الأحد، 1 مايو 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 12 )

زمن الانقلابات الدستورية

عماد أبو غازي
 صدر دستور 1923، وأعقبه صدور قانون الانتخابات، وتم إجراء أول انتخابات برلمانية حرة في مصر، خسر فيها رئيس الوزراء أمام مرشح الوفد، وفي المحصلة النهائية فاز فيها الوفد بأغلبية كاسحة، وشكل سعد زغلول حكومته التي عرفت بحكومة الشعب. لكن الشعب لم يهنأ بدستوره طويلًا؛ فلم يأتي الأمر على هوى الملك فؤاد ولا على هوى الإنجليز، وبدأت المعارك حول تفسير الدستور وتطبيقه بين حكومة الشعب والملك؛ فوفقًا لنص الدستور كان للملك أن يعين خمسا أعضاء مجلس الشيوخ، وهنا تفجرت أول المعارك الدستورية بين حكومة الوفد والملك فؤاد، فقد أراد فؤاد أن يختار الأعضاء المعينين، وأصر سعد أن هذا حق الحكومة، مستندًا إلى الدستور الذي ينص على أن الوزارة هي المهيمنة على شؤون الدولة وأن الملك لا يباشر سلطاته إلا من خلالها وبواسطة وزرائه، ولجأ الملك وسعد للتحكيم القانوني، فجاءت فتوى البارون فان دي بوش الخبير القانوني البلجيكي، تؤيد رأي سعد فانتصرت إرادة الأمة.


 وفي يوم 15 مارس سنة 1924 انعقدت جلسة البرلمان التي ألقى فيها سعد زغلول خطاب العرش معلنًا فيه خطة حكومته، وقال في بدايته للنواب والشيوخ: "أحيى فيكم ممثلي شعبي الكريم، وأهنئكم منتخبين ومعينين بالثقة العظمى التي حزتموها لتؤلفوا أول برلمان مصري تأسس على المبادئ العصرية، وأحمد الله أن تحققت بتأسيسه أمنية من أعز أماني وأول رغبة من رغبات أمتي الشريفة، اليوم تدخل في دور التنفيذ النظامات النيابية التي قررها الدستور ولا ريب في أنها تبشر بإقبال عصر جديد من القوة والسعادة على بلادنا المحبوبة".


  لكن قبل أن ينتهي عام 1924 كانت الحكومة الدستورية الأولى التي تشكلت في 28 يناير سنة 1924 قد استقالت؛ تحديدًا في 24 نوفمبر 1924، في أعقاب حادثة اغتيال السير لي ستاك باشا سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام، جاءت الاستقالة رفضًا من سعد وحكومته للرد البريطاني على حادث الاغتيال الذي شكل تعدي على السيادة المصرية. 
 ومع استقالة الحكومة بدأ عصر الانقلابات الدستورية، ومصطلح الانقلاب الدستوري كان يقصد به خرق الملك لأحكام الدستور أو تعطيل العمل به أو تكليف حكومة لا تحظى بتأييد البرلمان بإدارة شئون البلاد مع تعطيل البرلمان إذا اصطدم بها.


 بدأ أول الانقلابات الدستورية مع تكليف الملك لأحمد زيور باشا بتولي رئاسة الحكومة، سلمت الحكومة الجديدة بكل انتهاكات بريطانيا للسيادة المصرية، كما تم اعتقال ستة من نواب البرلمان، اثنان منهم بمعرفة القوات البريطانية وأربعة بمعرفة البوليس المصري، رغم تمتعهم بالحصانة البرلمانية، وكانت أول خطوات الحكومة في اليوم التالي لتوليها تعطيل البرلمان لمدة شهر، وقبل أن ينتهي الشهر بيوم واحد استصدرت الحكومة مرسومًا بحل مجلس النواب، وتلاعبت في قوانين الانتخاب حتى تأتي بمجلس على هواها، فألغت القانون الذي أقره البرلمان للانتخابات المباشرة وأعادت العمل بالقانون الذي يقضي بإجراء الانتخابات على مرحلتين، وفي نفس الوقت أجرت انتخابات جديدة للمندوبين، رغم أن القانون القديم كان ينص على استمرار المندوبين في عملهم لمدة خمس سنوات، كما عدلت الحكومة الدوائر الانتخابية لتضمن نجاح مرشحي حزب الاتحاد الذي أسسه زيوار باشا.

                                                  زيور باشا
 ورغم الضغوط التي مارستها الحكومة فاز الوفد بالأغلبية مرة أخرى، وتشكلت وزارة من حزب الاتحاد والأحرار الدستوريين والمستقلين، ولم تنل الحكومة ثقة البرلمان ورفض الملك استقالتها وحل البرلمان للمرة الثانية في يوم انعقاده، وعطلت الحكومة إجراء الانتخابات ضاربة عرض الحائط بأحكام الدستور.
 ولما استمرت الحكومة في تعطيل الانتخابات اجتمع البرلمان من تلقاء نفسه في 21 نوفمبر سنة 1925 في فندق الكونتينتال بميدان الأوبرا، وقرر البرلمان عدم الثقة بالحكومة واعتبار نفسه في حالة انعقاد دائم.


 وبعد يومين أصدر أربعة عشر من الأمراء بيانًا طالبوا فيه الملك بإعادة الحياة الدستورية.


 وبعد مماطلة اضطر الملك إلى إعادة العمل بقانون الانتخاب الذي أصدره برلمان 1924، وأجريت الانتخابات في ظل توافق بين الوفد والأحرار الدستوريين والحزب الوطني، وفاز الوفد بالأغلبية وتم الاتفاق على أن تكون رئاسة البرلمان للوفد ويتولى عدلي يكن رئاسة الحكومة التي تضم الوفد والأحرار الدستوريين، وتوالت على البلاد ثلاث حكومات ائتلافية، إلى أن وقع الانقلاب الدستوري الثاني في صيف 1928، عندما أقال الملك فؤاد وزارة النحاس باشا عقب استقالة بعض الوزراء من حزب الأحرار الدستوريين.

محمد محمود باشا
 تم تكليف محمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار بتشكيل الحكومة التي سميت حكومة القبضة الحديدية، نسبة إلى المقولة الشهيرة لرئيسها محمد محمود باشا: "سأحكم البلاد بيد من حديد ثلاث سنوات قابلة للتجديد".
 بدأ محمد محمود حكمه بتعطيل البرلمان ثم حله وتعطيل عدد من مواد الدستور لمدة ثلاث سنين تنتقل فيها سلطة التشريع للملك، وأصدر الملك عدة تشريعات لحماية الانقلاب الدستوري ظهرت فيها للمرة الأولى في التشريع المصري مصطلحات "التحريض على كراهية النظام والازدراء به".
 لم يدم الانقلاب الدستوري طويلًا، فقد وصلت المفاوضات المصرية البريطانية إلى نقطة تحتاج لاتخاذ قرار مدعم بتأييد شعبي لمعاهدة مصرية بريطانية، فضغطت بريطانيا من أجل إعادة البرلمان والنظام الدستوري، فاستقالت حكومة محمد محمود في 2 أكتوبر 1929 وتولى عدلي يكن الحكم وأجرى انتخابات برلمانية أتت بالوفد إلى رئاسة الحكومة مرة أخرى.
 شكل النحاس باشا الوزارة في الأول من يناير سنة 1930، ودخلت الحكومة في مفاوضات فاشلة مع الإنجليز حيث رفض النحاس باشا تقديم تنازلات لهم في تلك المفاوضات، الأمر الذي أثار غضبهم ودفعهم إلى تأييد الملك في انقلاب دستوري جديد سريع، وكانت للملك دوافعه للإطاحة بالنحاس وبالدستور، فقد بدأت الحكومة عملها بإحالة ثمانية من كبار الموظفين إلى التقاعد لمشاركتهم في الانقلاب الدستوري السابق، واضطهادهم للشعب وإهدارهم لحقوق المواطنين وحرياتهم، كما وضعت الوزارة مشروع قانون محكمة النقض والإبرام في صيغته النهائية وعطله الملك بدعوى أن الوقت ليس مناسبًا له بعد، ومشروع قانون بنك التسليف الزراعي الذي أثار على الحكومة نقمة الدوائر المالية الأجنبية والمرابين الأجانب والمتمصرين لأنه كان سيحد من استغلالهم للفلاحين.


 لكن الصدام الأكبر مع الملك جاء لسببين الأول تدخله في اختيار أعضاء مجلس الشيوخ المعينين ضاربًا عرض الحائط بأحكام الدستور التي كانت تعطي للحكومة حق ترشيح الأسماء وللملك حق إصدار القرار فقط، وكان هذا الأمر مسار نزاع دائما بين السرايا والحكومة خاصة في ظل حكومات الوفد التي كانت تصر على التمسك بحقوقها الدستورية، وعلى أن تجعل من مصر ملكية دستورية يتراجع فيه دور الملك المباشر في السياسة لحساب الحكومة المؤيدة من البرلمان.
 أما الأمر الثاني فكان مشروع قانون محاكمة الوزراء الذي أصرت حكومة النحاس باشا على إصداره متضمنًا نصوصًا تقضي بعقاب الوزراء الذين ينقلبون على دستور الأمة أو يحذفون حكمًا من أحكامه أو يغيرونه بغير الطريق الذي رسمه الدستور، أو يخالفون حكمًا من أحكامه الجوهرية، فضلًا عن محاكمة أي وزير يبدد أموال الدولة العامة، وكان غرض الحكومة صيانة النظام الدستوري وحمايته من العبث والانقلابات، وقد رفض فؤاد توقيع مرسوم إحالة القانون إلى البرلمان لمناقشته.

 عندئذ قدم النحاس استقالة حكومته في 17 يونيو 1930، وأكد فيها أن سببها عدم تمكنه من تنفيذ برنامجه، واتجه النحاس باشا إلى مجلس النواب وأعلن أن الوزارة قدمت استقالتها وحدد أسباب الاستقالة، وغادر البرلمان، إلا أن المجلس قرر بعد مناقشة قصيرة تجديد الثقة بالحكومة؛ لكن فؤاد قبل استقالة الوزارة يوم 19 يونيو  وفي اليوم التالي كلف إسماعيل باشا صدقي عدو الشعب وعدو الدستور بتشكيل الوزارة لينفذ نية الملك المبيتة بالتعدي على دستور الأمة ويغتال حقوقها التي اكتسبتها عبر نضال طويل بدأ منذ ثورة 1795 في القاهرة، وليبدأ أخطر انقلاب دستوري في تاريخ مصر.

صدقي باشا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...