الجمعة، 25 أكتوبر 2019

اليونانيون في مصر تاريخ ومستقبل



اليونانيون في مصر

تاريخ ومستقبل

عماد أبو غازي


 لقد كانت ساعدتي كبيرة لدعوتي للمشاركة في ندوة اليوم "اليونانيون في مصر خلال القرن العشرين"؛ فقناعتي الراسخة أن العلاقة بين شعبينا واحدة من أقوى العلاقات وأكثرها امتدادًا عبر التاريخ، كما أنها تحمل آفاقًا مهمة للتطور لصالح شعبينا وبلدينا، أما عن اليونانيين في مصر في القرنين الأخيرين، فقد ساهموا بقوة في صياغة مصر الحديثة، وكانوا جزءًا من نسيج المجتمع المصري.


 منذ مئة عام وخمسة عشر عامًا في عام 1904 تأسست الجمعية اليونانية بالقاهرة؛ التي تعد واحدة من الجمعيات ذات النشاط الثقافي والاجتماعي المتميز في مصر، وأتذكر أنه في عام 2006 نظمت الجالية اليونانية في مصر احتفالًا بمئوية الجمعية وسط مشاركة ثقافية مصرية كبيرة، وقد شمل الاحتفال الختامي عرضًا شعريًا موسيقيًا غنائيًا على مسرح هضبة الأهرام، باسم "أنشودة إلى الإسكندر الأكبر" شارك فيه أوركسترا القاهرة السيمفوني وكورال أوبرا القاهرة وفرقة الطبول المصرية مع مجموعة من كبار الفنانين اليونانيين، جاء تعبيرًا عن عمق العلاقة بين الشعبين، كما عُقدت ندوة علمية حول اليونانيين في مصر الحديثة بمشاركة من باحثين من مصر واليونان، كان لي شرف المشاركة فيها، فهذه ليست المرة الأولى التي أشارك فيها بالحديث عن العلاقات التاريخية بين الشعبين المصري واليوناني.


 تاريخ طويل ممتد
 لم تكن الجمعية اليونانية نقطة البداية لتكوين الجالية اليونانية في مصر الحديثة، فمنذ بدايات القرن التاسع عشر زادت أعداد اليونانيين في مصر؛ لكن الوجود اليوناني في مصر أقدم من ذلك بكثير؛ فربما كانت العلاقة بين مصر واليونان، وبين شعبي البلدين أقدم علاقة بين بلدين وشعبين على وجه الأرض، إنها علاقة تمتد إلى الوراء لبضع آلاف من السنين، علاقة وإن شابها بعض لحظات التوتر والصدام إلا أنها تعد من أكثر العلاقات إيجابية ومن أطولها تاريخيًا، لم تشوبها إلا فترات توتر قصيرة في تاريخ مشترك طويل، ربما كانت أبرز النماذج لهذا التوتر في عصر البطالمة الأوائل الذي شهد تميزًا ضد المصريين، وعشرينيات القرن التاسع عشر عند مشاركة جيش محمد علي في حرب المورة لقمع ثورة الشعب اليوناني من أجل التخلص من الحكم العثماني.
 إننا أمام علاقة تاريخية ممتدة منذ عصر الحضارة المصرية القديمة؛ فعلاقة اليونانيين بمصر ووجودهم فيها يرجع تاريخيًا إلى عصور قديمة في تاريخ الشعب اليوناني، تسبق بكثير غزوات الإسكندر الأكبر للشرق القديم، إنها ترجع إلى تلك العصور التي كانت أونو أو عين شمس أو هليوبوليس كما أسمها الإغريق القدماء مدينة الفكر والعلم في مصر والعالم القديم كله، وإليها يتجه الباحثون عن الحقيقة من كل صوب، فكان الطلاب يأتون إلى معابدها من اليونان ليدرسوا على كهنتها، وتتجه كثير من الدراسات الحديثة اليوم إلى البحث عن الجذور المصرية القديمة للفلسفة والفكر اليوناني.
 ومع تطور الحضارة في اليونان جاء تجار وبحارة يونانيون إلى مصر، وفي العصور المتأخرة للحضارة المصرية جاء اليونانيون مقاتلون في صفوف الجيش المصري أثناء مواجهاته للغزاة الآشوريين والفرس القادمين من الشرق، فكانوا ساعدًا للمصريين في تحرير بلدهم لأكثر من مرة، واحتل اليونانيون مكانة مهمة في مصر في عصر الملك المحرر بسماتيك الأول.
 ومن اللافت للنظر أن أشهر المقولات التي ترتبط بمصر عبر التاريخ أطلقها مؤرخ يوناني فمقولة "مصر هبة النيل" تنسب إلى هيرودوت اليوناني أبو التاريخ، وبغض النظر عن صحة المقولة، وعن صحة فهمنا لما قصده هيرودوت أصلًا إلا أنها أصبحت لصيقة بمصر.


الإسكندر الأكبر
 إنه تاريخ مشترك سبق بكثير عصر البطالمة خلفاء الإسكندر الذين حكموا مصر قرابة ثلاثة قرون من الإسكندرية، مدينة الإسكندر الأكبر التي لم يرها مكتملة، والتي وضع حجر أساسها بعد غزوه لمصر، مصر التي تلقى فيها النبوءة في معبد الوحي بسيوة بأنه ابن آمون، النبوءة التي جعلته يصور نفسه بقرني الكبش الرمز الحيواني لآمون، ومن هنا سمي "الإسكندر ذو القرنين"، وقد حكم البطالمة مصر بعد الإسكندر، وكانوا بالطبع حكامًا أجانب بالنسبة للمصريين، قام الشعب بعدد من الثورات ضدهم، سعيًا لاستعادة حكم البلاد لأبنائها، وكانت موقعة رفح سنة 217 ق.م. والتي شارك فيه لأول مرة فيلق مصري في الجيش البطلمي نقطة تحول إيجابية في العلاقة بين المصريين وحكامهم البطالمة، وحتى يثبّت البطالمة حكمهم تمصروا في كثير من مظاهر سلوكهم وخلطوا عقائدهم الدينية بعقائد المصريين، وفي المقابل اختار المصريون الحرف اليوناني ليكتبوا به لغتهم في مرحلة من أهم مراحل تطورها أعني المرحلة القبطية، وعندما جاء الرومان لاحتلال مصر سنة 30 قبل الميلاد، كان البطالمة بمعنى ما قد أصبحوا الأسرة المصرية الحادية والثلاثين.



كليوباترا السابعة
 ومن الجدير بالذكر أن الملاحظ من قراءة التاريخ المصري وجود فارق دومًا بين احتلال أجنبي يحكم مصر من خارجها مثلما كان الحال في عصور الرومان والبيزنطيين والعرب في عصر الولاة والعثمانيين، وحاكم أجنبي يحكم مصر من داخلها مثلما كان حال البطالمة والفاطميين والمماليك وأسرة محمد علي.
كان لدي قناعة دائمة بأن مصير الشعبين والبلدين يسير في مسار مشترك صنعته الجغرافيا ورسمه التاريخ؛ فمثلما كانت مصر البوابة الشمالية الشرقية لقارتها أفريقيا ونقطة الاحتكاك بينها وبين العالم الآسيوي، كانت اليونان البوابة الجنوبية الشرقية لقارتها أوروبا ونقطة الاحتكاك بينها وبين العالم الآسيوي أيضًا، ومن هذا العالم الآسيوي كانت معظم الأخطار الوافدة التي تصدى لها البلدان.
 كلاهما كان مواجهًا للعالم خارج قارته، اتجهت مصر للشرق والشمال واتجهت اليونان للشرق والجنوب، وربط بينهما عالم البحر المتوسط، الذي تحول بفضل الحضارتين ومعهما الحضارة الفينيقية إلى عامل وصل بين شعوبه لا حاجز فصل بينها.
 والغريب أن الشعبين المصري واليوناني جمع بينهما دومًا أعداء مشتركين، الفرس الإخمينيون والرومان في العصور القديمة والأتراك العثمانيين الذين أدوا إلى تأخر الشعبين لثلاثة قرون مع نهاية العصور الوسطى ومطلع العصر الحديث.
 هذا ولم ينقطع الوجود اليوناني في مصر عبر تاريخها الطويل فقد استمرت مكتبة الإسكندرية منارة للفكر في العالم القديم وقبلة للعلماء من اليونان بعد الاحتلال الروماني، كما ظل الوجود اليوناني قائمًا وكان لكنائس طائفة الروم الأرثوذوكس وأديرتهم وجودها المستمر عبر العصور، وفي العصر المملوكي وصل إلى عرش مصر سلطانًا مملوكيًا من أصل يوناني هو الظاهر خشقدم الرومي، وحتى محمد علي باشا الذي يلقب بمؤسس مصر الحديثة جاء من مدينة قولة في شرق اليونان، وفي عصره وعصور خلفائه تزايدت أعداد الجالية اليونانية في مصر بشكل واضح.
 رؤى مصرية من عصر النهضة
 ومن اللافت للنظر أن رجال عصر النهضة الوطنية التي أعقبت ثورة 1919 قد انتبهوا للعلاقة الخاصة بين الحضارتين، فقد كان المشروع الأخير للمثال مختار قبل رحيله عام 1934 تمثالًا ضخمًا للإسكندر الأكبر رمزًا للتواصل بين الشرق والغرب بمدخل مدينة الإسكندرية، لم يبق منه إلا تخطيطاته الأولية؛ يقول الناقد بدر الدين أبو غازي في كتابه مختار حياته وفنه الصادر عام 1949 عن مختار وهذا المشروع الحلم: "ويعاوده حلم آخر يدل على تطور فكره وفنه... فقد خلد في الميدان العام ملحمة الكفاح القومي، واليوم يريد أن يقيم شيئًا آخر أبعد وأعمق من هذا الكفاح يريد أن يقيم على شاطئ البحر الأبيض رمزًا تلتقي فيه حضارة الشعوب التي تقوم على ضفافه؛ وليس غير الإسكندر الأكبر رمزًا لهذه الحضارة... الإسكندر أروع صور التاريخ البشري هذا الذي جاب تلك الشعوب وغزاها، وقدم إلى مصر حاملًا شعلة الإغريق وهيأ للقاء أروع حضارتين قامتا على شاطئ هذا البحر؛ حضارة مصر وحضارة يونان."
مختار
 ويستطرد قائلًا: "إن "مختار" يتحفز لهذه الفكرة الجديدة عن إيمان بحضارة هذا البحر العظيم "بحرنا" كما كان يتحدث عنه في زهو مع الأصدقاء وهو يرى وجوب اجتماع شعوبه حول مشاعل واحدة من الفن والأدب، مشاعل تستمد زيتها من هاتين الحضارتين، والآن يرسم خطط مشروعه ويفكر في إقامة تمثاله بمدخل الإسكندرية محاطًا بآلهة الإغريق وحوله تقام المدرجات والملاعب والقاعات، وهنا تلتقي في كل عام شعوب هذا البحر، وتقام الاحتفالات وتلقى المحاضرات، وتتهيأ مصر أم الحضارة لدور ثقافي جديد."


 ربما يكون هذا نموذج تمثال الإسكندر!
بينما يتساءل طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر الصادر عام 1938 عن الهوية الثقافية للعقل المصري، وهل هو شرقي أم غربي؟
 وفي مناقشة طويلة للموضوع يقول:
 "من إضاعة الوقت وإنفاق الجهد في غير طائل أن نُفصّل ما كان من العلاقات بين مصر وبين الحضارة اليونانية في عصورها الاولى، ثم ما كان من العلاقات بين مصر والحضارة اليونانية في مرحلة ازدهائها وازدهارها منذ القرن السادس قبل المسيح الى ايّام الاسكندر؛ والتلاميذ يتعلمون في المدارس أن مصر عرفت اليونان منذ عهد بعيد جدًا، وأن المستعمرات اليونانية قد أقرها الفراعنة في مصر قبل الألف الأول قبل المسيح؛ والتلاميذ يتعلمون في المدارس أيضًا أن أمة شرقية بعيدة عن مصر بعض الشيء قد أغارت عليها وأزالت سلطانها في أخر القرن السادس قبل المسيح، وهي الأمة الفارسية؛ فلم تذعن مصر لهذا السلطان الشرقي الأجنبي إلا كارهةً، وظلت تقاومه أشد مقاومة وأعنفها مستعينة على ذلك بمتطوعة اليونان حينًا وبمحالفة المدن اليونانية حينًا آخر حتى كان عصر الاسكندر."
طه حسين
 وينتهي إلى أن "معنى هذا كله واضح جدًا وهو أن العقل المصري لم يتصل بعقل الشرق الأقصى اتصالًا ذا خطر، ولم يعش عيشة سلم وتعاون مع العقل الفارسي وإنما عاش معه عيشة حرب وخصام؛ ومعنى ذلك أيضًا أن العقل المصري قد اتصل من جهة بأقطار الشرق القريب اتصالًا منظمًا مؤثرًا في حياته متأثرًا بها، واتصل من جهة أخرى بالعقل اليوناني منذ عصوره الأولى اتصال تعاون وتوافق وتبادل مستمر منظم للمنافع في الفن والسياسة والاقتصاد؛ أن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط."
 كما أصر طه حسين عندما كان عميدًا لكلية الآداب بالجامعة المصرية على أن يكون من بين أقسام الكلية قسمًا للدراسات اليونانية واللاتينية، كذلك اقترح في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر أن تدرّس اللغتين اليونانية واللاتينية في المدارس الثانوية.
 اليونانيون في مصر الحديثة والحركة العمالية المصرية
 لقد أصبحت الجالية اليونانية في العصر الحديث جزءًا منسجمًا في نسيج المجتمع المصري، فلم يكن اليونانيون في مصر كيانًا واحدًا يشكل قسمًا من الطبقات العليا في المجتمع، بل كانوا متداخلين مع أغلب طبقات المجتمع، خاصة الطبقات حديثة التكوين، فكان منهم رأسماليين كبار يعملون في الصناعات الجديدة ورجال مال وتجار كبار، وموظفون من مختلف الدرجات؛ كما كان منهم تجارًا كبارًا ومتوسطين وصغار، وبينهم حرفيين وعمال صناعيين وعاملين في مجال الخدمات، كذلك تنوعت مستوياتهم الثقافية واتجاهاتهم السياسية؛ وانتشر أبناء الجالية اليونانية انتشارًا واسعًا في المدن الكبرى والمدن الصغرى، في الريف والحضر، في الدلتا والصعيد.
 وقد لعب العمال والمثقفون اليونانيون في مصر أدورًا مهمة في تجديد الفكر السياسي في البلاد، وفي نشر الفكر الاشتراكي باتجاهاته المختلفة في مصر؛ فقد أسهمت الصالونات الثقافية والمراكز الأدبية والمكتبات الشعبية (دار الكتب الشعبية) التي أسسها اليونانيون المصريون في التعريف بالفكر الاشتراكي في أوساط المثقفين المصريين، وركزت هذه التجمعات على تقديم الأدب الروسي والعريف بالثورة الروسية بمراحلها المختلفة، وتنظيم حلقات قراءة كتابات كارل ماركس وفردريك إنجلز.
 كذلك اهتم المثقفون اليونانيون في مصر، خاصة ذوي الميول اليسارية منهم بقضايا الطبقات الشعبية؛ ومن مظاهر هذا الاهتمام التي انعكست على الإبداع الأدبي رواية "المشتغلون بالقطن" لجورجيوس فيليبوس؛ ويشير المناضل العمالي عطية الصيرفي الذي اهتم بقضايا عمال التراحيل والقضايا الفلاحية عمومًا في كتابه تاريخ "عمال الزراعة والتراحيل في مصر والعالم" إلى ندرة الكتابات عن تاريخ عمال الزراعة وعن الريف المصري عمومًا، ويضع رواية جورجيوس فيليبوس ضمن الأعمال الأساسية التي تطرقت لهذا الموضوع إلى جانب كتابات النديم عن السخرة، وكتاب الأب عيروط "الفلاحون".
 كذلك ظهرت الأفكار الاشتراكية بين اليونانيين في مصر؛ ويرجع تاريخ انتشار الفكر الاشتراكي بين العمال الأجانب في مصر إلى تسعينيات القرن التاسع عشر؛ وربما كانت البداية بالأفكار الأناركية، حيث تتحدث الصحف المصرية عن واقعة ضبط أحد اليونانيين في 18 مارس 1894 وهو يوزع "منشورا فوضويا " يحض فيه العمال على الاحتفال بتذكار نهضة الكومون (كومون باريس) عام 1871 ؛ في هذه الفترة المبكرة كانت هناك بعض كتابات قليلة عن الأناركية في مجلات مثل الهلال ثم بعد ذلك في المقتطف والموسوعات في إطار عرض الأفكار السياسية في أوروبا؛ وكانت الترجمة الشائعة في هذا الوقت لكلمة أناركية أو لا سلطوية.
 ووفقًا لما ذكره الدكتور رفعت السعيد في تأريخه للحركة الشيوعية المصرية فإن المنظمة الشيوعية اليونانية كانت أول منظمة مارست النشاط الشيوعي في مصر؛ وقد شارك اليونانيون في مصر في تأسيس التنظيمات الاشتراكية والشيوعية، لكن بعض منظماتهم احتفظت باستقلالها وظلت تمارس نشاطها حتى 1961.
 وتشير الأخبار الصحفية التي نشرت عن تأسيس الحزب الاشتراكي المصري في مطلع العشرينيات إلى مساهمة بعض الاشتراكيين اليونانيين في مناقشات تأسيس الحزب دون الانضمام له.
 وعندما وقع الانقسام في الحزب وتشكل الحزب الشيوعي المصري الذي لعب دورًا مهمًا في قيادة الإضرابات العمالية في عامي 1923 و1924، ووجهت الحكومات المتوالية ضربات بوليسية له في عامي 1924 و1925 ظهر اليونانيين بين أعضاء الحزب، وبين المعتقلين منهم، ولم تمنع الامتيازات التي يتمتع بها الأجانب من القبض عليهم ومحاكمتهم وإصدار أحكام بحق بعضهم.
 إذًا فقد كانت هناك مشاركة يونانية في تأسيس الحركة الشيوعية الأولى في مصر، مثلما كانت لهم مساهمة في مشاورات تأسيس الحركة الاشتراكية الديمقراطية، ومحاولة لنشر الأفكار الأناركية في مصر.
 ومع النهوض الثاني للحركة الشيوعية في مصر في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن الماضي ظهر دور الشيوعيين اليونانيين في مصر في تأسيس هذه الحركة من خلال دورهم في التنظيمات الأولى كاتحاد أنصار السلام، والاتحاد الديمقراطي، والتي كان جزءًا كبيرًا من جهدها موجهًا لمحاربة الأفكار الفاشية والنازية، كما شاركوا في تأسيس التنظيمات السرية للحركة الشيوعية وفي مقدمتها الحركة المصرية للتحرر الوطني (ح. م.).
 هناك كذلك دور الطبقة العاملة اليونانية في تطوير النضال العمالي في مصر؛ فقد شهد عام 1894 إضراب العمال اليونانيين في شركة قناة السويس الذي يعد واحدًا من أول الإضرابات العمالية في مصر، وقد كانت خبرة الإضرابات العمالية من الخبرات النضالية المهمة التي ساهم اليونانيون في نقلها إلى زملائهم من العمال المصريين؛ كما تم إنشاء نقابة عمال الأحذية التي تعد من أول النقابات العمالية في مصر بجهود العمال اليونانيين.
 معًا في النضال من أجل استقلال الإرادة الوطنية
  اختتم هذه المداخلة بالإشارة الموجزة إلى ثلاثة مواقف للجالية اليونانية في لحظات حاسمة من تاريخ مصر تجسد تلاحم أبنائها مع قضايا مصر التي أصبحت وطنًا ثانيًا لهم، ووقفوهم في خندق واحد مع أبناء الشعب المصري في طموحه نحو تحقيق استقلاله وامتلاك مقدراته.
 الموقف الأول؛ المشاركات في النضال الوطني في مصر في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر؛ فقد شارك يونانيون في تأسيس جمعية مصر الفتاة التي تعتبر أحد أقدم تنظيمين حزبيين في مصر، كما وقف بعضهم إلى جانب الثورة العرابية، وتطوع بعضهم إلى جانب قوات عرابي أثناء حربه مع الإنجليز، وفي أحد خطابات أحمد عرابي عن أحداث الإسكندرية في يونيو 1882 التي تسبب فيها قتل رجل ملطي لحمّار مصري، والتي كانت حجة لبدء عملية احتلال مصر، يشير عرابي إلى أن جماعة من اليونانيين حاولوا الدفاع عن الرجل المصري فتكاثر عليهم المالطية وبعض الأوروبيين وضربت عليهم النيران من الشبابيك، وعظم الخطب.
 والموقف الثاني؛ موقف اليونانيين في ثورة 1919، وأرجع هنا إلى رواية أوردها المؤرخ المصري الرائد محمد صبري الشهير بالسوربوني، نسبة إلى جامعة السوربون بباريس التي حصل منها على درجة الدكتورة، وكان من أوائل المصريين الذين حصلوا منها على هذه الدرجة في التاريخ الحديث؛ لقد ألف السوربوني كتابًا توثيقيًا من جزئين لأحداث الثورة كتبه باللغة الفرنسية كنوع من الدعاية في أوروبا للقضية المصرية، وصدر جزؤه الأول عام 1920 في باريس.
 يشير السوربوني في كتابه إلى مشاركة بعض الجاليات الأجنبية المقيمة في مصر في الثورة، تضامنًا مع مطالب الشعب المصري، خاصة اليونانيين الذين سقط منهم شهداء في الثورة؛ ويقول: "ولكي يبدي اليونانيون تعاطفهم مع مصر، اجتمعوا بميدان الأوبرا وساروا بعدئذ في شوارع القاهرة يهتفون لمصر والمصريين؛ وأكثر من ذلك، فعندما استقبل القنصل اليوناني وفدًا من الأعيان المصريين الذين كانوا يودون الإعراب له عن تعازيهم في موت رعايا يونانيين اشتركوا في المظاهرات، قام بإلقاء خطبة استمرت ساعةً ونصفًا، حيث قال: "إننا نقدم هؤلاء الموتى تضحية على مذبح حريتكم".

 كما تشير الوثائق البريطانية إلى انضمام الموظفين اليونانيين إلى زملائهم المصريين في إضراباتهم، كما شاركت صحفهم في نشر أخبار الثورة والترويج لها والتي وصفتها التقارير البريطانية بأنها "تفرح بنشر أخبار حقيرة ومقتطفات من كتابات المتطرفين المصريين."
 أما الموقف الثالث فموقفهم في عام 1956؛ بدءً بموقف المرشدين اليونانيين في الأزمة التي أعقبت إعلان الرئيس جمال عبد الناصر قرار تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956؛ فقد دعت الشركة العالمية لقناة السويس المرشدين الأجانب إلى الانسحاب في سبتمبر 1956 واصل المرشدين اليونانيين عملهم إلى جانب زملائهم المصريين لتستمر القناة في عملها.
 ثم انضمام اليونانيون والقبارصة في مصر رجالًا ونساءً إلى صفوف المقاومة الشعبية عندما بدأ العدوان الثلاثي في 29 أكتوبر 1956، وسقط شهداء يونانيين في أرض المعركة في أعمال المقاومة الشعبية في بورسعيد.
 وبعد...
 كان إلغاء الامتيازات الأجنبية باتفاقية مونترو سنة 1937 ثم اكتمال تنفيذها سنة 1949؛ وبعدها حركة التمصير والتأميم من 1956 إلى 1962 دافعًا للخروج الكبير لليونانيين من مصر؛ فانخفضت الجالية من عشرات الآلاف إلى بضعة آلاف قليلة.
 وإذا كان كثير من اليونانيين قد غادروا مصر في الخمسينيات مع سيطرة النظام الشمولي على البلاد، تركوها رغم موقفهم المساند لنا في تأميم قناة السويس، فإن التجربة المشتركة تدعونا إلى التأمل في العودة للتقاليد المصرية العريقة في قبول الآخر والتعايش بين الشعوب والأجناس والأديان المختلفة، وفي أهمية إعادة بناء الجسر المصري اليوناني جسرًا بين جنوب المتوسط وشماله؛ إن أمامنا آفاق لمستقبل من التعاون المبني على تاريخ طويل ممتد ومصالح مشتركة تسمح بتعميق العلاقة بين شعبينا وتحولها إلى تحالف استراتيجي بين البلدين، ومعنا شريك ثالث قبرص.
***

مداخلتي في ندوة "اليونانيون في مصر خلال القرن العشرين" 16 أكتوبر 2019
مراجع:
·         إبراهيم نصحي: دراسات في تاريخ مصر في عهد البطالمة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1959.
·         إبراهيم نصحي: تاريخ مصر في عصر البطالمة، 4 أجزاء، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1998.
·         بدر الدين أبو غازي: مختار حياته وفنه، مطبعة مصر، القاهرة، 1949.
·         رفعت السعيد: تاريخ الحركة الشيوعية المصرية من 1900 إلى 1940، كتب عربية، القاهرة، 1986.
·         سيد عشماوي: اليونانيون في مصر 1805 – 1956، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، 1997.
·         طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر، مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر، القاهرة، 1938.
·         عبد المنعم الجميعي: الثورة العرابية في ضوء الوثائق المصرية في: مصر للمصريين – مائة عام على الثورة العرابية، مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام، القاهرة، 1981.
·         عبد الوهاب بكر: أضواء على النشاط الشيوعي في مصر 1921 – 1950، دار المعارف، القاهرة، 1983.
·         عطية الصيرفي: تاريخ عمال الزراعة والتراحيل في مصر والعالم من عهد السخرة حتى سنة 1969، مكتبة جزيرة الورد، المنصورة، 2018.
·         محمد صبري: الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور التقطت أثناء الثورة، ترجمة: مجدي عبد الحافظ وعلي كورخان، ج. 1، ط. 2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2019.
·         هيرودوت: هيرودوت يتحدث عن مصر، ترجمة: محمد صقر خفاجة، دار القلم، القاهرة، 1966.


الأربعاء، 9 أكتوبر 2019

حجج الأمراء والسلاطين...


حجج الأمراء والسلاطين...

 تراث إنساني عالمي في دار الوثائق بالقاهرة
عماد أبو غازي
 دار الكتب والوثائق القومية في القاهرة واحدة من أعرق المؤسسات الثقافية في مصر؛ وهي تجمع في كيانها اثنتين من مؤسسات صياغة الوعي والمعرفة في المجتمعات الحديثة؛ المكتبة الوطنية والأرشيف الوطني، وقد تأسست المكتبة الوطنية في مصر تحت اسم الكتبخانة الخديوية على يد علي باشا مبارك في عهد الخديوي إسماعيل، وتغير مسماها أكثر من مرة إلى أن أصبحت دار الكتب المصرية التي تشكل مع شقيقتها دار الوثائق القومية الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية التي تتبع وزارة الثقافة، وإذا كان تأسيس دار الكتب يعود إلى سبعينيات القرن التاسع عشر فإن دار الوثائق القومية لم تتأسس إلا في بداية العصر الجمهوري، وتحديدًا عام 1954؛ عندها أصبح لدى مصر لأول مرة أرشيف قومي؛ لكن لدار الوثائق جذور أقدم تعود إلى القرن التاسع عشر عندما أنشأ محمد علي باشا في إطار مشروعه غير المكتمل للتحديث الدفترخانة العمومية عام 1829 التي أصبحت الآن دار المحفوظات، ثم شرع الملك فؤاد في إنشاء أرشيف عابدين التاريخي سنة 1925 بعد ثلاث سنوات من إعلان الملكية في مصر سنة 1922 وافتتح للباحثين سنة 1932.
 وتعتبر دار الوثائق القومية مستودع وثائق مصر التاريخية، حملت في البداية اسم دار الوثائق التاريخية؛ وحدد قانون إنشائها مهمتها "بجمع الوثائق  التي  تعد مادة لتاريخ مصر وما يتصل به في جميع العصور وبحفظها وتيسير دراستها وبالعمل على نشرها".
 وقد قامت دار الوثائق منذ نشأتها وفى مراحلها المختلفة بجمع الوثائق التاريخية  التي  ظلت مشتته وموزعه بين أماكن حفظ مختلفة ورغم أن الدار حتى الآن لم تتمكن من تحقيق الهدف المنشود منها بالكامل، إلا إنها جمعت قدرًا كبيرًا من وثائق تاريخ مصر عبر عصوره المختلفة؛ وإذا كان الجزء الأكبر من الوثائق  التي  تحتفظ بها الدار يرجع إلى العصر الحديث: مجموعات وثائق الدولة المصرية في القرنين 19 و20، وبعض وثائق العصر العثماني كسجلات المحاكم الشرعية ودفاتر الإدارة المالية، إلا أن الدار تضم مجموعة صغيرة عددًا لكنها مهمة من زاوية قيمتها التاريخية ترجع إلى فترة العصور الوسيطة، وتعتبر من كنوز الدار.


 حيث تحتفظ دار الكتب والوثائق القومية بمجموعة من الكنوز التراثية المهمة، التي ترتبط بتاريخنا الممتد عبر العصور، منها مجموعات المصاحف المخطوطة، ومجموعة المخطوطات العربية المصورة، وأوائل المطبوعات المصرية، وأوراق البردي العربية التي ترجع إلى العصر الإسلامي المبكر، والتي تعد من أقدم الوثائق العربية التي وصلتنا، ومجموعات المسكوكات العربية النادرة؛ ومن بين هذه الكنوز مجموعة حجج الأمراء والسلاطين؛ والتي سجلتها اليونسكو كتراث إنساني عالمي منذ عدة سنوات.
 فما قصة هذه المجموعة؟ ومما تتكون؟ وما أهميتها؟
 تتكون هذه المجموعة من قرابة 300 وثيقة من وثائق التصرفات القانونية الخاصة أطرافها من الخلفاء والسلاطين والوزراء والأمراء وبعض الأفراد من عامة الناس، وقد ظلت محفوظة في أرشيف المحكمة الشرعية أو محكمة الأحوال الشخصية والولاية على النفس بشارع نور الظلام بالسيدة زينب، وكانت معروفة هناك لعدد قليل من الباحثين، ثم نقلت المجموعة إلى دار الوثائق القومية سنة 1970؛ لتبدأ مرحلة جديدة من الاستفادة البحثية بها.


 وأقدم وثائق هذه المجموعة صورة منسوخة في العصر المملوكي لوثيقة من العصر الفاطمي، هي وثيقة بيع من أملاك بيت المال من الخليفة الفاطمى الفائز إلى وزيره الصالح طلائع بن رزيك، مؤرخة في 20 ربيع آخر سنة 554 هـ وبها وقف للصالح طلائع مؤرخ بأول جمادى الأولى من السنة نفسها، وهناك كذلك عدة وثائق من العصر الأيوبي، أهمها حجة وقف الملك العادل الأيوبي بتاريخ 613 هـ، وأحدث التصرفات القانونية فيها تعود للسنوات الأولى من الحكم العثماني لمصر؛ لكن القسم الأكبر والأهم تلك الوثائق التي وصلتنا ترجع إلى عصر المماليك، وتضم مجموعة من أوقاف السلاطين منهم: حسام الدين لاچين، وبيبرس الچاشنكير، ومحمد بن قلاوون، وفرج بن برقوق، وبرسباي، وقايتباى، والأشرف جانبلاط، وقانصوه الغوري، والأشرف طومان باي، وغيرهم من السلاطين والأمراء وزوجاتهم وعتيقاتهم وأولاد الناس، أي أبناء المماليك، وكبار رجال الدولة والمشايخ والتجار، ولا تقتصر الوثائق على حجج الوقف لكن بها تصرفات قانونية متنوعة في موضوعاتها، منها البيع بين الأفراد والبيع من أملاك بيت المال والهبة والتصادق والاستبدال من الأوقاف، كما تحوي أغلب الوثائق أكثر من تصرف قانوني، وجميع وثائق هذه المجموعة على شكل لفافات طويلة من دروج الورق الملصق ببعضه، أو قطع الرق المخيط، ويبلغ طول كل وثيقة عدة أمتار، ويصل بعضها إلى نحو 30 مترًا .
  وتتكامل مجموعة حجج السلاطين والأمراء بدار الوثائق القومية مع مجموعة أخرى معاصرة لها، هي مجموعة الأرشيف التاريخي لوزارة الأوقاف، التي يبلغ عدد وثائقها التي ترجع إلى نفس الحقبة الزمنية حوالي 600 وثيقة؛ فالموضوعات متقاربة والشخصيات ذاتها في المجموعتين، بل إن بعض الحجج في المجموعتين مترابطة، ومن هنا نستطيع أن نتعامل معهما باعتبارهما مجموعة واحدة توزعت بين مؤسستين للحفظ الأرشيفي بسبب الظروف التي انتقلت فيها هذه الوثائق من أيدي حائزيها إلى أماكن حفظها الحالية، فمجموعة دار الوثائق القومية انتقلت إلى الدار من المحكمة الشرعية، والتفسير المتصور لحيازة المحكمة لهذه الوثائق الأصلية أنها كانت مستخدمة كمستندات أثبات في بعض القضايا، أما مجموعة الأرشيف التاريخي لوزارة الأوقاف، فقد آلت إلى الوزارة من نظار الأوقاف مع انتقال الإشراف على الأوقاف من أيدي النظار إلى يد الدولة.

 وإذا كانت الوثائق العربية المكتشفة في مصر والتي ترجع إلى الفترة المبكرة للحكم العربي للبلاد والمتمثلة في أوراق البردي العربية، أو وثائق الجنيزا التي تغطي فترات تمتد لبدايات العصر الحديث توفر لنا معلومات غزيرة عن الحياة الاجتماعية والاقنصادية لطبقات مختلفة من المجتمع، وعن الأنشطة الإدارية في مصر، فإن مجموعة حجج الأمراء والسلاطين وشقيقتها مجموعة الأرشيف التاريخ لوزارة الأوقاف تقدمان صورة لحياة النخبة ونشاطها في عصر المماليك.
 وتكتسب تلك المجموعة أهميتها الأساسية بسبب ندرة المجموعات الأرشيفية التي وصلتنا من تلك الحقبة من ناحية، وتنوع موضوعاتها من ناحية أخرى؛ بما يعطي للباحثين في مجال الدراسات الوثائقية فرصة للتعرف على تطور كتابة وثائق التصرفات القانونية الخاصة في العصور الوسطى، والصيغ الفقهية المنضبطة التي ترد فيها، حيث كانت تحرر على يد كبار القضاة في ذلك العصر وتوثق بمعرفتهم؛ فضلا عن ما تحويه من نماذج لتطور الخط العربي في تلك الحقبة المهمة من تاريخنا.
 هذا بالطبع إلى جانب قيمتها كمصدر مهم وفريد لدراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي وتاريخ العمران، خاصة تطور مدينة القاهرة وما حولها، حيث تتضمن معلومات عن تخطيط المدينة وتوسعها العمراني، وأسماء شوارعها وحواريها ودروبها، وما بها من منشأت، وأسعار العقارات وتغير قيمها؛ بالإضافة إلى ما تحويه تلك المجموعة من معلومات مهمة عن الأراضي الزراعية، كمساحتها ونظام توزيع الريع فيها وأشكال حيزتها؛ كذلك تكشف بعض الأعراف السائدة حينها، مثل الاهتمام بالمساواة بين الإناث والذكور من الأبناء في أنصبتهم من ريع الأوقاف، الأمر الذي أعتبره بعض الفقهاء تحايلًا على قواعد المواريث في الشريعة، ومع ذلك استمر هذا التقليد ساريًا حتى نهاية عصر المماليك؛ كما نجد في الوثائق حالات صارخة من الفساد في قمة الدولة خصوصًا في عقودها الأخيرة، ويتجلى هذا الأمر بوضوح في وثائق بيع أملاك الدولة من الأراضي الزراعية، كوسيلة لاستيلاء السلاطين وكبار الأمراء عليها، وفي وثائق الاستبدال التي كانت وسيلة لاستيلاء أصحاب السلطة والنفوذ على الأوقاف.
 كما تعتبر بعض الوثائق مصدرًا ثريًا لدراسة الآثار، خاصة إذا كانت هذه الوثائق تحوى وصفًا للمبانى المختلفة، فهذا الوصف يقدم للدراسة الأثرية عنصرين مهمين، أولهما: الوصف التفصيلي للمباني من دور وقصور ومنشآت دينية ومدنية، ذلك الوصف الذي يجسد صورة حية لكثير من تلك المنشآت، ويمكن الباحثين والأثريين من تخيل الوضع الذي كانت عليه في عصور سابقة، بل أن بعض هذه الوثائق تساعد في ترميم مبان أثرية متهدمة، كما أن هذه الوثائق تقدم وصفا لمنشآت زالت من الوجود؛ والثاني: الكم الضخم من المصطلحات التي كان يستخدمها المشتغلين بالبناء والمعمار في العصور الوسيطة، والتي تتيح للباحثين التعرف على لغة أهل هذه الحرف ومصطلحاتهم، والمسميات المختلفة التي كانوا يطلقونها على مواد البناء وعلى الوحدات التي تتكون منها المباني المعمارية في تلك العصور، ذلك لأن التصرفات القانونية الناقلة للملكية كالبيع والهبة والوقف والاستبدال، تتطلب وصفًا تفصيليًا وتحديدًا واضحًا للعقارات التي يتم التصرف فيها، لذلك فقد نص الفقهاء على ضرورة أن يرد هذا الوصف التفصيلي في وثائق تلك التصرفات.

 ورغم حركة البناء والتشييد الكبيرة في عصر المماليك فإن معظم ما بقي من العمائر والمنشئات التي ترجع لهذا العصر منشئات دينية؛ كالمساجد والمدارس والخانقاوات، وبعض المنشئات الحربية كالقلاع والحصون، إلى جانب قليل من المنشآت التجارية كالوكالات والخانات، أما المنازل والقصور التي وصلتنا فنادره؛ فقد تبقى من عصر المماليك أطلال عدد قليل من الدور والقصور التي كان يسكنها أمراء المماليك، والتي أدخلت عليها تحويرات معمارية في عصور تالية، ولعل من أبرزها قصر بشتاك وقصر قصون ثم قصر الأمير طاز الذي تم إنقاذ بقاياه من الانهيار وأعيد ترميمه في السنوات القليلة الماضية في إطار مشروع القاهرة التاريخية ليصبح من أهم النماذج الحية التي تشهد على عمارة القصور في عصر المماليك، وقد أعتمدت عملية الترميم على الوصف الوارد للقصر في وثيقة وقف صاحبه.
 ورغم ندرة الدور والقصور المملوكية فإننا نستطيع أن نقدم صورة قريبة لما كانت عليه، من خلال ما ورد من وصف مفصل لعشرات من المنازل التي اندثرت في وثائق مجموعة حجج الأمراء والسلاطين، ومجموعة الأوقاف التي تكملها.
  تدلنا الوثائق على أن قصور الأمراء تركزت في مناطق محددة من المدينة، معظمها كانت قريبة من القلعة، مركز الحكم ومقر دار السلطنة في مصر منذ شيدها صلاح الدين الأيوبي إلى الجنوب الشرقي من مدينة القاهرة، وشيد أسوارًا جديدة ضمت داخلها عواصم مصر المختلفة منذ بداية العصر الإسلامي: الفسطاط والعسكر والقطائع والقاهرة، الأمر الذي شجع الناس على تعمير مناطق المزارع والمتنزهات الممتدة بين العواصم الأربع، وكانت أحياء سكنى الأرستقراطية المملوكية وكبار المشايخ والتجار تنتشر في المنطقة الممتدة ما بين الأسوار الجنوبية للقاهرة الفاطمية وقلعة الجبل، وهي المناطق المعروفة اليوم بسوق السلاح والدرب الأحمر والحلمية، كما أخذت شواطئ بركة الفيل القريبة من مدينة القطائع الطولونية تتحول تدريجيًا إلى منطقة من مناطق السكنى المفضلة لدى الأمراء.
 كما تكشف الوثائق أن قصور الأمراء في عصر المماليك قد شُيدت وفقًا لمعايير اجتماعية وثقافية وبيئية انعكست على تخطيط القصر وعمارته وأساليب البناء والمواد المستخدمة فيه، وجاءت عمارة قصر الأمير المملوكي كما تصفه الوثائق ملبية احتياجات ثلاثة في ذلك العصر:
 أولها: تحقيق المتطلبات المرتبطة بالوظائف العسكرية للأمراء؛ حيث نجد فيها الإسطبلات اللازمة لخيول الأمير وخيول مماليكه، وبعض تلك الدور كانت تحوى إسطبلًا واحدًا فقط، بينما كان البعض الآخر يحوى عددًا من الإسطبلات يصل إلى ثلاثة إسطبلات تتسع لثلاثين رأسًا من الخيل، وعادة ما تكون هذه الإسطبلات قريبة من مدخل الدار، ويجاور هذه الإسطبلات متابن لغذاء الخيل.
 كذلك تضم قصور الأمراء طباقًا لسكنى المماليك، وقد بلغت هذه الطباق في قصر الأمير قرقماس أحد الأمراء الكبار في أواخر القرن التاسع الهجري، تسع طباق تصفها الوثائق، ومن هذا الوصف نعرف أن لها "ثمانية أبواب جامعة لتسع طباق وميضاه برسم المماليك"، وإنها "كلها مبلطة مبيضة مسقفة"، وتستطرد الوثائق في ذكر تفاصيل ما في هذه الطباق من كتبيات وميضاه وبيوت للراحة ومستحم ببالوعة وبيت أزيار، وما يجاورها من بائكة ومغسل للخيل ومرمى نشاب.
 ونجد في هذه القصور طبلخاناه، وهي المكان الذي تحفظ فيه الطبول والأبواق التي تضرب للأمير في الأوقات المحددة لذلك، وكانت تقع بأعلى مدخل قصر الأمير، ولا توجد الطبلخاناه إلا في بيوت الأمراء الكبار الذين حازوا رتبة أمير أربعين فما فوقها فهم فقط الذين كان من حقهم دق الطبول عند خروجهم ودخولهم وفى مواعيد محددة من اليوم، كذلك نجد فيها الركاب خاناه، وبه تحفظ السروج واللجم وغيرها من مستلزمات الخيل، وعادة يراعى في تصميم القصر المملوكي أن تكون الركاب خاناه قريبة من الإسطبل.
 وثانيها: التوافق مع القيم الثقافية للطبقات العليا في المجتمع المملوكي، التي فرضت ضرورة فصل الرجال عن النساء، ومراعاة الحفاظ على حرمة المنزل وحجب من بداخله عن أعين المارة في الشارع؛ والوثائق عند وصفها للمنازل والقصور تؤكد على هذه السمات المعمارية، فتصف أقسامًا مخصصة للحريم في هذه المنازل ويلحق بأماكن الحريم عادة مقاعد مغلقة ومزودة بشبابيك عليها مشربيات، وهى من نوع المقاعد التي تسمى قبطية، أو مقاعد ذات سقوف خشبية خارجية مائلة محمولة على كوابيل خشبية مثبتة في الحوائط فوق المقاعد تعرف بالمظلات أو الرفارف تحجب الرؤية عمن يكون في مكان أعلى من المنزل، كذلك فان الشبابيك المطلة على الشارع الخارجي أو على الأحواش الداخلية، والتي يمكن أن يجلس فيها ضيوف المنزل كانت تغطى عادة بالمشربيات التي تسمح لمن بداخل المنزل أن يرى الخارج دون أن يراه من في الخارج، وعادة ما يكون لقاعة الحريم أبواب خاصة، وهى غالبًا من النوع الذي يعرف باسم باب السر، وهو باب صغير غير ظاهر، كذلك فان الأجزاء المخصصة للحريم في المنزل يسبقها عادة دهليز أو ممر طويل، وتسمى الأماكن المخصصة للنساء بأسماء عديدة في الوثائق مثل قاعة الحريم والقيطون والحرمية.
 كذلك نلحظ عند وصف المنازل أن مدخل البيت محجوب عن المارة بالشارع وذلك من خلال أسلوب معماري يعتمد على إتباع الباب الخارجي للمنزل بدهليز أو دركاه أو سلم أو انحنائة تكسر الرؤية، وعادة ما نجد في معظم هذه المنازل مكانًا مخصصًا لجلوس الحارس أو البواب خلف المدخل مباشرة.
 وثالثها: مراعاة ظروف البيئة والمناخ، فقد اعتمد المعماري في ذلك العصر على مواد البناء المتوفرة في البيئة المحيطة به، كما وضع في اعتباره أحوال المناخ المتمثلة في قلة سقوط الأمطار في الشتاء وارتفاع درجات الحرارة في الصيف؛ فقد سمحت قلة سقوط الأمطار بوجود أجزاء مكشوفة في المنازل والقصور: كالأحواش، والتي تسمى في بعض الأحيان أحواش سماوية إشارة إلى أنها غير مسقفة، أو رحبات كشف كما نجد كذلك الدهاليز المستطيلة التي تصفها الوثائق بأن بعضها معقود بالحجر وبعضها سماوي.
 أما حرارة الجو فقد تغلب عليها المعماريون بنفس الأسلوب الذي استخدمه المعماري المصري منذ عصر الحضارة المصرية القديمة في بناء المنازل، وهو الإكثار من المقاعد والملاقف المواجهة للجهة البحرية عند تصميم المنزل وقد وصف الرحالة الذين زاروا مصر في العصور الوسيطة بإعجاب هذا الأسلوب في تصميم المنزل القاهري والذي أتاح التغلب على حرارة الصيف.
 والمقاعد البحرية قاعات ذات واجهات بحرية مفتوحة لاستقبال الهواء الملطف، أما الملقف فوسيلة لتبريد هواء الغرف الداخلية ببناء فتحات علوية للتهوية مواجهة للشمال لتستقبل نسيم الهواء، كذلك لجأ المعماريون إلى زيادة سمك الحوائط الخارجية للمساعدة في عدم تسرب درجة حرارة الجو الخارجي إلى داخل المنزل.
 ومن الوسائل التي استخدمت كذلك لتلطيف الجو داخل المنزل في العصر المملوكي الحدائق الداخلية الصغيرة والفساقي الموجودة داخل القاعات، وقد كانت هاتان الوسيلتان في نفس الوقت من أساليب تجميل المنازل، وتصف وثيقة وقف طومان باي واحدة من هذه الحدائق الصغيرة بأنها "جنينة لطيفة متخللة الأرض بالأنشاب يجاور الجنينة المذكورة منظره لطيفة مفروش أرضها بالبلاط التقشوم بها شبابيك مطلة على الجنينة المذكورة وعلى بركة الأفيلة "، كما تصف الوثيقة واحدة من تلك الفساقى والكيفية التي كان يصل بها الماء إليها من خلال بيت للمزاريب والأقصاب الرصاص، فتقول الوثيقة: "والبابان الباقيان بصدر الإيوان أحدهما خرستان بثلاثة رفوف والثاني بيت المزاريب الأقصاب الرصاص المتوصل منها الماء إلى الصحن والسلسال والفسقية".
 هذا وقد استخدم المعماري المصري في ذلك العصر أساليب فنية متعددة ومتنوعة في التزيين في عمارة القصر الداخلية والخارجية تتوافق مع الذوق الجمالي السائد في ذلك العصر، الأمر الذي تستفيض الوثائق في وصفه تفصيلًا.
 لقد كانت منازل الأمراء ـ أو قصورهم ـ في عصر المماليك تتصف بالثراء، وهو ما تؤكده بقايا هذه القصور من ناحية وأوصافها الدقيقة التي وردت في حجج الوقف ووثائق البيع والاستبدال من ناحية أخرى؛ فمن الملحقات التي ورد ذكرها في الوثائق: الطشتخاناه حيث تحفظ أدوات الغسيل المختلفة من طشوت وأباريق وطاسات، وكل ما يتعلق بالحمامات من سخانات ووقود ومباخر وبخور وفوط ومناشف، كما كانت تحفظ بها الثياب التي تحتاج إلى الغسيل؛ والفراش خاناه، وهى قريبة من الأماكن التي تستخدم للجلوس واستقبال الزائرين، حيث تحفظ فيها البسط والقناديل والأدوات التي تستخدم في قاعات الجلوس وتلك التي تستخدم عند مد الأسمطة؛ ثم هناك الشراب خانه، وهى مكان حفظ أدوات الشراب النفيسة والأشربة والحلوى والسكر والفواكه والأدوية والعقاقير الطبية ومن الوصف الوارد للشراب خاناه في الوثائق يتضح كيف روعي في تصميمها تحقيق الغرض منها فقد ألحقت بها بيت للازيار وبالوعة ورفوف ومخزن مغلق بباب،  كما كانت هذه الدور والقصور تحوى أعدادًا متفاوتة من المخازن التي تحفظ فيها المتعلقات المختلفة بأهل البيت.

 من التفاصيل التاريخية التي تكشفها لنا بعض وثائق المجموعة أيضًا؛ نظام العمل في بيمارستان قلاوون، فقد شيد المنصور قلاوون بيمارستانه في منطقة بين القصرين بالقاهرة، ووقف قلاوون الأوقاف الكثيرة للإنفاق على هذا البيمارستان وعلى مصالحه، وسجل ذلك كله في وثيقة وقفه المؤرخة بالثاني عشر من صفر سنة 685 هجرية الموافق للتاسع من أبريل سنة 1286 ميلادية.
 وتقول الوثيقة المحفوظة بدار الوثائق القومية، والتي قام بدراستها الدكتور محمد محمد أمين أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة القاهرة:
 "هذا البيمارستان هو الذي وقفه مولانا السلطان المنصور خلد الله ملكه، بيمارستانا لمداواة المرضى الرجال والنساء من الأغنياء الثريين والفقراء المحتاجين بالقاهرة، ومصر وضواحيها من المقيمين بهما والواردين إليهما من البلاد والأعمال على اختلاف أجناسهم وأوصافهم من أمراض الأجسام قلت أو كثرت، اتفقت أو اختلفت، وأمراض الحواس خفيت أو ظهرت، واختلال العقول التي حفظها أعظم المقاصد والأغراض وأول ما يجب الإقبال عليه دون الانحراف عنه والإعراض، وغير ذلك مما تدعو حاجة الإنسان إلى صلاحه وإصلاحه بالأدوية والعقاقير المتعارفة عند أهل صناعة الطب والاشتغال فيه بعلم الطب والاشتغال به، يدخلونه جموعا ووحدانا، وشيوخا وشبانا، وبلغا وصبيانا، وهرما وولدانا، يقيم به المرضى الفقراء من الرجال والنساء لمداواتهم إلى حين بروئهم وشفائهم، ويصرف ما هو معد فيه للمداواة، ويفرق للبعيد والقريب، والأهلي والغريب، والقوى والضعيف، والدنئ والشريف، والعلي والحقير، والمأمور والأمير، والأعمى والبصير، والمفضول والمفاضل، والمشهور والخامل، والرفيع والوضيع، والمترف والصعلوك، والمليك والمملوك، من غير اشتراط بعوض من الأعواض ولا تعويض، بإنكار على ذلك ولا اعتراض".
 ويعتبر بيمارستان قلاوون واحدًا من أهم المؤسسات العلاجية في عالم العصور الوسطى، ليس في مصر فقط بل على مستوى العالم، وكان هذا البيمارستان مكانا لعلاج المرضى فضلًا عن أنه مؤسسة تعليمية تخرجت فيها أجيال متوالية من الأطباء في عصر المماليك.

 وقد اعتبر الرحالة ابن بطوطة هذا البيمارستان من أعظم منشآت عصره التي يعجز الواصف عن ذكر محاسنها، وذكر أن "فيه من المرافق والأدوية ما لا يحصر؛  فماذا تقول وثيقة وقف السلطان قلاوون على بيمارستانه عن الخدمات التي كان يقدمها؟
"ويصرف الناظر من ريع هذا الوقف ثمن ما تدعوا حاجة المرضى إليه من سرر حديد أو خشب على ما يراه مصلحة، ولحف محشوة قطنًا، وطراريح محشوة بالقطن أيضًا، وملاحف قطن، ومخاد طرح أو أدم على ما يراه ويؤدى إليه اجتهاده، فيجعل لكل مريض من الفرش والسرر على حسب حاله وما يقتضيه مرضه، عاملًا في حق كل منهم بتقوى الله وطاعته..... ويصرف الناظر في هذا الوقف ثمن سكر يصنعه أشربه مختلفة الأنواع ومعاجين، وثمن ما يحتاج إليه من أصناف الأدوية والعقاقير والمعاجين والمراهم والسفوقات والترياقات والأغراض وغير ذلك، ويصنع كل صنف في وقته وأوانه ويدخره تحت يده في أوعية معدة له، فإذا فرغ استعمل مثله من ريع هذا الوقف، ولا يصرف لأحد شيئًا إلا بقدر حاجته إليه ولا يزيد عليها، وذلك بحسب الزمان وما تدعوا الحاجة إليه بحسب الفصول وأوقات الاستعمال، ويقدم في ذلك الأحوج فالأحوج من المرضى"...
  نموذج آخر تقدمه الوثائق لمعلومات تفصيلية عن نظام التعليم تكشف عنه وثيقة وقف الأمير صرغتمش أحد أمراء دولة المماليك البحرية الكبار على مدرسته؛ المختصة بتدريس المذهب الحنفي والحديث النبوي، وتقع هذه المدرسة أسفل الجامع الطولوني بشارع الصليبة بمنطقة قلعة الكبش وقد شيدت في عام 757 هجرية، وتضم مكانًا للصلاة، وأماكن للتدريس وبيوتًا للسكن يقيم فيها المدرسون والمعيدون والطلاب، بالإضافة إلى مدفن للأمير صرغتمش وأفراد أسرته.

 وقد ترك الأمير صرغتمش وثيقة وقف على مدرسته قام بدراستها ونشرها عالم الوثائق العربية الدكتور عبد اللطيف إبراهيم منذ خمسين عامًا، وقد حوت تلك الوثيقة على وصف معماري دقيق للمدرسة؛  كما أنها تضمنت كذلك تفاصيل مهمة عن نظام التعليم فيها، فقد حدد الأمير في الوثيقة، اختصاصات ناظر الوقف فيما يتعلق بتنظيم العملية التعليمية فقال:
" الناظر في هذا الوقف يرتب شخصا من الفقهاء الحنفية، تكون فيه أهلية الاشتغال بمذهبه، ويكون أفقه الحنفية بالديار المصرية، على أنه يكون مدرسًا بالمدرسة المذكورة، ويرتب معه من الفقهاء الحنفية ثلاث معيدين، يكون في كل منهم أهلية الاشتغال بمذهبه، ويرتب الناظر معهم من الطلبة الحنفية الغرباء ستين نفسًا، على أن المدرس المذكور يجلس بالإيوان القبلي، والمعيدون والطلبة حوله يقرءون ما تيسر لهم قراءته من القرآن العظيم، ثم يقرأ المعيدون المذكورون على المدرس المذكور ثلاث دروس من الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، فكل معيد يقرأ درسا واحدا، يقرأ المعيدون المذكورون مما يعينه لهم المدرس المذكور واحدا بعد واحد، والطلبة يسمعون ذلك، ويبحث من فيه أهلية البحث من الطلبة المذكورين، ويبين المدرس للطلبة ما يشكل عليهم من ذلك، من كشف غامض، أو حل مشكل، وكل واحد من المعيدين يحضر قبل المدرس، أو يتأخر بعده، ويشغل من يحضر إليه من الطلبة في العلوم الشرعية."
ولم يترك الأمير شيئًا للمصادفة، فقد جعل وثيقة وقفه بمثابة لائحة داخلية لمدرسته، حيث تحدد الوثيقة أيام الدراسة ومواعيد الدوام اليومي، والعطلات السنوية التي تتوقف فيها المدرسة، حيث تقول الوثيقة:
" ويكون حضورهم للدرس في أربعة أيام، وهي السبت والأحد والثلاثاء والأربعاء من كل أسبوع، ووقت جلوسهم في كل يوم من الأيام المذكورة فيما بين طلوع الشمس إلى الزوال، ويلازمون الدرس في الأيام المذكورة على الدوام والاستمرار خلا شهر رجب وشهر شعبان وشهر رمضان والعشرين من شوال من كل سنة، فإنهم يبطلون حضور الدرس في هذه المدة، ثم يشرعون في حضور الدرس، ويحضرون في الحادي والعشرين من شوال إلى سلخ ذي القعدة ويبطلون الدرس من مستهل ذي الحجة إلى آخر الخامس عشر منه، ثم يحضرون للدرس في سادس عشر ذي الحجة ويبطلون يوم تاسوعاء ويوم عاشوراء من كل سنة، يجري ذلك كذلك في كل سنة، ومن انقطع منهم ثلاثة أيام من كل أسبوع بغير عذر، قطع ونزل مكانه أحد."
كذلك تحوي الوثيقة لائحة مالية تحدد أجور المدرسين والمعيدين ومكافآت الطلاب، وما يحصلون عليه نقدًا أو عينًا من ريع وقف الأمير صرغتمش.
 هذه صورة لما كان يجري في واحدة من عشرات من المؤسسات التعليمية التي كانت قائمة في القاهرة نستخلصها من خلال تلك الوثائق.  
 ومن المعلومات التي تكشف عنها الوثائق أيضًا تلك المنشأت الحربية التي كان بعض الأمراء الكبار ينفقون عليها من أموالهم؛ فنظرًا لتصاعد وتيرة هجمات القراصنة على الموانئ المصرية والشامية في عصر دولة المماليك الجراكسة، أهتم سلاطين دولة المماليك الجراكسة وأمراؤها بتحصين تلك الموانئ وبناء الأبراج والقلاع فيها، حماية لها من الغارات.
وكان السلطان الاشرف قايتباي الذي حكم مصر والشام ما بين عامي 872 و 901 هجرية هو الأكثر اهتمامًا بهذا الأمر؛ وتشهد على ذلك آثاره الباقية إلى الآن ووثائق أوقافه على المنشآت العسكرية في عصره، تلك الأوقاف التي كان بعضها من أملاكه الخاصة بينما كان البعض الآخر من أملاك الدولة العامة.


 وتبقى قلعة قايتباي بالإسكندرية إلى الآن شاهدة على عظمة فن المعمار العسكري في ذلك العصر، وعلى مدى اهتمام السلطان بحماية ثغور البلاد وموانيها، ولم يكن السلطان وحده هو الذي يهتم بتشييد القلاع والأبراج والأسوار، بل شاركه في ذلك كبار الأمراء في عصره؛ ومن هؤلاء الأمير يشبك من مهدي الدوادار الكبير، الذي كان أحد القادة العسكريين البارزين في عصره؛ ومن أهم المنشآت الحربية للأمير يشبك من مهدي قلعة صغيرة بالإسكندرية مقابلة لقلعة قايتباي؛ لكن تلك القلعة زالت بفعل الزمن ولم يبق منها إلا بضعة أحجار قليلة، دلتنا الوثائق عليها؛ ففي سنة 1954 عثر الدكتور عبد اللطيف إبراهيم على وثيقة وقف في أرشيف محكمة الأحوال الشخصية بالقاهرة ترجع إلى عصر المماليك، وعندما درسها تبين أنها تخص الأمير مهدي من يشبك الدوادار، وأكتشف من نصها أنها تتحدث عن قلعة شيدها الأمير في طرف لسان السلسلة بالإسكندرية في مواجهة قلعة قايتباي، وكان الهدف منها هو إحكام السيطرة على ميناء الإسكندرية وتوفير الحماية له، وقد نجح الدكتور عبد اللطيف إبراهيم في اكتشاف أطلال هذه القلعة وبقاياها في عام 1958 وقد قدمت وثيقة وقف الأمير يشبك من مهدي الكثير من التفاصيل عن تلك القلعة، فالوثيقة تتضمن الأوقاف التي أوقفها الأمير يشبك من مهدي على مصالح القلعة ومصارفها: "يصرف النصف من جميع ما يتحصل من خراج الوقف الصادر في تاريخه، والربع من جميع ما يتحصل من خراج الأوقاف السابق على تاريخه في مصالح البرج السعيد المبارك اللطيف الكائن بظاهر ثغر سكندرية المحروس المنسوب للواقف المشار إليه أعلاه، المعروف بالبرج الصغير... فيصرف من ذلك كل شهر يمضي من شهور الأهلة من الفلوس معاملة الديار المصرية الآن عشرون ألف درهم لعشرين نفرًا رجالًا من أجناد العدة الذين يصلحون للقتال والجهاد في سبيل الله تعالى يقيمون بالبرج المذكور أعلاه للجهاد والقتال وكف العدو المخذول عن الثغر المذكور وعن المسلمين وغير ذلك على عادة أمثالهم في ذلك بحيث يكون واحد منهم زرد كاش برسم أسلحة البرج المذكور وإصلاحها وتعهدها، ويصرف كل شهر يمضي من شهور الأهلة من الفلوس الموصوفة أعلاه ألفا درهم لأربعة أنفار رجالا نفطية بارودية عارفين برمي المدافع والمنجنيق وغير ذلك من أنواع الرمي يرصدون بالبرج المذكور للرمي المذكور عند الاحتياج إلى ذلك وغير ذلك مما جرت عادة البارودية والنفطية بعمله في مثله، ويصرف كل شهر يمضي من شهور الأهلة من الفلوس الموصوفة أعلاه ألفا درهم لأربعة رجال، أثنين منهم يكونان رقيبين واثنان منهم يكونان أنيسين يقيمون بالبرج المذكور لإرهاب العدو المخذول ولأعلام الناس والمقاتلة إذا ورد العدو المخذول بالورود عليهم ليستعدوا لقتالهم على العادة..."
 هذه مجرد نماذج قليلة من كثير يمكن أن نستخلصه من خلال الوثائق؛ يبقى أن نتذكر عند الحديث عن هذه المجموعة ثلاثة من علمائنا الكبار الذين أسهموا في كشف أهمية هذه الوثائق؛ فقد كان الدكتور عبد اللطيف إبراهيم رائد دراسات الوثائق العربية أول من انتبه من الباحثين المصريين المتخصصين في الوثائق إلى أهمية المجموعة منذ الخمسينيات من القرن الماضي قبل نقلها إلى دار الوثائق القومية، ونشر عددًا من وثائقها، كما وجه تلاميذه إلى دراستها ونشر الكثير منها نشرًا علميًا.
عبد اللطيف إبراهيم
  كما كان الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور أستاذ تاريخ العصور الوسطى في جامعة القاهرة أول من استخدم وثائق هذه المجموعة في الدراسات التاريخية؛ في رسالته للدكتوراه عن المجتمع المصري في عصر المماليك، التي حصل عليها في الخمسينيات.

سعيد عبد الفتاح عاشور
 بينما يرجع الفضل إلى الدكنور محمد محمد أمين في وضع أول فهرس علمي لهذه الوثائق، نشره في عام 1980.

مقالي المنشور بمجلة ديوان عدد أكتوبر 2019

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...