الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

الاحتلال العثماني لمصر
أسباب ونتائج
(4)
                                                        عماد أبو غازي

 ترسم المصادر التاريخية صورة لدولة المماليك كدولة في طريقها نحو النهاية والانهيار، الأمر الذي يتفق عليه كثير من الباحثين المحدثين، ولكن يبقى الخلاف حول تحديد نقطة البداية في "متوالية" الانهيار، والعنصر الذي كان له دور أكبر من غيره فيه.
 فالبعض يرى في الوباء الكبير بداية الأزمة وأساسها، به بدأ الانهيار، وبعده توالت المجاعات والأوبئة، فقضت على البقية الباقية من قدرات الدولة على النهوض، ويبرز آخرون التحول في طرق التجارة باعتباره أساسًا للأزمة، وهناك رأي ثالث يشير إلى أثر الحملات العسكرية المتوالية في إنهاك الدولة المملوكية اقتصاديًا وعسكريًا.
 والعوامل الثلاثة السابقة مجتمعة ـ في رأي البعض ـ قادت البلاد إلى أزمة اقتصادية كانت في تفاعلها مع السياسات التي اتبعها سلاطين المماليك الأساس وراء انهيار الدولة وتداعيها، وقد اكتملت مظاهر هذه الأزمة منذ عهد السلطان "قايتباى" (872- 901هـ/ 1468- 1496م|).
 وهناك من يرى أن هذه العوامل الطبيعية والخارجية اجتمعت وتوالت على دولة المماليك دون أن يكون لهذه الدولة يد في ذلك، فأدت في النهاية إلى سقوطها، إذ تضاءلت موارد الذهب في بلاد النوبة، واجتذب الأوروبيون ذهب السودان الغربي عبر المغرب الأقصى، ثم جاء انتشار الأوبئة والمجاعات، فغزوة تيمور لنك وما صحبها من إرهاق لميزانية مصر، ثم ـ أخيرًا ـ جاءت الضربة القاضية بتحول طرق التجارة عن مصر إلى رأس الرجاء الصالح، وقد تواكب كل ذلك مع لحظة ضعف في النظم الشرقية كلها؛ عجزت فيها عن مواكبة التطور الذي حدث في الغرب.
 وفي المقابل؛ تركز آراء أخرى على العناصر الداخلية في بنية النظام المملوكي نفسه؛ وتحملها مسئولية الأزمة بشكل أساسي؛ فهناك من يرى أن أساس الأزمة لصيق الصلة بطبيعة النظام المملوكي، حيث إنها نتيجة طبيعية لعسكرة المجتمع منذ نهاية العصر الفاطمي؛ واصطدام الخصائص العسكرية والبدائية للأيوبيين والمماليك بالحياة المدنية للمجتمع المصري، تلك الحياة التي نجحت في أن تحد من عيوب الحكم العسكري وتعادله؛ حتى بدأ عهد المماليك الجراكسة، وتوالت الأزمات المالية الحادة وما صحبها من انحلال النظم المملوكية، وغلبة الطابع العسكري على المناصب العامة، فانعكست الآية حينئذ، وأخذ هذا الحكم يعصف بالحياة المدنية وينخر في عظام البلاد.
 ويربط رأي آخر بين الأزمة وأسلوب الطبقات العليا في التعامل مع الموارد، فسياسة الاكتناز ثم الإنفاق الترفي التي اتبعتها القوى المسيطرة على اقتصاديات البلاد؛ أضاعت أي إمكانية لتطوير الإنتاج، فعاشت مصر طوال العصرين الأيوبي والمملوكي في ظل تناقض حاد فيما بين ازدهار التجارة الخارجية في أغلب الأوقات؛ وبين التدهور المطرد على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي في الداخل؛ والركود في تطوير القدرات الإنتاجية للمجتمع، الأمر الذي أدى إلى انهيار الدولة المملوكية الثانية بمجرد تعرض تجارة المرور للانخفاض نتيجة كشف طريق رأس الرجاء الصالح.
وأخيرا؛ فهناك من يرجع هذه الأزمة في الأساس إلى السياسات الخرقاء للسلاطين الجراكسة، حيث "أهملوا نظام التجنيد المملوكي، وأساءوا فهم الإقطاع الحربي، فأفقروا العباد، وخربوا البلاد، واستحدثوا سياسة الاحتكار في الزراعة والتجارة لتغطية نفقاتهم وحملاتهم الحربية"
لقد كانت أسباب الأزمة التي أدت إلى انهيار الدولة متداخلة ومتشابكة؛ فلا يمكن إرجاع أزمة سقوط الدولة المملوكية إلى سبب واحد دون غيره؛ فاجتماع هذه المشكلات في فترة متقاربة وتوالدها من بعضها، وضع المجتمع المصرى كله في لحظة أزمة تاريخية، فكان العصر عصر انهيار شامل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية، عصرًا منبئًا بالنهاية المقبلة، وقد اجتمعت فيه عناصر الانهيار، وفوق ذلك كله سلسلة من الكوارث الطبيعية والأخطار الخارجية، وفي مواجهة كل هذه الأوضاع، عجزت إمكانيات المجتمع الذاتية عن النهوض من الأزمة، فقواعد الاقتصاد ومرتكزاته الأساسية مدمرة، ونظام الإقطاع الحربي عاجز عن تطوير الاقتصاد في مصر، والسياسات التي تتبعها الطبقة الحاكمة الوافدة تبدد الفائض الاقتصادي كله، وفي المقابل كانت سياسة الاحتكار والمصادرات المستمرة للأموال تعوق أي إمكانية لتحقيق التراكم الاقتصادي لدى الطبقات المحكومة؛ إذ كان ملمح العصر الأساسي تكثيف الاستغلال الواقع على القوى المنتجة إلى أقصى حدوده.
 وقد تواكب هذا كله مع فقدان دولة المماليك لمبرر وجودها التاريخي بمعنى ما، إذ فقدت طبقة المماليك تميزها الأساسي الكامن في قدرتها العسكرية التي كانت سببًا في قيام دولتهم.
ومن ناحية أخرى؛ لم يكن الخطر في هذه المرة خطرًا وافدًا يهدد الكيان الحضاري للمنطقة مثل
الخطر الصليبي أو الخطر المغولي، بل خطرًا نابعًا من ظهور كيان جديد فتي وقوي داخل الإطار الحضاري نفسه، ممثلًا هذه المرة فى الدولة العثمانية التي نجحت في القيام بدور الدولة "العالمية" الإسلامية حتى أصبحت مؤهلة لتحل محل الخلافة العباسية الشكلية التي أحياها المماليك في القاهرة.
 ولقد استخدمت الدولة العثمانية أساليب الدولة المملوكية في الرق العسكري والإقطاع الحربي ولكن بصورة أكثر كفاءة، فنجحت في القضاء على دولة المماليك التي كانت تعاني من أعراض الانهيار؛ حيث فقدت أي طاقة لتجاوز الأزمة، فالطبقة العليا في المجتمع عاجزة عن تطوير نفسها أو الخروج من أزمتها؛ أو حتى مجرد الحفاظ على الحد الأدنى من القدرة على أداء مهامها، والطبقات المحكومة فاقدة للقدرة على الفعل الإيجابي من أجل تغيير الأوضاع.
 لقد كانت اللحظة التي اصطدمت فيها الدولة العثمانية بدولة المماليك بحق لحظة استنفدت فيها منطقة المشرق العربي كل قدراتها على المقاومة الإيجابية بعد أكثر من أربعة قرون من المواجهات العسكرية العنيفة مع الغزوات الخارجية.
 ولم يكن الغزو العثماني لمصر حدثًا مفاجئًا في تاريخ المنطقة، فمنذ منتصف القرن التاسع الهجري بدأت علاقات الود والصداقة بين الدولتين المملوكية والعثمانية تنقلب إلى علاقات عداء؛ حتى انتهت بهذه الحرب التى قضت على دولة المماليك، وقد مرت العلاقات العثمانية المملوكية ابتداءً من عهد السلطان برقوق (784- 801هـ/ 1382- 1399م) بفترات من التوتر والانفراج بلغت حد الصدام العسكري في عهد قايتباي.
 لقد تمثلت أهم الأسباب المباشرة لهذا الصدام في تكرار إيواء المماليك للأمراء العثمانيين الفارين من حمامات الدم في البلاط العثماني، حيث جرت العادة في الدولة العثمانية أن يقوم السلطان الجديد بقتل جميع الذكور الذين يحتمل أن يكونوا منافسين له على العرش، وقد أصبح هذا التقليد شرعيًا منذ عصر محمد الفاتح (855- 886هـ/ 1451- 1481م) حيث أصدر قانونًا يلزم السلطان بقتل إخوته عقب توليه للعرش! وقد حل محل هذا النظام فى أواخر القرن 16م نظام أقفاص الأمراء الذي كان يتم بمقتضاه تحديد إقامة ذكور الأسرة الحاكمة داخل مقصورات مغلقة سميت بالأقفاص، وقد تكرر هرب بعض الأمراء من المذابح ولجؤهم إلى مصر وسوريا.
 الأمر الثاني كان صراع النفوذ على الإمارات الحدودية في مناطق الأناضول الجنوبية الشرقية المتاخمة للشام؛ كإمارات ذي القادر وبني رمضان، ودولتي الشاه: البيضاء والسوداء.
 وأخيرًا الموقف الذي اتخذه الغوري من الصراع العثماني الصفوي.
 لكن هناك أسباب أخرى بعيدة لهذا الصدام، كالسعي إلى الهيمنة على منطقة المشرق الإسلامي سياسيًا ودينيًا وحضاريًا، علاوة على اتجاه العثمانيين إلى تامين طرق تجارتهم الآتية من الشرق عبر البلاد العربية، وإلى الحصول على ما كانت دولة المماليك تحصل عليه من مكوس وعوائد إذا نجحوا في التصدى للخطر البرتغالي.
 وإذا كان العثمانيون قد فشلوا في هزيمة الدولة المملوكية في حربهما الأولى سنة 890هـ/ 1485م في عهد قايتباي، فإن الأمر قد اختلف هذه المرة لاختمار كل عوامل الانحلال في دولة المماليك خلال ربع القرن الخير من عمرها، فسقطت الشام ومصر، ثم لحقت بهما الحجاز، حيث انضمت طواعية إلى الدولة العثمانية بمجرد سقوط الدولة المملوكية، التي كان أشراف الحجاز يدينون لها بالولاء، فقد أرسل شريف مكة مندوبه إلى سليم في القاهرة ليعلن ولاء أشراف الحجاز لـسليم.
 لقد سقطت دولة المماليك بتوابعها في أيدي العثمانيين بعد معارك استمرت قرابة عشرة شهور

من 25 من رجب 922هـ تاريخ موقعة مرج دابق إلى 5من ربيع الثانى 923هـ. تاريخ آخر موقعة بين طومان باي وسليم.

الاثنين، 26 سبتمبر 2016

 الاحتلال العثماني لمصر
أسباب ونتائج
(3)
                                                        عماد أبو غازي




 كانت استجابة المجتمع المصرى فى العصر المملوكى للأزمة سلبية وعاجزة؛ نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية، حددها تقي الدين المقريزي في ثلاثة عناصر أعتبرها مسئولة عن المجاعات، وهي: فساد الإدارة السياسية في البلاد، وارتفاع ريع الأراضي الزراعية مع ارتفاع تكلفة الزراعة، بالإضافة إلى انهيار النظام النقدى وسيادة العملات الرديئة.
 ومن الجدير بالملاحظة أن سياسات الدولة لحل المشكلة الاقتصادية والمالية؛ تواكبت مع زيادة إنفاق الفئات العليا في المجتمع على الاستهلاك الترفي، وزيادة إنفاق الدولة على الأعباء العسكرية، بصورة أصبحت معها التكلفة الاقتصادية والاجتماعية لتصرفات المماليك شديدة الوطأة على اقتصاد البلاد، حيث أصبح المجتمع المصري قائمًا على تبديد فوائض إنتاجه بشكل مستمر،
تذكر المصادر مظاهر عديدة لهذا البذخ في الإنفاق بالرغم من شدة الأزمة الاقتصادية، من ذلك على سبيل المثال: ما ذكره ابن إياس في حوادث سنة 920هـ من قيام الغوري بنزهة في مصر العتيقة والجيزة وبولاق؛ أنفق فيها كاتب سره على الغذاء في يوم واحد ما يفوق الألف دينار! ومنها ما كان السلطان يقيمه من ولائم وأسمطة للأمراء ورجال الدولة، وما كانوا ينفقونه في أعراسهم، علاوة على سبك العملة كحلي.
 هذا وقد انعكست الأزمة الاقتصادية على الصعيد الاجتماعي في صورة تزايد واضح في حدة الفوارق الطبقية في المجتمع، وقد لفتت هذه الظاهرة إنتباه مؤرخي العصر؛ فرصدوها في كتابتهم،
 كذلك رصد الرحالة الذين زاروا مصر هذه الظاهرة، ففي الوقت الذي يصفون فيه حياة المماليك بالبذخ الشديد ويصفون ثراء قصورهم ودورهم، فإنهم يصفون حياة العامة في المدن والفلاحين في الريف بالبؤس الشديد والفقر المدقع.
 ولعل الوثائق الخاصة شاهد أكيد على هذه الظاهرة، فما فيها من وصف لقصور ودور المماليك وكبار رجال الدولة وكبار رجال الدين؛ يعكس مدى رفاهية الحياة التي كان هؤلاء يعيشون فيها، في مقابل آلاف من السكان يعيشون بلا مأوى!
 وعلى مستوى آخر؛ شهد العصر المملوكي الجركسي تفككًا واضحًا داخل إطار الطبقة العليا في المجتمع، فقد انهار النظام الاجتماعي للمماليك الذي كان يعتمد على ولاء المماليك لأميرهم فيما عرف بعلاقة الأستاذية، وارتباط المملوك بزملائه فيما يعرف بعلاقة الخشداشية؛ وعلاقة الأستاذية هى العلاقة التى تربط الأمير (الأستاذ) بمماليكه الذين اشتراهم، وهى علاقة ولاء كامل، إذ كان إخلاصهم له وحده دون غيره، أما الخشداشية فهي علاقة للزمالة بين المماليك، وكانت من أقوى الروابط بينهم؛ إذ تجمع المملوك بزملائه الذين تربى معهم. 
 لقد تحللت هذه العلاقات بسبب السياسات الجديدة التي أتبعت في دولة الجراكسة في شراء المماليك، فبدلًا من شراء المماليك أطفالًا صغارًا وتربيتهم في الطباق، لجأ السلاطين والأمراء إلى شراء مماليك من الشباب اليافع عرفوا باسم الجلبان، وذلك فى محاولة لتعويض الأعداد التي فقدت فى الفناء الكبير. ومع انتشار هؤلاء الجلبان؛ بدأت علاقات الولاء داخل المجتمع المملوكي تتفكك وتتهرأ.
كذلك كان لاتجاه السلطان برقوق إلى الإكثار من الجراكسة وتوليتهم المناصب الأساسية في الدولة أثره البالغ في طبع الدولة بطابع عنصري.
 لقد كان من الطبيعي أن تؤثر هذه الأزمة الاجتماعية على الوضع السياسي، فتنعكس في تفاقم وضع الانفصام بين الشعب المحكوم والطبقة العسكرية الأجنبية الحاكمة، فتسود حالة من عدم المبالاة بمصير الدولة، خاصة فى الريف، لقد كان رد فعل الفلاحين المصريين تجاه زحف سليم على البلاد؛ الامتناع عن دفع الأموال للدولة خشية أن يعودوا لدفعها مرة أخرى إذ استولى سليم على البلاد.
 وعندما دخلت الجيوش العثمانية إلى ريف مصر؛ بدأ المصريون يشعرون بوطأة الغازي الجديد، فنزح المئات من أهل الريف إلى القاهرة، وعندما استقر الأمر للعثمانيين؛ زادت ظاهرة هجر القرى هربًا  من ظلم موظفي الإدارة العثمانية والفرسان (السباهية) الذين أقاموا بالريف وفرضوا على أهله المغارم.
 ومن الجدير بالملاحظة أنه على الرغم من حدة الفوارق الطبقية، والشعور العام بالسخط، وكراهية الشعب للمماليك، فإن كل حركات المقاومة اتخذت طابعًا عفويًا، ومن ثم لم تقم أى حركة إيجابية لتغيير المجتمع.
 لقد اتخذ التمرد والعصيان أشكالًا سلبية؛ كرفض المجتمع والهرب منه، أو تشكيل جماعات من العياق والشطار والفتيان، وفى حالات أخرى كون الخارجون على المجتمع عصابات تسطو على الأسواق فيما عرف باسم "المناسر"، وربما كانت أقوى حركات التمرد والعصيان هى ثورات العربان الذين عاشوا على أطراف الوادي والدلتا، ونجحوا فى الاحتفاظ لأنفسهم بوضع خاص طوال العصر المملوكي احتفظوا فيه بحقهم في حمل السلاح، لكن ثورات العرب لم تكن وبالًا على الحكام من المماليك فقط، بل كانت عواقبها تصيب الفلاحين المصريين كذلك، الذين كانوا يعانون من العربان بمثل ما يعانون من حكام البلاد المماليك.
وعلى الصعيد السياسى كذلك شهدت البلاد حالة من عدم الاستقرار في السلطة، فداخل النخبة الحاكمة؛ بلغت الصراعات على السلطة أشدها لدرجة أن أربعة عشر من سلاطين دولة الجراكسة قتلوا أو عزلوا؛ لقد خلع من الحكم كل من : المنصور عبد العزيز بن برقوق، ويشك المؤرخون فى أنه قتل، والناصر فرج بن برقوق وقد قتل، ثم الخليفة المستعين بالله الذى تسلطن فى سنة 824هـ، و المظفر أحمد بن المؤيد شيخ، ومحمد بن ططر، و العزيز بن برسباى، والمنصور عثمان ابن جقمق، والمؤيد أحمد بن إينال، والظاهر يلباي، والظاهر تمربغا، والأشرف محمد بن قايتباي وقد مات مقتولًا، والظاهر قانصوه، والأشرف جانبلاط، والعادل طومان باي وقد مات مقتولًا، هذا بخلاف من سعوا إلى السلطنة ولم يتمكنوا منها تمكنًا كاملًا؛ وهما: خير بك سلطان ليلة، وقانصوه خمسمائة.
 وبلغ من تولوا السلطنة فى السنوات الست الأولى من القرن العاشر ستة سلاطين: بدأ القرن العاشر الهجرى والأشرف قايتباي سلطانًا، وتولى بعده ابنه محمد، ثم الظاهر قانصوه، ثم الأشرف جانبلاط، فـالعادل طومان باي، فـالأشرف قانصوه الغوري.
 ولم تتجاوز فترات حكم كثير من سلاطين الجراكسة شهورًا قليلة؛ بل إن بعضهم لم يتح له تولى السلطة إلا لساعات! ففى سنة 824 هـ تولى العرش أربعة سلاطين، وفى سنة 872 كذلك، ولم تتجاوز مدة حكم 12 من سلاطين الجراكسة سنة واحدة؛ ولذا فقد كان استقرار الغوري في السلطنة لستة عشر عامًا استثناءً فريدًا لم يتكرر كثيرًا فى تاريخ هذه الدولة.
 ولم يقتصر الاضطراب والصراع بين المماليك على القمم العليا فى هذه الطبقة؛ بل امتد ليصل إلى المماليك الصغار؛ لقد عرف عصر الجراكسة عشرات من حالات التمرد التي يقوم بها المماليك ـ خاصة الجلبان ـ احتجاجًا على التأخير فى صرف جوامكهم، أو على إنقاص هذه الجوامك.
 وكان لهذه الثورات والاضطرابات السياسية آثارها السلبية على الوضع الاقتصادى؛ فإذا كان معظم هذه الثورات والإضرابات قد نجم عن سوء الأوضاع الاقتصادية، فقد دفعت من ناحية أخرى بالوضع الاقتصادى إلى الهاوية، إذ عندما تقع هذه الاضطرابات في الريف، كانت تؤدي إلى مزيد من هجر الفلاحين للأراضي، أما إذا وقعت في المدن، فكانت أولى نتائجها إغلاق الأسواق وتخريبها، أوردت المصادر التاريخية كثيرًا من التفاصيل حول الصراعات داخل قمم طبقة المماليك، كما أوردت أخبار حالات عديدة لتمرد المماليك وثوراتهم ضد السلاطين وانعكاسها على الحالة الاقتصادية، وعن الصراعات بين كبار الأمراء.
 وامتدت مظاهر الاضطراب والفساد إلى الإدارة الحكومية للبلاد. فأصبحت الوظائف تولى بالرشوة أو تشترى من السلطان، وبالتالي أصبح من يلي الوظيفة هو من يقدر على الدفع لا من يصلح للقيام بمهامها، كما أصبح الهم الأول لموظفي الدولة استعادة ما دفعوه للسلطان أو لكبار الأمراء حتى يصلوا إلى هذه الوظائف، ومن ثم فقد بالغوا في فرض المغارم والرسوم على الأهالي حتى يعوضوا ما دفعوه، وذلك في وقت كانت حالة غالبية الناس تسير من سيئ إلى أسوأ؛ ولا تحتمل فرض أي أعباء جديدة.
هذا وقد امتدت ظاهرة تولي الوظائف بالرشوة إلى القضاة، فأصبح تولي منصب قاضى القضاة رهنًا بما يدفعه الساعي إلى الوظيفة من مال للسلطان حتى أن ابن إياس يذكر واقعتين تولى فيهما القضاة وظائفهم بغير رشوة دفعوها باعتبارهما من النوادر، ولجأ القضاة إلى تعويض ما دفعوه من المتقاضين أو إلى تعيين أعداد كبيرة من النواب أكثر من الحاجة في مقابل مبالغ من المال يدفعها هؤلاء النواب لهم، فدخل بذلك الفساد إلى القضاء.
 وهكذا أصبح الراغب فى قضاء حاجة من حاجاته مطالبًا أن يقدم لعمال الدولة وقضاتها مقابلًا ماليًا أخذ في التزايد مع اشتداد الأزمة، بل إن التجار والزائرين الأجانب كانوا مضطرين لدفع رشاوى لكبار رجال الدولة ليضمنوا معاملة طيبة منهم، لكن أخطر ما فى الأمر هو امتداد ظاهرة الرشوة إلى تولي المناصب العسكرية، الأمر الذي زاد الجيش المملوكي ضعفًا على ضعف.
 لقد كان انهيار القوة العسكرية للجيش المملوكي في العصر الجركسي أمرًا واضحًا للعيان وله أسبابه المتعددة، فقد خرجت مصر من الوباء الكبير وقد فقدت قسمًا كبيرًا من سكانها، ومن بين من فقدتهم قطاعات من الجيش المملوكي، وكانت الأزمة الاقتصادية الطاحنة عاملًا ثانيًا أضعف الجيش من ناحية، وقيد قدرة سلاطين المماليك على تعويض من فقدوهم من مماليك بشراء مماليك جدد، كما قيدت كثرة الأوقاف في الأراضي الزراعية أيديهم في منح الإقطاعات العسكرية،
ثم كانت الحروب المتوالية في مطلع القرن التاسع الهجري، فزادت الجيش إنهاكًا على إنهاكه، وأخيرًا كانت أدى الاعتماد على شراء مماليك بالغين في بناء الجيش إلى انهيار تقاليد وقواعد الفروسية المملوكية؛ خاصة بعد أن سمح السلاطين لمماليكهم بسكنى المدينة ومغادرة الطباق.

 ولعل ما سجله ابن إياس من تدهور في أوضاع أجناد الحلقة؛ وضعف قدرتهم العسكرية لدرجة عجز معظمهم عن شد وتر القوس، يدلنا على مدى ما وصل إليه أمر هذا الجيش من انهيار وضعف، وبعد ذلك يمكننا أن نتفهم بسهولة لماذا كان التقاعس عن القتال والهروب من الميدان سمتين غالبتين في جيش الغوري، ثم في جيش طومان باي عند مواجهتهما للعثمانيين.

السبت، 24 سبتمبر 2016

الاحتلال العثماني لمصر
أسباب ونتائج
(2)
                                                        عماد أبو غازي
لقد كانت عوامل الانهيار تنخر فى جسد الدولة منذ سنوات، حيث كانت مصر ـ دولة ونظامًا ـ في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الهجريين، أي ما يوازى القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، تعيش مرحلة أفول، ففي الأفق كانت تتجمع ملامح النهاية: نهاية عصر، وبداية عصر جديد، ولم تكن دولة المماليك الجراكسة لتتحمل البقاء كثيرًا، ولم يكن بديل داخلي في مصر قد أختمر بعد بالقدر الكافي لإحداث تغيير جذري؛ على الرغم من ظهور بوادر أولية لمثل هذا البديل! ومن هنا كانت النهاية المحتومة على يد طرف خارجي جديد، تلك النهاية التي قطعت الطريق على إرهاصات التطور الداخلي للمجتمع.
 لقد بلغ الانهيار مداه في ذلك العصر حتى لنرى القصص الخرافية عن طالع القاهرة وقرب سقوطها تتردد فى كتب المؤرخين، وهى قصص تشير إلى الشعور السائد بقرب النهاية، وتردي أوضاع البلاد، كما أن ملامح الانهيار تبدو واضحة من خلال ما كتبه الرحالة والمؤرخون عن مصر؛ فالصورة التي يرسمها الرحالة الذين زاروا مصر في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر صورة قاتمة في كثير من جوانبها وتنبئ بالإنهيار القريب، بخلاف الصورة التى قدمها الرحالة الذين زاروا مصر فى سنوات الازدهار، إن مقارنة الصورة التى يقدمها الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر فى القرن الأخير من حياة دولة المماليك من أمثال: دومنيك تريفسان وبيدرو مارتير دانجليريا، بتلك التى قدمها الرحالة المسلمون الذين زاروها فى العصر الفاطمى والعصر الأيوبى وبدايات العصر المملوكي أمثال ناصر خسرو وابن جبير وعبد اللطيف البغداداي وابن بطوطة لتوضح مقدار الإنهيار الذي أصاب حياة مصر في ذلك العصر، وعناصر هذه الأزمة تتبدى جلية كذلك في كتابات المؤرخين منذ أوائل القرن التاسع الهجري.
 أما هذه العناصر كما رصدها المؤرخون المعاصرون لتلك الفترة، فعديدة ومتنوعة ومتشابكة في الوقت نفسه، إذ اختلطت المظاهر بالأسباب، واختلطت الأسباب بالنتائج، فقد دخل المجتمع المصري في حلقة متوالية من التردي والتدهور المستمر.
فعلى الصعيد الاقتصادي؛ عاش المجتمع المملوكي لسنوات طوال في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، وتتميز الأزمة في مجتمعات العصور الوسيطة بنقص المنتجات والسلع كقيم استعمال وارتفاع أسعارها، وقد مست هذه الأزمة الهياكل الاقتصادية الأساسية فى المجتمع، وهزت قواعد اقتصاد البلاد الذى كان يعتمد بشكل أساسي على الإنتاج الزراعي ثم على عوائد تجارة المرور.
 ولو تتبعنا مظاهر هذه الأزمة؛ فسوف نجد المصادر التاريخية مليئة بأمثلة لها، فالحديث عن ارتفاع أسعار السلع الأساسية أو ندرتها في الأسواق حديث متكرر في الحوليات التاريخية طوال القرن التاسع الهجرى وأوائل القرن العاشر، ونادرًا ما تمر سنة من السنوات دون حديث هنا أو هناك عن ارتفاع في سعر سلعة أساسية أو اختفاء سلعة أخرى، ولم يقتصر الأمر على ارتفاع الأسعار واختفاء السلع من الأسواق فحسب، بل امتد إلى "تشحط الغلال واللحوم في البيوت السلطانية والديوان المفرد"؛ وتكرر ذلك أكثر من مرة فى عصر الغورى.
هذا ولا يعنى تكرار ذكر وقائع ارتفاع أسعار السلع ونقصها في الأسواق أن الأمر سار في تصاعد مستمر طوال القرن التاسع وأوائل القرن العاشر؛ فالمصادر تذكر ـ في بعض الأحيان ـ حالات من الرخاء وانخفاض في الأسعار، لكن السمة الغالبة طوال العصر الجركسي كانت الارتفاع المتصاعد للأسعار، إذ كان الارتفاع المستمر في أسعار السلع؛ يساوي إنخفاضًا مقابلًا فى القيمة الشرائية للعملة، علاوة على انخفاض قيمتها الفعلية بسبب انخفاض نسبة المعدن الثمين فيها، ويجب أن نضع في اعتبارنا هنا علاقات أسعار العملات بعضها ببعض؛ وذلك حتى نستطيع أن نقدر الارتفاع الحقيقي في الأسعار ونميز بينه وبين الارتفاع الظاهري.
 وهذه الظواهر كانت انعكاسًا للنقص المستمر في مساحة الأراضي المزروعة، كان انخفاض مساحة الأراضى المزروعة يرجع إلى عدة أسباب، منها: الأوبئة والقحط والمغالاة فى الجباية.
 ويذكر ابن تغري بردي أن عدد القرى العامرة في مصر قد انخفض في عصره (ت. 874هـ.) إلى ألفي ومائة وسبع عشرة قرية، بعد أن كان عددها في العصر الفاطمى عشرة آلاف قرية أحصاها المسبحي (ت420هـ).
 وارتبطت الأزمة الاقتصادية بأزمة مالية؛ تراجع فيها دور الذهب في النظام النقدي المملوكي، وسادت العملات الفضية ثم النحاسية، بل وعرفت الأسواق المملوكية العملات الذهبية الأجنبية الأقوى التي بدأت تتغلغل إلى البلاد.
ومما ساعد على تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية في العصر المملوكي ووصولها إلى الذروة، اكتشاف الرحالة البرتغالي فاسكو داجاما لطريق رأس الرجاء الصالح سنة 904هـ (97/ 1498م)، فكان هذا الكشف ضربة أكملت على وضع مصر الذي شغلته لعدة قرون كمركز حيوي في طريق مرور التجارة بين الشرق والغرب، ففقدت البلاد بذلك مصدرًا من مصادر دخلها، وفى الوقت ذاته؛ شكل وصول السفن البرتغالية إلى مياه المحيط الهندى وبحر العرب عبئًا عسكريًا جديدًا على مصر كانت له تكلفته الاقتصادية الباهظة.
 وكانت السياسات التى يتبعها سلاطين المماليك مع التجار الأوروبيين خاصة السياسات الاحتكارية للسلطان برسباي تؤدى بالتدريج إلى اضطراب أوضاع تجارة الترانزيت في مصر، إلى أن جاء كشف رأس الرجاء الصالح ليؤدى إلى انهيارها.
 وتبدت هذه الأزمة بوضوح فى حالة الانهيار الذي أصاب المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية والفسطاط.
 فالقاهرة حسب وصف أحد الأوروبيين الذين زاروها في أوائل القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) "لا تستحق السمعة التي تتردد عنها".
 والإسكندرية في نظر بدرو مارتير دانجلاريا سفير ملكي إسبانيا فرناندو وإيزابيلا إلى السلطان الغوري الذي زار مصر في 1501- 1502م/ 908هـ خرائب حالها يدعو للبكاء، حيث قال في وصفها: "لقد طفت كثيرًا بنواحي مدينة الإسكندرية هذه، وإن تأمل خرائبها ليبعث على البكاء، وفي رأيي وبحسب ما تدل عليه بقايا عمرانها الماضي، يمكن القول بأن الإسكندرية كان فيها فيما مضى مئة ألف دار وأكثر، أما اليوم فلا يكاد يبلغ عدد دورها أربعة آلاف، ويعيش فى خرائبها البوم واليمام والحمام بدلًا من الناس".
 أما الفسطاط فيكاد ذكرها يختفي تمامًا كمدينة تجارية منذ القرن العاشر.
وقد تصدت الدولة لمعالجة الأزمة الاقتصادية، لكنها اتبعت أساليب فاقمت من حدة هذه الأزمة بدلًا من أن تؤدي إلى حلها، فقد لجأت الدولة إلى فرض ضرائب جديدة؛ أو إلى زيادة الضرائب المفروضة، الأمر الذي أدى إلى اتساع ظاهرة هجر الفلاحين للأرض، وبالتالي مزيد من النقص في مساحة الأراضي المزروعة، والمصادر التاريخية مليئة بذكر أنواع الضرائب والمكوس والمغارم التي كانت الدولة تفرضها باستمرار في محاولة لزيادة مواردها.
 أما الأسلوب الثاني الذي لجأت إليه الدولة فكان احتكار تجارة بعض السلع، أو قيام الدولة ممثلة في السلطان بشراء سلعة ما من الأسواق بسعر أقل من سعرها، ثم إعادة بيعها بسعر أعلى، أو فرض سلع معينة من الذخيرة السلطانية على التجار بسعر محدد أو بعملة محددة.
 وقد أمتد هذا الأسلوب إلى التجار الأجانب الذين كانت الدولة تتعامل معهم، فأدت هذه السياسات في الداخل إلى مزيد من رفع الأسعار، وإلى اضطراب في علاقات مصر التجارية بالعالم الخارجي.
 كذلك لجأ السلاطين إلى أسلوب مصادرة الإقطاعات والعقارات والأموال، فكثرت المصادرات لأموال الأمراء وكبار رجال الدولة والتجار في حياتهم أو مصادرة تركاتهم عند وفاتهم؛ إما بسبب الصراعات السياسية، أو لسد العجز المتزايد فى موارد الدولة، والأمثلة على هذه المصادرات عديدة في المصادر العربية، كما رصد بعض الرحالة الأوروبيين هذه الظاهرة.
 وقد زاد هذا الأسلوب من تعقيد الأزمة، فأدت سياسة المصادرات إلى تعسف الموظفين في جمع الأموال بكل الطرق حتى يتمكنوا من الوفاء بما قد يطلبه منهم السلطان أو يعوضوا ما يصادره، ومن ناحية أخرى أدى إلى زيادة واضحة في الأراضى والعقارات الموقوفة، فقد كانت مصادرة الأوقاف أو فرض الضرائب عليها أكثر صعوبة منها على غيرها من أراض وعقارات، حتى بلغت مساحة أراضي الأوقاف في مصر عند دخول العثمانيين ما يقرب من نصف مساحة الأراضي الزراعية، وانعكس هذا بطبيعة الحال على قدرة الدولة على منح الإقطاعات، ومن ثم فقد بدأ الانهيار يتسرب بسرعة إلى النظام العسكري المملوكي.
 ومن الأساليب التي لجأت إليها الدولة كذلك لحل المشكلة الاقتصادية: غش العملة بتخفيض نسبة المعدن الثمين فيها، أو إنقاص وزنها أو عيارها، وفي الوقت نفسه، إرغام الناس على التعامل بها بقيمة أعلى من قيمتها الحقيقية.
 وباستثناء بعض المحاولات القليلة للإصلاح النقدى الجاد ـ والتى لم يقدر لها الاستمرار طويلا ـ لا نجد إلا حلولًا تزيد المشاكل الاقتصادية تفاقمًا.
لقد كانت كل سياسات تلافي الأزمة في حقيقتها سياسات منحازة؛ تخدم مصالح القمم العليا لطبقة المماليك المسيطرة على المجتمع، وفى نفس الوقت تراجعت الدولة عن أداء كثير من مهامها في مجال الإنشاءات والأعمال الضرورية لخدمة الزراعة، كشق الترع والقنوات، وإقامة الجسور السلطانية، الأمر الذي أدى إلى مزيد من الانهيار في الوضع الاقتصادي.
 وقد تفاعلت الأزمة الاقتصادية مع الأزمة السكانية التي عاشتها مصر في القرنين التاسع والعاشر الهجريين، والمتمثلة في نقص عدد السكان بسبب موجات القحط والمجاعات والأوبئة المتوالية، فقد شهدت مصر منذ منتصف القرن الثامن الهجرى (الثالث عشر الميلادى) سلسلة متوالية من الأوبئة، أخذت الفترات الزمنية بينها تتقارب حتى سقوط دولة المماليك،  ولا نستطيع أن نحدد بدقة تأثير الأوبئة والمجاعات على عدد السكان؛ فلا يوجد بالطبع إحصاء دقيق لأعداد السكان في العصور الوسيطة، لكن هناك تقديرات تعتمد على ما يرويه الرحالة والمؤرخون وفقًا لمشاهداتهم ودراستهم لبعض الظواهر الحضارية ومدى انتشارها؛ كالحمامات والأسواق والمبانى؛ والخروج منها بأعداد افتراضية للسكان.
 ومن المؤكد- من خلال مراجعة ما أورده المؤرخون والرحالة، ومن خلال دراسة تلك الظواهر الحضارية أن أعداد السكان قد انخفضت بشكل واضح بعد الفناء الكبير الذى اجتاح البلاد سنة (748- 749هـ/ 1347- 1348م)، ويقدر الباحثون نسبة الانخفاض في سكان القاهرة وحدها بما يقرب من 40% تقريبا، وقد تخربت حقا بعد الوباء نسبة مقاربة من الحمامات والأسواق بالمدينة، وتذكر بعض المصادر التاريخية وكتب الرحالة أعدادًا تقريبية لمن ماتوا فى هذه الأوبئة ، فيذكر المقريزى أن عدد من ماتوا في وباء سنة 833هـ في يوم واحد بالقاهرة وظواهرها نحو عشرة آلاف إنسان، ويذكر بعض الرحالة الذين زاروا مصر في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر أعدادًا مقاربة.
 ولم تعد مصر إلى ما كانت عليه مرة أخرى حتى نهاية العصر المملوكى، وبالرغم من ارتفاع عدد السكان بعض الشئ في القرن العاشر، فإن تكرار الأوبئة كان يؤدى باستمرار إلى انخفاض معدلات الزيادة السكانية بما أثر سلبًا على النمو الاقتصادي للبلاد.
 لقد أدى هذا النقص السكاني إلى مزيد من تأزم الأوضاع الاقتصادية بسبب نقص الأيدي العاملة اللازمة للزراعة، وبالتالي بوار مساحات جديدة من الأراضي، والعجز عن ضم محاصيل أراض أخرى، الأمر الذى ترتب عليه نقص المواد الغذائية وارتفاع في أسعارها، هذا بالإضافة إلى انهيار كثير من الصناعات والحرف.
 وفي الوقت نفسه كانت موجات الغلاء ونقص السلع الغذائية تؤدى إلى مجاعات جديدة تساعد على انتشار الأوبئة، وهكذا تدور الدائرة؛ ومعها ينهار اقتصاد البلاد وتضمحل مواردها وثرواتها.

 إن ما عاشته مصر منذ الوباء الكبير الذي حل بها في منتصف القرن الثامن الهجرى (الرابع عشر الميلادى) ليس إلا أحد أشكال الأزمات التقليدية التي عاشتها المجتمعات البشرية في الشرق والغرب في العصور الوسيطة، لكن أبعاد هذه الأزمات وآثارها القريبة والبعيدة تفاوتت من مجتمع إلى آخر حسب استجابته لهذا التحدي الطبيعي؛ ففي الوقت الذي بدأت فيه أوروبا بعد الموت الأسود رحلة الانسلاخ من عالم العصور الوسط، فشل المشرق في الاستجابة للتحدي.

الجمعة، 23 سبتمبر 2016

الاحتلال العثماني لمصر
أسباب ونتائج
(1)
                                                        عماد أبو غازي

 أثار الانتصار العثماني على المماليك أذهان المعاصرين له، فحاولوا تفسيره وفهم أسبابه؛ وقد وقفت معظم التفسيرات التي انتهوا إليها عند حدود اعتبار هذا الانتصار قضاء من الله مقدرًا، أو انتقامًا مسلطًا على الجراكسة جزاء لظلمهم وجورهم فى حق الرعية، بل أغرق البعض فى التفسيرات الغيبية بإرجاع هذا النصر إلى وعد إلهي قديم!


 ومثل هذه الأفكار واضحة تمامًا على صفحات ابن إياس وابن زنبل والإشبيلي وابن العماد الحنبلي، كما ردد شعراء العصر المعاني نفسها.
 وفي مواضع أخرى من تاريخه، يرجع ابن إياس هزيمة المماليك أمام العثمانيين إلى الانتقام الإلهي منهم بسبب ما يرتكبونه من مظالم؛ فيقول: "ولم يقع قط لأحد من سلاطين مصر أنه وقع له مثل هذه الكاينة ومات تحت صنجقة في يوم الحرب وأنكسر على هذا الوجه أبدا... وكان السلطان والأمراء ما منهم أحد ينظر في مصالح المسلمين بعين العدل والإنصاف، فردت عليهم أعمالهم ونياتهم، وسلط الله تعالى عليهم ابن عثمان حتى جرى لهم ما جرى".
 وهذا نفس ما لوح به الشيخ أبو السعود الجارحي للأمراء لينهاهم عن ظلم الرعية قائلًا: "إن الله تعالى ما كسركم وسلط عليكم ابن عثمان إلا بدعاء الخلق عليكم في البر والبحر"، كما أكد الإشبيلي المعنى نفسه في تأريخه لغزو سليم للشام ومصر.
 وقد ظلت أصداء هذه الفكرة تتردد فى كتابات المؤرخين والرحالة فى العصر العثماني، فنجدها عند ابن العماد الحنبلي والنابلسي، كذلك فإن بعض الرحالة الأوروبيين أرجعوا هذه الهزيمة إلى انتقام السماء من الغوري وطومان باي لإضطهادهما للمسيحيين.
 كما اعتبر حسين أفندى الروزنامجى فى إجاباته على ستيف مدير المالية فى الحملة الفرنسية بعد ثلاثة قرون من هزيمة المماليك؛ إن سبب هزيمة الغورى "إن الله سبحانه وتعالى أذاقهم الذل والخوف، وأزالهم من كثرة ظلمهم بالعباد".
 ومن تفسيرات ابن إياس لانتصار العثمانيين؛ قوله بأن هذا النصر إنما هو مصداق لوعد إلهي، وهي مقولة رددها فقهاء العثمانيين ومؤرخهم إبان الغزو العثماني لمصر.
 وإذ تركنا هذا النوع من التفسيرات الغيبية، فسوف نجد أن مؤرخي العصرين المملوكي والعثماني قد أشاروا في عديد من المواضع إلى الأسباب المباشرة للهزيمة في معركتي مرج دابق والريدانية وما تلاهما من معارك، فأرجعوا هذه الهزيمة إلى الخيانة المستشرية في صفوف المماليك، وإلى تفوق العثمانيين في استخدام الأسلحة النارية والبارود،وقد أبرزت بعض الدراسات الحديثة هذين العنصرين باعتبارهما السسببين الرئيسين لهزيمة المماليك أمام العثمانيين.
 لكن هل يمكن إرجاع الانتصار العثمانى إلى مجرد خيانة خاير بك وجان بردى الغزالي فحسب؟
 بالرغم من فداحة نتائج هذه الخيانة؛ حيث أودت خيانة الأول بمعظم الجيش المملوكي في مرج دابق، وشلت خيانة الثانى مدفعية المصريين فى الريدانية، وتركتها غنيمة سهلة في أيدي العثمانيين، بالرغم من هذه الخيانة؛ فإنها قد تصلح كتفسير للهزيمة في معركة أو كسبب مباشر لها، ولكنها لا تفسر سقوط دولة وزوالها من الوجود، والشيئ نفسه يمكن أن يقال عن تفوق الأسلحة النارية العثمانية.
 أما الدلالة الأساسية لموضوعي: الخيانة وقصور السلاح الناري للمماليك؛ فتكمن فيما يؤكدانه من تفسخ الدولة المملوكية وانهيارها؛ فالخيانة التى وقعت وأدت إلى انتصار العثمانيين لم تكن مجرد مصادفة، لكن وضع الانهيار الذي كان يعيش فيه المجتمع المصري في أواخر العصر المملوكي كان يحتم انحياز عناصر من الطبقة العليا المنهارة إلى جانب الغازي الجديد عندما شعروا بالنهاية المحتومة، خاصة وأن أصول هذه العناصر أجنبية وليست مصرية، وتبديل الولاء بهذه السهولة نابع من طبيعة تكوين المماليك كطبقة حاكمة وافدة مكونة من أرقاء سابقين تم عتقهم، فلم تكن الخيانة قاصرة على ما فعله خاير بك وجان بردى الغزالي، لكنها تمتد إلى استسلام أعداد كبيرة من كبار أمراء المماليك للعثمانيين فى الوقت الذي كان طومان باي لا يزال يقاتل فيه العثمانيين، بل إن أحد هؤلاء المستسلمين كان دوادار السلطان طومان باي نفسه عندما كان أميرًا، وهو يشبك الدوادار، وقد كان من المقربين إلى طومان باي لدرجة أنه جعله أحد نظار وقفه!
 وقد تضمنت الوثائق العثمانية قوائم بأمراء المماليك الذين استسلموا للعثمانيين، كما أشار ابن إياس إلى هذه الظاهرة في تاريخه.
 ومما يرقى إلى مستوى الخيانة، ذلك التقاعس عن القتال الذى أستشرى في صفوف الجيش المملوكي، على الرغم من أن المبرر الوحيد لامتياز المماليك في المجتمع المصري في هذه الفترة راجع إلى دورهم القتالي!
 لقد كان الإسراع بتبديل الولاء واضحًا بين المماليك؛ حتى في بعض المظاهر الشكلية البسيطة مثل الزي؛ فسرعان ما غير المماليك زيهم وارتدوا أزياء العثمانيين؛ وقد أنشد ابن إياس فى هذا المعنى البيتين التاليين:
          امشى مع الدهر ما أمكنك يا غلطان           واخلع ثياب المواكب واتبع السلطان
          فى لبس سقمان أو طرطور أو قفطان         وكن مع القوم فى الملبوس والأوطان

  أما التفوق العثماني في استخدام الأسلحة النارية فلم يكن ناجمًا عن تخلف المماليك في متابعة تطورات العصر، بل إن المماليك قد عرفوا بالفعل استخدام البارود والأسلحة النارية منذ فترة سابقة على استخدام العثمانيين لهذه الأسلحة، والأدلة التاريخية والأثرية على ذلك عديدة، ولقد أستخدم المماليك فى رنوكهم رسومًا تدل على استخدامهم للأسلحة النارية مثل ذلك الرنك المعروف بقرون البارود؛ والذى أثار خلافًا طويلًا بين الباحثين فى تفسيره؛ إلى أن استقر الرأى على اعتباره رسمًا يشير إلى الوعاء الذى يحفظ فيه المقاتل البارود، بل إن هناك من يرى أن الأسلحة النارية استخدمت لأول مرة فى معركة المنصورة سنة 647 هـ (1249م) وإن استخدام الأسلحة النارية تطور فيما بعد في العصر المملوكي، على الأقل منذ عهد السلطان قايتباي.
 ومع ذلك لم يلجأ المماليك إلى استخدام الأسلحة النارية بشكل واسع على الرغم من محاولات بعض سلاطينهم ـ خاصة السلطان قانصوه الغوري ـ لإدخالها، لقد كان العائق الأساسي الذي وقف في وجه استخدام المماليك للبارود والأسلحة النارية لصيق الصلة بطبيعة النظام المملوكي ثقافيًا واجتماعيًا وعسكريًا، وليس بمستوى التطور التكنولوجي في المجتمع؛ فإذا كانت تقاليد الفروسية المحافظة لجيش المماليك قد حالت دون استخدامهم لمدفعية الميدان أو البنادق بشكل واسع في معركتهم مع العثمانيين، فإن الأساس في هذا الموقف ارتباط نظام الفروسية المملوكي بالإقطاع الحربي في ذلك العصر، بصورة أصبح معها استخدام البارود والأسلحة النارية بشكل واسع يهدد مصالح القوى الطبقية المتصدرة للسلم الاجتماعي، إذ أن هذه القوى المتمثلة في أمراء المماليك أصبحت جامدة وغير قابلة لتطوير نفسها، واستخدام الأسلحة النارية يقوض نفوذ المماليك الاجتماعى ويهدم أسس سيادتهم وسيطرتهم؛ ويفقدهم مبرر وجودهم كطبقة متصدرة للهرم الاجتماعي في البلاد.
 إن مشكلة البارود والأسلحة النارية في العصر المملوكي تقدم نموذجًا للتقاليد عندما تصبح عائقًا أمام تطور المجتمع، وهي تؤكد في نفس الوقت انتهاء الدور التاريخي لهذه الطبقة بصورتها التي كانت قائمة، ووصولها إلى لحظة العجز عن قيادة المجتمع المصري.
 ومن الجدير بالملاحظة أن الاحتلال العثماني لمصر لم يحل هذه الإشكالية؛ فالعثمانيون لم يقضوا على طبقة المماليك؛ وإن كان الاحتلال قد أدى إلى تراجع مكانتهم، كما أن العثمانيين سمحوا للمماليك بإعادة تدعيم صفوفهم واستعانوا بهم في حكم البلاد، فلم يؤد الحكم العثماني إلى نقل مصر إلى العصر الحديث، بل استمرت عقلية العصور الوسيطة هي المسيطرة، وعلى الرغم من التوسع النسبي الذي حدث في استخدام المماليك للأسلحة النارية، فإن مفاهيمهم لنظام الفروسية لم تتبدل كثيرًا؛ إذ بعد قرابة ثلاثة قرون من هزيمتهم أمام العثمانيين، ومع مقدم الحملة الفرنسية إلى مصر (1213هـ/ 1798م)؛ تقابلنا عند الجبرتي عبارات بالغة الدلالة على مدى جمود العقلية العسكرية للمماليك؛ عندما تصوروا أن بإمكانهم أن يحطموا الفرنسيين بسنابك خيولهم، وأن يحصدوا رءوسهم ببوارق سيوفهم، فجاءت الهزيمة مرة أخرى بفضل تفوق المدفعية والأسلحة النارية للعدو!
 لقد نشأ المماليك كمجموعات من الرقيق المقاتل المجلوب من خارج البلاد، وذلك استجابة لتحدي الخطر الصليبي في المشرق، وامتدادًا للنهج الذي سار عليه الخلفاء العباسيون منذ العصر العباسي الثاني، ثم ترسخ وجود هذه المجموعات المقاتلة مع الغزو المغولي للمشرق الإسلامي، فتحول المماليك إلى سادة للمجتمع، وورثوا دولة أساتذتهم الأيوبيين بنظمها ورسومها، وكانت الملامح الإقطاعية قد اتضحت في المجتمع الشرقي الإسلامي كله في مواجهة الأخطار الخارجية الداهمة التي أحاطت بالعالم الإسلامي أنذاك، ومع سيطرة المماليك كانت لدولتهم  منذ النشأة الأولى طبيعة عسكرية وإقطاعية؛ فارتبط نفوذهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالدور العسكري الذي كانوا يقومون به، لقد شيدوا دولة إقطاعية عسكرية نجحت في أداء مهمة تاريخية محددة؛ ألا وهي التصدي للأخطار الخارجية التي كانت المبرر التاريخي لنشأة دولتهم، ومن العجيب أن تلك الدولة الإقطاعية التي تسودها طبقة من الأرقاء المقاتلين نجحت في تصدر المجتمع كله، وقيادته سياسيًا واجتماعيًا والسيطرة على ثروته الاقتصادية.
 ولما كان النظام العسكري المملوكي يقوم بشكل أساسي على قواعد الفروسية التقليدية، ولما كان إدخال السلاح الناري بشكل واسع إلى صفوف الجيش لابد وأن يؤدي إلى دفع أعداد كبيرة من أفراد الشعب إلى صفوف المقاتلين في الجيش؛ الأمر الذي كان سيترتب عليه حرمان المماليك من تميزهم الأساسى ومن مبرر سيادتهم الاجتماعية الذي يتمثل في إنفرادهم بأنهم الطبقة المقاتلة؛ من هنا، فقد وقف المماليك ضد محاولات إدخال السلاح الناري إلى المنظومة القتالية، واعتبروه خروجًا على قواعد الفروسية التي سار عليها المسلمون الأوائل، وعلى هذا الأساس فقد تكرر رفضهم لكل المحاولات التي بدأها سلاطين الدولة خلال الربع الأول من القرن العاشر الهجري في مجال إدخال السلاح الناري إلى الجيش.
حيث كان المماليك قد أحتكروا القتال والأعمال العسكرية، ولم يسمحوا للمصريين بالانخراط فى صفوف الجيش حتى صار الجيش المملوكى لا يضم أحدًا من خارج طبقة المماليك سوى بعض أبنائهم (أولاد الناس) وقليلًا من الأعراب، وهؤلاء كانوا يندرجون في الفرقة التي تعرف بأجناد الحلقة، بل والأدهى من ذلك أن حمل السلاح وركوب الخيل كانا محرمين على غير المماليك، ولم يستثن من ذلك سوى الأعراب؛ فقد كانوا يعتبرون ـ بشكل عام ـ من الخارجين على السلطة فى معظم فترات العصر المملوكي.
 وبرغم أن الدولتين المملوكية والعثمانية اتفقتا فى كثير من الأسس التى قامتا عليها، فإن نظام الرق العسكرى فى الدولة العثمانية وعدم ارتباطه بالإقطاع الحربى؛ سمح بتطوير السلاح النارى فى الجيش  العثماني دون الاصطدام بهذه المشاكل؛ فقد تشكل الجيش العثمانى من الفرسان الأحرار المستفيدين بانتظام من الإقطاع الحربى، إلى جانب قطاع واسع من المقاتلين الأرقاء الذين تشكلت منهم فرق المشاة ( الإنكشارية) التى كانت تتكون أساسًا من الرماة بالسلاح النارى، ولم يكن لهؤلاء حقوق إقطاعية؛ بل كانوا مجرد رقيق للسلطان مصدرهم ضريبة الغلمان التي تفرض على المناطق المسيحية التي احتلتها الدولة العثمانية، فكانت الدولة تأخذ نسبة من أبناء هذه المناطق كل عام كرقيق للسلطان، وتحولهم إلى الإسلام، وتوظفهم في العمل العسكري أو الإداري.
 ومما تجدر الإشارة إليه هنا؛ أنه عندما جند "محمد علي" المصريين في الجيش وترقوا إلى رتب الضباط، قامت بعد عشرات قليلة من السنين أول ثورة شعبية يشارك فيها الجيش بدور أساسي، تلك هي الثورة العرابية التي سعت إلى تحقيق قدر عال من المشاركة للمصريين في إدارة البلاد.

 ومن هنا يمكن اعتبار الخيانة وقصور المماليك فى استخدام الأسلحة النارية مؤشرين على مدى تردي الأوضاع في مصر المملوكية؛ قبل أن يكونا سببين للهزيمة أمام العثمانيين؛ فقد كانت عوامل الانهيار مستشرية فى كيان الدولة، إذ كانت مصر المملوكية بحق دولة مهزومة قبل أن تبدأ المعركة مع العثمانيين، وعلى الرغم من خطورة هزيمة المماليك أمام العثمانيين وأهميتها، وبالرغم من أن هذه الهزيمة حسمت مصير دولتهم فى مصر والشام وأزالتها من الوجود، فإن هذه الهزيمة كانت "القشة التي قصمت ظهر البعير" كما يقال.

السبت، 17 سبتمبر 2016

500 سنة على الاحتلال العثماني لمصر

(4)
أسطورة فضل الاحتلال العثماني في حماية المنطقة العربية من الاحتلال الأوروبي!!!
عماد أبو غازي
يردد "العثمانيون الجدد"، أولئك الذين يسعون لغسيل تاريخ الحكم العثماني للمنطقة، يرددون مقولة تتكرر دائمًا في خطابهم مفادها أن الحكم العثماني للمنطقة أنقذها من السقوط في أيدي الاستعمار الأوروبي، أو بمعنى أدق أخر هذا الاحتلال لعدة قرون.
 فهل هذا ما حدث فعلًا؟
هل كانت القوى الأوروبية تحاول بالفعل احتلال المنطقة العربية في القرن السادس عشر؟ وهل كان للاحتلال العثماني للمنطقة فضل حمايتها من الاحتلال الأوروبي؟
 لقد كانت سواحل المنطقة وثغورها تتعرض في مطلع القرن السادس عشر لغارات السفن الأوروبية، مثلما كان عليه الحال دائمًا طوال القرون السابقة، كان الجديد في الأمر تغير تلك القوى، فبعد أن كانت الغارات تأتي من القبارصة ومن بعض الجيوب المتبقية من حقبة الحروب الصليبية في جزر البحر المتوسط، أصبح التهديد يأتي من القوى الجديدة الصاعدة في جنوب غرب أوروبا، خصوصًا البرتغال، وبعد أن كانت الغارات تتوجه لموانئ مصر والشام على البحر المتوسط، أصبحت تتجه إلى موانئ مصر والحجاز على البحر الأحمر، وقد نجح المماليك في صد بعض هذه الغارات لكنهم فشلوا في صد غارات كثيرة أخرى وهزم أسطولهم في موقعة ديو البحرية.
 لكن هذه الغارات لم تكن تهدف إلى احتلال البلاد ولا كان في مقدورها ذلك، بل كانت تهدف إلى إيجاد مناطق ارتكاز على طرق التجارة الجديدة، في منطقة خليج عدن وبحر العرب، وفي نفس الوقت زعزعة استقرار طرق التجارة القديمة التي كانت تمر عبر مصر، وضرب التحالف التجاري والسياسي القائم بين مصر ومدن جنوب أوروبا التجارية وفي مقدمتها جمهورية البندقية (فينسيا).
 ومما يؤيد هذا حالة مراكش الأقرب لأسبانيا والبرتغال والتي لم تسقط في أيدي العثمانيين أبدًا، ومع ذلك حافظت على استقلال جل أراضيها حتى بدايات القرن العشرين، عندما احتلها الأسبان والفرنسيون.
 وإذا كانت الدولة العثمانية قد نجحت في وقف الغارات البرتغالية على موانئ البحر الأحمر، فإنها لم تنجح إطلاقًا في وقف سيطرة البرتغاليون ومن بعدهم الهولنديون ثم الإنجليز على تجارة الشرق، ولا في منعهم من بناء نقاط ارتكاز في البحار الجنوبية وفي منطقة الخليج.
 لكن قبل ذلك ينبغي أن نتذكر أن الدولة العثمانية كانت سببًا من أسباب هزائم المماليك المتوالية في معاركهم مع البرتغاليين؛ بسبب قطع موارد الأخشاب عن دولة المماليك، مما ساهم في إضعاف قدرة سلاطين مصر على بناء أسطول بحري قوي يتصدى للبرتغاليين.
  بل ربما نستطيع القول أن الحكم العثماني للمنطقة العربية أدى إلى سقوطها فريسة سهلة في أيدي الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين والأسبان، عندما دخل التنافس الاستعماري الأوروبي مرحلة جديدة وشكلًا جديدًا في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر، وأصبحت السيطرة الكاملة بالقوة العسكرية على بلدان المنطقة هدفًا للقوى الاستعمارية الأوروبية.
 لقد مدت الدولة العثمانية أجل العصور الوسطى في منطقتنا العربية، وأبقت المنطقة خارج الزمن في قرون التحول من الحضارة الزراعية إلى الحضارة الصناعية.
 وخلال القرن التاسع عشر حافظت القوى الاستعمارية الكبرى على بقاء الدولة العثمانية، رجل أوروبا المريض، وعلى استمرار سيطرتها على المنطقة العربية، لتتمكن من خلال الدولة العثمانية وبواسطتها من الهيمنة الكاملة على المنطقة، لقد تركتنا القوى الاستعمارية الأوروبية "أمانة" لدى السلطنة العثمانية حتى تنتهي من حسم صراعتها على بلادنا وتحدد أنصبة كل طرف أوروبي في التركة العثمانية.
 لقد كانت ثلاثة قرون من الضعف والانهيار في ظل الحكم العثماني كفيلة بأن تمهد الطريق أمام الاستعمار الأوروبي لاحتلال المنطقة واقتسامها في أقل من قرن من الزمان، فقبل أن ينتهي القرن التاسع عشر كان الجناح الأفريقي من الدولة العثمانية قد سقط في أيدي فرنسا وإنجلترا، باستثناء ليبيا التي سقطت في أيدي الإيطاليين سنة 1911.

 بل لعبت الدولة العثمانية دورًا مباشرًا في تحقيق أهداف أوروبا الاستعمارية في المنطقة، عندما استعانت بالدول الأوروبية لضرب مشروع محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لكن أبرز مثال على ذلك ما فعله السلطان عبد الحميد "خليفة المسلمين" وسلطان العثمانيين عندما عزل الخديوي إسماعيل تنفيذًا لرغبة الدول الأوروبية، لأن إسماعيل رضخ لمطالب الحركة الوطنية الناشئة بتأسيس نظام دستوري يراقب فيه نواب الشعب الحكومة، وما فعله بالعرابيين، عندما أصدر فرمانه الشهير بعصيان أحمد عرابي أثناء تصدي الأخير للإنجليز وحليفهم توفيق خديوي مصر عام  1882.

الجمعة، 16 سبتمبر 2016

500 سنة على الاحتلال العثماني لمصر

(3)

هل أدى الحكم العثماني إلى تقدم المجتمع المصري؟

عماد أبو غازي

  من الأسئلة التي تثير الجدل حول الحقبة العثمانية في تاريخ مصر، هل أدت تلك الحقبة في تاريخنا إلى تطور المجتمع المصري أم إلى تدهوره؟
 لقد كانت عوامل الانهيار تنخر في جسد دولة المماليك في مصر والشام منذ سنوات، حيث كانت مصر – دولةً ونظامًا- في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الهجريين (أي ما يوازى القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين) تعيش مرحلة أفول؛ ففي الأفق كانت تتجمع ملامح النهاية: نهاية عصر، وبداية عصر جديد، ولم تكن دولة المماليك الجراكسة لتتحمل البقاء كثيرًا، ولم يكن بديل داخلي في مصر قد اختمر بعد بالقدر الكافي؛ على الرغم من ظهور بوادر أولية لمثل هذا البديل، ومن هنا جاءت النهاية المحتومة على يدي طرف خارجي جديد، تلك النهاية التي قطعت الطريق على إرهاصات التطور الداخلي للمجتمع.
ولكن يبقى التساؤل: هل نجح الاحتلال العثماني لمصر في إخراجها من أزمتها التاريخية؟
وهل أحدث تغييرًا جوهريًا في أوضاع مصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟
 وهل تم الانتقال المتعثر من العصور الوسيطة إلى العصر الحديث على أيدي العثمانيين؟
حقًا أدى "السلام العثماني" الذي فرض على المنطقة إلى نوع من الاستقرار والوحدة؛ أزالا آثار فترة تحلل دولة المماليك وما صحبها من اضطراب وفوضى؛ فنشطت التجارة الداخلية، وانتعشت الزراعة، وعادت الزيادة في أعداد السكان مرة أخرى، وأصبحت مصر والشام توفران ثلث مجموع واردات الخزينة العثمانية، وتوقفت سلسلة الأوبئة والمجاعات؛ لكن هذا الازدهار لم يستمر طويلا، فقبل نهاية القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، عادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل الغزو من تأزم واضطراب، حيث أن انتماء الدولة العثمانية إلى العصور الوسيطة – بنظامها الاجتماعي والاقتصادي، وبفكرها وحضارتها- كان يضع حدودًا لهذا الازدهار المؤقت، وبالتالي لم يصحب هذا الازدهار أي تطوير جوهري في العلاقات السائدة في الزراعة، لا على مستوى أدوات إنتاج في الريف، ولا على مستوى العلاقات الإنتاجية السائدة في المجتمع.
 وإذا كانت أراضى مصر لم توزع في بداية الحكم العثماني إلى تيمارات وزعامات، (التيمار: الإقطاع الصغير الذي يمنح للمقاتلين، أما الزعامة فهي الإقطاعات الكبيرة) مثل أراضي الدولة في الرومللي والأناضول، فإنها خضعت لنظام المقاطعات المملوكة للدولة التي يديرها موظفون تابعون لها، وسرعان ما تبلور نظام الالتزام كشكل آخر من أشكال الإقطاع غير الصريح، فحل محل نظام المقاطعات بدءًا من عام 1069هـ/ 1658م؛ وإذا كان نظام الالتزام يختلف في كثير من ملامحه عن الإقطاع المملوكي، فإن جوهر العلاقات داخله لا يختلف كثيرًا عنه في النظام الإقطاعي.
 كذلك فإن الانتعاش التجاري الذي ساد تجارة المرور عبر الدولة العثمانية؛ لم ينعكس على نشاط الصناعات المحلية أو على التجارة الداخلية بالقدر نفسه، لذا؛ فسرعان ما عادت الأزمة المالية إلى الظهور مرة أخرى، واتجهت الدولة إلى إتباع الأساليب نفسها التي اتبعها المماليك في حلها، من تخفيض لقيمة العملة ولنسبة المعدن الثمين فيها، وفرض لمزيد من الضرائب، وبالطبع كان لمثل هذه السياسات الآثار السلبية نفسها على الوضع الاقتصادي في مجمل الإمبراطورية العثمانية مثلما كان الحال في زمن المماليك.
 وظل التكوين الاجتماعي السابق على العصر العثماني في مصر سائدًا، فقد سمح العثمانيون للمماليك بالبقاء، وسمحوا لهم بإتباع طرق التدريب نفسها، وتجديد صفوفهم من المصادر نفسها، بل واستعانوا بهم في حكم البلاد؛ فعاد للمماليك نفوذهم وأصبحوا القوة السياسية الأولى في البلاد، حتى أصبح الباشا العثماني مجرد ظل للسلطان العثماني لا يملك في معظم الأحوال الكثير من أمر البلاد.
 هذا وقد استجدت بعض الأمور على البلاد بما يشي بانقلاب الأوضاع رأسًا على عقب.
 أول هذه الأمور: إن طبقة المماليك التي كانت في السابق تجدد نفسها من أجل مواجهة الأخطار الخارجية، أصبحت تجدد نفسها لمساعدة حكم خارجي في السيطرة على البلاد واستنزاف ثروتها.
 وثانيها: إن جزءًا كبيرًا من الفائض الاقتصادي أصبح ينزح إلى الخارج، مما زاد من ضعف اقتصاد مصر، وإذا كان العصر المملوكي قد عرف بسفه في الإنفاق، فإن هذا الإنفاق كان في غالبه يعاد تدويره داخل مصر، أي يعاد ضخه في شريان الاقتصاد المصري، فتطورت الحرف والصنائع والفنون، أما في ظل الحكم العثماني ـ مثله مثل أي عصر تعرضت فيه مصر لسيطرة خارجية ـ فإن جزءًا كبيرًا من الفائض الاقتصادي كان يوجه إلى مركز الدولة وينفق خارج مصر، أو ينفق كأجور للموظفين ورجال الحامية العثمانية.
 وثالثها: تراجع فى الصناعات المحلية القليلة التي كانت قد بدأت في أواخر عصر المماليك، ومن ناحية أخرى توقفت تماما كل محاولات تطوير الصناعات الحربية المحلية، التي كانت قد بدأت في الفترة الممتدة من عصر قايتباى إلى عصر طومانباي، فبعد ثلاثة قرون من هزيمة المماليك في مرج دابق بفعل تفوق السلاح الناري العثماني يتكرر المشهد مرة أخرى مع حملة بونابرت.
 رابعها: إنهاك القوى المنتجة في الريف، وظهور التمييز بين الطبقات الاجتماعية، وبين الريف والمدينة على أساس نوع الطعام لا كمه فقط، بإدخال الذرة كغذاء أساسي للفلاح بعد أن كان القمح هو الغذاء حتى نهاية عصر المماليك، وذلك حتى تستطيع الدولة العثمانية الاستيلاء على القمح المصري لاستهلاك جزء منه واستخدام جزء آخر في فرض نفوذها السياسي والديني على الحجاز، وكان لهذا التغيير أثاره الوخيمة على الصحة العامة للفلاح المصري، المنتج الأساسي في المجتمع، فالقيمة الغذائية للخبز المصنوع من الذرة أقل من القيمة الغذائية لخبز القمح، وكثير من أمراض سوء التغذية التي أصابت الفلاحين المصريين نتجت عن الانتقال من نظام غذائي يعتمد على القمح عاش في ظله المصريون منذ عرفوا الزراعة قبل آلاف السنين إلى نظام يعتمد على الذرة بدأ مع الاحتلال العثماني، وقد استمرت هذه الآثار لسنوات قريبة.
 ومما فاقم من المشاكل الاقتصادية؛ الاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد بعد سنوات قليلة من بداية الحكم العثماني، فقد تواكبت هذه الأمور مع تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية في الدولة العثمانية، ودخول هذه الدولة عصر انهيار طويل بدأ منذ النصف الثاني من القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) واستمر حتى زوال الدولة العثمانية.
 صاحب ذلك كله تراجع في الإنتاج الفكري في مختلف مجالات المعرفة، وفى هذا الوقت كان الغرب يتطور، في حين تجمد الشرق تحت الحكم العثماني، وذلك في لحظة افتراق الطرق في العالم بين العصور الوسيطة والعصر الحديث.

 وعندما عرفت مصر محاولات الاستقلال عن الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كان أوان البدء في التحديث قد فات، فخطورة الاحتلال العثماني تكمن في أنه وقع في لحظة كان "نظام عالمي جديد" يتشكل فيها، فحال ذلك الاحتلال دون انخرطنا في ذلك النظام وأعاق مساهمتنا في صياغته، وعندما أفقنا من الصدمة حاولنا أن نستعيد دورنا، كان الزمن قد سبقنا، ومقدرات الأمور قد خرجت من أيدينا، فعندما عبرت دول الغرب والشمال من عصر الثورة الزراعية إلى عصر الثورة الصناعية وحققت فيه إنجازها وقفت عائقًا في طريق كل محاولات التطور المستقل، خاصة في منطقة ذات شأن وخطر ـ بمفاهيم ذلك العصر ومقاييسه ـ مثل منطقة المشرق العربي، إن خضوع مصر مرة أخرى لسيطرة دولة "قوية" تنتمي إلى مجتمعات العصور الوسيطة بقيمها ومبادئها وأفكارها بعد أن كانت دولة المماليك في طريقها للانهيار لينعتق المجتمع المصري والشامي من سطوتها ومن سطوة فكر العصور الوسطى وقيمها كذلك، أطال عمر تلك العصور قرونًا أخرى في منطقتنا؛ فبقيت مصر لثلاثة قرون أخرى ترزح في ظلمات العصور الوسيطة؛ حتى بدأت تجربتها في التحديث المنقوص مع عصر محمد على.

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...