساري، كما أهدت الدكتورة هدى عبد الناصر للمكتبة مجموعة كاملة من أرشيف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر خصص لها موقعا منفصلا على الشبكة من خلال موقع مكتبة الإسكندرية، ولا شك أن وثائق محمد حسنين هيكل سوف تشكل إضافة مهمة لموقع المكتبة، كما ستقدم خدمة مهمة لكل الباحثين المهتمين بتاريخ مصر الحديث والمعاصر، ويبدو أن هيكل فكر بجدية في هذا الموضوع وتفاتح فيه مع الدكتور إسماعيل سراج الدين مدير المكتبة لكنه تراجع بسبب موقفه من بعض أنشطة المكتبة، الأمر الذي يستحق من الأستاذ هيكل التفكير فيه مرة أخرى.
   أما المكان الطبيعي لهذه الوثائق فدار الوثائق القومية، ويؤكد هيكل أنه فكر في ذلك فيقول في حديثه: "وقت من الأوقات قلت تذهب إلى دار الوثائق، لكن شفت اللي بيحصل في دار الوثائق، ثم دار الوثائق مكلفة أن تحفظ الأصل مش الصور، دار الوثائق مش صور من صور، دار الوثائق لا بد أن تكون فيها الأصول وليس الصور، وبعدين الحاجة الثانية هذه الصور التي وزعت لم تكن حكرا علي، في عشرين واحد على أقل تقدير - وأنا حأتكلم على بعض التقارير المهمة وأقول راحت لمين- ما ينبغي أن يكون في دار الوثائق هو الأصول مش الصور مش صور عن صور يعني، لما نجي نتكلم كمان حتى على صيانة الوثائق بننسى مرات نقول عاوزين نجمع الوثائق لكننا لا نقدم أي ضمانات للضمير المصري أو العربي الذي يحتاج إلى هذه الوثائق حتى لو كان ما هو متاح منها هو مجرد صور من صور لأنه محتاجين لها، أين ذهب هذا كله؟ أنا لا أعلم، لكن لما آجي أتكلم على قانون الوثائق لا بد قبل أن أقول أجمع الوثائق لا بد أن يكون هناك نظام لضمان الحفاظ على هذه الوثائق لضمان استعمال هذه الوثائق لضمان عدم استغلال هذه الوثائق...."
 وكلام الأستاذ هيكل هنا صحيح تماما في ظاهرة، لكن الصور والنسخ في عرف الوثائقيين والأرشيفيين تحل محل الأصول في حالة غياب تلك الوثائق الأصلية، كما أن دار الوثائق القومية تطورت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وهناك مشروع مهم للتحول الرقمي في دار الوثائق القومية، ومشروع آخر لبناء مقر جديد حديث ومتطور للدار بالفسطاط، كما أن الدار أصبحت تملك معامل متطورة للترميم، وبعض مجموعاتها النادرة سجلت تراثا عالميا، ربما يصدق كلام الأستاذ هيكل على دار الوثائق القومية قبل السنوات، لكن الوضع الآن اختلف، وربما إذا وجهت له دعوة لزيارة الدار والاطلاع على ما يجري بها يشجعه ذلك على إيداع وديعته الثمينة بالدار، أو على الأقل صورة من الصورة كما يقول.
 وإذا كان الأستاذ هيكل حريص على الضمير الوطني كما يقول، وهو حريص بكل تأكيد، فإن المكان الذي ينبغي أن تكون فيه هذه الوثائق أو صور الوثائق هو دار الوثائق القومية إلى أن يتاح للدار أن تضع يدها على الأصول وتضعها في خدمة الباحثين، وما تضمه الدار من وثائق بكامله متاحا للباحثين مصريين وأجانب وفقا للقواعد الأرشيفية المتبعة في جميع أرشيفات العالم، من المؤكد أن قانون الوثائق في مصر يحتاج إلى تطوير، ومن المؤكد أيضا أن نظم الاطلاع تحتاج إلى مزيد من تبني قواعد الشفافية الكاملة وحرية تداول المعلومات، لكنه حتى في ظل الأوضاع القائمة فإن وجود الوثائق بالدار هو الضمان الأولى لإتاحتها لأكبر عدد من الباحثين.

 وكما قال الأستاذ هيكل: "الحقائق كلها موجودة لماذا يبقى لغزا مغلقا على الضمير المصري؟ لماذا يبقى خفاء؟ لماذا يبقى سرا بينما هو كأي حقيقة ملك لكل أصحابها الذين دفعوا فيها؟" 

ملاحظة: لو كتبت المقال النهارده ما كنتش هاقترح اهداء الوثائق للدار لأنها أصبحت للأسف مؤسسة حجب مش مؤسسة إتاحة. 

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...