الأربعاء، 4 مايو 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 15 )

صفحات من تاريخ الانقلابات الدستورية

الشعب في خط المواجهة

عماد أبو غازي

 كان على المصريين أن يتخذوا القرار، إما الرضوخ وتسليم أنفسهم للطغاة، أو المواجهة والدفاع عن حريتهم؛ كان القرار واضحًا، النضال من أجل استعادة دستور الأمة، لكن لم يستعد المصريون دستورهم ومعه حريتهم بسهولة، كان الثمن غاليًا لكن الحرية كانت أغلى عند المصريين، وكان المصريون قادرون على دفع الثمن ومستعدون لتحمله، لقد اشتركت النخبة في دفع الثمن قبل الجماهير، لم يقبع زعماء الأمة في بيوتهم أو قصورهم، بل خرجوا إلى الشوارع وطافوا المدن والقرى والنجوع يدعون الشعب للتصدي للاستبداد، بات النحاس باشا على أرصفة محطات القطارات، وتصدى بصدر مفتوح لرصاص بوليس صدقي وجيشه، وتعرض لأكثر من محاولة لاغتياله، لكنه لم يتراجع.


 كذلك تصدى قادة الرأي والفكر للملك ورئيس حكومته صدقي، فكتب العقاد سلسلة من المقالات هاجم فيه الملك، وكان رد الحكومة القبض على العقاد، وإحالته هو وصاحب امتياز جريدة المؤيد التي نشرت مقالته للمحاكمة بتهمة العيب في الذات الملكية، وصدر الحكم بحبس صاحب الامتياز 6 أشهر وحبس العقاد تسعة أشهر.


 أما شاعر النيل حافظ إبراهيم فقد دخل الميدان بقصائده التي قال في واحدة منها هاجيًا صدقي وعهده:
قد مر عام يا سعاد وعام
  وابن الكنانة في حماه يضام
صبوا البلاء على العباد فنصفهم
  يجبي البلاد ونصفهم حكــام


 وإذا كان العقاد قد سجن فإن حافظ قد فصل من عمله في دار الكتب، وكان نصيب طه حسين الإبعاد من الجامعة التي كان عميدًا لكلية الآداب بها، بسبب رفضه تنفيذ تعليمات الحكومة بمنح الدكتوراه الفخرية لمن لا يستحقها، فاستقال أحمد لطفي السيد من منصبه كمدير للجامعة المصرية احتجاجًا على قرار الإبعاد.


 ولم تسلم الفنون الجميلة من تعسف صدقي، فبمجرد أن تولى صدقي الحكم بدأ في عرقلة إجراءات إقامة تمثالي الزعيم سعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية.

 لقد بدأت معارضة الانقلاب الدستوري الأخطر والأشد ضراوة في تاريخ مصر في الحقبة الليبرالية قبل أن يصدر مرسوم الملك بإلغاء دستور 23 وإعلان دستور 30، وكان أول من دخل ساحة المعركة عدلي باشا يكن رئيس مجلس الشيوخ، فأرسل من أوروبا استقالته من رياسة مجلس الشيوخ احتجاجًا على اعتداءات الوزارة المتكررة على الدستور.
 وبعد ساعات من صدور دستور 1930 بدأ الوفد في قيادة الحركة الشعبية من خلال البيانات والمؤتمرات السياسية والمقالات الصحفية، وانضم الحزب الوطني للمعارضة ببيان عاجل أصدرته لجنته الإدارية بعد 48 ساعة، اعتبرت فيه أن ما حدث اعتداء صارخ على الدستور، وسرعان ما انضم حزب الأحرار الدستوريين الذي كان صدقي ينتمي إليه إلى المعارضين، وهاجم قادة الحزب صدقي، فقال محمد حسين هيكل باشا: "كنا مقتنعين تمام الاقتناع بأن الدافع الحقيقي لتعديل الدستور لم يكن فكرة إصلاح بقدر ما كان فكرة تغليب السلطة التنفيذية على حقوق الشعب وممثليه في البرلمان"، وقال محمد علي علوبة: "إن تعديل الدستور له قواعد منصوص عليها فيه، والجرأة على تعديله على النحو الذي حدث يجعله دون القوانين احترامًا، بل يجعله أقل احترامًا من لائحة الترع والجسور وأمثالها من اللوائح".
 وفي نوفمبر 1930 شكل الوفد والأحرار الدستوريين لجنة للتنسيق بينهما، وفي مارس 1931 صدر عن الحزبين ميثاق قومي تعاهد فيه طرفاه على مقاطعة الانتخابات والنضال لإعادة دستور 23 والحياة البرلمانية السليمة على أساس منه، وبدأ زعماء الحزبين حركة واسعة لزيارة أقاليم مصر والدعوة بين الجماهير لرفض دستور 30 وقانون الانتخابات الجديد والعمل على إسقاطهما وإعادة دستور 23، ولم يأبه زعماء الأحزاب بقمع السلطة ولا بطشها، ولا باستعانتها بالجيش لفض مؤتمرات المعارضة بالقوة، ولم يتوقف قادة الأمة عن مسعاهم حتى بعد أن وصل بطش حكومة صدقي إلى حد محاولة قتل النحاس باشا طعنًا بسونكي بندقية أحد الجنود، وهي المحاولة التي فشلت بسبب حماية سنيوت حنا عضو الوفد للنحاس باشا بجسده وتلقيه الطعنة عوضًا عنه.
 وتصعيدًا للمواجهة قرر الوفد والأحرار عقد مؤتمر وطني عام في 8 مايو 1931، وعندما منعت الحكومة انعقاده بالقوة بدأت حملة لجمع التوقيعات على بيان المؤتمر الوطني، وكان في مقدمة الموقعين مصطفى النحاس باشا رئيس الوفد ومحمد محمود باشا رئيس الأحرار الدستوريين وعدلي باشا يكن رئيس مجلس الشيوخ المستقيل والشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر السابق وويصا واصف رئيس مجلس النواب المنحل، ووقع على البيان إلى جانب قادة الحزبين عدد من الوزراء والسفراء والضباط السابقين، كما انضم إلى التوقيع على البيان مجموعة من أفراد الأسرة المالكة وهم الأمراء والنبلاء عمر طوسون ومحمد علي وعمرو إبراهيم وسعيد داود ومحمد علي حليم وإبراهيم حليم.
 رغم اتساع المعارضة فإن حلف صدقي وفؤاد استمر في خطته، وتمت الانتخابات في يونيو 1931، على أساس قانون الانتخابات الذي سلب الشعب إرادته وحقوقه. وقدم الوفد بلاغًا إلى النائب العام مدعمًا بالوثائق يفضح وقائع التزوير والقمع، إلا إن النائب العام لم يكترث لهذا البلاغ الخطير.
 ورغم أن شهداء تلك الانتخابات تجاوزوا مئة شهيد، لكنهم لم يكونوا أخر الشهداء على طريق الحرية؛ فقد استمرت المقاومة وتصاعدت ضد صدقي، وزاد من قوتها وحدتها امتداد آثار الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى إلى مصر، وكان سلوك حكومة صدقي في مواجهة الأزمة يصب في خدمة كبار الملاك والرأسماليين، بينما حاصرت الأزمة الناس في أرزاقهم، وسرعان ما انضم العمال والفلاحين إلى حركات الاحتجاج، كما شهدت قرى الدلتا والصعيد هبات فلاحية متعددة بعضها أخذ طابعًا جماعيًا سياسيًا ضد دستور 30 وتزوير الانتخابات، وبعضها الآخر كان احتجاجًا على سوء الأوضاع الاقتصادية وتعسف الحكومة في جباية الضرائب، وابتكر الوفد أسلوبًا جديدًا في النضال بالدعوة للامتناع عن دفع الضرائب.
 وانضم الاتحاد النسائي المصري إلى المعارضة، ونظمت لجنة سيدات الوفد مظاهرة نسائية ضخمة ضد حكومة صدقي باشا، وخرجت المظاهرة من دار رياض باشا وسارت في طرقات القاهرة، وتدخلت الشرطة لفض المظاهرة بالقوة واعتقلت عدد من السيدات وأودعتهن في أقسام الشرطة، ثم اضطرت تحت الضغط الشعبي للإفراج عنهن ليلًا.

 وكان المسمار الأول في نعش حكومة صدقي حادثة اغتيال مأمور مركز البداري، فقد كشفت تلك القضية عن الانتهاكات التي كانت تقع في مراكز الشرطة ضد المواطنين، ويرجع أصل القضية إلى قيام اثنان من أبناء البداري بقتل المأمور، وحكمت المحكمة بإعدام واحد منهما وبالأشغال الشاقة المؤبدة على الثاني، وعند الطعن بالنقض في الحكم كشفت محكمة النقض أن جريمة القتل كانت بسبب قيام المأمور بتعذيبهما وهتك عرضهما، وأدانت المحكمة برئاسة عبد العزيز فهمي باشا في حكم تاريخي لها فساد النظام وأفعال رجال البوليس التي وصفتها بأنها "إجرام في إجرام"، وبناء على هذا الحكم بدأت النيابة العامة التحقيق في وقائع التعذيب التي يتعرض لها المواطنون على يد رجال البوليس، وكان هذا الحكم وما تبعه من تحقيقات سببًا في انقسام في حكومة صدقي الذي أوقف التحقيقات فاستقال بعض وزرائه، وانتهى الأمر باستقالته هو نفسه في سبتمبر 1933.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...