السبت، 26 يوليو 2014


 

 

سؤال يوليو 1952

 هل تغني العدالة الاجتماعية عن الحرية؟


عماد أبو غازي

  عندما قام الضباط الأحرار بانقلابهم في 23 يوليو 1952 كانت الأرض ممهدة أمامهم ليثّبتوا دعائم نظام  جديد، فمصر كانت مؤهلة للتغيير، ولو أردنا أن نلخص الوضع في مصر أواخر عام 1951 وبدايات عام 1952، يمكن أن نوجزه في أن مصر كانت تعيش أزمة شاملة، نظام ملكي فاسد احترف فيه الملك التعدي على الدستور، تجربة ليبرالية تعاني من مشكلات جوهرية بسبب تدخلات السراي والانقلابات الدستورية التي قامت بها مرة تلو أخرى لإبعاد حزب الوفد حزب الأغلبية الشعبية عن الحكم، قضية وطنية مستعصية على الحل عن طريق التفاوض بسبب السودان والقواعد العسكرية، وكانت المفاوضات قد وصلت إلى طريق مسدود انتهى بحكومة الوفد إلى إلغاء معاهدة 1936 من جانب واحد ودعم الكفاح المسلح في القناة، وقبل ذلك كله مجتمع عاجز عن أن ينجز تحوله الرأسمالي وتطوره الصناعي بشكل كامل، وفي نفس الوقت ظهور حركة معارضة جذرية تتبنى أفكار اشتراكية.


 
 عشية الانقلاب العسكري كانت الأحكام العرفية معلنة في البلاد منذ ستة أشهر عقب حريق القاهرة، والمعارضة الوطنية في المعتقلات أو تحت الحصار، وحالة الفوضى السياسية تضرب البلاد، البرلمان معطل، والحكومات لا تستمر في الحكم أكثر من أسابيع قليلة أو أيام، كل هذا مهد الأرض أمام نجاح حركة الضباط الأحرار.
 
 
 لقد أدرك جمال عبد الناصر ومجموعة الضباط الأحرار أن لحظتهم قد حانت، فتحركوا وضربوا ضربتهم، ونجحوا خلال عامين في تثبيت دعائم سلطتهم بتصفية الحياة الحزبية ومصادرة الحريات السياسية وعاونهم على ذلك مجموعة من القانونيين والساسة الذين ينتمون إلى النظام القديم، بدافع من عدائهم للوفد حزب الأغلبية الشعبية أو بدافع من قناعتهم بوصول التجربة الليبرالية إلى طريق مسدود؛ فحسنوا لهم إلغاء الدستور، وحل البرلمان ومحاصرة الأحزاب ثم حلها، وساعدوهم على بناء شرعية جديدة لنظامهم، ثم كان هؤلاء في مقدمة من أطاح بهم النظام الجديد عندما ثبت أركانه.
 كذلك تحالف معهم الإخوان المسلمون ودعموهم وساندوهم حتى بدأ الصدام بين الطرفين في يناير 1954 ليعود الوئام مرة أخرى أثناء أزمة مارس 1954 لشهور قليلة يعقبها الطلاق النهائي بين الطرفين.


 الضباط الأحرار على مائدة المرشد في زمن الصفاء بين الجماعة والحركة
 كانت المحاكم العسكرية والاستثنائية والخاصة طريقًا سريعًا لتصفية الخصوم السياسيين لنظام يوليو، تمت أمامها محاكمة رموز النظام القديم وقادة الأحزاب السياسية والمعارضين من داخل الجيش، وأخيرًا الإخوان، لكنها طالت منذ البداية الطبقة العاملة، عندما تمت محاكمة عمال كفر الدوار الذين أضربوا عن العمل في أغسطس 1952 أمام واحدة من هذه المحاكم التي قضت بإعدام اثنين من قادة العمال هما الشهيد مصطفى خميس والشهيد محمد البقري، وقد نفذ فيهما حكم الإعدام بالفعل.
الكشف على الشهيد مصطفى خميس قبل تنفيذ حكم الإعدام
 
أخبار أحداث كفر الدوار ومقال سيد قطب التحريضي ضد العمال
 كان الوضع الدولي أيضا إلى جانب ضباط يوليو فقد رحبت الولايات المتحدة بانقلابهم وساندته في بدايته، وهذا لا يعني بالطبع أنه كان انقلابًا مثل الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية التي دبرتها المخابرات الأمريكية، لكن رغبة الولايات المتحدة في ضمان استقرار المنطقة وخوفها من الخطر الشيوعي كانا يدفعاها لدعم ضباط وطنيين يحققون استقرارًا وتنمية في بلدهم ويحاصرون نمو الحركة الشيوعية، وقد استمر هذا التأييد إلى ما بعد العدوان الثلاثي في 1956 وكان لدور الولايات المتحدة فضل كبير في إرغام دول العدوان على الانسحاب.

 كان أمام النظام الجديد مهام عديدة صعبة عليه أن يحققها، لخص رجال يوليو برنامجهم فيما عرف بالمبادئ الستة للثورة، التي تتضمن هدم النظام القديم وبناء نظام جديد. على الصعيد السياسي كان أمام الضباط الأحرار مهمة حل إشكالية نظام الحكم والقضية الوطنية، أو قضيتا الدستور والاستقلال، اللتان دار حولهما النضال الوطني في مصر لعشرات السنين.

 في يتعلق بنظام الحكم، اتخذ مجلس قيادة الثورة بعد أقل من عام قرار إعلان النظام الجمهوري الذي تردد العرابيون في اتخاذه قبل سبعين عامًا، ولم تجروء عليه ثورة 19؛ وبإلغاء الملكية تم إسقاط الركن الأساسي للنظام القديم، لكن مجلس الثورة قبل أن يلغي الملكية بخمسة أشهر كان قد حل الأحزاب السياسية وصادر أموالها، ليصادر بذلك حق المواطنين في التنظيم السياسي المستقل، ويضع أسس نظام شمولي يقوم على التنظيم السياسي الواحد التابع للدولة، تغيرت مسمياته وظل جوهره واحد، من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي العربي، بل حتى عندما بدأت التجربة الحزبية المقيدة ورث حزب مصر العربي الاشتراكي ثم الحزب الوطني الديمقراطي وضع حزب الدولة الواحد أو تنظيمها السياسي المهيمن، وظلت الأحزاب الأخرى محاصرة وهامشية في أغلب الأحوال. لقد شيد ضباط يوليو نظامًا شموليًا معادي للحريات السياسية وللديمقراطية، ثبت دعائمه بالقمع وانتهاك حقوق الإنسان، وبحشد الجماهير في منظمات تابعة للسلطة.
  وفيما يتعلق بحل القضية الوطنية نجح النظام الجديد في توقيع اتفاقية الجلاء، رغم انها لا تختلف كثيرًا عن اتفاقية صدقي بيفن التي رفضها الشعب عام 1947 وسقطت حكومة إسماعيل صدقي بسبب هذا الرفض؛ لأن صدقي واجهته حركة شعبية وأحزاب سياسية صفاها نظام يوليو قبل أن يوقع المعاهدة، كذلك جاء حل مسألة السودان بالاستفتاء على الوحدة أو الاستقلال، واختار السودانيون الاستقلال بعد أن بات واضحًا الاتجاه نحو الديكتاتورية في مصر. وبعد قرار تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956 والذي حقق شعبية جارفة للرئيس عبد الناصر على الصعيدين المحلي والإقليمي، تطورت الأمور في اتجاه العدوان الثلاثي الذي مكن مصر من التخلص نهائيًا من معاهدة الجلاء وإنهاء الوجود البريطاني في مصر تمامًا.
 
 كذلك جاءت حركة الضباط تحمل معها حلولًا لكثير من مشكلات المجتمع المصري في إطار التطور الرأسمالي، وأولها مشكلة تحول مصر إلى دولة صناعية، فمنذ بدأت التجربة الثانية للتصنيع الحديث في مصر في أعقاب ثورة 19، والعقبات تواجهها، ليس فقط من الرأسمالية الأجنبية المدعومة بقوة الاستعمار البريطاني، لكن بالدرجة الأولى لطبيعة التكوين الطبقي المصري الذي قامت فيه تجارب التصنيع على أكتاف طبقة كبار الملاك، فقد كان أبرز الرأسماليين الصناعيين هم في ذات الوقت من كبار الملاك الذين يحوزون آلاف الأفدنة، وبدلًا من أن تحول هذه الطبقة فوائض ثروتها إلى الاستثمار في الصناعة، كانت تحول تلك الفوائض إلى التوسع في مجال ملكية الأراضي الزراعية، ومن هنا جاء قانون الإصلاح الزراعي ليرغم هذه الطبقة على توجيه فوائضها إلى الاستثمار في مجال الصناعة، وليوسع في ذات الوقت من قاعدة ملكية الأراضي الزراعية من خلال توزيع الأراضي على الفلاحين، ويرفع من القدرة الشرائية لقطاع مهم من المواطنين.

 ثم بدأت عملية التمصير واتسعت في أعقاب معركة السويس، وقد سمح التمصير بتحقيق نواة لملكية الدولة في القطاعات الاقتصادية المختلفة، تلك الملكية التي أدت إلى ظهور طبقة جديدة من البيروقراطيين والتكنوقراط الذين يديرون أملاك الدولة، واتسعت قاعدة الملكية مع قرارات التأميم في مطلع الستينيات بعد عشر سنوات من انقلاب يوليو، والتي وصفت بأنها قرارات يوليو الاشتراكية، ورغم المكاسب التي تحققت للطبقة العاملة خلال تلك السنوات العشر، ورغم التواسع الهائل في القاعدة الصناعية للبلاد، فقد قادت هذه القرارات البلاد إلى نظام رأسمالية الدولة، ولم تحقق نظامًا اشتراكيًا، كما أن الطبقة العاملة المصرية مقابل ما حصلت عليه من مزايا فقدت حقها في إنشاء نقاباتها المستقلة وأصبح التنظيم النقابي خاضعًا بالكامل لسيطرة الدولة وتنظيمها السياسي الواحد المهيمن. أما قاعدة الصناعة الجديدة فسرعان ما بدأت تعاني من المشكلات بعد الخطة الخمسية الأولى، وتفاقمت هذه المشكلات مع هزيمة يونيو 67.
 لقد حقق نظام يوليو الكثير لكنه سلب المصريين أهم ما أنجزوه طوال قرن ونصف من تاريخ نضالهم، سلبهم مبادرتهم المستقلة في بناء مؤسساتهم وبناء مجتمعهم المدني، سلبهم تنظيماتهم المستقلة وحقهم في تكوين الأحزاب، سلبهم روح الابتكار والحرية، وبذلك كان انقلابًا على القيم الأساسية التي ناضل من أجلها المصريون، ولذلك انتهى بعد خمسة عشر عامًا مهزومًا.
 لقد وضعنا نظام يوليو أمام سؤال هل يمكن أن نتنازل عن حريتنا مقابل تحقيق العدالة الاجتماعية؟ وأثبتت التجربة إننا بعد ستين عامًا قد فقدنا الاثنين معًا، لذلك قامت ثورة 25 يناير ردًا على سؤال يوليو 52 وتصحيًا للمعادلة، فالشعب يريد العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية معًا جميعا دفعة واحدة.

 

 

 

 

 

 

 

الثلاثاء، 22 يوليو 2014

هذا المقال نشرته في جريدة الشروق في يوليو 2012 في الذكرى الستين لحركة الضباط الأحرار

 

يوليو شهر الثورات

مصر بين يوليو 1795 ويوليو 1952

عماد أبو غازي

 ستون عامًا تمر غدًا على بداية الحكم العسكري لمصر، ففي فجر يوم الأربعاء ٢٣ يوليو ١٩٥٢ تحرك تنظيم الضباط الأحرار ليسيطر على قيادة الجيش وينطلق في أولى خطواته نحو السيطرة على البلاد، لتبدأ حقبة جديدة في تاريخ مصر وتاريخ المنطقة العربية كلها، ربما نعيش الآن بدايات النهاية لها منذ ثورة 25 يناير 2011.
 يوليو شهر الثورات، في ٤ يوليو ١٧٧٦ انتصرت الثورة الأمريكية وأصبح هذا اليوم عيدًا للاستقلال في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ١٤يوليو ١٧٨٩ اقتحم الشعب الفرنسي سجن الباستيل رمز الاستبداد والتسلط، وقامت الثورة الفرنسية الكبرى التي تعد واحدة من أهم الثورات في التاريخ الحديث، بل في تاريخ الإنسانية عمومًا، والتي ألهمت شعوب العالم مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.
 وفي مصر يقترن شهر يوليو بحدثين كبيرين أثرا في مسار التاريخ المصري الحديث، الحدث الأول ثورة المصريين في يوليو عام ١٧٩٥ على تعسف مراد بك وإبراهيم بك كبيري المماليك في ذلك الوقت، والحدث الثاني نجاح حركة الضباط الأحرار في الاستيلاء على الحكم في يوم الأربعاء ٢٣ يوليو من عام ١٩٥٢ وطرد الملك فاروق من البلاد في ٢٦ يوليو، وبالتالي نجاح ذلك الانقلاب العسكري الذي صار يعرف في التاريخ المصري بثورة ٢٣ يوليو.
 
 

 كل من الحدثين كان له تأثيره الكبير على مصر لسنوات طويلة تالية؛ فثورة يوليو ١٧٩٥ تعد بداية جديدة لنضال الشعب المصري من أجل المشاركة في إدارة أمور بلاده، ومن أجل الوصول إلى صيغة عقد اجتماعي بين الحاكم والشعب ينظم العلاقة بينهما، لقد جاءت الثورة سنة 1795 بعد سنوات قليلة من هزيمة مشروع استقلالي عن الدولة العثمانية قاده علي بك الكبير أحد كبار أمراء المماليك في مصر، جاءت في عصر شهد بداية لتحولات كبرى في البلاد على مستوى البنية الاقتصادية والاجتماعية وعلى مستوى الأفكار، قامت الثورة احتجاجًا على إجراءات متعسفة اتخذها الأميران الكبيران إبراهيم بك ومراد بك مست أقوات الناس ومصالح بعض كبار مشايخ الأزهر، فخرجوا ضد هذه الإجراءات، ونجحت ثورتهم في أن تفرض على الأميرين توقيع حجة شرعية أمام قاضي القضاة التزاما فيها بعدم فرض ضرائب أو جباية أموال جديدة أو مصادرة الأوقاف والرزق والمستحقات الخاصة بمشايخ الأزهر ومجاوريه، كما تعهدا بالرجوع إلى كبار المشايخ عند اتخاذ أية إجراءات تتعلق بأقوات الناس وأرزاقهم، كانت هذه الحجة الشرعية عهدًا جديدًا من نوعه ـ في مجتمعنا ـ بين الحكام والمحكومين، لقد كانت تلك الثورة فاتحة لمرحلة جديدة استمرت لأكثر من قرن ونصف كافح فيها المصريون من أجل حكم بلادهم، وتبلورت مطالبهم حول هدفين اثنين: حكم أنفسهم بأنفسهم والتخلص من الحاكم الأجنبي، ووضع دستور للبلاد يحد من سلطات الحاكم ويحمي حريات المواطنين ويؤسس لدولة تقوم على مبدأ المواطنة، وصاغ المصريون فيما بعد شعارًا لهذا النضال تلخص في كلمتين "الاستقلال والدستور".
 وبعد قرن ونصف أضيفت العدالة الاجتماعية إلى المطالب التي يناضل المصريون من أجلها؛ فمع نهاية الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٤٥، أصبح دور اليسار الاشتراكي والشيوعي واضحًا في النضال الوطني، وتزايد تأثيره في أوساط الطلاب والعمال والمثقفين، وظهر جناح يساري داخل حزب الأغلبية الشعبية حزب الوفد عرف باسم الطليعة الوفدية، وخلال سنوات ما بعد الحرب العالمية ظهر بوضوح تأثير أفكار اليسار في قطاعات من النخب السياسية وطرحت مشروعات للإصلاح الزراعي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتعالت الأصوات المنادية بحقوق العمال وتحسين أوضاعهم.
 في تلك السنوات بات واضحًا أن مصر تتغير وأن تأثير الأفكار الشيوعية والاشتراكية التي كانت تنتصر في شرق أوروبا وفي بعض بلدان آسيا بدأت تظهر في بلدان المنطقة العربية ومن بينها مصر، وإن قيادة جديدة للنضال الوطني والديمقراطي أخذه في التشكل يلعب فيها اليسار دورًا واضحًا، وفي نفس الوقت بدأت الحركة الوطنية المصرية تتبع أساليب جديدة في النضال، فعقب إلغاء النحاس باشا لمعاهدة ١٩٣٦ من جانب واحد في أكتوبر ١٩٥١ بدأ الكفاح المسلح والعمل الفدائي في منطقة القناة وما يجاورها ضد الوجود البريطاني هناك، ودعمت الحكومة الوفدية الفدائيين وسمحت بفتح معسكرات للتدريب التحق  بها مئات من شباب الجامعات، إذاً فنحن أمام مرحلة جديدة من النضال الشعبي تتسم بالجذرية في المطالب والشعارات والجذرية في أساليب النضال، في نفس الوقت كانت حركة التذمر داخل الجيش تتسع بعد هزيمة الجيوش العربية ومن بينها الجيش المصري في حرب فلسطين سنة ١٩٤٨، وإلقاء مسؤولية الهزيمة على خيانة الأنظمة الحاكمة وعلى الأسلحة الفاسدة، وعندئذ انطلق تنظيم الضباط الأحرار الذي أسسه جمال عبد الناصر قبلها.
 
 
وضم عبد الناصر إلى تنظيمه عددًا من زملائه كان لبعضهم ارتباطات سابقة بتنظيمات أخرى كالإخوان المسلمين وحدتو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) وبعض مجموعات الشباب الوطني الذي كان يقوم بعمليات إرهابية.
 وبسرعة اكتسب تنظيم الضباط الأحرار مؤيدين وسط صفوف الضباط الشبان، وبدأت منشورات التنظيم تنتشر بين الضباط ووصلت إلى قصر الملك بل إلى مكتبه، وخاض التنظيم أول معاركه الكبرى في انتخابات نادي الضباط حيث نجح اللواء محمد نجيب مرشح الضباط الأحرار أمام مرشح الملك.
 
 

 كان الملك فاروق في مقتبل الثلاثينيات من عمره ويرى أن حكمه زائل لا محالة فقد كانت لديه قناعة تامة بان الملكيات إلى زوال، وكان يردد مقولته الشهيرة "لن يبقى من الملوك على الأرض إلا ملك إنجلترا وأربع ملوك الكوتشينة".
 
 

 مصر عند منتصف القرن العشرين كانت تعيش لحظة أزمة تاريخية، النظام الليبرالي التقليدي يعاني من انسداد القنوات الطبيعية التي تدفع الدماء فيه للتطور بسبب تشوهات التكوين التي صاحبته منذ لحظة الميلاد، والبديل الشعبي الثوري ينمو ويتطور ويخوض معاركه لكنه مازال بعد  متخبطًا لا يملك القوة الكافية لإسقاط النظام، وحزب الأغلبية الشعبية حزب الوفد بداخله صراع بين تيارين متعارضين، تيار يمثل مصالح كبار الملاك والعائلات الكبيرة وتيار يقترب من قوى اليسار ويتبنى أطروحات التغيير، وعلى أرض الواقع كفاح مسلح يتصاعد في منطقة القناة يومًا بعد يوم، وينبئ حال نجاحه بتغيرات جذرية في الدولة والمجتمع. خطر داهم ينبغي وقفه، لكن ليتم هذا كان لابد أن تحترق القاهرة ليكون هذا مبررًا للإطاحة بالحكومة الشعبية المنتخبة ولفرض الأحكام العرفية وتصفية الكفاح المسلح في القناة وحصار القوى الوطنية والديمقراطية. 
 كانت هذه التغيرات تشق طريقها في المجتمع المصري في وقت تتصاعد فيه حدة الصراع بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي على مستوى العالم، ومن ناحية أخرى كانت قيادة المعسكر الرأسمالي تنتقل من القوى الاستعمارية القديمة وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا إلى الولايات المتحدة الأمريكية على الجانب الآخر من الأطلسي. كانت الولايات المتحدة تقدم نفسها في صورة مغايرة لصورة المستعمر الأوروبي الذي يسيطر على مستعمراته بالاحتلال العسكري المباشر، وكانت تسعى للسيطرة على منطقة المشرق العربي ذات الموقع الاستراتجي المهم في الصراع الدولي والتي تملك موارد بترولية ضخمة في نفس الوقت، كان نمو الأفكار الشيوعية والاشتراكية في المنطقة العربية يشكل خطرًا داهمًا على مصالح الغرب، وفي نفس الوقت كان من الواضح أن الأنظمة التقليدية التي اعتمدت على دعم الدول الاستعمارية التقليدية فقدت القدرة على السيطرة، ومن هنا كان لابد من البحث عن بديل جديد، بديل يمكنه أن يحقق الاستقرار ويوقف الخطر الشيوعي، وكان هناك لاعبان مؤهلان على الساحة الجيش والإخوان.
وللحديث بقية. 

 

الاثنين، 21 يوليو 2014


ورقة مشتركة اشتركت في تقديمها مع الصديق محمد حاكم لحلقة بحثية بمكتبة الإسكندرية، صيف 2006.
 
الخلفية التاريخية لقضايا الحريات الفكرية في مصر

 

عماد أبو غازي و محمد حاكم

 تحاول هذه المداخلة تتبع الخلفية التاريخية لقضايا الحريات الفكرية في مصر، تلك الحريات التي تعد شرطًا من شروط تطور المجتمع المصري في ظل مجتمع المعرفة، إن لم نقل الشرط الأساسي لتحقق هذا التطور ـ إن كان مقدرًا له أن يتحقق ـ باعتبار هذه الحريات مدخلًا لبناء موضع تحتله مصر مستقبلًا في خارطة العالم الجديد.
 ومفهوم الحرية الفكرية وفقًا لهذه الحلقة البحثية يقتصر على ثلاثة مجالات محددة:

·        الحريات الأكاديمية.

·         وحرية البحث العلمي.

·         وحرية الاجتهاد الديني.

 وانطلاقًا من إدراكنا لأن هناك عقبات تقف أمام حرية التفكير في مجتمعنا المصري المعاصر، ومن تصورنا لأن لهذا المعوقات جذور تاريخية، يعود بعضها إلى الماضي القريب بينما يضرب بعضها بجذوره في التربة المصرية لقرون بعيدة إلى الوراء. من هذا المنطلق سنحاول في مداخلتنا البحث عن الجذور التاريخية لمعوقات حرية التفكير في المجتمع المصري، ورغم أن جذور أزمة حرية الفكر بعيدة تاريخيًا في مجتمعنا المصري فإن مقاربتنا ستسعى إلى التركيز على الجذور التاريخية القريبة من خلال التوقف عند بعض القضايا الفارقة والدالة على ما تعرضت له حرية التفكير بأبعادها الثلاثة من معوقات عبر القرنين الماضيين، منطلقين من فرضية ترى أن المجتمع المصري عبر قرنين من الزمان، في سياق نضاله من أجل تحديث المجتمع وتشييد دعائم الدولة المدنية الحديثة ومؤسساتها المختلفة وإرساء قيمها، شهد صراعًا متواصلًا بين دعاة حرية التفكير وحماتها من ناحية في سعيهم لإرساء قيم الحق في الاجتهاد الديني وحرية البحث العلمي والحريات الأكاديمية، وقوى التخلف والجمود من ناحية أخرى، تلك القوى التي سعت دومًا لوضع العراقيل أمام الحريات العامة ومنها حرية التفكير بدعاوى مختلفة في مقدمتها اصطدام هذه الحريات بثوابت المجتمع الدينية والفكرية والأخلاقية والسياسية، وكانت الغلبة عادة لقوى الجمود التي قادتنا لما نحن فيه اليوم من حال بائس لحرية التفكير.

 لقد أصبح إصلاح المؤسسات البحثية والجامعات المصرية ضرورة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى، فإذا كنا جميعًا ـ خاصة المشتغلين بالمراكز البحثية والجامعات ـ مدركين لمدى التدهور الذي آلت إليه مؤسساتنا، تدهور الخدمة التعليمية وتدهور البحث العلمي وتدهور الحريات الأكاديمية، وإذا كان هذا الوضع ليس وليد اليوم بل نتاج تراكم المشكلات عبر  سنوات طويلة، فإن أهمية الإصلاح تعاظمت اليوم بسبب الدور الذي ينبغي أن تقوم بها الجامعات والمراكز البحثية في الأخذ بيد مجتمعنا للدخول في عصر المعرفة، وعندما نخطط لإصلاح التعليم والبحث العلمي لابد أن نضع أمام أعيننا جامعات ومراكز بحثية تلائم "مجتمع المعرفة" الذي يعيشه العالم، ذلك المجتمع الذي جعلت فيه "ثورة المعرفة" من "ثروة المعرفة" القوة الفاعلة والمحركة لكل شيء.

  إن ما نحتاج إليه جامعات تمتلك القدرة والمقومات على أن تبني إنسانًا قادرًا على التعامل مع معطيات العصر الجديد، بدلًا من جامعاتنا التي أصبحت مدارس ثانوية كبيرة يأخذ الطلاب فيها دروسًا خصوصية ومجموعات تقوية، جامعات لا تضيف للطلاب معرفة جديدة بل تكتفي بتدريبهم على الإجابة عن الامتحان، جامعات يعلن رؤساؤها في بداية كل عام عن موعد صدور الكتب الدراسية المقررة بدلًا من الإعلان عن تدعيم المكتبات الجامعية بالمصادر والمراجع العربية والأجنبية، جامعات تسهم في قمع شخصية طلابها وتمحو قدرتهم على الابتكار والمبادرة بدلًا من أن تنمي هذه القدرات فيهم وتدفعهم إلى امتلاك قدرات البحث العلمي السليم. ومراكز بحثية تنشغل بالبحث العلمي الحقيقي وفقًا لبرامج وسياسات بحثية حرة لا تتحكم فيها قيود الدولة والمجتمع، مراكز بحثية تخصص لها موازنات مالية تفي بأغراضها التي أنشئت من أجلها، مراكز بحثية تستخدم ما تمتلكه من أجهزة ومعدات في البحث فعلًا، وليس كديكورات لاستقبال كبار الزائرين، مراكز بحثية جاذبة للباحثين المتميزين لا طاردة لهم.

 وسنحاول في هذه الورقة التوقف عند أحداث متفرقة تبرهن على هذه الفرضية وتكشف عن تعامل المجتمع مع قضية حرية التفكير، أننا نسعى لأن نقدم شهادات من الماضي تثبت مقولتنا.

 في البداية لابد من التأكيد على أن جذور الأزمة بعيدة إلى حد كبير تعود إلى العصر الذي اعتنق فيه المجتمع المصري الديانات التوحيدية، عندما بدأت القوى المتشددة دينيًا داخل المنظومة الفكرية لتلك الديانات تفرض تفسيرات أحادية لها تستبعد الآخر وتنفيه وترفضه وتصادر حقه في التفكير والاجتهاد، سواء الأخر الديني أو الأخر المذهبي على أرضية الدين الواحد، أي حتى لو كان هذا الآخر منتميًا لنفس العقيدة الدينية طالما رفض التطابق مع مقولات تلك القوى، ومن هنا بدأت مصادرة حرية التفكير في مجتمعنا المصري ليدخل سلسلة متوالية من الانتكاسات الفكرية والحضارية تخللتها لحظات إشراق خاطفة. ومن الجدير بالذكر أن تلك القوى كانت تتزاوج مع الاستبداد السياسي في كثير من الأحيان لتتخلق حالة من الجمود تسيطر على المجتمع. إذًا فعمر الأزمة بعيد.

 سنكتفي بمثالين اثنين للتدليل على مسئولية قوى التشدد الديني وعلى الاستخدام السياسي للأصولية الدينية في مصادرة حرية التفكير والتعددية الفكرية منذ عصور تاريخية بعيدة، أو بعبارة أخرى للتدليل على عمق الجذر التاريخي للمصادرة في المجتمع المصري.

 

المثال الأول: ما حدث لهيباتيا السكندرية (370 ؟ ـ 415م) الفيلسوفة وعالمة الرياضيات والفلك الأفلاطونية الفذة ـ بمقاييس عصرها ـ المنتمية إلى مكتبة الإسكندرية في عصر أفولها، والتي تعد اليوم أقدم عالمة فلك معروفة لنا، والتي تعرضت الاضطهاد والقتل والتمثيل على يد رجال دين مسيحيين متشددين لم يقبلوا بحق الاختلاف العقيدي ولم يعترفوا بالحق في البحث العلمي، واعتبروا آرائها العلمية هرطقة تستوجب القتل، فمارسوا بحقها وبحق غيرها من المختلفين مع معتقداتهم الدينية سلوكًا لا يختلف مع ما سبق أن مارسته السلطة الرومانية من اضطهاد مع أسلافهم القريبين من المؤمنين بالمسيحية.

 

المثال الثاني: ما قام به صلاح الدين الأيوبي بعد إسقاطه للخلافة الفاطمية في مصر، واستقرار الأمر له في هذا لبلد حيث أمر بحرق المكتبات ودور الحكمة الفاطمية التي جعلت من القاهرة عاصمة من عواصم الفكر والثقافة والعلم، بدعوى أنها تحوي فكرًا شيعيًا خارجًا على أصول "الإسلام" السني، ويذكر المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي أن حمامات القاهرة العامة ظلت لعشرات السنين تستخدم تلك الكتب وقودًا تشعل به نيران مستوقداتها, فضلا عن إغلاقه للأزهر الذي كان معقلًا من معاقل الدراسة والعلم الديني في ذلك العصر.

 

 إنهما مجرد مثالين فقط من تاريخ طويل من قمع الاختلاف ومصادرة حرية التفكير، الأول جاء فيه القمع من خارج مؤسسة الدولة، من المؤسسة الدينية مستندة إلى غوغائية الجماهير، لأسباب اعتبرها أصحابها حفاظًا على العقيدة، والثاني كانت المصادرة من رأس مؤسسة الحكم، لإغراض سياسية لبست ثوب الدين.

  نحن أمام تاريخ من القيود قيود سلطة الدولة من ناحية، وقيود سلطة المجتمع من ناحية أخرى. تاريخ من تحالف القوى المحافظة سياسيًا وفكريًا ودينيًا تقف ضد حرية التفكير.

 لن نتوقف طويلًا عند الماضي البعيد، سننتقل إلى القرنين الأخيرين، حيث بداية نضال المصريين من أجل الحق في المشاركة السياسية والاستقلال الوطني عبر امتلاك مقومات التحديث، لقد بدأت مصر مرحلة جديدة من تاريخها مع السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والسنوات الأولى من القرن التاسع عشر، مرحلة بدأت تتشكل خلالها ملامح وعي جديد، لكن قوى الماضي كانت من القوة بحيث تمكنت من إعاقة التحولات مستندة في كثير من الأحيان إلى الصراعات الدولية التي لم تكن في صالح تحديث المجتمع المصري.

 

 سنتوقف عند عدد من المحطات الدالة أو الفارقة في تاريخ حرية التفكير في مصر لنتتبع نماذج من الاعتداءات على تلك الحريات خلال القرنين الماضيين:

 

الوقفة الأولى تعود إلى عصر محمد علي وتكشف عن موقفه من قضية الحريات الأكاديمية، فقد استوقفنا في الأوامر والمكاتبات التي أصدرها محمد علي باشا خلال سنوات حكمه لمصر، أمران أصدرهما في جماد آخر 1251 هـ (سبتمبر 1835م)، والأمران يرتبطان بنظام التعليم الحديث الذي أدخله محمد علي في مصر ورد فعل القوى المحافظة في المجتمع تجاه المدارس الحديثة التي أنشأها.

 لقد كان التعليم ركن أساسي في مشروع محمد علي لتحديث مصر، فعندما تولى محمد علي حكم مصر سنة 1805 كان التعليم في مصر مرادفًا للتعليم الديني الذي يعتبر الأزهر مؤسسته الكبرى، وكان ما يسمى بدراسة علوم الدنيا قد تراجع وانزوى وما يقدم منه من خلال الأزهر لا علاقة له بما وصلت إليه العلوم الحديثة في الغرب، فترك محمد علي الأزهر "بعبله" وأتجه إلى إرسال طلاب مصريين لدراسة العلوم الحديثة في أوروبا، وإلى إنشاء مدارس حديثة في مصر مثل المهندسخانه ومدرسة الطب ومدرسة المولدات ومدرسة الألسن وغيرها من المدارس، واهتم محمد علي باستقدام الأساتذة الأوروبيين للتدريس في تلك المدارس.

 ولم يتقبل المجتمع التقليدي نظم التعليم الحديثة ببساطة، فتعرضت تلك المدارس للهجوم عليها، وكان الدين سلاحا للهجوم، فماذا كان رد فعل محمد علي؟

 تكشف أوامر محمد علي ومكاتباته عن موقف حازم في مواجهة دعاوى قوى التخلف، والقصة التي تتحدث عنها الأوامر ترتبط بمدرسة الطب التي أنشأها محمد علي سنة 1827 بناء على اقتراح الطبيب الفرنسي كلوت بك رئيس أطباء الجيش المصري، وقد بدأت المدرسة نشاطها في المستشفى العسكري بأبي زعبل واستمرت هناك إلى عام 1837 ثم نقلت إلى قصر العيني.

 وفي عام 1835 علم محمد علي من خلال مطالعته لمحاضر اجتماعات ديوان الجهادية الذي كانت تتبعه المدرسة أن أحد المشايخ الذين كانوا يعملون بالترجمة في مدرسة الطب واسمه الشيخ الهراوي اعترض على بعض ما يدرسه كلوت بك  بالمدرسة من مناهج الطب الحديث بدعوى مخالفته للدين فأصدر محمد علي أمرًا جاء فيه:

 "إنه علم حصول معارضة من الشيخ الهراوي في بعض أمور لا تعنيه، وبالنسبة لعلمه وآدابه لم يقابل بشيء من شوراى الأطباء، ويشير بأن المذكور ليس ممن يجب احترامهم بل من الأشرار المحتاجين للإيقاظ، حتى أن تزويره معلوم من قبل، فيلزم استحضار المذكور والتنبيه عليه مؤكدا بعدم تداخله في شيء خارج عن وظيفته، وبأنه ينفى ويطرد فيما لو حصل إقدام ثانيا على ما يوجب التشكي منه".

 ثم عاد بعد خمسة أيام ليصدر أمرًا أشد لهجة لأنه لاحظ أن المسئولين في الديوان خضعوا لابتزاز الشيخ الهراوي لهم باسم الدين، جاء فيه: "إنه اطلع على المضبطة الصادرة بشأن التقرير المقدم من الشيخ هراوي في حق كلوت بك بخصوص تلامذة مكتب المارستان ـ يقصد مدرسة الطب ـ وعِلم الكيفية، وإن تقرير المذكور من قبيل التزويرات، وبناء عليه يشير بدعوة المذكور إلى ديوان خديوي والتنبيه عليه بعدم تداخله فيما هو خارج عن وظيفته المحولة عليه وهي الترجمة والتصحيح، وإنه إن لم يرتدع يضرب بالنبوت، واستحضار كلوت بك أيضا والتنبيه عليه بمداومته على السعي والاجتهاد في تعليم أولئك التلامذة علم الطب كمرغوبه".

 هكذا كانت القوى المحافظة دائما ضد أي تقدم أو تحديث، وهكذا كان موقف محمد علي، يا ترى أين كنا سنصبح الآن لو خضع محمد علي لخزعبلات الشيخ هراوي وأوقف جهود كلوت بك ومنع دراسة التشريح والعلوم الطبية الحديثة!

 

 والوقفة الثانية تأتي مع إنشاء الجامعة الأهلية، فقد دفعت نشأة الجامعة المصرية بقضايا حرية التفكير إلى مناطق جديدة، حيث تأسست سلطة علمية جديدة أخذت على عاتقها تنفيذ مهام رقابية وتقيدية كانت سابقًا من مهام السلطة السياسية، والأمر الذي يبدو واضحًا في قضية منصور فهمي، فقد كان الرجل من طلبة البعثة الجامعية الأولى، التي أوفدتها الجامعة المصرية (الأهلية) إلى فرنسا منذ عام 1909، وكان بعد ما يقارب أربعة سنوات قد انتهى من إعداد دراسته عن وضع المرأة في الإسلام، إلا أن الجامعة طالبته بعدم تقديمها للمناقشة، ورغم دفاعه عن الحريات الأكاديمية وحرية البحث العلمي وحتى حرية الاعتقاد، ورغم حصوله على درجة الامتياز بعدة مناقشة الرسالة إلا أن الجامعة أقدمت على فصله في عام 1913 بعد ستة أشهر فقط من تعينه أستاذ كرسى بها، كانت هذه هى الحادثة الأولى التي اختارت فيها الجامعة الخضوع لمنطق الرأي العام الديني والأخلاقي السائد حتى ولو كان على حساب رسالتها وعلى حساب مبدأها: استقلال الجامعة عن الدولة والمجتمع في آن واحد. ذلك الخضوع الذي سيصبح سمة مؤسسية للجامعة في علاقاتها بمؤسسات الدولة، بما فيها البرلمان، ومؤسسات المجتمع بما فيها الصحافة.

 

 أما الوقفة الثالثة: فمع واحدة من أهم المعارك الفكرية السياسية التي شهدتها مصر في القرن العشرين، والتي تجسد تحالف القوى المحافظة فكريًا مع الاستبداد السياسي، إنها معركة "الإسلام وأصول الحكم" التي فجرها صدور كتاب الشيخ علي عبد الرازق الذي يحمل هذا العنوان، والذي أصدره في أبريل عام 1925،  ليناقش فيه فكرة الخلافة الإسلامية وتطورها عبر التاريخ.

 والشيخ علي عبد الرازق أزهري من أسرة مصرية عريقة، تنتمي إلى محافظة المنيا، لعبت أسرته دورًا مهمًا في الحركة الوطنية المصرية من خلال حزب الأحرار الدستوريين، الذي حمل اللواء الفكري لليبرالية المصرية بعد ثورة 1919 وكان امتدادًا لأفكار حزب الأمة الذي أسسه أحمد لطفي السيد.

 كان علي عبد الرازق في الثلاثينيات من عمره عندما نشر كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، والكتاب عبارة عن مقدمة وثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان "الخلافة في الإسلام" تناول فيه طبيعة الخلافة، وحكم الخلافة شرعا، والخلافة من الوجهة الاجتماعية، أما القسم الثاني فيدور حول "الحكومة والإسلام" وقد تناول فيه الشيخ علي عبد الرازق نظام الحكم في عصر النبوة، مميزًا بين الرسالة والحكم، طارحًا فيه فكرته عن الإسلام باعتباره "رسالة لا حكم ودين لا دولة"، أما القسم الثالث فيتتبع فيه "الخلافة والحكومة في التاريخ".

 والكتاب محاولة جريئة لمناقشة فكرة الخلافة، نشأتها وتطورها بمنهج علمي تاريخي، واجتهاد بالرأي في قضية شائكة تقع بين الدين والسياسة، وقد قدم الشيخ في كتابه عددًا من الأفكار أهمها: أن الخلافة هي نظام دنيوي للحكم مثلها مثل أي نظام آخر، وإن الدين الإسلامي لم ينص عليها بل ترك للمسلمين حرية اختيار النظام الذي يلائمهم، وناقش القائلين بالنص على الخلافة في الكتاب والسنة وفند آراءهم بالأدلة التاريخية والشرعية، وذهب إلى إننا لا نجد فيما وصل إلينا من أخبار من عصر البعثة النبوية شيئا واضحا يمكن أن يوصف بأنه نظام للحكومة النبوية، وينتهي إلى أن الخلافة تاريخيًا ارتبطت بالاستبداد في الحكم، وإن أمرها عبر التاريخ لم يحسم إلا بقوة السيف، كما رفض الفكرة القائلة بأن إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يتوقفان على وجود خليفة للمسلمين، وهو قول كان شائعًا بشدة في ذلك الحين بعد إلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة سنة 1924، واعتبر علي عبد الرازق أن تحديد الحكومة الصالحة للمسلمين بأنها الخلافة دون سواها وبمفهوم محدد للخلافة يجاوز الواقع والعقل والتاريخ، كما رفض تحويل الرابطة الإسلامية الدينية التي تربط المسلمين ببعضهم إلى رابطة سياسية ينتظم تحتها المسلمون في كيان سياسي واحد، ولم يوافق الشيخ كذلك على الفكرة القائلة بأن الإسلام جعل من العرب وحدة سياسية واحدة، كما اعتبر أن جزءًا كبيرًا من حروب الردة لم يدر إلا لحماية الدولة الجديدة الناشئة والملك الذي تولاه أبو بكر الصديق، وإنها كانت في كثير منها حربًا سياسية حسبها العامة دينية، ويخلص الرجل من دراسته إلى أن السلاطين هم المسئولون عن ترويج الفكرة الشائعة القائلة بأن الخلافة مقام ديني بهدف الحفاظ على عروشهم، وقد توصل علي عبد الرازق إلى هذه النتائج من خلال استعراض لوجهات النظر المختلفة حول الخلافة عبر العصور، ومن خلال البحث التاريخي في الأحداث والوقائع.

 لقد كانت أفكار الشيخ علي عبد الرازق جريئة لكنها مستندة إلى أدلة تاريخية وفقهية من وجهة نظره، وكان من الطبيعي أن تثير نقاشًا واسعًا على الساحتين الدينية والسياسية، لقد تصدى لهذه الأفكار عدد من المشايخ والكتاب بالفكر والبرهان مقابل الفكر والبرهان، وإزاء إصرار الرجل على موقفه وتمسكه برأيه، أطلت على الساحة قوى الظلام ممن لا يملكون الحجة ولا القدرة على النقاش أو الرغبة فيه، ممن ينصبون من أنفسهم أوصياء على عقول الناس، كانت لهؤلاء الغلبة في النهاية، فأصدر مشايخ الأزهر حكمهم بطرد الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء، الأمر الذي ترتب عليه فصله من عمله في القضاء الشرعي، وتبع ذلك انهيار الائتلاف الحاكم المكون من حزبي الاتحاد الموالي للملك والأحرار الدستوريين ذي التوجه الليبرالي، حيث رفض وزراء حزب الأحرار قرار رئيس الوزراء بعزل الشيخ علي عبد الرازق من منصبه واستقالوا جميعا من الحكومة احتجاجًا على الاعتداء الصارخ على حرية الفكر والاجتهاد.

 ولا شك أن الظروف السياسية التي صاحبت صدور الكتاب كان لها أثرها في اتساع ساحة المعركة واتخاذها تلك الأبعاد السياسية التي انتهت بسقوط الحكومة، فقد صدر هذا الكتاب في العام التالي لإلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة الإسلامية في تركيا، في ظل شعور إسلامي عام بالغضب، وبأن الإسلام قد فقد ركنًا من أركانه، رغم أن الخلافة الفعلية كانت قد زالت بالفعل منذ مئات السنين، وفي وقت كان ملوك العرب يتطلعون، بل يتنافسون على منصب الخلافة، ومنهم فؤاد الأول الذي كان يحظى بدعم الإنجليز للحصول على هذا المنصب، فأصدر الأزهري الشاب علي عبد الرازق كتابه ملقيًا به حجرًا في مياه راكدة متعفنة، ومدمرًا حلم فؤاد بالحصول على لقب خليفة المسلمين، ومقدما رؤية جريئة لا زلنا في حاجة إليها إلى يومنا هذا.

 

 والوقفة الرابعة: مع طه حسين وحرية البحث العلمي، فقد كانت مشكلة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق سنة 1925  أول اختبار لليبرالية المصرية الناشئة، فيما يتعلق بقدرتها على تقبل مبدأً أساسيًا من مبادئ الفكر الحر، نعني حرية الفكر والاجتهاد والتعبير، ولم يكد يمضي عام حتى تفجرت أزمة جديدة كان بطلها هذه المرة المفكر الشاب والأستاذ الجامعي اللامع الدكتور طه حسين، وكان موضوعها ـ مثل الأزمة الأولى ـ كتاب صغير في حجمه تقل صفحاته عن مائتي صفحة، لكنه كبير في قيمته وسبقه بما حواه من مغامرة فكرية جريئة، كتاب رغم صغره هز الثوابت التي ظل الناس يجترونها جيلًا وراء جيل، إنه كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي صدر عن مطبعة دار الكتب في مارس سنة 1926، ورغم أن الكتاب يتناول قضية بحثية في تاريخ الأدب العربي ليس لها طابع سياسي كقضية الخلافة الإسلامية، إلا أن الضجة التي أعقبت صدور كتاب "في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين فاقت تلك التي صاحبت صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، ووصلت بصاحب الكتاب إلى المثول أمام النيابة العامة متهمًا، وظهرت الأبعاد السياسية للصراع حول الكتاب سريعًا مثلما ظهرت في قضية الإسلام وأصول الحكم، بالطبع كان هناك أمرًا مشتركًا آخر على المستوى السياسي بين القضيتين، فالبطل في كل منهما كان ينتمي إلى التيار الليبرالي الأصيل في الحركة الوطنية المصرية، تيار الأحرار الدستوريين.

 فما الذي جاء به طه حسين في كتابه من أفكار ساقته إلى النيابة العامة؟ وهل يمكن في أي مجتمع حر أن يؤدي بحث في تاريخ الأدب بصاحبه إلى النيابة ليحاسب على آرائه العلمية محاسبة قضائية بدلا من أن يرد عليه المختلفون معه ردًا علميًا؟

 الكتاب ببساطة يتناول الشعر الذي ينسب إلى عصر ما قبل الإسلام في جزيرة العرب، العصر الذي نسميه عادة العصر الجاهلي، ويشكك في صحة انتساب الكثير من هذا الشعر إلى ذلك العصر.

 ويتكون كتاب "في الشعر الجاهلي" من ثلاثة أقسام، وعبر هذه الأقسام الثلاثة سعى طه حسين إلى أثبات فكرته هذه، فبدأ في القسم الأول بتقديم منهجه في البحث الذي يقوم على الشك، الشك الذي يقود إلى الوصول ليقين علمي، ويؤكد في هذا القسم من الكتاب أنه يرفض التسليم بما قاله القدماء في قضايا الشعر والأدب دون مناقشة وتحليل ونقد، وينتهي إلى إعلان رأيه الذي توصل إليه وهو أن غالبية الشعر المنسوب إلى العصر الجاهلي يعود إلى عصر ما بعد الإسلام، وفي القسم الثاني من الكتاب يحدد أسباب انتحال الشعر من وجهة نظره ويقسمها إلى أسباب دينية وسياسية وأدبية، أما القسم الثالث فيتناول فيه بعض الشعراء المنسوبين إلى العصر الجاهلي مثل أمرؤ القيس وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد وغيرهم محاولا التثبت من كونهم شخصيات تاريخية، أو تحديد التاريخي والأسطوري في سيرهم، وما هو من أشعارهم فعلا إذا كانت لهم أشعار، وما هو منتحل ومنسوب إليهم.

 ويؤكد طه حسين في كتابه أن الأخذ برأي الأغلبية يصلح في السياسة لكنه لا يصح في العلم، ويدلل بمثال بسيط واضح، فقد كانت الكثرة من العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها، وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة، وإن باحث هنا وباحث هناك امتلكوا الجرأة على الشك والبحث فوصلوا إلى الحقيقة وهدموا الوهم والأسطورة.

 لقد أكد طه حسين في التمهيد الذي بدأ به كتابه من أن الكتاب يبحث في تاريخ الشعر العربي بمنهج جديد لم يألفه الناس عندنا، وكان واثقا من أن فريقا من الناس سيلقون هذا الكتاب ساخطين، وفريق آخر سيزورّون عنه ازورارا، وقال: "أنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوما وشق على آخرين، فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد"، لكنه لم يتوقع أن يصل الأمر بالساخطين والمزورّين إلى حد الدفع به إلى النيابة العامة.

 وإذا كانت أزمة الإسلام وأصول الحكم قد انتهت بعزل الشيخ علي عبد الرازق من القضاء الشرعي واستقالة وزراء حزب الأحرار من الحكومة، فإن أزمة "في الشعر الجاهلي" انتهت بحفظ التحقيق الذي أجرته النيابة العامة وصدور طبعة معدلة من الكتاب تحمل عنوان "في الأدب الجاهلي"، حذف منها طه حسين بعض العبارات التي استفزت التيارات المحافظة، لكنه تمسك فيها بمنهجه في التعامل مع الشعر الجاهلي

 وقد كشفت تلك الأزمات المبكرة في الحقبة الليبرالية في مصر عن عدة جوانب مهمة، أولها ضيق المجتمع بالجديد والجريء من الأفكار، وثانيها التأثير السلبي للصراعات السياسية على حرية الفكر والتعبير، واستغلال القوى السياسية الرجعية للمزاج المحافظ للشارع المصري في صراعاتها، وخضوع القوى التي ينتظر منها الدفاع عن حرية الرأي لابتزاز صندوق الانتخابات، فحزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية والذي يفترض فيه الدفاع عن قضايا حرية الرأي والتعبير، تخاذل في مواقفه خوفًا من تأثير أي موقف إيجابي يتخذه على نتائجه في الانتخابات، أما ثالث هذه الجوانب التي كشفت عنها قضية كتاب "في الشعر الجاهلي" فكانت مدى هشاشة حرية البحث العلمي في الجامعة المصرية الوليدة، وسهولة مصادرة هذه الحرية بتحريض من الرأي العام المحافظ، وهي أعراض مازلنا نعاني منها إلى يومنا هذا، وهو ما سنعود إليه لاحقًا.

 

 أما الوقفة الخامسة فمع التدخل السياسي للدولة في الجامعة، لقد بدأ التدخل السياسي من الدولة في الجامعة مبكرًا، ففي ظل الانقلاب الدستوري الذي قاده إسماعيل باشا صدقي في الفترة من 1930 إلى 1933 وقعت أول أزمة سياسية في الجامعة كان الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب حينذاك ضحيتها، فقد كانت للرجل مواقفه المؤيدة للديمقراطية والمعادية للديكتاتورية، وكان يحترم القيم الجامعية ولا يتهاون فيها، وعندما رفض الأوامر الحكومية بمنح الدكتوراه الفخرية لمن لا يستحقها، كان رد الحكومة عزله من عمادة كلية الآداب ونقله بعيدًا عن الجامعة ليعمل موظفا بوزارة المعارف، لكن لأن قيم الليبرالية كانت راسخة جاء رد الفعل قويا، لقد استقال مدير الجامعة أحمد لطفي السيد باشا من منصبه احتجاجًا على تجاوز الحكومة لحدودها وتعديها على استقلال الجامعة، وقرر المثقفون تنصيب طه حسين عميدا للأدب العربي ردا على عزل الحكومة له من عمادة كلية الآداب، ولم تمض سنوات قليلة إلا وكانت الحركة الوطنية قد نجحت في إسقاط  حكومة صدقي ومن بعدها حكومة توفيق نسيم، وعاد دستور 23 الديمقراطي، وعاد طه حسين إلى الجامعة محمولا على الأعناق.

 لقد مرت الأزمة السياسية الأولى في الجامعة المصرية بسلام، لكن الأمر تفاقم مع وصول حركة الضباط الأحرار إلى السلطة وظهور مصطلح "التطهير" في حياتنا المصرية، وقد بلغت المأساة ذروتها فيما يعرف بأزمة  مارس 1954 التي قرر فيها قادة حركة الضباط الأحرار عزل رئيس الحركة اللواء محمد نجيب والتراجع عن خيار الديمقراطية، وأصابت الجامعة مع مؤسسات أخرى كارثة التطهير، وتم استبعاد مجموعة من خيرة الأساتذة بعيدًا عن الجامعة بسبب مواقفهم السياسية المعارضة للنظام الجديد، ومن يومها أصبح التطهير سيفًا مسلطًا على رقبة الجامعة، واختفت حرية الفكر والتعبير في مؤسسة عملها هو الفكر، فتراجع بالتبعية النشاط الأكاديمي والبحث العلمي، وتراجعت المشاركة في الإدارة واتخاذ القرار إلى أدنى الحدود، فبدأ انهيار الجامعة، ولم يكن ما حدث في 1954 أمرًا وانتهى بل أصبح منهجًا في تعامل نظام يوليو مع الجامعة، حتى عندما جاء الرئيس السادات بخطاب سياسي مغاير إلى حد ما في قضايا الديمقراطية والتعددية لم تسلم الجامعة من عدوان الدولة عليها وعلى حريتها، فانتهى عصر السادات وهناك أكثر من مئة أستاذ جامعي من خيرة العقول الأكاديمية مبعدين عن الجامعات إلى وزارة الإسكان وهيئة التأمينات ووزارة الري وغيرها من المصالح الحكومية، هذا فضلًا عن عشرات من الأساتذة استضافتهم السجون والمعتقلات في أحداث سبتمبر 1981، وكل ذلك بسبب المواقف السياسية والفكرية لهؤلاء الأساتذة، لقد كان تدخل السلطة الطاغي في النشاط السياسي والأكاديمي للطلاب والأساتذة سببًا أساسيًا من أسباب انهيار الجامعات المصرية، كما كان أيضًا سببُا في النمو السرطاني لتيارات الإسلام السياسي في أوساط الطلاب وأعضاء هيئات التدريس على السواء، وهو النمو الذي زاد من الانهيار بسبب معادة هذا التيار للحريات الأكاديمية، إن مصادرة السلطة للحريات السياسية ونمو التيارات "الفاشية" والمتخلفة متلازمان يغذي كل منهما الآخر.

 لكن ماذا نحتاج من أجل إصلاح الجامعة والمراكز البحثية؟

الإصلاح رهين باحترام الحريات الأكاديمية وحرية البحث العلمي:

 نعتقد أن أول ما نحتاج إليه هو أن نفتح حوارًا حول الإصلاح بين أعضاء هيئات التدريس والباحثين في المراكز البحثية يشارك فيه من يتلقون ناتج الخدمات الأكاديمية والبحثية، وفي هذا السياق نتصور أن هناك مجموعة من محاور الإصلاح بعضها سياسي والبعض إداري والبعض الثالث أكاديمي، يأتي في مقدمتها احترام الحريات الأكاديمية وحرية البحث العلمي.

  لا شك في أن الإصلاح السياسي للأوضاع في الجامعات والمؤسسات البحثية لن يتم إلا بإنهاء تدخل الدولة سياسيًا وأمنيًا في عملها، ولا شك في أن حصانة تلك المؤسسات في مواجهة التدخل السياسي والأمني محور أساسي من محاور إصلاح الجامعة ومؤسسات البحث العلمي، لكن هل تكفي هذه الحصانة لإصلاح الأحوال؟

في الحقيقة يحتاج الأمر فوق ذلك وقبله إلى صيانة الحريات الأكاديمية وحمايتها لتتمكن جامعاتنا ومؤسساتنا البحثية من النهوض بدورها، فالغاية الأساسية من وراء استقلال الجامعة والمؤسسات البحثية ضمان حرية البحث العلمي وحرية الفكر والتعبير وغيرها من الحريات الأكاديمية اللازمة لازدهار تلك المؤسسات وتطورها، وفي تاريخ الجامعة المصرية لم يأت التعدي على الحريات الأكاديمية من الدولة في أغلب الأحيان، بل أتى من المجتمع وأحيانًا من داخل الجامعة نفسها، لقد وقع الاعتداء الأبرز على الحريات الأكاديمية في تاريخ الجامعة المصرية بعد تحولها إلى جامعة حكومية في عام 1926، وكان من نصيب الدكتور طه حسين عندما نشر كتابه "في الشعر الجاهلي"، فكان ضحية للتعدي على الحريات الأكاديمية مثلما كان ضحية لتدخل الدولة سياسيًا في الجامعة واعتداءها على استقلالها عام 1932، وإذا كان الاستبداد السياسي للدولة الجاني في الحالة الثانية، فإن تخلف المجتمع كان الجاني في قضية كتاب "الشعر الجاهلي"، لقد أثار القضية نائب في البرلمان يتمتع بالجمود الفكري لا يذكر أحد اسمه الآن، وانتهى الأمر بطه حسين متهما أمام النيابة العامة، ولولا سعة أفق وكيل النيابة محمد نور الدين وسيادة الروح الليبرالية في المجتمع لانتهى الأمر بتكفير طه حسين وإبعاده عن الجامعة، ومع ذلك فقد اضطر طه حسين إلى إصدار طبعه معدله من الكتاب بعنوان: "في الأدب الجاهلي"، حذف منها بعض العبارات التي استفزت قوى التخلف في المجتمع، وانتهى الأمر إلى حل وسط فتمت تبرئة طه حسين ليس على أساس من أن حرية البحث العلمي مطلقة لا قيد عليه، بل على أساس أن الرجل لم يقصد ما ذهب إليه منتقدوه مع إقرار غير قاطع بحرية الباحث، وفي نفس الوقت كان التراجع الشكلي لطه حسين عن بعض ما كتبه نوعا من الانحناء أمام عاصفة الفكر المحافظ، خاصة أنه لم يجد دعمًا واضحًا من حزب الأغلبية الشعبية "الوفد المصري" لأن عيون قادة الحزب كانت على صناديق الانتخاب، فلا مانع لديهم من بعض التضحية بمبادئ الليبرالية وبقليل من الحريات لضمان أصوات الجماهير، كانت قضية الشعر الجاهلي نموذجًا مبكرًا لضيق المجتمع بالحريات الأكاديمية، واستعداده للاندفاع خلف الغوغائية الفكرية لمصادرة حرية البحث العلمي في الجامعة، وعكس الحل الوسط الذي انتهت إليه القضية ظلاله على الحياة الأكاديمية في الجامعات المصرية إلى الآن، وحدد مسار الصراع بين أنصار الحرية الفكرية في الجامعة ودعاة الجمود في المجتمع.

 ومع تغول السلطة وتعديها على استقلال الجامعة بعد حركة يوليو 52 تضافرت تعديات الدولة مع اعتداءات قوى التخلف والجمود في المجتمع لتزيد من ضعف الجامعة وانهيار الحريات الأكاديمية فيها، وفي ظل التنافس الدائم بين سلطة يوليو وجماعات الإسلام السياسي على احتكار صفة "المتحدث الرسمي باسم الدين"، لم تجد الدولة غضاضة من التضحية بحرية البحث العلمي تملقًا لجماعات الإسلام السياسي أو أثباتًا لأنها أكثر حرصًا على الدين منهم.

 وبلغت المهزلة مداها مع تدخل أولياء الأمور فيما تدرسه الجامعات، فبين فترة وأخرى تصحو الجامعة على ضجة يثيرها ولي أمر اعتراضًا على نص يدرس في الجامعة، والأمثلة كثيرة يحضرني منها: الاعتراض على تدريس "ألف ليلة وليلة" في الثمانينيات، وعلى تدريس رواية "موسم الهجرة للشمال" للروائي السوداني الكبير الطيب صالح في التسعينيات، بدعوى خروجهما على الآداب العامة، والواقعتان من كلية الآداب بجامعة القاهرة، والضجة التي أثيرت بسبب تدريس رواية "الخبز الحافي" للأديب المغربي محمد شكري بالجامعة الأمريكية، وعلى وضع كتاب "محمد" للمفكر الفرنسي مكسيم رودنسون ضمن قائمة مراجع يطلع عليها الطلبة في نفس الجامعة، وتعكس هذه الظاهرة ضيق هامش الحرية داخل الجامعة يوما بعد يوم، وقد كانت استجابة الجامعة متفاوتة من حالة إلى أخرى لكنها جميعًا أتت في إطار الحل الوسط الذي فرض نفسه منذ أزمة كتاب الشعر الجاهلي.

 وإذا كانت الاعتداءات قد وقعت في هذه الحالات من قوى متخلفة ضيقة الأفق في المجتمع خارج الجامعة، فقد شهدت السنوات الثلاثون الماضية تضخما في نفوذ التيارات السلفية وجماعات الإسلام السياسي بين أعضاء هيئة التدريس داخل الجامعة، ولهذه التيارات والجماعات مواقفها المعلنة المعادية لحرية الفكر والتعبير، وإذا كان تأثير هذا الوجود الكثيف على الحريات الأكاديمية لا يبدو واضحًا في الكليات العلمية، فالأمر خلاف ذلك في الكليات النظرية، وكانت هذه التيارات قاسمًا مشتركًا أعظم في معظم الاعتداءات التي تعرضت لها الحريات الأكاديمية في الجامعات المصرية خلال العقدين الماضيين، خاصة مع وصول أساتذة منهم إلى عضوية لجان الترقيات في الجامعة، وتعتبر قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد في منتصف التسعينات من أشهر حالات التعدي على الحريات الأكاديمية من جانب تلك التيارات لكنها ليست الحالة الوحيدة.

 أصبحت الظاهرة الخطيرة في السنوات الأخيرة اختراق الجامعة بأساتذة ضد الحريات الأكاديمية، وإذا كان استقلال الجامعة عن الدولة أمر حيوي، فلا يقل عنه أهمية حماية حرية الرأي والتعبير والبحث العلمي ورفض وصاية أية جهة داخل الجامعة أو خارجها على الحريات الأكاديمية، دون ذلك لن يتطور بحث علمي حقيقي في هذا المجتمع.

***********
تحية للصديق محمد حاكم في ذكراه السابعة


 
صورة من الانتفاضة الطلابية في 1984 التي كان محمد حاكم أحد قادتها في جامعة القاهرة
 
 

محمد حاكم ومجموعة من زملائه في الحركة الطلابية في جامعة القاهرة
 
الصورتان من مجموعة الصديق محمد حسان...
 

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...