الاثنين، 24 يناير 2022

من باب العشم

 

من باب العشم

رسالة خاصة من يحيى حقي إلى بدر الدين أبو غازي

عماد أبو غازي

 ربطت بدر الدين أبو غازي بيحيى حقي علاقة صداقة امتدت لأكثر من عشرين عامًا؛ كانت البداية علاقة قارئ متابع ومعجب بأديب مبدع، وأتذكر جيدًا أن كل أعمال يحيى حقي كانت تحتل مكانًا بارزًا في مكتبة المنزل، وكانت من الكتابات التي يرشحها لنا أبي لنقرأها إلى جانب مسرحيات توفيق الحكيم وروايات نجيب محفوظ.

 وجاء التعارف الفعلي بينهما في فترة تولي يحيى حقي لرئاسة مصلحة الفنون (1955-1958)، ثم توطدت العلاقة في الستينيات عندما رأس يحيى حقي تحرير مجلة المجلة في منتصف عام 1962، واستمر فيها حتى أواخر عام 1970، فقد أصبح بدر الدين أبو غازي خلال هذه الفترة أحد الكتاب الأساسيين في المجلة، نشر قرابة 90 مساهمة خلال 9 سنوات كلها باستثناء مساهمتين اثنتين في فترة رئاسة يحيى حقي للتحرير.

 وقد كان يحيى حقي الرئيس الرابع لتحرير المجلة، من بين خمسة رؤساء تحرير في إصدارها الأول الممتد من عام 1957 إلى عام 1971، وقضى أطول فترة في رئاسة التحرير وترك بصماته واضحة على المجلة التي ارتبطت باسمه لما أدخله عليها من تطوير، جعلها منبرًا مفتوحًا لكتاب ونقاد ومبدعين ينتمون لأجيال مختلفة، كان بدر الدين أبو غازي واحدًا منهم، وقد ترك يحيى حقي رئاسة تحرير المجلة قبل تعيين بدر الدين أبو غازي وزيرًا للثقافة بأسابيع قليلة.

 وعندما تولى أبو غازي وزارة الثقافة كان من أول من اتصل بهم يحيى حقي لمشاورته والاستنارة بآرائه، لما له من في إدارة العمل الثقافي وللعلاقة التي تربطهما ببعض، وكان الاتصال التليفوني متضمنًا وعدًا بلقاء طويل لحديث لا تتسع له المكالمات التليفونية، لكن اللقاء تأخر لبضع أسابيع بسبب مشاغل المنصب الجديد، الذي جاء في بداية عهد جديد، وبدأ "أولاد الحلال" يسعون للوقيعة بين الرجلين، ويهمسون في أذن يحيى حقي، ويقولون له: "إنه ليس مشغولًا، بل لا يريد أن يراك".

 عندها أرسل يحيى حقي خطابًا إلى بدر الدين أبو غازي الصديق قبل الوزير على عنوان منزله، وعندما تلقى أبو غازي الخطاب سارع بالاتصال بيحيى حقي وتم اللقاء بينهم، وأذكر جيدًا مدى تأثر بدر الدين أبو غازي بهذا الخطاب رغم مرور أكثر من خمسين عامًا على هذا الموضوع.

 مؤخرًا عثرت على هذا الخطاب الذي كنت أعلم بأمره، لكني لم أره من قبل أو أطلع على ما جاء فيه، وقد عثرت عليه وأنا أنقب في أوراق بدر الدين أبو غازي الخاصة، وأعمل على ترتيبها، ونشر ما يجدر نشره منها، وجدت فيه هذا الخطاب خطابًا من صديق إلى صديق، يبثه فيه ما دار بخاطره من هموم بصدق وصراحة تحتملها علاقة الود بينهما، ويعرض في الخطاب رؤيته ومقترحاته للنهوض بالعمل في وزارة الثقافة، ويوصيه بالاهتمام ببعض الأمور والعناية ببعض الموهوبين الذين حدد أسماءهم، ويطلب منه أن يكون "الجانب الإنساني" طابع عهده في الوزارة، وأعتقد أن مقترحات يحيى حقي التي ضمنها خطابًا طال لأكثر من أربع صفحات، تكشف عن رؤيته العميقة للعمل الثقافي وكيفية إداراته، وعن حسه المرهف وروحه الخلاقة المتطلعة إلى النهوض بالإنسان على المستويين الفردي والجماعي، حرصه على الاحتفاء بكبار المبدعين والمفكرين بقدر اهتمامه بالشباب وإتاحة الفرص أمامهم.



 وإلى نص الخطاب:

 "عزيزي الأستاذ الجليل بدر الدين أبو غازي

  وجدتني أخيرًا أُدافع الأوهام، أسخفها وأشقها، ولكن لي بعض العذر في ظني إذا قلت لك إنني كدت أصدق بعض هذه الأوهام، إن عذبتني معرفة السبب، بعض الناس من حولي ممن علموا باتصالك المبكر بي – ولا تدري كم سررت به وشكرتك عليه – بدأوا يقولون: إنه ليس مشغولًا، بل لا يريد أن يراك.

 وكنت أنتظر لقاءنا بلهفة لأن في قلبي أشياء كنت أريد أن أقولها لك، أنها تنفذ إلى العمل عن طريق الجانب الإنساني، فأني أتمنى أن يكون هذا هو طابع عهدك في الوزارة؛ من ذلك مثلًا: -

 1 – البحث عن الكفاءات المنزوية التي لا يسأل عنها أحد. يحضرني الآن إسمان، الأول جمال حمدان الذي تعرف فضله، إنه منزوٍ لا يسأل عنه أحد، كنت أريد أن أرجوك أن تسأل عنه وتحاول إخراجه من عزلته، الاسم الثاني هو صبري السربوني، وأنت تعرفه وهو من أصدقاء مختار، أزوره أحيانًا فيحدثني بمرارة عن العراقيل التي تقام في وجهه وتؤخر إصداره لمؤلف بالفرنسية عن حضارة العرب في أفريقيا، كنت أريدك أن تسأل عنه وتقول له: ما هي متاعبك؟ ولعلي أنجح في العصور على أسماء أخرى أو يدلك عليها غيري.

 2 – استعادة كفاءات هاجرت، يحضرني هنا اسم ولي الدين سامح، كنت أريد أن أرجوك لتبعث إليه تسأله هل يعود؟ هل هناك خير منه للإشراف على أفلامنا التسجيلية التي نادى بها أحمد بهجت أخيرًا في مقاله البديعة عن الفارابي.

 د. مصطفى بدوي، د. أنور لوقا، من أعمدة الأدب والنقد عندنا، هاجر الأول لإنجلترا والثاني لسويسرا، إذا لم نستطع استعادتهما للوطن فعلى الأقل يبلغهما من وزير الثقافة أسف لغيابهما، ورجاء بأن يشاركا بقلمهما في الحركة الأدبية عندنا، وتقديم مقترحات لك على ضوء خبرتهما في أوروبا.




 المسألة الثانية، كنت أريد أن أقول لك أيضًا إنني أتمنى أن يتميز عهدك بالاعتناء بالشباب.

 السعي للحصول على أكبر قدر من البعثات الدراسية للتخصصات التي تهتم بها وزارة الثقافة، النهضة المسرحية الأخيرة كانت بفضل هذه البعثات.

 تحريك تنفيذ الاتفاقات الثقافية مع الدول الصديقة، والانتفاع بكل الفرص وطلب المزيد.

 الوفود حبذا لو جعلت شرطها أن تضم نسبة محترمة من الشبان يسافرون مع الشيوخ.

 في الأقاليم شبان تتحسن أحوالهم إذا وجدوا في حضن الوزارة في عهدك عملًا لهم، يحضرني اسم عفيفي مطر، شاعر يشكو من أنه مرهق بالتدريس في كفر الشيخ.

 هل تذكر عبد الحكيم قاسم وكيف تفضلت بخدمته، إنه معدود من النجوم الصاعدة، في ذهني اسم كمال حمدي، إنه خميرة طيبة لو سافرت لأوروبا لعاد أستاذًا مرموقًا في الأدب الكلاسيكي.

 لأجل أن تعرف الأمثلة التي أقف عليها لضياع بعض الشبان أرسل لك مقصوصة من خطاب لواحد منهم يقول لي فيها إنه يَقتُل ويُقتل كل يوم، إننا لا نريد تدليع الخائبين والبلطجية، ولكن مساعدة من يستحق المساعدة.

 أحلم أنك تفتتح فصولًا حرة في المعاهد الفنية، إنك تنشئ جامعة شعبية لدراسات عن تاريخ مصر وجغرافيتها وآدابها إلخ إلخ، أن تأمر بترجمة كتاب وصف مصر، ووضع دائرة معارف،

 أن يذكر الناس عهدك بعمل عظيم، أين أفلامنا التسجيلية عن متاحفنا؟

 أشياء كثيرة تنتظر التنفيذ على يديك بإذن الله.



 وكنت أريد أن أعرض عليك أيضًا رأيًا في المجلات، فإني أتصور أن الحل يكون بتحريك النقابات المهنية لأداء واجبها الثقافي، وتعينها وزارة الثقافة بمبلغ محدد، نقابة المهندسين تصدر مجلة العمارة، عيب أن لا يكون في مصر أم العمارة مجلة للعمارة، نادي السينما يصدر مجلة السينما، وهلم جرا.

  لم يكن لي مطلب لنفسي فأنا والحمد لله في نعمة كبيرة، ولا أنسى أفضالك السابقة التي أنقذتني من ورطات كثيرة.

 كتبت لك الآن لأني أولًا خفت أن هذا الكلام مهما قلت قيمته قد يضيع من رأسي، ولأني – ثانيًا – أظن أن خطابي هذا قد يأتيني بكلمة منك ولو بالتليفون تبدد أوهامي.

المخلص

يحيى حقي

هذا خطاب خاص لذلك أرسلته بعنوان منزلك"



 وبعدها كان اللقاء، وترك بدر الدين أبو غازي الوزارة بعد ستة أشهر إلا أيام من توليه المنصب، واستمرت الصداقة واستمر التواصل إلى أن رحل بدر الدين أبو غازي قبل يحيى حقي بتسع سنوات وشهور...

 مقالي المنشور في أخبار الأدب - عدد 23 يناير 2022

 

الجمعة، 14 يناير 2022

منظومة العمل الثقافي قراءة أولية في السياسة الثقافية للدكتور جابر عصفور

 

منظومة العمل الثقافي قراءة أولية في السياسة الثقافية للدكتور جابر عصفور

عماد أبو غازي

  اخترت للمشاركة في وداع جابر عصفور أن أقدم قراءة أولية في مشروعه لصياغة استراتيجية للمنظومة الثقافية للدولة، والتي لم تحظ بقدر مناسب من الاشتباك معها ومناقشتها؛ ربما لأن الرجل ترك منصبه الوزاري بعد شهور قليلة، أو لنقل أسابيع قليلة من تقديم مشروعه للنقاش، وربما لأن ورقة أخرى معاصرة لها كتبها الأستاذ السيد يسين تلقاها المجتمع الثقافي بالنقد باعتبارها سياسة وزارة الثقافة، رغم أنها مجرد رؤية لصاحبها ومساهمة منه في وضع تصور للسياسة الثقافية للدولة، لذلك قد يكون من المناسب في لحظة غياب جابر عصفور عنا أن نفتح الباب لمناقشة رؤيته للسياسة الثقافية، التي تحتاج بلا شك لمناقشة أكثر عمقًا مما تسمح به اللحظة والمساحة.

 عرفت مصر استراتيجيات العمل الثقافي والسياسات الثقافية الرسمية عقب إنشاء وزارة الثقافة في عام 1958؛ وقدم عددًا من الوزراء الذين تولوا حقيبة الثقافة سياسات تحمل اسمهم أو تنسب إليهم؛ وكان أخر هؤلاء الدكتور جابر عصفور في عام 2014، قبل أن يصبح محور الثقافة في استراتيجية التنمية المستدامة مصر 2030 السياسة الثقافية الرسمية للدولة.

 لقد تولى جابر عصفور منصب وزير الثقافة مرتين، في 2011 و2014؛ كانت المرة الأولى التي تولى فيها وزارة الثقافة في أثناء ثورة 25 يناير 2011، في حكومة الدكتور أحمد شفيق الأولى، أخر حكومة شكلها الرئيس حسني مبارك، كان يتصور يومها أن النظام استوعب الدرس، وإنه يسعى لتحقيق تآلف وطني، ولكنه لم يستمر في منصبه إلا تسعة أيام عندما أدرك أنه لا توجد نية حقيقية للتغيير، وفي هذه الأيام القليلة كان حريصًا أن يناقش مع زملائه في وزارة الثقافة خططًا طموحة للعمل تنطلق مما هو قائم وتبني عليه.

 وفي المرة الثانية عندما تولى وزارة الثقافة في عام 2014 واستمر في منصبه قرابة ثمانية أشهر، قدم في ديسمبر 2014، بعد قرابة ستة أشهر في منصبه، مشروع لاستراتيجية لمنظومة الثقافة في مصر، حمل عنوان: "استراتيجية المنظومة الثقافية للدولة 2014-2030"، وقد بدأ في الإعداد لهذه الاستراتيجية أو السياسة الثقافية عقب توليه منصبه مباشرة، واعتبرها خطوة أولى في هيكلة المنظومة الثقافية في مصر.

 ولا شك في أن خبرات الدكتور جابر عصفور بالعمل الثقافي وبالإدارة الثقافية التي اكتسبها خلال سنوات عمله الرسمي في وزارة الثقافة كانت دافعًا له ومعينًا في الوقت نفسه في صياغة مشروعه، فقد شغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة لمدة خمسة عشر عامًا، وتولى إدارة المركز القومي للترجمة لثلاث سنوات، كما أشرف على دار الكتب والوثائق القومية لعدة أشهر، وقبلها وخلالها شارك في أنشطة مختلف هيئات وزارة الثقافة لسنوات، ومن هنا كانت معرفته بهيئات وزارة الثقافة وقطاعاتها المتعددة عميقة قبل توليه الوزارة.

 فعندما شرع الدكتور جابر عصفور في وضع استراتيجية للمنظومة الثقافية للدولة كانت معرفته بوزارة الثقافة وأجهزتها وخبراته بالعمل فيها حاضرة، لكنه لم ير ذلك كافيًا، بل اتجه إلى الاستعانة برؤى متعددة ومتنوعة، كما أوكل عملية تحليل الرؤى والصياغة الأولية لمن رأى فيه القدرة على ذلك، ومن هنا فقد لعب دورًا أساسيًا في صياغة الاستراتيجية الدكتور سعيد المصري، الذي شغل في هذه المرحلة منصب مساعد وزير الثقافة لتطوير المنظومة الثقافية، ورغم ما يمتلكه الدكتور جابر عصفور من لغة أدبية راقية، فقد أسند كتابة مقدمتها للشاعر سيد حجاب، الذي كان قد انتهى قبلها بشهور من صياغة مقدمة دستور مصر الذي صدر في يناير 2014؛ لقد كان جابر عصفور يؤمن دائمًا بالعمل الجماعي ويحرص في كل موقع تولاه على تشكيل الفريق الذي يعاونه ويساند مشروعه.

 لقد صدر مشروع "استراتيجية المنظومة الثقافية للدولة 2014-2030" نتاجًا لسلسلة من جلسات الحوارات وورش العمل، شارك فيها بالرأي والتعليق أكثر من خمسين فاعلًا وفاعلة في المجال الثقافي، كذلك اعتمد المشروع على قراءة في رؤى متنوعة حول السياسة الثقافية تعامل معها باعتبارها أوراق خلفية، بعضها سياسات ثقافية سابقة، والبعض الآخر رؤى لخبراء، كذلك رجع إلى المشروع الذي قدمته لمجلس الشعب في 2012 المجموعة الوطنية للسياسات الثقافية، وهي مجموعة مستقلة تضم خبراء وممثلين للمجتمع المدني في مجال الثقافة بدأت عملها في خريف 2010، لقد كان هناك حرصًا واضحًا على الاستماع لأصوات متنوعة ومختلفة.

 وتنقسم الاستراتيجية إلى سبعة أقسام أساسية وملحق بعد التمهيد والمقدمة؛ ويؤكد التمهيد على أمرين: الأول أن الاستراتيجية تأتي في إطار ما تبذله الحكومة من جهد في طرح رؤية استراتيجية للتنمية المستدامة، في إشارة إلى العمل القائم وقتها في إعداد استراتيجية التنمية المستدامة – مصر 2030 التي أعلنها رئيس الجمهورية في مطلع عام 2016، والأمر الثاني أن المنظومة الثقافية قائمة على الشراكة المجتمعية في الشأن الثقافي، على التعاون بين وزارة الثقافة وأطراف أخرى حكومية وغير الحكومية.

 تبدأ الاستراتيجية بتحليل للوضع الراهن، باستخدام أداة التحليل الرباعي، ثم تنتقل إلى تحديد للرؤية والرسالة والقيم والأهداف، وفي القسم الثالث من الاستراتيجية تنطلق لتحديد أسس تطوير منظومة العمل بوزارة الثقافة، ويتضمن الملحق التصور المقترح لهيكل جديد لوزارة الثقافة، فقد كان حريصًا خلال تلك الأشهر القليلة أن يضع تصورًا متكاملًا لبناء جديد لمؤسسات العمل الثقافي في مصر.

وتنتقل الاستراتيجية بعد ذلك إلى مجالات التعاون بين وزارة الثقافة وغيرها من الهيئات والوزارات؛ فقد حرص جابر عصفور في مشروع الاستراتيجية أن يؤكد أهمية التعاون بين وزارة الثقافة وغيرها من الوزارات والهيئات ومؤسسات المجتمع المدني، لقد كانت قناعته دائمًا أن الثقافة ليست مسئولية وزارة الثقافة وحدها، ولم تقتصر الاستراتيجية على تأكيد هذه الفكرة، بل سعت لترسيخها من خلال تقديم مشروعات محددة للتعاون مع 21 وزارة وهيئة ومجلس ومؤسسات مجتمع مدني، وقد قام بالفعل بتوقيع برتوكولات للتعاون مع عدد من هذه الوزارات والهيئات والمؤسسات.

 وتُختتم الاستراتيجية بتصور للأهداف التفصيلية ومؤشرات القياس.

 ومن الجدير بالذكر أن الاستراتيجية رغم ما بذل فيها من جهد كبير كانت مجرد مشروعًا مطروح لنقاش لم يكتمل، الأمر الذي ورد واضحًا في التمهيد للاستراتيجية، عندما أشار إلى أن الحوار المجتمعي حول المنظومة الثقافية المقترحة ما زال قائمًا مع الشركاء من الحكومة والمجتمع المدني، وأنه لم يتسنى بعد الانتهاء من صياغة الوثيقة كاملة.

 ولا شك أن التزامن بين صياغة الاستراتيجية ومراحل الإعداد لإصدار استراتيجية التنمية المستدامة – مصر 2030 قد انعكس في تداخل إيجابي بين الاستراتيجيتين، خاصة وأن فريق العمل في محور الثقافة في استراتيجية مصر 2030 كان من بين المجموعات التي قدمت تصوراتها في استراتيجية المنظومة الثقافية، كما أن الفاعل الأساسي في صياغة الاستراتيجية إلى جانب الدكتور جابر عصفور كان هو نفسه مقرر محور الثقافة في استراتيجية مصر 2030.

 لقد ركزت هنا على ما رأيته من جوانب إيجابية في استراتيجية المنظومة الثقافية، التي يمكن أن نعتبرها بمثابة مشروع السياسة الثقافية للدكتور جابر عصفور كوزير للثقافة؛ لكن المشروع يحتاج لمزيد من النقاش حوله والاشتباك معه، للاستفادة منه والبناء عليه من ناحية، وللتأريخ للسياسات الثقافية في مصر من ناحية أخرى.

مقالي في أخبار الأدب عدد 6 يناير 2022

الخميس، 13 يناير 2022

الاقتصاد البرتقالي

 



الاقتصاد البرتقالي وآفاق التنمية

عماد أبو غازي

 انتشرت في مجال الاقتصاد المصطلحات التي تضفي ألوانًا معينة كسمات دالة على الاقتصادات المختلفة، وتجاوزت ألوان أنواع الاقتصادات اليوم عشرة ألوان؛ وفي هذا السياق ظهر مصطلح "الاقتصاد البرتقالي" كمصطلح من المصطلحات المستخدمة للتعبير من خلال الألوان عن نوع من أنواع الاقتصاد وتوجهه ومحتواه.


 يشير مصطلح الاقتصاد البرتقالي إلى الأنشطة الاقتصادية التي تجمع بين الموهبة والإبداع والتكنولوجيا والثقافة، ويتم فيها تحويل الأفكار إلى سلع وخدمات ثقافية، وتجني عوائدها من خلال حقوق الملكية الفكرية والحقوق المجاورة؛ حيث يشمل الاقتصاد الإبداعي أو البرتقالي الثروة الهائلة التي تتكون من اجتماع المواهب وحقوق الملكية الفكرية والتراث الثقافي، وبهذا المعنى فإن المصطلح يعتبر تطورًا لمفهوم الصناعات الثقافية أو الصناعات الإبداعية.

  فالاقتصاد البرتقالي أو الإبداعي يجمع قطاعات مختلفة من الاقتصاد معًا، ووفقًا لليونسكو، يتمثل هدفها الرئيسي في تسويق الأنشطة والخدمات والمنتجات، أو النشر، أو الترويج، أو الاستنساخ، أو الإنتاج الذي يحتوي على محتوى تراثي أو فني أو ثقافي، وترتبط منتجاتها أو خدماتها بالملكية الفكرية مثل ألعاب الفيديو والراديو وبرامج التلفزيون والإعلان والموسيقى والأزياء والألعاب والبحث والتطوير والنشر والتصميم والأفلام والحرف اليدوية والفنون المرئية وفنون الأداء والتصميمات المعمارية.

  متى ظهر المصطلح؟

 يرجع ظهور مصطلح الاقتصاد البرتقالي على الساحة لأول مرة إلى سنوات قليلة مضت؛ وذلك عندما أصدر الكولومبيان فيلبي بويتراجو - ريستريبو (Felipe Buitrago - Restrepo) وإيفان دوكي - ماركيز Iván Duque Márquez)) في عام 2013 كتابًا أو دليل عمل يحمل عنوان "الاقتصاد البرتقالي فرصة لا نهائية" (The Orange Economy – An Infinite Opportunity).

 ويجمع المؤلفان بين خبرات في العمل السياسي والقانوني والاقتصادي والثقافي؛ فأولهما: بويتراجو -ريستريبو متخصص في الاقتصاد والسياسات العامة، بدأ حياته المهنية في وزارة الثقافة الكولومبية، حيث عمل بين عامي 2003 و2006 كمنسق لبرنامج الاقتصاد والثقافة، وساهم في بناء نظام المعلومات الاقتصادية في المجال الثقافي كأداة لاتخاذ القرارات العامة والخاصة، كما شارك في مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وعمل مديرًا لبرنامج تطوير الاقتصادات الإبداعية في المجلس الثقافي البريطاني في عام 2009، ثم في عامي 2010 و2011 مديرًا للمرصد الأيبيري الأمريكي لحقوق التأليف والنشر، وتولى مؤخرًا منصب وزير الثقافة لشهور قليلة؛ وثانيهما: دوكي - ماركيز محامي وسياسي ومشرّع كولومبي، ينتمي إلى يمين الوسط، انتخب رئيسًا للجمهورية في عام 2018، وكان قد تخصص منذ البداية في القانون الاقتصادي الدولي وإدارة السياسات العامة، وعمل في وزارة المالية، كما عمل في بعض المؤسسات الثقافية والاقتصادية في كولومبيا، حتى انتخب نائبًا في البرلمان عن حزب "الوسط الديموقراطي"  (Centro Democrático)عام 2014، وساهم خلال عضويته في البرلمان في صياغة عدد من القوانين منها: "القانون البرتقالي" الذي صدر سنة 2017 بهدف تحقيق ضمانات الترويج للصناعات الإبداعية والثقافية وتنميتها وحمايتها في كولومبيا.

 وجاء كتابهما كعمل إبداعي في حد ذاته، فنحن أمام نص غير تقليدي، نص تفاعلي تتخلله صفحات بيضاء لنكتب تعليقاتنا فيها، كما أنه مليء بأكواد QR تقودنا إلى مواقع وفيديوهات على الإنترنت.

 لماذا اللون البرتقالي؟

  لكن ما سبب اختيار المؤلفان اللون البرتقالي للتعبير عن الاقتصاد الإبداعي؟

 ذلك لأنهما رأيا أن اللون البرتقالي يرتبط عادة بالثقافة والإبداع والهوية، ويقدم المؤلفان تفسيرهما لهذه العلاقة من خلال استعراض دلالته في مختلف الحضارات والثقافات.

 فيقول المؤلفان: إنه منذ أقدم العصور كان اللون البرتقالي دالًا على الإبداع بشكل أو بآخر؛ ففي العصور القديمة، استخدم الفنانون المصريون القدماء بكثرة صبغة برتقالية مصنعة من كبريت الزرنيخ في الكتابات الهيروغليفية والزخارف في المقابر.

 وفي التقاليد الغربية يرمز اللون البرتقالي إلى الترفيه والانطلاق، وربما ترجع جذور هذه الرمزية إلى الحضارتين اليونانية والرومانية حيث كانت ملابس ديونيسيوس (باخوس) إله المسرح والخمر وملهم طقوس الابتهاج والمرح برتقالية اللون.

 والبرتقالي كذلك لون ثمار نبات القرع الذي يشكل أحد الرموز الأساسية في طقوس احتفال الهيولين، الذي ترجع أصوله إلى المكسيك، ومنها انتقل إلى أمريكا الشمالية، ثم كثير من بلدان العالم.

 وفي الثقافات الأسيوية يشير اللون البرتقالي أيضًا إلى دلالات ترتبط بالفكر والثقافة والإبداع: ففي الكونفوشيوسية يعتبر لون التحول؛ وفي البوذية يعد لونًا مميزًا للرهبان ووفقًا لمعتقدهم فقد اختار بوذا اللون بنفسه للدلالة على الحكمة، وفي الهندوسية يعد البرتقالي لونًا للرجال المباركين؛ كما تمثل الشاكرا البرتقالية (Orange Chakra) الموجودة في أسفل البطن مركز القوة الإبداعية لدى الإنسان في فلسفة اليوجا.

 وبالنسبة للسكان الاصليين لأمريكا اللاتينية يمثل البرتقالي لون التعليم والقيادة، كما يمثل اللون المميز للخزف في حضارات امريكا الوسطى، وفي البيرو يعتبر لون المجتمع والثقافة.

 والبرتقالي أيضًا اللون الأكثر ارتباطًا بالنار، وهناك عدد من الاستعارات اللغوية حول العلاقة بين النار والفكر والإبداع والعاطفة.

 وأخيرًا فإن "البرتقالي أسعد الألوان" وفقًا للفنان الأمريكي الشهير فرانك سيناترا.

 لكل ما سبق، ونظرًا لأن الاقتصاد الثقافي والإبداعي كان يفتقر إلى هوية لونية أو علامة مميزة وقت تأليفهما كتابهما، فقد قررا إضفاء اللون البرتقالي على الاقتصاد الإبداعي وتسميته بالاقتصاد البرتقالي.

 وإذا كان مصطلح الاقتصاد البرتقالي قد ظهر أولًا في كولومبيا، فإن استخدامه شاع بسرعة في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، وتعددت الدراسات التي تحمله في عنوانها، وقبل مرور أقل من عشر سنوات على ظهور المصطلح أصبح شائعًا ومتداولًا على نطاق عالمي.

 من الصناعات الإبداعية إلى الاقتصاد البرتقالي

 يشمل الاقتصاد البرتقالي طيفًا واسعًا من الصناعات والحرف والإسهامات التي تتسع يومًا بعد يوم، والتي يدخل الكثير منها تحت مظلة ما يعرف بالصناعات الثقافية؛ فإذا كانت صناعة الكتاب والنشر التي ظهرت مع اختراع يوحنا جوتنبرج (Johannes Gutenberg) للطباعة في القرن الخامس عشر كانت اللبنة الأولى في بناء ما عرف بعد ذلك بالصناعات الثقافية، فإن الاختراعات التي أضافتها موجات الثورة الصناعية في القرنين التاسع عشر والعشرين قد حولت أشكالًا إبداعية كانت تتميز بطابع الفردية، أو بالصلة المباشرة بين المبدع والمتلقي، إلى صناعات تنطبق عليها معايير الصناعة الحديثة وتندمج في آليات السوق الرأسمالي، وتخضع لقوانينه.

 وفي ستينات القرن الماضي ظهر مصطلح الصناعات الإبداعية باعتباره تخصصًا مستقلًا في الدراسات الاقتصادية، وكان يشمل صناعات الكتاب والنشر والسينما والموسيقى والغناء بشكل أساسي، كما دخلت في إطاره عروض المسرح والفنون الاستعراضية والفنون التشكيلية، من خلال آليات تمويل إنتاجها وتسويقها.

 ثم غاب المصطلح أو قل الاهتمام به إلى عاد للظهور بقوة مع بداية الألفية الجديدة، في سياق صعود حضارة الموجة الثالثة، حضارة ثورة المعلومات والاتصالات، فظهر بمسمى الصناعات الثقافية واتسع نطاقه ليشمل صناعة الإعلانات والهندسة المعمارية والفن والحرف اليدوية التراثية والتقليدية والتصميم وصناعة الأزياء والبرمجيات وألعاب الفيديو والراديو والتلفزيون، إلى جانب السنيما والموسيقى والمسرح؛ فمع هذه الثورة تطورت الصناعات الإبداعية واتسع نطاقها؛ فانضمت إلى القائمة مجالات وقطاعات جديدة كالألعاب ومنتجات الترفيه وخدمات السياحة الثقافية، والإعلام، والفنون البصرية، والمصطلح في ظهوره الجديد شمل مجموعة من الأنشطة بعضها قديم قدم الحضارة الإنسانية مثل الموسيقى والغناء، وبعضها حديث جدًا مثل ألعاب الفيديو، وأصبح التركيز على الأنشطة التي تهتم بتوليد المعرفة والمعلومات واستغلالها.

 ومثلما أضافت تقنيات عصر الثورة الصناعية إلى الإبداع وحولته من الإنتاج المحدود إلى الإنتاج الكبير، فإن تقنيات المعلومات والاتصالات حققت التحامًا مع الصناعات الإبداعية ووفرت لها دفعة كبيرة إلى الأمام، وجاء هذا الالتحام على مستوى تقنيات الإنتاج وعلى مستوى تطوير المحتوى في الوقت نفسه؛ وقد أصبح المحتوى الإبداعي يمثل حصة كبيرة متزايدة باستمرار من التجارة الإلكترونية عبر الإنترنت،

 ومع هذه التطورات في المفهوم حدث تغيير في المصطلح، فتحول إلى الاقتصاد الإبداعي بدلًا من الصناعات الإبداعية أو الثقافية، لماذا؟ لعل ذلك يرتبط بالأشكال الجديدة للإنتاج الثقافي والإبداعي التي تستوعب أشكال عصر الثورة الصناعية وتتجاوزها في الوقت نفسه، فقد منحت الثورة الرقمية قدرات واسعة للمبدعين وللمنتجات الثقافية لا تتقيد بأساليب عصر الصناعة، فأصبح مصطلح الاقتصاد الإبداعي أكثر تعبيرًا عن الحال.

 منذ أكثر من عشرين عامًا كانت الأسئلة الملحة: إن مفهـوم الصناعات الإبداعية أو الثقافية ظهر عندما كانت قيم الثورة الصناعية هي السائدة باعتبار الصناعة القيمة العليا، لكن مع ثورة المعلومات والاتصالات وقيمها الجديدة وما يصاحبها من تطورات ما وضع الصناعات الإبداعية والثقافية؟

 هل استمرت أساليب الإنتاج الثقـافي نفسها، أم أنها تغيرت وتطورت؟

 وهل مـازال لمصطلح الصناعات الثقافية استخدامه؟ وهل مازالت له دلالاته نفسها؟ هل يمكن أن نطلق مصطلح "صناعات" على المنتج الثقافي والإبداعي ونحن ننتقل من عصر الصناعة التقليدية إلى العصر الرقمي بأدواته وآليات عمله الجديدة المتطورة؟

 وأظن أن الإجابة جاءت مع تغير المصطلح إلى الاقتصاد الإبداعي، ثم مع إضفاء سمة لونية عليه ليصبح الاقتصاد البرتقالي.

الاقتصاد البرتقالي فرص لا نهائية

 وصف بويتراجو – ريستريبو ودوكي - ماركيز في كتابهما الاقتصاد البرتقالي بأنه يحمل فرصًا بلا نهاية؛ وهما محقان تمامًا في هذا الوصف، فالاقتصاد الإبداعي يحوي مجموعة من الأنشطة الإنتاجية والترفيهية والخدمية تشكل قيمة مضافة كبيرة لأي اقتصاد قومي، كما تقدم فرص عمل متزايدة أمام الشباب، كما ينمي الاقتصاد الإبداعي القدرة على الابتكار وينعكس هذا على مجال الدعاية والإعلان للمنتجات لمختلف الاقتصادات الأخرى، وفي الوقت نفسه تقدم إضافة فكرية وثقافية مهمة في المجتمع، كما أن الإبداع البشري يشكل المورد المتجدد الذي لا ينضب منذ الثورة الذهنية والذي يتطور بالتراكم المعرفي لدى البشر، ويملك الاقتصاد البرتقالي القدرة على تجاوز الأزمات الاقتصادية والكساد وتقلبات السوق والخروج منها والتعافي بأقل أضرار،

 والعلاقة بين الاقتصاد البرتقالي والاقتصاد الرقمي الذي يشكل المستقبل علاقة تبادلية حيث يقوي كل منهما الآخر، فقد أعطت التجارة الإليكترونية دفعة كبيرة للاقتصاد البرتقالي، وفي المقابل يعد الاقتصاد البرتقالي أحد العناصر الرئيسية للنمو في الاقتصاد الرقمي، ويتضح ذلك بجلاء من التحول نحو الاقتصاد ما بعد الصناعي، حيث توسعت الخدمات الشخصية والترفيهية والسمعبصرية كحصة من نفقات الأسرة المتوسطة وكحصة من الاقتصاد على مستوى العالم.

 ولو استعرضنا بعض النماذج لتطور الاقتصاد الإبداعي في العقود الثلاثة الأخيرة سنكتشف الحجم الذي يشكله في الاقتصاد العالمي وفي اقتصادات الدول المختلفة.

 فوفقًا لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، شهدت التجارة في السلع والخدمات الإبداعية ذروة فترة ازدهارها بين عامي2002 و2011 حيث زادت الصادرات بنسبة 134٪. وأصبحت خامس سلعة يتم تداولها في جميع أنحاء العالم، وقد وصلت صادرات المنتجات والخدمات الإبداعية إلى 646 مليار دولار.

 وسنجد أن نسبة اسهام الاقتصاد الإبداعي في اقتصاديات الدول تتراوح بين 2% و7% ويبلغ متوسط اسهامه في الاقتصاد العالمي 6,1%، وبناء على تقديرات الأمم المتحدة تبلغ عائداته السنوية 2,25 تريليون دولار، ويوفر 30 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم، وتشكل النساء ما يقرب من نصف العاملين، كما يشكل الشباب بين 15 و29 النسبة الأكبر من العاملين، ويقدم التلفزيون والفنون المرئية أكبر إيرادات في القطاع، بينما تستوعب الفنون المرئية والموسيقى أكبر عدد من الوظائف.

  وفي بريطانيا جرى قياس القطاع لأول مرة عام 1998، وتضمن القياس ثلاثة عشر مجالًا تعتمد على الموهبة والقدرة على تكوين الثروة من خلال حقوق الملكية الفكرية: الإعلان، والتصميمات المعمارية، وسوق الفنون والتحف، والحرف اليدوية، والتصميم، وتصميم الأزياء، والأفلام، والبرامج الترفيهية التفاعلية، والموسيقى، والفنون المسرحية، والنشر، والبرمجيات، والتلفزيون والراديو؛ واتضح من القياس أن هذا القطاع يولد فرص عمل تبلغ ضعف متوسط فرص العمل في الاقتصاد البريطاني ككل.

 وفي الولايات المتحدة نتج عن التوظيف في الفنون والثقافة أكثر من 400 مليار دولار في الأجور لأكثر من 5.1 مليون أمريكي في عام 2017، أما في الصين فقد أسهمت القطاعات الإبداعية بما يزيد على 460 مليار دولار في الاقتصاد الوطني، أي ما يوازي نحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي، ووفقًا لتقديرات 2018 فإن الاقتصاد الإبداعي في بلدان الاتحاد الأوروبي كان مسؤولا عن توفير 12 مليون وظيفة ما يجعله ثالث أكبر قطاع لأصحاب العمل، ويولد نحو 550 مليار دولار أي ما يعادل 5.3% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد.

 هناك أيضًا تجربة دول الكاريبي التي تعاني من وجود قاعدة صناعية ضيقة ومتدنية، وتعاني من عبء الديون وتدهور القدرة التنافسية لصادراتها، فأدركت الحكومات والوكالات الإقليمية هناك أن الصناعات الإبداعية يمكن أن تكون محركًا للنمو الاقتصادي وآلية لتنويع الاقتصادات وتحسين القدرة التنافسية العالمية، ومن هنا بدأ العمل على تذليل العقبات التي تواجه الاقتصاد البرتقالي هناك والمتمثلة في الافتقار إلى مرافق الإنتاج وسوء تنظيم السوق وعدم كفاية القواعد واللوائح والفهم المحدود للأسواق العالمية ومشكلة اللغة والافتقار للقدرة على المساومة.

 وعلى صعيد آخر تهدف إمارة دبي إلى زيادة مساهمة الاقتصاد الإبداعي في الناتج المحلي الإجمالي للدولة من 2,6% إلى 5% بحلول عام 2025، كما أنشئت مناطق إبداعية جديدة للمحتوى الثقافي والتصميم وفنون، وتسعى استراتيجية الاقتصاد الإبداعي هناك إلى مضاعفة عدد الشركات الإبداعية والثقافية العاملة في القطاع من 8300 الآن إلى 15 ألف شركة على مدى السنوات الأربع المقبلة، مع زيادة الوظائف الإبداعية من 70 ألف إلى 140 ألف وظيفة.

 ومن الجدير بالاهتمام دراسة تأثيرات الجائحة التي يمر بها العالم في العامين الأخيرين على الاقتصاد البرتقالي، فرغم تضرر قطاعات كبيرة من هذا الاقتصاد من الجائحة، مثل السينما، والسياحة، والأنشطة الترفيهية الحية، نرى في المقابل ازدهار في مجالات الترفيه الرقمي ومنصات عرض الأفلام والبرامج والتجارة الإلكترونية لسلع الاقتصاد الإبداعي.

 لماذا تستمر العوائق أمام الاقتصاد البرتقالي؟

 رغم كل ما سبق، ورغم ما يتمتع به الاقتصاد البرتقالي من قدرة على تطوير قطاعات مختلفة من الاقتصاد ما زالت هناك عوائق قائمة أمامه في عدد من دول العالم، ويمكن تفسير ذلك بعدة أسباب وفقًا لكتاب "الاقتصاد البرتقالي فرصة لا نهائية":

 أولًا: يعد تعريف الاقتصاد البرتقالي أمرًا معقدًا، فالثقافة والإبداع والاقتصاد مفاهيم واسعة تتطلب ترسيم الحدود وتحديد العلاقات؛ فرغم الزمن الطويل الذي انقضى على نشأة الصناعات الثقافية، ما زالت العلاقة بين الاقتصاد والثقافة ليست بديهية لدى كثير من الناس، وما زالت فرصهما المشتركة غير معروفة على نطاق واسع، وما زال النهج الاقتصادي الكمي للأنشطة الثقافية والإبداعية حديث إلى حد ما يحتاج إلى تطوير أدواته، وما زال سؤال هل الثقافة والإبداع خدمة بلا مقابل أم سلعة لها ثمن؟ يلقى إجابات متفاوتة.

 ثانيًا: إن الجمع والنشر المنتظم للبيانات والمعلومات ذات الصلة بالاقتصاد الإبداعي غير متسق، ونادرًا ما يتم توصيله بطريقة فعالة.

 ثالثًا: العملية الإبداعية، التي ينتج عنها السلع والخدمات، هي عمل غامض يتبع منطقًا معقدًا ومتقلبًا، يبدو أحيانًا بعيدًا عن الفهم التقليدي للقائمين على شئون الاقتصاد.

 رابعًا: يفتقر تصميم السياسات العامة لدعم الاقتصاد الإبداعي إلى الأطر العملية، لا سيما للاستفادة من الفرص التي يقدمها لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

 خامسًا: الأشخاص المعنيون لا يمثلون كتلة حرجة حتى الآن.

لماذا الاقتصاد البرتقالي مهم لمصر؟

  نمتلك في مصر امكانيات كبيرة غير مستغلة في مجال الاقتصاد البرتقالي (الإبداعي):

 لدينا ثروة بشرية من المبدعين في مجالات الفنون والآداب المختلفة يملكون الموهبة إلى جانب الدراسة في الكليات والمعاهد الفنية، ولدينا أيضًا تراث إبداعي حديث متواصل على مدى قرنين.

 لدينا خبرة ممتدة في الصناعات الثقافية مثل صناعات الكتاب والنشر والسينما والموسيقى والغناء والدراما الإذاعية والتليفزيونية، يرجع عمر أقدمها إلى قرنين وأحدثها قارب ثلاثة أرباع القرن، لكنها تحتاج إلى توفير بيئة تشريعية ملائمة ودعم مباشر وغير مباشر لتنطلق قدرتها التنافسية في المجالين المحلي والإقليمي، ولتتيح فرص للتوظف لأعداد أكبر من الشباب.

 نمتلك حرف تقليدية وتراثية يمكن أن ننميها وتشكل قيمة مضافة لاقتصادنا القومي من ناحية، وفرص عمل أمام قطاع واسع من الشباب والكبار ولا تحتاج الا الى تنمية المهارات.

 لدينا تراث طويل من تجارب الاستفادة من الطاقات الابداعية التلقائية، مثل: تجربة حبيب جورجي ثم رمسيس ويصا واصف وصوفي حبيب في الحرانية، وتجربة ايفلين في الفيوم، وتجارب جراجوس وحجازة، وإحياء حرفة التلي في الصعيد (تجربة مركز الفنان سعد زغلول وتجربة المجلس القومي للمرأة)، ومراكز الحرف التراثية التابعة لوزارة الثقافة.

 نحظى بعدد من مواقع التراث الأثري والثقافي والطبيعي الجاذبة للسياحة، نحتاج إلى الحفاظ عليها وتحقيق أقصى استفادة منها.

 لدينا جيل من الشباب القادر على تطوير محتوى رقمي مصري، وتصميم الألعاب التعليمية والترفيهية الإلكترونية والتقليدية، أو التي تجمع بين الأسلوبين، وتطوير البرمجيات، يحتاجون إلى الدعم والمساندة..

 لدينا ثروة من حقوق الملكية الفكرية لمنتجنا الفني والثقافي تشكل إضافة مهمة لاقتصادنا القومي لو أحسنا حمايتها.

  وقبل ذلك كله وبعده نمتلك رؤية جعلت من دعم الصناعات الثقافية كمصدر قوة للاقتصاد القومي وقوة لتحقيق التنمية وأساسًا لقوة مصر الناعمة إقليميًا ودوليًا، الهدف الأول من أهداف محور الثقافة في استراتيجية التنمية المستدامة مصر 2030.

 آن الأوان أن نتجه بحزم للاستفادة من كل هذه الإمكانيات الكامنة ليسهم الاقتصاد البرتقالي في تحقيق التنمية المستدامة، وخلق فرص عمل جديدة، وإضافة قوة جديدة للاقتصاد الوطني، والاستفادة من المنتجات الثقافية والإبداعية باعتبارها ميزة تنافسية أساسية نمتلكها ولا نستخدمها بالقدر المناسب، وفي سبيل تحقيق ذلك نحتاج إلى حزمة من الحوافز ومجموعة من الإصلاحات التشريعية، وقاعدة من البيانات الدقيقة، حتى نحقق أقصى استفادة من إمكانياتنا في مجال الاقتصاد البرتقالي.

"لا يوجد شيء أقوى من فكرة حان أوانها"

 بلزاك

مقالي في عدد نوفمبر من آفاق اقتصادية

الأربعاء، 5 يناير 2022

جابر عصفور الذي عرفته

 

جابر عصفور الذي عرفته


عماد أبو غازي

مقالي في العدد الخاص من منارات الذي صدر تحية لجابر عصفور



 عرفت الدكتور جابر عصفور لأول مرة في العام الدراسي 1972/1973 عندما التحقت طالًبًا بكلية الآداب جامعة القاهرة، كان وقتها شابًا قارب عامه الثلاثين، كان ضمن مجموعة من الشباب الواعد في كلية الآداب، عرفته عن بعد فلم أكن طالبًا في المجموعات التي كان يدرس لها؛ التقيته بعدها في منزل الدكتور عبد المحسن طه بدر بعد أن تخرجت من الكلية وكان ذلك إبان أزمة سبتمبر 1981، والتي أطاح فيها الرئيس السادات ضمن إجراءاته الاستثنائية بعدد من أساتذة الجامعات المصرية، كان نصيب كلية الآداب بجامعة القاهرة النصيب الأكبر، وكان أغلب المبعدين من الكلية من أساتذة قسم اللغة العربية، وكان هو وعبد المحسن طه بدر من بينهم، كانت المرة الأولى التي أجلس معه عن قرب، وأظنه لم يلحظ وجودي يومها.



  اللقاء الأول الحقيقي الذي تعارفنا فيه كان في عام 1988 بعد عودته من الكويت، عندما قررت كلية الآداب، وكنت وقتها قد أصبحت مدرسًا مساعدًا بها أن تحتفل بمناسبتين كبيرتين؛ الأولى مئوية طه حسين، والثانية حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الأدب، وتقرر أن يأخذ الاحتفال شكل مؤتمرين علميين كبيرين، وكنت مع مجموعة من زملائي وزميلاتي من شباب وشابات الكلية وقتها ضمن فريق العمل الذي يعد للمؤتمرين؛ وكان جابر عصفور مسئولًا عن المؤتمر الأول، وانتقلت إليه مسئولية المؤتمر الثاني بعد مرض الدكتور عبد المحسن طه بدر ورحيله،  كانت هذه هي المرة الأولى التي نتعارف فيها عن قرب، عملت في الفريق الذي يقوده على مدى عامين تقريبًا، اكتسبت خلالهما خبرات جديدة في الإدارة وفي تنظيم العمل، وكانت بداية لعلاقة وطيدة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود.





 المرة الثانية التي عملت معه فيها عن قرب كانت خلال الشهور الثمانية التي تولى فيها رئاسة دار الكتب والوثائق القومية، لكن العمل الحقيقي المتواصل والممتد كان خلال عملي معه في المجلس الأعلى للثقافة منذ أبريل 1999 حتى تركه منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في 25 مارس 2007؛ كانت فترة مليئة بالعمل والإنجاز.













وقصة جابر عصفور مع المجلس قصة تستحق التسجيل؛ خمسة عشر سنة قضاها في منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، منذ اختاره الفنان فاروق حسني لهذا المنصب، قدم خلالها الكثير، أشاع الحياة في كيان كان يبدو للجميع ميتًا، نقل نشاط المجلس من النطاق المحلي إلى الساحة العربية منطلقًا من قناعته الفكرية العروبية، حتى أصبح كثيرون من المثقفين العرب يطلقون على المجلس بيت الثقافة العربية، بل يمكن أن يرصد المتابعين مكانًا للمجلس الأعلى للثقافة على ساحة الثقافة العالمية، من خلال مشاركات لمثقفين بارزين من مشارق الأرض ومغاربها في أنشطته، ومن خلال التعاون مع عدد من المؤسسات الثقافية العالمية، كما عادت مصر من خلال المجلس تحت قيادة جابر عصفور تفتح أبوابها لاستضافة أبرز مفكري العالم ومثقفيه من أمثال مارتن برنال وجاك دريدا وروبرت يانج.

 ونجحت سياسة الدكتور جابر عصفور في المجلس الأعلى للثقافة في جعله جسرًا بين الثقافة العربية والثقافة العالمية من ناحية، ومكانا لالتقاء المثقفين والباحثين والمبدعين من مختلف الأقطار العربية ببعضهم البعض، وساحة مفتوحة لحوارهم، ومجالًا لتواصلهم مع مثقفي العالم وفنّانيه من ناحية أخرى.








 وتنطلق رؤية جابر عصفور للثقافة العربية من وعيه الحادّ والعميق بكون العالم المعاصر قد أصبح بفعل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية الهائلة "قرية كونية صغيرة" تتفاعل فيها الثقافات واللغات والأديان، بما لا ينفي خصوصية كل ثقافة على حدتها، وبما يؤسّس في الوقت نفسه لحوار ثقافات العالم وليس صراع الحضارات.

على مستوى أخر أصبح المجلس لأول مرة برلمانًا للمثقفين كما كان الغرض منه عند إنشائه، فقد بات يضم بين أعضاء لجانه أكثر من خمسمائة من المبدعين والباحثين والمثقفين من كل الاتجاهات الفكرية والثقافية والبحثية والسياسية أيضًا.

 لكل هذا فعندما دعت لجنة الكتاب والنشر بالمجلس الأعلى للثقافة إلى إصدار كتاب تذكاري تكريما للدكتور جابر عصفور بمناسبة تركه منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في مارس سنة 2007، وعندما حمل مقرر اللجنة الدكتور شعبان خليفة الفكرة إلى الأمين آنذاك الناقد السينمائي علي أبو شادي تبنى المشروع وتحمس له على الفور، وتم توجيه الدعوة لعدد محدود من أصدقاء جابر عصفور وزملائه وتلامذته للمشاركة في هذا الكتاب التذكاري، إما بأبحاث ومقالات تتناول جوانب من تجربة جابر عصفور، أو بتقديم أبحاث مهداه لجابر عصفور في مجالات تخصصهم التي تتقاطع مع اهتمامات الرجل.

 لكن لأن محبي جابر عصفور كُثر، طال الأمر واتسع، وطلب كثيرون المشاركة، وتعدى المشاركون من وجهت لهم الدعوة للكتابة، وتجاوزوا العمل حدود لجنة الكتاب والنشر وأمانة المجلس الأعلى للثقافة، لنصبح في النهاية أمام عمل علمي كبير يليق بجابر عصفور وبإسهامه في الثقافة المصرية والثقافة العربية، عمل يتكون من مجلدين كبيرين أسهم فيهما محبو جابر عصفور وزملاؤه وأصدقاؤه وتلاميذه، ليس من مصر فقط، بل من بلدان عدة من عالمنا العربي، ومن العالم.

 رغم أهمية كل ما قام به جابر عصفور في المجلس الأعلى للثقافة إلا أن إنجازه الأهم سيبقى "المشروع القومي للترجمة"، ذلك المشروع الذي بدأه بداية صغيرة لكنها بداية لحلم كبير، كانت البداية في عام 1995 بآحاد قليلة من الكتب تصدر في كل عام، لكن بعد عشر سنوات أصبح الحلم واقعًا وبلغ ما صدر عن المشروع أكثر من ألف عنوان، محطمًا الرقم القياسي لأي مشروع آخر للترجمة في تاريخ الثقافة العربية منذ عصر المأمون إلى يومنا هذا، والحلم الذي تحقق لم يكن مجرد رقم جديد يضاف إلى ما ترجم إلى العربية، بل كان إنجازًا في المحتوى أيضًا، لقد ترجم المشروع القومي للترجمة عن أكثر من ثلاثين لغة مختلفة من اللغات الحية وتلك التي بطل استخدامها، ومن بين تلك اللغات لغات يترجم عنها مباشرة إلى العربية للمرة الأولى، كما كسر المشروع المركزية الثقافية الأوربية في الترجمة، فنقل عن لغات آسيوية وأفريقية إلى جانب اللغات الأوروبية التقليدية.

 ثم كان اكتمال الحلم بإنشاء المركز القومي للترجمة الذي تولى جابر عصفور إدارته بعد أن ترك أمانة المجلس الأعلى للثقافة، واستمر فيه حتى عام 2011، مضيفًا بؤرة جديدة تشع ثقافة وتنير ضوءً صغيرًا في ظلام واقعنا العربي، وتنتقل بالثقافة العربية من خصوصيتها الجغرافية الضيّقة إلى فضاء العالمية الرحب. فـالمشروع القومي للترجمة كان منذ بدايته مشروعًا عربيّ التوجّه من حيث مشاركة أو استقطاب مترجمين من عدد من الدول العربية في ترجمة أعماله، ومن حيث نشر أعماله على النطاق العربي، ثم جاء "المركز القومي للترجمة" ليضيف في ظل إدارة جابر عصفور له إلى المشروع أبعادًا عالمية ملموسة، من خلال التعاون مع مؤسسات دولية متعددة.




  وبعد أن ترك جابر عصفور أمانة المجلس العامة لم تنقطع صلته بالمجلس فقد أصبح عضوًا من أعضائه المختارين من بين كبار المبدعين والباحثين والمفكرين في مصر، ليواصل العطاء في المجلس الأعلى للثقافة من موقع آخر، فمنذ انضمامه إلى عضوية المجلس، ومشاركته في عضوية لجانه المختلفة، برزت مساهمات جابر عصفور المثقف والناقد والمفكر واضحة ضمن زملائه وأقرانه من مثقفي مصر ومفكريها حتى أيامه الأخيرة.

  ولا يكتمل الحديث عن دور جابر عصفور في العمل الثقافي المؤسسي دون التوقف عند جابر عصفور وزير الثقافة؛ لقد تولى جابر عصفور المنصب مرتين، المرة الأولى في أثناء ثورة 25 يناير 2011، في حكومة الدكتور أحمد شفيق الأولى، وكان يتصور يومها أن النظام استوعب الدرس، وإنه يسعى لتحقيق تآلف وطني، ولكنه لم يستمر في منصبه إلا تسعة أيام عندما أدرك أنه لا توجد نية حقيقية للتغيير، ومع ذلك كان حريصًا في هذه الأيام التسعة على أن يناقش مع زملائه في وزارة الثقافة خططًا طموحة للعمل تنطلق مما هو قائم وتبني عليه.

 وفي المرة الثانية عندما تولى وزارة الثقافة في عام 2014 واستمر في منصبه قرابة ثمانية أشهر، قدم خلالها استراتيجية لمنظومة الثقافة في مصر، نتجت عن جلسات حوار عدة، وقراءة في رؤى متنوعة، وحرص فيها على تأكيد أهمية التعاون بين وزارة الثقافة وغيرها من الوزارات والهيئات من خلال برتوكولات للتعاون، كما تبنى مشروعات مماثلة مع المجتمع المدني، فقد كانت قناعته دائمًا أن الثقافة ليست مسئولية وزارة الثقافة وحدها، كان حريصًا خلال تلك الأشهر القليلة أن يضع تصورًا متكاملًا لبناء جديد لمؤسسات العمل الثقافي في مصر.






  واذا كانت بصمات جابر عصفور في العمل الثقافي المؤسسي واضحة جلية لكل عين، فإن إسهاماته الأكاديمية هي الأخرى تقف شامخة، فمنذ تخرج جابر عصفور في ستينيات القرن الماضي من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وتتلمذ على الدكتورة سهير القلماوي، وهو يشق لنفسه طريقًا في وسط الأسماء البارزة في الدراسات الأكاديمية في مجال النقد الأدبي، حتى أصبح واحدًا من أبرز الأكاديميين العرب في هذا المجال، تشهد له بذلك مؤلفاته المتعددة، التي يعد كل منها علامة في هذا المجال، والتي تناولت موضوعات متنوعة ما بين قضايا الأدب العربي القديم والحديث والمعاصر، والتعريف بالاتجاهات النقدية العالمية، ويشهد له بذلك تلامذته في الجامعات المصرية والعربية وفي بعض الجامعات الأوروبية والأمريكية التي درّس الأدب العربي فيها، ويشهد له بذلك إسهامه في مجلة فصول التي شارك في تأسيسها ثم تولى رئاسة تحريرها لسنوات وضع فيها أسس مجلة نقدية أكاديمية رصينة.

 هذا ولم يقتصر دور جابر عصفور في مجال الأدب والنقد على الدور الأكاديمي رغم أهميته، فهناك الدور الذي لعبه جابر عصفور عبر أكثر من أربعين عامًا من خلال كتاباته في المجلات الثقافية والصحف السيَّارة، والذي جعله يقف في مصاف نقادنا الكبار الذين مزجوا دورهم الأكاديمي بدورهم في الحياة الثقافية العامة، فمنذ نشر وهو بعد شاب صغير أولى مقالاته في مجلة "المجلة" القاهرية التي كان يرأس تحريرها الأديب الكبير يحيي حقي، تواصلت مشاركاته في الكتابة لجمهور القراء العام في عديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية ربما من أهمها الأهرام والحياة والعربي؛ ومن خلال كتاباته تصدى لمناقشة القضايا الثقافية العامة والاشتباك معها، فضلًا عن تعريفه القارئ المصري والعربي بالاتجاهات النقدية والأدبية وتقديمه لعشرات من الأعمال الإبداعية للجمهور العام.

 وفي السنوات الأخيرة شغلته قضايا الاستنارة ومعوقات النهضة في مجتمعاتنا العربية، وتصدى في كتاباته المتعددة للدفاع عن حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، وتناول القضايا التي من شأنها النهوض بالمرأة المصرية والعربية، وأخيرًا حماية مقومات الدولة المدنية.

 وفي النهاية، لا يستطيع أحد أن ينكر دور جابر عصفور في إعلاء قيم الاستنارة والتقدم التي آن لها أن تتضافر لمواجهة قيم الجمود والتخلف؛ لقد كان الشغل الشاغل والحلم الأكبر للكاتب والناقد والمفكِّر المصري جابر عصفور تقديم الوجه الإيجابي لثقافة عربية معاصرة تنتقل بأبنائها، من المحيط إلى الخليج، "من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية"، كما كان يردد دائما.

 واليوم أودع الدكتور جابر عصفور الأستاذ والمعلم والناقد والمفكر ومشيد الصروح الثقافية، لكن قبل ذلك وبعده أودع جابر عصفور الصديق والإنسان... فتحية لجابر عصفور ولمشروعه الثقافي، لقد رحل الجسد لكن الميراث الكبير الذي تركه سيحفظ ذكراه حية دوما...

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...