الخميس، 24 يناير 2019

محمود بقشيش والبحث عن ملامح قومية للفن التشكيلي المصري


مقالي في العدد الأخير من عالم الكتاب

محمود بقشيش والبحث عن ملامح قومية للفن التشكيلي المصري
عماد أبو غازي
 ينتمي محمود بقشيش إلى ذلك الجيل الذي يوصف بأنه جيل الستينيات؛ الجيل الذي بدأ مسيرته الإبداعية والفكرية والسياسية حول منتصف عقد الستينات، وقدم أبناء ذلك الجيل إسهامًا جديدًا ومختلفًا في الحياة الثقافية المصرية متأثرًا بالتحولات التي كانت تعيشها مصر في تلك الفترة؛ وقد ارتبط كثير من هؤلاء بأفكار اليسار بمعناه الواسع، وانشغلوا بقضايا العدالة الاجتماعية وبالهم الوطني العام.

 ولد بقشيش في عام 1938؛ أي أنه عاش طفولته وصباه وسنوات تكوينه الأولى في المرحلة الأخيرة من الحقبة شبه الليبرالية في تاريخنا، وتخرج في قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة عام 1963، ومن وقتها حتى رحيله عنا في عام 2001، كان مشاركًا بغزارة في الحركة الفنية التشكيلية المصرية، سواء من خلال معارضه الخاصة التي تصل إلى عشر معارض، أو مشاركته بأعماله في عشرات المعارض الجماعية المحلية والدولية، ومع استمرار العطاء الفني على مدى أربعة عقود يظل انتماؤه إلى جيل الستينيات؛ فقد كان واحدًا من المبدعين الذين انطلقت مسيرتهم في ذلك العقد، وكانت همومه وانشغالاته هي هموم وانشغالات أقرانه من مثقفي جيله؛ الهم الوطني والاجتماعي والاهتمام بالشأن الثقافي العام.
 لا تكمن أهمية محمود بقشيش في إبداعه كفنان تشكيلي؛ رغم القيمة الفنية العالية لإبداعه، والعلامة التي تركها في الحركة التشكيلية المصرية بشهادة أبرز نقاد العصر من مجايليه ومن الأجيال السابقة عليه والتالية له، من أمثال حسين بيكار ونعيم عطية وكمال جويلي وعز الدين نجيب وصبحي الشاروني ومختار العطار ومجدي يوسف وفاروق وهبة وسيد خميس ورضا عبد السلام وشاكر عبد الحميد ومحمد كشيك وغيرهم كثيرين ممن شهدوا بقامته وقيمته؛ أقول لا تكمن أهميته في إبداعه التشكيلي فقط، فلم يكن محمود بقشيش فنانًا تشكيليًا فحسب؛ بل كان أيضًا كاتبًا وناقدًا، وقبل ذلك وبعده مثقفًا فاعلًا ومتفاعلًا مع قضايا الثقافة وهمومها، مع مشكلات الوطن ومشاغل الناس؛ شارك في العمل النقابي والعمل الأهلي، وأسهم في اثنتين من أهم الإصدارات الثقافية التي كانت تعبر عن رؤى مغايرة لما كان سائدًا، فقد كان عضوًا في هيئة تحرير مجلة سنابل، كما أصدر  بجهده الفردي كراسة إبداعية حملت عنوان آفاق 1979، في سياق موجة الكتب والنشرات غير الدورية التي تصاعدت في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، وشكلت تجربة مهمة في بناء منابر ثقافية مستقلة، لقد كان بقشيش مثقفًا منحازًا لقيم التقدم والعدل والحرية، مهموما بالإسهام في تكوين الوعي الجمعي؛ وبالنسبة للكثيرين من أبناء جيلي، جيل السبعينيات فقد كان محمود بقشيش واحدًا من النماذج الملهمة في الحركة الثقافية التي تعلمنا منها، من إبداعه وكتاباته ومواقفه وتجربته الثقافية، أما أنا فقد كان لي فرصة التعرف عليه عن قرب منذ مطلع الثمانينيات، والاستماع إليه والتعلم من تجربته والحوار مع أفكاره.
***
 وسوف يكون مدخلي للحديث عن بقشيش من خلال إسهامه النقدي؛ الذي تمثل في عشرات المقالات النقدية في مجلات الهلال وإبداع وأدب ونقد والثقافة الجديدة والموقف العربي والقاهرة؛ هذا غير خمسة كتب صدرت في حياته، وأخرى صدرت بعد غيابه قامت على جمع مادتها ومتابعة إصدارها رفيقة دربه الكاتبة هدى يونس.
  وقد اخترت الاشتباك مع كتابه "البحث عن ملامح قومية"، الذي صدر في سلسلة كتاب الهلال في فبراير 1989؛ فالكتاب من أكثر أعماله قربًا إلى نفسي، كما أن القضية التي يطرحها فيه؛ قضية الملامح القومية للفن من القضايا الشاغلة للحياة الثقافية المصرية مما يقارب قرن من الزمان، وما زالت قضية حاضرة مفتوحة؛ وزاوية تناول بقشيش لها في هذا الكتاب وأسلوب تناوله مثير للتفكير والتأمل.

 لقد شهد القرن التاسع عشر احتكاك مصر بالفنون الغربية الحديثة من خلال الفنانين الأوروبيين الذين استقدمهم حكام مصر من أسرة محمد علي لعمل التماثيل الشخصية واللوحات  لأفراد الأسرة الحاكمة؛ ثم لعمل تماثيل الميادين والحدائق العامة في عصر الخديوي إسماعيل، وشكل هذا الاحتكاك قطيعة مع الأشكال الفنية التقليدية التي كان أغلبها قد انحسر في الفنون الشعبية والفن الديني؛ وعندما نشأت مدرسة الفنون الجميلة عام 1908 قامت على غرار المدارس المماثلة في أوروبا، وعرّفت طلابها على الفن الغربي وأساليبه ومدارسه الكلاسيكية والحديثة؛ ثم ظهرت إشكالية الملامح القومية للفن التشكيلي في مصر، أو الطابع القومي للفنون بعد سنوات قليلة من افتتاح المدرسة؛ وبالتحديد في أعقاب ثورة 1919 التي رسخت فكرة الهوية القومية المصرية بشكل واضح، ومن هنا بدء النقاش حول الفن القومي؛ وربما كان تمثال نهضة مصر؛ منحوتة مختار التي عبر بها عن الثورة فاتحة لهذا النقاش، والذي انعكس في تطور تفاصيل التمثال، والفارق الواضح بينه في صورته الأولى كما عرض في صالون باريس وشكله النهائي في ميدان باب الحديد.
وكان النقاش يتجدد بين حين وآخر في مراحل مختلفة من مسيرة الحركة التشكيلية في مصر؛ وإذا كانت جماعة الخيال التي تأسست في عشرينيات القرن العشرين تعبر عن اتجاهات جيل الرواد الفنية خاصة الاتجاه القومي في الفن، بما حمله من محاولة للتجديد في المجتمع المصري بإعادة بعث الفنون الجميلة كمكون أساسي في ثقافة النخبة، ومحاولة تقديم الفن الحديث للمجتمع كله، وتحقيق التفاعل بين الفنون والآداب، وفي هذا الإطار غلبت النزعة القومية على الفنون الجميلة في مصر، وكان مختار أبرز تجلياتها، في المقابل نجد أن الجماعات الفنية والأدبية التي ظهرت في الثلاثينات ومطلع الأربعينيات كانت تعبيرًا عن تمرد جيل جديد من المبدعين على الجيل السابق عليهم ويظهر مع الحركة السوريالية المصرية منذ الثلاثينيات جدلًا فنيًا وفكريًا مع هذه النزعة القومية ونقدًا ونقضًا للاتجاه القومي في الفن؛ لكن بعد وصول الضباط الأحرار إلى السلطة في عام 1952، تصعد مرة أخرى النزعة القومية في الفنون وتأخذ أبعادًا جديدة مع التوجه القومي العربي للنظام.
 والمتابع للكتابات النقدية منذ عشرينيات القرن الماضي يستطيع أن يرصد بوضوح هذا النقاش المتجدد بين حين وآخر حول النزعة القومية في الفن التشكيلي، والتي ارتبط تطورها بالحوار حول الهوية والانتماء في المجتمع المصري؛ ولم يقتصر الحوار حول الفن القومي على كتابات النقاد، بل خصصت له لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية مؤتمرًا كبيرًا تحت عنوان "الطابع القومي للفنون التشكيلية" في نهاية عقد السبعينيات، لمناقشة القضية بأبعادها المختلفة.
***
 بعد هذا الاستطراد أعود إلى محمود بقشيش وكتابه المهم "البحث عن ملامح قومية رحلة في أعمال 14 فنانًا مصريًا"؛ لقد حاول بقشيش أن يناقش إشكالية الملامح القومية في الإبداع التشكيلي من خلال الاشتباك مع أعمال مجموعة من الفنانين التشكيلين المصريين بأسلوب الناقد التشكيلي الفنان والأديب في آن واحد، وقد رأى أنهم جميعًا "يشغلهم، بدرجات متفاوتة، أن يكون للفن التشكيلي ملامحه الخاصة".
 وقد حرص في اختيار الفنانين "أن يكونوا مختلفين في أساليبهم الفنية متباينين في المستوى ودرجة الانتماء إلى وعي الستينيات"؛ ذلك الوعي الذي أظن أن بقشيش كان ينتمي إليه أيضًا بطريقته الخاصة وأسلوبه في التشكيل والنقد، ويشير في مقدمته إلى أنه أراد بهذا الاختيار التأكيد على "وجود مدرسة مصرية مقاومة في الفن التشكيلي تتنفس داخلها عديد من التيارات والأساليب الفنية المتباينة والمتناقضة أيضًا"؛ ويستطرد قائلًا: "كما أردت أن أثبت بهذه النماذج من النقد التطبيقي بطلان ادعاء البعض اختفاء أو تراجع النقد التشكيلي في مصر"؛ وقد نجح بالفعل في تحقيق الهدفين.
 ويضع بقشيش النموذج القومي في مواجهة النموذج الغربي، ويؤكد على أن السعي لابتكار ملامح متفردة بعيدة عن استنساخ النموذج الغربي قد شغل العديد من الفنانين المصريين منذ بداية الحركة التشكيلية الحديثة؛ مؤكدًا أن كل جيل من أجيال الحركة الفنية التشكيلية أسهم بدرجة أو بأخرى في ابتكار ابداعات تجسد موقفه من النموذج القومي والنموذج الغربي.
  ويناقش في لمحة ذكية الاختلافات في ابتكار النموذج القومي بين محاولات ثلاثة من جيل الرواد؛ فيقول: "فإذا تأملنا إبداعات محمود مختار وراغب عياد ويوسف كامل فإننا نجد اختلافًا أسلوبيًا واضحًا؛ ورغم ذلك فكل منهم يسعى بطريقته إلى تمصير النموذج الغربي؛ فلجأ مختار إلى استعارة القناع الفرعوني، وأضاف عياد إلى القناع الفرعوني قناع الأيقونة القبطية، وانغمس كامل في مصرية التعبير عبر الأسلوب التأثيري الذي اعتنقه حتى النهاية."
 لقد وضع بقشيش كتابه في أربعة عشر فصلًا بعد المقدمة وأنهاه بخلاصة قصيرة موجزة؛ تناول في كل فصل فنانًا واحدًا، ووضع لكل فصل عنوانًا يلخص رؤيته لإبداع هذا الفنان؛ تتوالى عناوين الفصول بدأ بالفصل الأول، الفنان: صبري منصور... وذكريات القرية؛ إنجي أفلاطون... والبحث عن الجذور؛ البهجوري... ووجوه الفيوم؛ عز الدين نجيب... بين الفن المستوي وفن التأثير؛ محمد حجي... والخيارات الثلاث؛ عالم الفنان ممدوح عمار؛ سيد سعد الدين والتصوير النحتي؛ علي دسوقي والفن البريء؛ محسن شرارة والتجريب في الفن؛ محمد رزق عاشق المطروقات النحاسية؛ صبري ناشد راهب النحت الخشبي؛ غالب خاطر وفن الاحتجاج؛ مفردات عالم نوار الرمزي؛ وفي كل فصل يقدم سيرة للفنان يحاول أن يرصد فيها تأثيرات النشأة والتكوين على أعماله، ويتتبع مسيرته الإبداعية، وقد يتفاعل مع الفنان مباشرة مثلما فعل عند الكتابة عن صبري منصور، ثم يتجه لتحليل الأعمال والبحث عن ملامح النموذج القومي فيها، ويجد لدى كل واحد منهم محاولة جادة للبحث عن طريق لتقديم فن له ملامح قومية، سواء أكانت تلك الملامح ملامح في الشكل أو ملامح في المحتوى؛ فقد يسعى فنان إلى استلهام أشكال وأساليب فنية أو "تيمات" تعكس ملمحًا قوميًا؛ بينما يذهب آخرون إلى استلهام الموضوع أو المحتوى؛ ونجح في أن يقدم بسلاسة ثلاث عشرة تجربة مختلفة في منابعها ومتنوعة في مساراتها والمئال الذي انتهت إليه؛ ويكشف الرابط الذي يجمع بينها؛ البحث عن ملامح قومية.
 ثم يأتي الفصل الأخير يحمل عنوان الكتاب: البحث عن ملامح قومية؛ وقد يتصور القارئ للوهلة الأولى أن الفصل الأخير استخلاص لرؤية الناقد الفنان لتجارب مجايليه ومعاصريه من التشكيليين في بحثهم عن ملامح قومية للفن التشكيلي المصري؛ لكن حقيقة الأمر أن الفصل الأخير مخصص للفنان الرابع عشر، أو بمعنى أدق لعمل واحد من أعماله؛ الفصل الأخير يدور حول عبد الهادي الوشاحي وتمثاله البديع استشراف؛ لقد اختلف منهج بقشيش في هذا الفصل عن منهجه في باقي فصول كتابه؛ وقدم فيه تحليلًا عبقريًا لتمثال الوشاحي استشراف ؛ تلك القطعة النحتية التي سيطرت على الفراغ في قاعة العرض في بينالي القاهرة الثاني عام 1986؛ أي قبل صدور الكتاب بثلاثة أعوام، ويحتل أيضًا فراغ غلاف هذا الكتاب الذي صممه الفنان محمد أبو طالب؛ وكانت قوة عمل الوشاحي وروعته حاضرة في الساحة الفنية عندما ألف بقشيش كتابه؛ لقد قدم في هذا الفصل دراسة مقارنة بين استشراف الوشاحي وثلاثة أعمال فنية أخرى: تمثال نصر ساموتراس الإغريقي، وتمثال مدينة بلا قلب للنحات الروسي الأصل أوسيب زادركن، وتمثال الخماسين لمختار؛ وفي مناقشة عميقة لأبعاد الأعمال الأربعة تستغرق عشر من صفحات الكتاب يبحث بقشيش عن الملامح القومية في تجربة الوشاحي مقارنة بتجربة مختار ومتجاوزة لها.
 وينتهي محمود بقشيش في خلاصة بحثه المركزة عن الملامح القومية في الفن التشكيلي المصري إلى ثلاث نتائج:
 الأولى؛ الموقف الحرج الذي وجد الفنان المصري المعاصر نفسه فيه بسبب انقطاع السياق الثقافي مع الكلاسيكية المصرية الفنية للظروف التاريخية التي مرت بها مصر ومحيطها الإقليمي والتي شهدت سلسلة طويلة من الانقطاعات.
 الثانية؛ تنوع المدارس الفنية المصرية الكلاسيكية، أو الوجوه الفنية ما بين فرعونية وقبطية وإسلامية، وما بينها من تفاوت أسلوبي ومنهجي؛ وصعوبة الاستعارة منها جميعًا أو من أحدها استعارة كاملة، واتجاه البعض نحو الاستعارات المجتزئة لأسباب نفعية في عصر ثقافة البترودولار، مثل استعارة الزخارف الإسلامية والحرف العربي.
 والثالثة؛ إن الحل أمام الفنان المعاصر، من وجهة نظر بقشيش، "استلهام جوهر الكلاسيكية المصرية، باعتبارها النبع الأم الذي أضفى على المدرسة القبطية والإسلامية بعضًا من ملامحه، وهذا المشترك هو الميل إلى البناء والاحتفال بالنقاء الخطي واختزال الزخرفة والتمسك ب "التابو" الذي يحول دون حوشية التعبير الأخلاقي".
 ويختم كتابه بعبارة تلخص منهجه الذي رأى في العمل النحتي لعبد الهادي الوشاحي تحقيقًا له في الواقع، تحقيقًا للمعادلة الصعبة: "كيف يلتقط الفنان هذا المشترك الدائم المتصل وأن يستنطقه لغة معاصرة".
 إن هذا الكتاب الصغير في حجمه الكبير في قيمته يستحق أن يعاد نشره والنقاش حوله؛ فالقضية لم تغلق بعد.

الأحد، 13 يناير 2019

13 يناير 1919 خطاب سعد الأول في الثورة


13 يناير 1919
خطاب سعد الأول في الثورة
عماد أبو غازي

 أثناء عملي في تحقيق مذكرات النفي التي كتبها مصطفى النحاس في سنوات النفي إلى سيشيل؛ بين عامي 1921 و1923؛ صادفت في حوادث يوم 11 يناير سنة 1923 النص التالي:
 "وأرسلنا تلغرافًا بتاريخ الغد إلى زغلول باشا بإمضاءاتنا جميعًا؛ هذا بمناسبة تصريحكم التاريخي في 13 يناير؛ نرسل لرئيسنا العظيم تمنياتنا القلبية بمستقبل سعيد، إجلال للحرم.
أرسلنا هذا التلغراف بمناسبة الاجتماع العظيم الذي حصل بدار حمد باشا الباسل في 13 يناير سنة 1919، وفيه أعلن سعد أن مصر مستقلة قانونًا، ولم يبق إلا السعي لدى الدول للاعتراف بهذا الاستقلال، وإن السودان جزء لا يتجزأ من مصر، كأنه إقليم من أقاليمها، وإن حقوق الأجانب مرعية محتفظ بها، وإننا بعيدون عن مناوأة عائلة محمد علي كما أشاعه المرجفون، متمسكون بأن تكون مصر دولة مستقلة على رأسها عائلة محمد علي مصلح مصر العظيم."


 وفي حوادث يوم 15 يناير يقول النحاس:
 "ورد من سعد باشا الرد الآتي من جبل طارق بتاريخ 13 يناير الساعة 9:30 صباحًا، وصل في تاريخه مساءً:
 "مكرم – مصطفى – عاطف – سينوت – فتح الله – ماهي – سيشيل
 كان تلغرافكم مفاجأة لطيفة لي ولحرمي، وأثر فينا تأثيرًا أسال عبراتنا، إذ ذاكرتكم أحسن فنهنئكم بها، ونشكركم بقلوبنا على التفاتكم الرقيق.
زغلول."


 ويوم 13 يناير سنة 1919 أحد الأيام المهمة والفاصلة في تاريخ الثورة المصرية، فقد تطورت الأمور بسرعة خلال شهر يناير 1919 لتشق طريق الثورة، كان يوم 18 يناير الموعد المحدد لافتتاح مؤتمر الصلح في باريس يقترب، ولا توجد بشائر لحل أزمة سفر الوفد المصري إلى الخارج، سواء إلى لندن للتفاوض مع الحكومة البريطانية، أو إلى باريس لعرض القضية المصرية أمام المؤتمر الذي كان يفترض أن يرسم خريطة العالم ما بعد الحرب، بات واضحًا أن رسائل الوفد لم تجد نفعًا، لا رسائله إلى المعتمد البريطاني في القاهرة، ولا تلك التي أرسلها سعد إلى لويد ﭼورﭺ رئيس الوزراء البريطاني، كذلك لم يحرك سفراء الدول الأجنبية في القاهرة الذين خاطبهم الوفد ساكنًا، إذاً لا أمل في مساندة خارجية للقضية المصرية دون حركة الشعب، هذا ما أدركه سعد ورجال الوفد.
 بدأ الوفد المصري أسلوبًا جديدًا في التحرك، الاتجاه إلى الداخل من أجل الضغط على الخارج، كان حشد الجماهير قد بدأ بالفعل منذ اليوم الأول لتشكيل الوفد من خلال حركة جمع التوكيلات التي قدمت نموذجًا في النضال الوطني السلمي القانوني والسياسي، فعلى الصعيد القانوني أعطى التوكيل مشروعية للوفد في تمثيل الأمة، وعلى الصعيد السياسي وفرت حركة جامعي التوقيعات فرصة أمام أنصار الوفد للاتصال بالجماهير وشرح القضية، ومن ناحية أخرى كان التوكيل بمثابة عقد التزام بين الوفد وجماهير الشعب ظل يشكل قيدًا على كل محاولة للتفريط في حقوق الأمة في المفاوضات السياسية مع بريطانيا، كانت حركة جمع التوكيلات قد مهدت الأرض أمام دعوة الوفد، لكن عدم الترخيص للوفد بالسفر كان يحتم على قادته التحرك بشكل أوسع بين الشعب.
 ولما كانت الأحكام العرفية مطبقة، ويحول تطبيقها بين الوفد وتنظيم اجتماعات جماهيرية، فقد اتبع قادة الوفد خطة بديلة تقوم على تنظيم لقاءات واسعة في منازلهم، وكانت البداية بدعوة من حمد باشا الباسل لاجتماع في منزله القريب من بيت الأمة يوم 13 يناير 1919، وحضر الاجتماع عدد كبير من الساسة والكتاب وأعضاء الهيئات النيابية والأعيان، وألقى سعد زغلول أول خطاب "جماهيري" له بعد تشكيل الوفد المصري، وقد صادف الاجتماع مرور شهرين على الزيارة التاريخية التي قام به سعد ورفيقيه لدار المعتمد البريطاني يوم 13 نوفمبر 1918، والتي كانت نقطة البداية لأكبر ثورة شعبية في تاريخ مصر الحديث.


 وفي خطابه أكد سعد على أن المطالبة بالاستقلال ليست جديدة على المصريين، فقد بدأت عقب الاحتلال مباشرة، وروى قصة تشكيل الوفد ومنعه من السفر، وتحدث عن مؤتمر الصلح ومبادئ الرئيس الأمريكي ولسن، ثم شرح مطالب الوفد في الاستقلال التام، وأكد أن هذا الاستقلال يشمل السودان كما يشمل مصر باعتبارهما من وجهة نظر الوفد كيان واحد، وتحدث بإسهاب عن الأجانب في مصر في محاولة جديدة لطمأنتهم، وأشار إلى حاجة مصر لوجود الأجانب وإلى أهمية استمرار الامتيازات كمرحلة انتقالية، وأكد أن الامتيازات لا تتنافى مع الاستقلال، وختم خطابه باقتراح إرسال برقية إلى الرئيس الأمريكي باسم المجتمعين يحيونه فيها ويعلنون تأييدهم لمبادئه، ولم يكتف سعد بإلقاء خطابه في حشد واسع، بل قام الوفد بطبع الخطاب وتوزيعه على أوسع نطاق في القاهرة والأقاليم.
 الطريف في الأمر أن الصحف الخاضعة للرقابة لم تشر إلى خطاب سعد، ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919 أن ما أوردته صحيفة الأهرام في عدد 14 يناير كان "نبذة عابرة لا يفهم منها شيء"، قالت الأهرام في خبرها الذي أنقله بنصه من كتاب الرافعي: "دعا أمس حمد الباسل باشا العضو في الجمعية التشريعية جماعة كبيرة من أعيان العاصمة والأقاليم إلى تناول الشاي في منزله بشارع الداخلية، فلبى دعوته نحو 159 ذاتا ووجيها وأديبا، وضرب في حديقة داره الواسعة سرادقا جميلا نسقت فيه الكراسي والمقاعد والأخونة على أجمل طراز، ثم قدمت الحلوى وأطايب المآكل للحاضرين مع الشاي والقهوة، فقضوا جميعا من الساعة الرابعة إلى الساعة السادسة بأطيب الأحاديث، ثم انصرفوا رويدا رويدا وجماعات جماعات، وهم يتحدثون بفخامة هذا الاجتماع وبفضل الداعي وكرمه، وكان سعادته وشقيقه وأله يقابلون المدعوين بما فطروا عليه من اللطف والكرم العربي، ويمتعون أسماعهم مع أصدقائهم وصحبهم بما يشنفها، وتمنى الكل لو كثر مثل هذا الاجتماع الكبير". هذا بعض ما تفعله الرقابة بالصحف!
 كان هذا الخطاب أول خطاب سياسي يلقيه سعد زغلول في أثناء الثورة المصرية التي بدأت أحداثها الفعلية يوم 13 نوفمبر 1918 وانتهت بتولي حكومة الوفد في يناير 1924.
 استمرت الأمور في تصاعدها وقدم رشدي باشا رئيس الوزراء استقالته تضامنا مع الوفد واحتجاجا على منع الوفد الرسمي والوفد الشعبي من السفر، لكن السلطان فؤاد رفضها، وقامت بريطانيا باستدعاء مندوبها السامي السير ونجت إلى لندن للتشاور معه في أحوال البلاد، فغادر مصر عن طريق بور سعيد يوم 21 يناير.
 فكر سعد في تكرار تجربة اجتماع دار الباسل باشا، فدعا إلى اجتماع في بيت الأمة يوم 31 يناير 1919، لكن السلطات البريطانية قررت منع الاجتماع، وبالفعل أرسل الميـﭼور ﭼنرال واطسن قائد القوات البريطانية خطابًا إلى سعد باشا قبل الاجتماع بأربعة أيام يطلب منه إلغاء الدعوة، وقد نشر عبد الرحمن الرافعي نص الخطاب الذي يقول فيه واطسن:
 "علمت أن سعادتكم تعدون اجتماعا في منزلكم بمصر في 31 الجاري يحضره نحو الستمائة أو السبعمائة شخص، وإني أرى إن مثل هذا الاجتماع قد يحدث منه إقلاق للأمن، فبناء على هذا الإعلان الصادر تحت الأحكام العرفية المعلنة بتاريخ 2 نوفمبر سنة 1914، أرجو أن تتكرموا بالعدول عن إقامة هذا الاجتماع".
 وأرسل سعد اعتذارًا إلى المدعوين يبلغهم فيه أن الاجتماع ألغي بأمر السلطة العسكرية، وفي نفس الوقت أرسل الوفد برقيتي احتجاج إلى رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الأمريكي، وأعقبهما ببرقية إلى ﭼورﭺ كليمنصو رئيس وزراء فرنسا الذي كان رئيسًا لمؤتمر الصلح للمطالبة بضرورة عرض القضية المصرية على المؤتمر.
 وهكذا سدت السلطات العسكرية البريطانية منفذ الاجتماعات الحاشدة في المنازل فماذا فعل الوفد؟
قرر الوفد وزعيمه سعد ألا يفوت فرصة لمهاجمة الاحتلال والدعاية لقضية الاستقلال إلا ويستغلها أفضل استغلال، خصوصا بعد أن صادرت السلطات العسكرية البريطانية حق الوفد ورجاله في الاجتماع بمنازلهم.
 وجاءت الفرصة على طبق من ذهب بمناسبة مناقشة مشروع قانون العقوبات الجديد الذي كانت سلطات الحماية البريطانية في مصر تعد لإصداره ضمن سلسلة من التعديلات التشريعية التي ترسخ سلطة الاحتلال في مصر وتجعل من نظامها القانوني نظاما تابعا، بما في ذلك إصدار قانون أساسي (دستور) جديد. وهي التعديلات المعروفة بقوانين برونيت نسبة إلى السير وليم برونيت مستشار دار الحماية البريطانية في مصر، وكان المستشارون الإنجليز يروجون لهذه التعديلات التشريعية ويقومون بالدعاية لها في الأوساط القانونية والتشريعية المصرية. وفي هذا السياق دعت الجمعية السلطانية للاقتصاد السياسي والتشريع والأحصاء لاجتماع في مقرها يوم 7 فبراير سنة 1919 لسماع المحاضرة مستر بريسفال المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية، وكان بريسفال قد ألقى محاضرة في نفس الموضوع يوم 17 يناير، وتلك كانت محاضرته الثانية في نفس الموضوع.


 ذهب سعد وعدد كبير من أعضاء الوفد المصري لحضور الاجتماع ضمن حشد ضخم من رجال السياسة والقانون من بينهم عبد الخالق باشا ثروت وزير الحقانية، وبعد أن انتهى بريسفال من محاضرته التي ألقها بالفرنسية، اعتلى سعد منصة الخطابة وأعلن أن لديه ملاحظات على المحاضرة وعلى مشروع القانون، وتحدث بالعربية موضحا أن بريسفال يعرف العربية، لكن الحقيقة أن سعد لم يكن يقصد برسفال بحديثه، إنما كان هدفه جمهور الحضور وعبرهم كل أبناء الشعب المصري، كما أن نقد مشروع القانون الجديد لم يكن هدف سعد الأساسي من الحضور والتعليق بل طرح قضية الاستقلال من خلال مناقشة هذا القانون، إنه أسلوب في النضال السياسي يتبعه المناضلون عندما تضييق عليهم السلطات سبل التعبير عن آرائهم، ابتدعه سعد وسار على خطاه أجيال وأجيال من بعده.
 استهل سعد كلمته قائلا: "أيها السادة، إني أشكر المحاضر على ما قاله من أنه يريد أن يكون لمصر في المستقبل شرع خاص، ولكني أقول لحضرته إن هذا الشرع موجود فعلا منذ أمد بعيد، إن أمتنا المصرية ليست من قبيل الأقوام الهمج الذين ليست لهم شرائع مقررة، إنما بلد كبلدنا تكون له حياة عريقة في القوانين والشرائع فإن من الخطر أن يعمد إلى تغيير كلي في شرعه بدون أن تدعو الضرورة لذلك أو تهدي إليه التجربة والاختبار، إن قانون العقوبات المصري المأخوذ عن القانون الفرنسي جرى عليه العمل منذ زمن طويل، فهو جزء من محصولنا القانوني تشربته أفئدة قضاتنا ومحامينا، وسرى في أخلاق الأمة سير الدم في الجسد..."
 وانطلق سعد بذكاء شديد من المناقشة القانونية إلى المناقشة السياسية، فانتقد استخدام الجمعية العلمية وسيلة للترويج لقبول الأمة بهذا التشريع وتمريره دون عرضه على الجمعية التشريعية، ثم انتقل إلى مهاجمة القانون لأنه يستند في مواده على حالة الحماية، وقال عن الحماية إنها: "حالة سياسية لا وجود لها الآن بمصر"... واستطرد قائلا: "إن بلادنا لها استقلال ذاتي ضمنته معاهدة 1840، واعترفت به جميع المعاهدات الدولية الأخرى، وعبثا يحاولون الاعتماد على ما حصل من تغيير هذا النظام السياسي أثناء الحرب، إنكم أيها السادة تعلمون وكل علماء القانون الدولي يقررون أن الحماية لا تنتج إلا من عقد بين أمتين، تطلب أحداهما أن تكون تحت رعاية الأخرى، وتقبل الأخرى تحمل أعباء هذه الحماية، فهي نتيجة عقد ذي طرفين موجب وقابل، ولم يحصل من مصر ولن يحصل منها أصلا".
 وأكد على أن الحماية التي أعلنتها بريطانيا من جانب واحد سنة 1914 باطلة لا وجود لها قانونا، وإنها كانت ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها...
 وقد قضت كلمة سعد على مشروع برونيت تمامًا.
 واستقبلت الكلمة استقبالًا حماسيًا من الحاضرين، وسرعان ما ذاع خبرها وانتشر نصها بين المصريين، وأصبحت حديث الأمة، رغم تجاهل الصحف لها بسبب الرقابة والأحكام العرفية، لدرجة أن جريدة وادي النيل التي كانت تصدر في الإسكندرية أشارت إلى الموضوع في خبر مقتضب بعنوان: "في جمعية الاقتصاد والتشريع" جاء فيه: "ألقى المستر بريسفال المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية بعد ظهر الجمعة الماضية بقية محاضرته الخاصة بالتشريع المصري الجديد في جمعية الاقتصاد والتشريع، وبعد أن انتهى من إلقائه وقف أحد السامعين وبسط بعض ملاحظات ثم انفض الاجتماع".

الأحد، 6 يناير 2019

سعد والثورة


مقالي في مجلة ديوان عدد يناير 2019
سعد والثورة
عماد أبو غازي
  نحتفل هذا العام بالمئوية الأولى لثورة 1919؛ ودومًا ما يثار في الأحداث الكبرى السؤال المشروع عن دور الفرد القائد ودور الجموع في صنع الحدث، وعند الحديث عن ثورة 1919؛ فإننا نقف أمام حراك شعبي واسع استمر على مدى سنوات أربع، وأمام زعامة نجحت في أن تلتقط اللحظة التاريخية وتقود حركة الجماهير.  


   وإذا كانت زعامة سعد لم تبدأ إلا في عام 1918 فإن دوره في العمل العام وأنشطته الاجتماعية والسياسية سابقة على ذلك التاريخ بسنوات عديدة، منذ التقى بالشيخ محمد عبده أثناء دراسته، ثم أخذ يتردد على مجالس جمال الدين الأفغاني، وساهم الرجلان في تكوين ثقافة سعد وشخصيته في شبابه.
  وقد لفت ذكاء سعد نظر أستاذه محمد عبده فاختاره للعمل معه محررًا بالقسم الأدبي "بالوقائع المصرية" عندما تولى رئاسة تحريرها عام 1880، وفي أعقاب هزيمة الثورة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر، فصل سعد زغلول من وظيفته لاتهامه بمشايعة الثورة، ثم قامت السلطات باعتقاله مع آخرين بتهمة تشكيل جمعية سرية باسم "جماعة الانتقام"، ولم يثبت الاتهام ضده فأفرج عنه بعد عدة شهور.
 ثم اتجه سعد زغلول إلى العمل في المحاماة وبرع فيها، وأصبح من أشهر المحامين في مصر لما عرف عنه من قدرة على المرافعة وأمانة في العمل، ثم عين في سنة 1892 قاضيًا بمحكمة الاستئناف، وكانت أعلى المحاكم المصرية درجة في ذلك الوقت؛ وخلال عمله في القضاء درس سعد القانون دراسة نظامية وحصل على إجازة الحقوق من جامعة باريس بدرجة متفوقة، فأضاف إلى خبرته العملية دراسة قانونية.

 وفي سنة 1906، وفي إحدى محاولات سلطات الاحتلال البريطاني للتخفيف من الآثار السلبية لحادث دنشواي، ثم تعيين سعد زغلول وزيرًا للمعارف، وكانت المعارف من الوزارات الخاضعة لسلطة الاحتلال من خلال دنلوب المستشار البريطاني للتعليم؛ وقد لاقى هذا التعيين ارتياحًا من جانب الحركة الوطنية المصرية عبر عنه مصطفى كامل في مقال له بجريدة اللواء في 28 أكتوبر سنة 1906 تحت عنوان "سعد بك زغلول وزير المعارف" جاء فيه:
"لما قابل جناب اللورد كرومر أول البارحة سمو الخديوي المعظم في سراي رأس التين عرض عليه تعيين سعادة سعد بك زغلول المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية وزيرًا للمعارف المصرية، فارتاح سمو الخديوي لهذا الطلب لما يعهده في سعادة سعد بك من الفضل والعلم والأخلاق القويمة وأن ما يعرفه الناس في أخلاق وصفات سعد بك زغلول وهو في المحاماة أولًا، وفي القضاء ثانيًا، يحملهم جميعا على الارتياح لهذا التعيين الذي صادف مصريًا مشهورًا بالكفاءة والدراية والعلم الغزير، وحب الإنصاف والعدل، ولكن لما كانت الوزارة من سنوات مضت إلى اليوم منصبًا لا عمل فيه، وكان المستشارون الإنجليز أصحاب السيطرة التامة في النظارات، حق للناس أن يتساءلوا عما يعمله سعد بك زغلول في وزارة المعارف، هل يكون كبقية الوزراء- أمره وأمر المعارف بيد المستر دنلوب- أم يكون وزيرًا اسمًا وعملًا ويحيي سلطة الوزراء المصريين؟ اللهم إننا عرفنا سعد بك زغلول في ماضيه وحاضره أشد الناس تمسكًا باستقلاله وحقوقه، وأكثرهم انتقادًا على الذين تركوا سلطة مناصبهم لغيرهم... فإذا بقي سعد بك في وظيفته الجديدة كما هو وكما كان - وهو كما نعتقد - أملنا خيرًا كبيرًا للمعارف، ورجونا سريان هذه الروح إلى بقية النظار وعودة "الحياة المصرية" إلى الوزارة..."
 وطوال ست سنوات شغل فيه سعد المناصب الوزارية اختلف الناس حول كثير من مواقفه، فأيده البعض وانتقده آخرون، خاصة في صحافة الحزب الوطني؛ لكن الأمر الذي يتفق عليه الجميع أن سعد زغلول أثناء توليه وزارتي المعارف ثم الحقانية حقق بعض الانجازات المهمة مثل استئناف إرسال البعثات إلى معاهد العلم في أوروبا، وإنشاء مدرسة القضاء الشرعي ووضع مشروع قانون المحاماة الذي أنشئت بموجبه بعد إقراره نقابة المحامين، كذلك اصطدم سعد زغلول غير مرة بالمستشار البريطاني دنلوب الذي كان يسيطر على وزارة المعارف، أما أهم المواقف التي تحسب لسعد زغلول خلال توليه الوزارة فاستقالته من وزارة محمد سعيد باشا؛ وقد كان السبب الرئيسي لاستقالة سعد زغلول من الوزارة في مارس سنة 1912، قرار تحريك الدعوى العمومية ضد محمد فريد بتهمة التحريض على كراهية الحكومة دون مشاورته أو أخذ رأيه.
 وعندما أنشئت الجمعية التشريعية في سنة 1913 لتكون مجلسًا شبه نيابي، تقدم سعد زغلول للانتخابات في دائرتي الخليفة وبولاق بالقاهرة وفاز فيهما بتأييد ودعم من الحزب الوطني؛ وأصبح سعد الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية، وخلال الفصل التشريعي الأول والأخير للجمعية التشريعية برز صوت سعد كخطيب مفوه يدافع عن حقوق الأمة، ونالت مواقفه تأييد ودعم كل القوى الوطنية في مصر.
 وخلال سنوات الحرب العظمى اختار سعد الصمت، ليعود صوته فور إعلان انتهائها مطالبًا بحقوق الأمة، وليصبح زعيمًا لمصر وقائدًا لثورتها التي تفجرت يوم 9 مارس 1919 احتجاجًا على نفي سعد ورفاقه إلى مالطة؛ ثم لنضالها الوطني وسعيها من أجل الاستقلال والدستور طوال تسع سنوات حتى وفاته في 23 أغسطس سنة 1927.


 وهذه ثلاثة مواقف لسعد في سنوات الثورة تكشف عن جوانب من شخصيته القيادية والتزامه بالمبادئ:

(1)   حوار مع سعد زغلول في لندن
 في أبريل 1927 قبل وفاة سعد زغلول بأربعة أشهر صدرت في القاهرة الترجمة العربية لكتاب الروسي تيودور روذستين "خراب مصر"، وقد حملت الترجمة عنوانًا مختلفًا يعبر عن محتوى الكتاب، "تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطاني وبعده"، وقد ترجمه إلى العربية علي شكري محمد أحد الشباب المرتبطين بالحزب الوطني، وقام بترجمة الكتاب وكذلك مذكرات بلنت، وكتابه "التاريخ السري للاحتلال البريطاني لمصر"، وعندما حاول طبع ترجماته في مصر سنة 1917 منعت السلطات العسكرية البريطانية نشرها. وخلال المرحلة القلقة بين ثورة مارس 1919 وصدور دستور 1923 وما تخللها من ملاحقات للوطنيين المصريين قام علي شكري بإحراق الكتب والترجمات، ثم عاد مرة أخرى بعد أن استقرت الأمور فترجم كتاب خراب مصر ونشره سنة 1927.
 لقد قدم علي شكري للترجمة بمقدمة طويلة تحدث فيها عن تطور الحركة الوطنية بعد تأليف الكتاب، وضمن المقدمة حوارًا أجراه مع سعد زغلول في أواخر أكتوبر 1920 في فندق سافوي بلندن، عندما ذهب سعد وأعضاء الوفد للتفاوض مع الحكومة البريطانية، وقد اعتمد علي شكري على صداقة والده لسعد في إجراء الحوار الذي تبدو فيه جرأته على سعد، ويكشف الحوار عن موقف سعد الجذري قياسًا إلى مواقف زملائه في الوفد، في المفاوضات حول مشروع ملنر، الذي رفضته الأمة وانقسمت حوله القيادة السياسية، وكان مدخل الحديث تصريح سعد لبعض الطلبة المصريين في لندن بأن مشروع ملنر "حماية بالخط الثلث"، واستمر الحديث وفقًا لعلي شكري أربع ساعات، لكنه لم ينشر منه على ما يبدو بعد سبع سنوات من إجرائه سوى جزء صغير لكنه دال ومعبر.
علي شكري محمد
 يقول علي شكري محمد:
 "لما كنا قد سمعنا بأن بعض الصحف المصرية كذبت رأي دولته في المشروع كان من الطبيعي أن نفتح الحديث باستجلاء رأي دولته، فصرح لنا أنه أخبرهم حقا "بأن مشروع لورد ملنر هو حماية بالخط الثلث" ولكنه إنما قال ذلك لهم في حديث خصوصي لا لينشروه وفي جريدة الأهالي بصفة خاصة.
 ثم أخذ دولته يقص علينا من أنباء الوفد وكيفية تشكيله وما حدث بعد ذلك من الحوادث إلى حين سفره من مالطة إلى باريس. وقد تطرق الحديث إلى ذكر المفاوضات فدار بيننا حوار كالآتي:
س: كيف وافقتم معاليكم على الحضور إلى لندن مع عدم علمكم بالأساس الذي تدور عليه المفاوضات؟
ج: لقد أكدوا لي أن أساسها الاستقلال التام لمصر والسودان.
س: من هم الذين أكدوا لك ذلك؟
ج: مندوبو الوفد الذين أرسلناهم إلى إنجلترا لجس النبض.
س: إذن لم يصل إلى معاليكم شيء رسمي لا من اللورد ملنر ولا من أحد من أعضاء لجنته؟
ج: كلا.
س: سبق أن شغلتم معاليكم منصب القضاء الأعلى في مصر فلم يكن يطاوعكم ضميركم على الحكم في أمر من الأمور إلا بعد الاطلاع على المستندات والوثائق الخاصة به. وأنتم قد عركتم الدهر وتعرفون من ماضي لورد ملنر ما قد لا نعرفه نحن مشعر الشبان فكيف استجزتم لأنفسكم الإقدام على أمر خطير كنقل مركز القضية المصرية من باريس إلى لندن ولم يصلكم مستند رسمي من لجنة اللورد ملنر عن الأساس الذي تدور عليه المفاوضات؟ ألا ترون معاليكم أن حضوركم إلى لندن كان غلطة سياسية كبرى؟
ج: لا أكتمك الحقيقة يا ولدي فلقد خدعني زملائي وغرروا بي.
س: إن الأمة المصرية إنما وضعت ثقتها في معاليكم فهي لا تعرف شيئا عن هؤلاء الزملاء، فلماذا لم تنبذوا استشارتهم وقد رأيتم خطأها؟
ج: لقد خفت من تفرق الكلمة. إن أغلبية أعضاء الوفد استحسنوا الذهاب إلى لندن فرأيت أن أنزل على رأيهم تفاديًا من الظهور بمظهر المتعنت الخارج عن الأغلبية.
س: ولكن نسيتم معاليكم أن الأمة وكلتكم في السعي لاستقلال مصر والسودان، أفلم يكن يجدر بكم استشارة البلاد قبل الإقدام على أمر خطير كهذا وخاصة وإنكم لم تكونوا من رأي أغلبية الوفد؟
ج: هذا ما حدث على كل حال، وقد رأوا أن لا بأس من استطلاع رأي القوم هنا وقد حضرنا لهذه الغاية.
س: إذن فماذا كان رأيكم في مشروع اللورد ملنر من بدء الأمر؟
ج: كان رأيي أنه حماية بالخط الثلث، وإن كان يشتمل على بعض المزايا.
س: لماذا لم تصارحوا الأمة بهذا حتى كانت تستنير برأيكم وأنت زعيمها الذي تسترشد برأيه عند الخطوب؟
ج: إن المشروع كما أخبرتك يشتمل على بعض مزايا؛ فخوفًا من أن يلومني الشعب المصري لأنني حرمته من هذه المزايا استصوبت عرض الأمر عليه.
س: هذا كان يكون حسنًا لو أن الذين انتدبتهم معاليكم لعرض المشروع على الشعب اكتفوا بعرضه دون أن يظهروا تحيزهم له فما بالك وهم لم يتركوا وسيلة إلا التجأوا إليها لحمل الأمة على قبول المشروع كما هو؟
ج: لقد كلفتهم بالوقوف على الحياد التام عند عرض المشروع على الأمة.
س: ألم يخبروك كيف استقبلته الأمة؟
ج: لقد أفهموني أن الأمة راضية عنه كل الرضى.
س: هذا غير الواقع يا معالي الباشا. ألم يبلغوك ما كتبه الأستاذ عبد الحميد بك أبو هيف في نقد المشروع؟
ج: كلا، بل كل ما قالوه لي: إن الأمة أبدت بعض رغبات في صدد المشروع، وإنهم هم الذين أوعزوا إليها بتقديم تلك الرغبات!!
س: ولكن يا باشا هذا أيضا غير صحيح، فلقد طلب فريق من الأمة التحفظات وتشدد في قبولها، ونادى الفريق الآخر بسقوط المشروع بتاتًا. فهلا كان من المستحسن ومعاليكم مقتنعون بأن المشروع حماية بالخط الثلث أن تصارحوا الأمة بهذا الرأي، فإن أصغت لمشورتكم قطعتم المفاوضات وعدتم إلى حظيرة الوطن مرفوع الرأس، وإن أبت إلا التطوح وراء المشروع استقلتم من رئاسة الوفد وأشرتم على الأمة بانتخاب رئيس بدلكم يسعى للحصول لها على استقلال زائف؟ إذ ليس يخفى على معاليكم أن الأمة وكلتكم في السعي للحصول على الاستقلال فإن لم توفقوا في مهمتكم فردوا الأمر لها وليس في ذلك غضاضة عليكم. لأن الزعيم هو الذي يقود مواطنيه إلى طلب الكمال فإن ساروا خلفه طائعين فبها ونعمت وإن أصروا على الرضى بالقشور دون اللباب فليترك لهم زعامتهم وليعلم أنهم لم ينضجوا بعد النضوج الكافي.
ج: إنني معول على قطع المفاوضات إذا لم يصغ القوم إلى مطالبنا.
 وهنا تشعب الحديث فتناول عدة مسائل أخرى لا يتسع لها هذا المقام.
 ثم لم تمض على هذا الحديث بضعة أيام حتى ذهبنا مرة أخرى لزيارة سعد باشا فأخبرنا إنه يعد معدات السفر بعد أن رأى من تعنت القوم وتصلبهم ما يذهب بصبر الحليم."

(2)   سنوات الشدة والإرهاب
 في عام 1921 تشكل وفد رسمي برئاسة عدلي يكن لمفاوضات بريطانيا حول الاستقلال، وانتهت المفاوضات بالفشل، ودخلت البلاد في أزمة سياسية جديدة؛ وهنا أقدم هذا الجزء من مذكرات النفي التي كتبها مصطفى النحاس في المنفى الثاني في سيشيل، والتي يروي فيها المقدمات التي قادت إلى نفي سعد وقادة الوفد المصري للمرة الثانية؛ يقول النحاس تحت عنوان سنوات الشدة والإرهاب:


 "كانت النتيجة الحتمية لتأليف بعثة رسمية للمفاوضة ضد إرادة الأمة وسفرها إلى لندرا على الرغم من الأمة، واستعمال وسائل القهر والخداع ضد الأمة لاختلاس ثقتها بالبعثة الرسمية، كانت نتيجة كل ذلك اطماع الإنجليز في حكم مصر بالقوة؛ لذلك زادوا مطامعهم إلى أبعد من مدى ظاهر مشروع وأعلنوا بكل قوة بكل جرأة أن مصر لازمة لهم، وإنهم باقون فيها إلى الأبد، وتهددوها بإخضاعها بالقوة إن لم ترضخ لهم بالسلام، ودفعوا مشروع كرزون إلى عدلي رئيس البعثة الرسمية، فلم يسعه الإجابة عليه إلا بأنه لا يمكن أن يؤدي إلى اتفاق تقبله الأمة، فتخطوا البعثة ورجعوا إلى السلطان، فرفعوا إليه بواسطة مندوبهم السامي مشروع كرزون ورد عدلي عليه ومذكرة من اللورد أللنبي معلنة نية الإنجليز نحو مصر وما عولوا عليه في الحاضر والمستقبل، مهددين باستعمال الشدة لقمع ما أسموه بالتهييج المبني على التعصب.
 عادت البعثة الرسمية إلى مصر وقوبلت أسوأ مقابلة، وقدمت تقريرًا للسلطان لينًا رخوًا، دل على أن البعثة لم تعمل شيئًا ولم تناضل عن حقوق مصر. وقدم عدلي استقالة الوزارة لأنه كما يقول لم يوفق إلى تحقيق برنامجه الذي أعلنه للأمة.
 ودعا سعد باشا زغلول وكيل الأمة الأمين ورئيس الوفد المصري وجهاء القوم من مختلف الطبقات لاجتماع عام يعقد في ليلة الجمعة 23 ديسمبر في نادي "سيرو" بالقاهرة للنظر في الأحوال الحاضرة.
 فأصدر اللورد أللنبي في 19 ديسمبر أمرًا عسكريًا بإلغاء هذا الاجتماع بحجة المحافظة على الأمن العام، فاحتج سعد باشا على هذا المنع، وتوالت الاحتجاجات كذلك من جميع أنحاء القطر...
 وفي 19 ديسمبر وصل الأستاذ مكرم إلى الإسكندرية قادمًا من لندرا بعد جهاده العظيم الذي أظهر به للرأي العام الإنجليزي حقيقة موقف البعثة الرسمية من الأمة المصرية، وأدى ذلك إلى فشل البعثة الرسمية في مهمتها وعودتها خائبة...
 كان مكرم قد وعد في خطبه السابقة بإذاعة أخبار المفاوضات بعد تقديم تقريره بها إلى الرئيس. وما كان للإنجليز ـ وقد قرروا استعمال الشدة ـ أن يمكنوه من ذلك. ففي نحو الساعة 11 صباح يوم الخميس 22 ديسمبر اتصل بعلم الرئيس أنه سيبلغ إليه اليوم أمر موجود الآن في قلم المطبوعات بأن يبرح هو وأعضاء الوفد القاهرة إلى محال إقامتهم بالريف. فتذاكرنا في الخطة التي يجب علينا اتخاذها عند وصول هذا الأمر إلينا وهي عدم إجابة هذا الأمر طوعًا.
 وقرب الظهر حضر إلى بيت الأمة المستر "تيل" وكيل الحكمدار، ومعه خطابات لكل من الرئيس وسينوت ومكرم وأنا من أعضاء الوفد، ولكل من فتح الله باشا بركات وعاطف بك بركات وصادق بك حنين وأمين أفندي عز العرب وجعفر بك فخري من غير أعضاء الوفد؛ وهذه الخطابات جميعها صادرة من الجنرال كلينتون مستشار وزارة الداخلية.
 وهذه ترجمة خطاب الرئيس:
  صاحب المعالي
 أتشرف بأن أخبركم أنه بناءً على تعليمات المارشال القائد العام أبلغ معاليكم الأمر الآتي:
 سعد باشا زغلول ممنوع بهذا تحت الأحكام العرفية من إلقاء الخطب، ومن حضور اجتماعات عامة، ومن استقبال وفود، ومن الكتابة إلى الجرائد، ومن الاشتراك في الشئون السياسية، وعليه أن يغادر القاهرة بلا توان، وأن يقيم في مسكنه بالريف تحت مراقبة مدير المديرية.
   الإمضاء أللنبي        الوكالة البريطانية
   القاهرة في 21 ديسمبر سنة 1921
                ولي الشرف أن أكون لمعاليكم الخادم المطيع
                                     الإمضاء
                                       كليتون بريجادر جنرال
                                       مستشار وزارة الداخلية
 وتذاكر الموجودون جميعًا في ماذا يكون رد الرئيس؛ وتقرر أن يكون الرد عدم الخضوع طوعًا للأمر؛ لإن الخضوع إليه معناه التخلي عن الواجب المقدس الذي عهدت به الأمة إلينا للمطالبة باستقلالها التام. وبعد الغذاء حرر الرئيس الرد الآتي:
 جناب الجنرال كلايتون مستشار وزارة الداخلية
 أتشرف بإخباركم إني استلمت خطابكم بتاريخ اليوم الذي تبلغني فيه بأمر جناب الفيلد مارشال اللنبي بمنعي من الاشتغال بالسياسة، وإلزامي بالسفر إلى عزبتي بلا تأخير للإقامة بها تحت مراقبة المدير.
 وهذا أمر ظالم أحتج عليه بكل قوتي. إذ ليس هناك ما يبرره.
 وبما إني موكل من قبل الأمة للسعي في استقلالها، فليس لغيرها سلطة تخليني من القيام بهذا الواجب المقدس.
 لهذا سأبقى في مركزي مخلصًا لواجبي. وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء أفرادًا وجماعات. فإنا جميعًا مستعدون للقاء ما تأتي به بجنان ثابت وضمير هادئ، علمًا بأن كل عنف تستعمله ضد مساعينا المشروعة إنما يساعد البلاد على تحقيق أمانيها في الاستقلال التام.
  وأرجو أن تقبلوا فائق احتراماتي.
                                                                                       (الإمضاء)
سعد زغلول
القاهرة في 22 ديسمبر سنة 1921

(3)   وزارة سعد الأولى والأخيرة
 تولى سعد زغلول باشا رئاسة الوزارة مرة واحدة في الفترة من 28 يناير سنة 1924 إلى 24 نوفمبر سنة 1924، كانت تلك الوزارة الأولى والأخيرة له، وجاء تولي سعد لرئاسة الوزارة بعد أول انتخابات برلمانية جرت على أساس دستور 1923، وفاز فيها حزب الوفد بأغلبية كاسحة، وربما كانت تلك الانتخابات من أنزه الانتخابات التي شهدتها مصر طوال تاريخها البرلماني، وقد أجرت تلك الانتخابات وزارة يحيى باشا إبراهيم؛ وعقب استقالة الحكومة أصدر الملك أحمد فؤاد الأول الأمر الملكي رقم 14 لسنة 1924، بتكليف سعد زغلول رئيس حزب الأغلبية بتأليف الوزارة، وجاء في هذا الأمر:
 "عزيزي سعد زغلول باشا
لما كانت آمالنا ورغائبنا متجهة دائمًا نحو سعادة شعبنا العزيز ورفاهيته، وبما أن بلادنا تستقبل الآن عهدًا جديدًا من أسمى أمانينا أن تبلغ فيه ما نرجوه لها من رفعة الشأن وسمو المكانة، ولما أنتم عليه من الصدق والولاء، وما تحققناه فيكم من عظيم الخبرة والحكمة وسداد الرأي في تصريف الأمور، وبما لنا فيكم من الثقة التامة قد اقتضت إرادتنا توجيه مسند رياسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرياسة الجليلة لعهدتكم.
وأصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف هيئة الوزارة، وعرض مشروع هذا التأليف علينا لصدور مرسومنا العالي به.
ونسأل الله جلت قدرته أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا بالخير والسعادة إنه سميع مجيب."


 وجاء جواب سعد زغلول على التكليف قطعة من الأدب السياسي الرفيع أكد فيها على الولاء للشعب الذي اختاره واختار حزبه، ويكرر فيها تمسكه بالمبادئ الوطنية والديمقراطية التي بلورتها ثورة 1919، ويطرح برنامج حكومته الذي يؤكد على استكمال أهداف الثورة؛ ويصر في تشكيل حكومته على أن تضم اثنين من الأفندية، وعلى أن يكون حصولهم على الرتب والألقاب من الملك بعد تشكيل الوزارة تأكيدًا على أن الوزارة ليست للباشوات والبكوات فقط؛ قال سعد في رده على الملك:
 "مولاي صاحب الجلالة
 إن الرعاية السامية التي قابلت بها جلالتكم ثقة الأمة ونوابها بشخصي الضعيف توجب علىّ والبلاد داخلة في نظام نيابي يقضى باحترام إرادتها، وارتكاز حكومتها على ثقة وكلائها ألا أتنحى عن مسئولية الحكم التي طالما تهيبتها في ظروف أخرى، وأن أشكل الوزارة التي شاءت جلالتكم بتشكيلها من غير أن يعتبر قبولي لتحمل أعبائها اعترافا بأية حالة أو حق استنكره الوفد المصري الذي لا أزال متشرفًا برياسته.
 إن الانتخابات لأعضاء مجلس النواب أظهرت بكل جلاء إجماع الأمة على تمسكها بمبادئ الوفد التي ترمي إلى ضرورة تمتع البلاد بحقها الطبيعي في الاستقلال الحقيقي لمصر والسودان، مع احترام المصالح الأجنبية التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال، كما أظهرت شدة ميلها للعفو عن المحكوم عليهم سياسيًا، ونفورها من كثير من التعهدات والقوانين التي صدرت بعد إيقاف الجمعية التشريعية ونقصت من حقوق البلاد وحدت من حرية أفرادها، وشكواها من سوء التصرفات المالية والإدارية، ومن عدم الاهتمام بتعميم التعليم وحفظ الأمن وتحسين الأحوال الصحية والاقتصادية وغير ذلك من وسائل التقدم والعمران، فكان حقًا على الوزارة التي هي وليدة تلك الانتخابات وعهدًا مسئولاً منها أن توجه عنايتها إلى هذه المسائل الأهم فالمهم منها وتحصر أكبر همها في البحث عن أحكم الطرق وأقربها إلى تحقيق رغبات الأمة فيها وإزالة أسباب الشكوى منها، وتلافى ما هناك من الأضرار مع تحديد المسئوليات عنها وتعيين المسئولين فيها، وكل ذلك لا يتم على الوجه المرغوب إلا بمساعدة البرلمان، ولهذا يكون من أول واجبات هذه الوزارة الاهتمام بإعداد ما يلزم لانعقاده في القريب العاجل، وتحضير ما يحتاج الأمر إليه من المواد والمعلومات لتمكينه من القيام بمهمته خطيرة الشأن.
ولقد لبثت الأمة زمانًا طويلًا وهى تنظر إلى الحكومة نظر الطير للصائد لا الجيش للقائد، وترى فيها خصما قديرًا يدبر الكيد لها لا وكيلا أمينًا يسعى لخيرها، وتولد عن هذا الشعور سوء تفاهم اثر تأثيرًا سيئًا في إدارة البلاد وعاق كثيرًا من تقدمها، فكان على الوزارة الجديدة أن تعمل على استبدال سوء هذا الظن بحسن الثقة في الحكومة، وعلى إقناع الكافة بأنها ليست إلا قسما من الأمة تخصص لقيادتها والدفاع عنها وتدبير شئونها بحسب ما يقتضيه صالحها العام، ولذلك يلزمها أن تعمل ما في وسعها لتقليل أسباب النزاع بين الأفراد وبين العائلات، وإحلال الوئام محل الخصام بين جميع السكان على اختلاف أجناسهم وأديانهم، كما يلزمها أن تبث الروح الدستورية في جميع المصالح، وتعود الكل على احترام الدستور والخضوع لأحكامه، وذلك إنما يكون بالقدوة الحسنة وعدم السماح لأي كان بالاستخفاف بها، أو الإخلال بما تقتضيه.
هذا هو بروجرام وزارتي وضعته طبقًا لما أراه وتريده الأمة، شاعرًا كل الشعور بأن القيام بتنفيذه ليس من الهنات الهينات، خصوصًا مع ضعف قوتي واعتلال صحتي، ودخول البلاد تحت نظام حرمت منه زمانًا طويلاً، ولكنى أعتمد في نجاحه على عناية الله وعطف وتأييد البرلمان ومعاونة الموظفين وجميع أهالي البلاد ونزلائها.
فأرجو إذا صادف استحسان جلالتكم أن يصدر المرسوم السامي بتشكيل الوزارة على الوجه الآتي، مع تقليدي وزارة الداخلية.
محمد سعيد باشا              لوزارة المعارف العمومية
محمد توفيق نسيم باشا      لوزارة المالية
أحمد مظلوم باشا              لوزارة الأوقاف
حسن حسيب باشا                        لوزارة الحربية والبحرية
محمد فتح الله بركات باشا   لوزارة الزراعة
مرقص حنا بك                 لوزارة الشغال العمومية
مصطفى النحاس بك                      لوزارة المواصلات
واصف بطرس غالي أفندي  لوزارة الخارجية
محمد نجيب الغرابلي أفندي            لوزارة الحقانية
وأدعو الله أن يطيل في أيامكم ويمد في ظلالكم حتى تنال البلاد في عهدكم كل ما تتمناه من التقدم والارتقاء.
وإني على الدوام شاكر نعمتكم وخادم سدتكم.
تحريرًا في 22 جمادى الثانية سنة 1342 (24 يناير سنة 1924)
سـعد زغلول"


 لكن حكومة الشعب التي قدها سعد زغلول وحاول خلالها أن يحقق آمال الأمة، لم يقدر لها أن تكمل في الحكم عشرة أشهر، واضطر سعد لتقديم استقالته بعد حادث اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش، فأهدر عمل متهور تصور من يقوموا به أنهم يخدمون الوطن آمال الأمة في أن تجني ثمار تضحياتها في ثورة 1919.
***

 في حياة الأمم شخصيات تلتقي بطموحات الشعب وأحلامه، فتتصدى لقيادة البلاد في اللحظات العصيبة، وقد تنجح في تحقيق بعض ما تتطلع إليه الأمة، فتحفر لاسمها بذلك مكانة لا تهتز في الوجدان الشعبي؛ ومن هذه الشخصيات في تاريخنا المصري الحديث سعد زغلول الذي اعتلى مكانه كزعيم للأمة بلا منازع عندما تصدى لمواجهة الاحتلال البريطاني عقب إعلان انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ عندما أصبح قائدًا للثورة المصرية ورمزًا لها.

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...