الثلاثاء، 6 أكتوبر 2020

ثلاثة مؤرخين من مصر

 

ثلاثة مؤرخين من مصر

 

عماد أبو غازي 

  بدأت المدرسة المصرية في الكتابة التاريخية باللغة العربية في المراحل الأخيرة من عصر الولاة، الذي يمتد من دخول المسلمين مصر بقيادة عمرو بن العاص سنة ٢٠هـ (٦٤٠م) حتى ضمها الفاطميون إلى دولتهم ونقلوا مركز خلافتهم إليها سنة ٣٥٨هـ (٩٦٩م)، خلال ذلك العصر كانت مصر تابعة لدولة الخلافة الإسلامية يحكمها ولاة يعينهم الخليفة ويفوضهم في إدارة شئون الولاية، وخلاله بدأت بوادر تحول مصر إلى اللسان العربي، فبدأ مؤرخو الكنيسة يكتبون أيضًا بالعربية، واستوطنت في مصر قبائل عربية اختلطت بأهل البلاد بعد إسقاط العرب من ديوان العطاء، فتمصرت مع مرور الزمن، كذلك شهد هذا العصر ثورات متوالية استمرت لأكثر من قرن من الزمان من بدايات القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، قام ببعضها الأقباط وببعضها الآخر القبائل العربية التي استوطنت في مصر وشارك في بعضها الجميع، وكانت أكبرها وأهمها ثورة البشموريين التي قمعها الخليفة المأمون سنة ٢١٧ هـ (٨٣٢م).


 وخلال ذلك العصر هاجر إلى مصر أعداد من الصحابة والتابعين، وانتقل إليها فقهاء وعلماء ومحدثون من مختلف أرجاء الدولة الإسلامية ليعيشوا فيها، فتأسست حلقات العلم والدرس في مدينة الفسطاط ومسجدها الجامع الذي شيده عمرو بن العاص، في هذا المناخ ظهرت البدايات الأولى للكتابة التاريخية بالعربية في مصر، أو لما يمكن أن نسميه التأريخ من أهل مصر عن مصر.

 لقد ظهرت المدرسة المصرية كواحدة من المدارس التاريخية في أقاليم الدولة الإسلامية وولاياتها، التي يرتبط ظهورها بظهور الدول المستقلة في إطار الدولة العباسية، الأمر الذي دفع إلى الاهتمام بكتابة تاريخ الأقاليم التي قامت فيها هذه الدول.

 ففي مصر تطور هذا الاتجاه عندما تأسست في مصر الدولة الطولونية سنة ٢٥٤هـ (٨٦٨م) ومن بعدها قامت الدولة الإخشيدية سنة ٣٢٣هـ (٩٣٥م)، ورسخ مع تحول مصر إلى دار خلافة في العصر الفاطمي، سارت الكتابة التاريخية في عدة مسارات، فظهرت مؤلفات عن "فتح" مصر، وأخرى عن فضائلها وثالثة عن خططها، كما ظهرت كتب السير والتراجم، ثم تواريخ الدول والأسر الحاكمة وكتب الحوليات، وظهر مؤرخون عاشوا في مصر مثل عبد الرحمن بن عبد الحكم، ومحمد بن يوسف الكندي وابنه عمر، والبلوي وابن الداية والحسن بن زولاق وساويرس بن المقفع وأبو المكارم والمسبحي والأسعد بن مماتي وغيرهم.

 وخلال القرون التالية أخذت هذه المدرسة في التطور إلى أن بلغت ذروتها في عصر المماليك، الذي يعد العصر الذهبى للتأريخ في مصر، حيث نبغ خلاله مجموعة من أبرز المؤرخين الذين عرفتهم الحضارة الإسلامية، لقد شهد ذلك العصر تنوعًا واسعًا في المؤلفات التاريخية مابين الحوليات التاريخية، وكتب خطط المدن، والتراجم وتواريخ المدن، فضلا عن المؤلفات الموسوعية الضخمة والرسائل التاريخية الصغيرة.

لقد عاش في ذلك العصر من أعلام مؤرخي مصر: القلقشندى وابن خلدون والعيني وابن حجر العسقلاني وجمال الدين أبو المحاسن والصيرفي والسيوطي والسخاوي وابن إياس، وغيرهم، لكن أبرز مؤرخي ذلك العصر وأكثرهم نبوغا كان تقي الدين أحمد بن على المقريزي، الذي جمع ما بين أنواع التأليف التاريخي المختلفة.

 لقد كانت مصر في تلك الحقبة تعيش لحظات تحول وانتقال في تاريخها؛ فقد خرجت من محنة الفناء الكبير أو الموت الأسود الذي خرب العالم القديم كله من مشرقه إلى مغربه في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وكانت البلاد تحاول أن تستعيد قواها مرة أخرى بعد أن أنهكها الوباء القاتل واستنزفها عندما حصد أرواح مئات الآلاف من البشر، ومن ناحية أخرى كانت الصراعات السياسية تعصف بكيان الدولة، دولة المماليك البحرية التي ظهرت إلى الوجود على أنقاض الدولة الأيوبية، عقب معركة المنصورة التي انتصر فيها مماليك الصالح نجم الدين أيوب على لويس التاسع، وكان هذا الانتصار هو شهادة الميلاد للدولة الجديدة التي حملت أعباء القضاء على الوجود الصليبي في المشرق العربي، والتصدي للهجمة المغولية، وبمجرد نجاح تلك الدولة في مهمتها التاريخية في عصر خليل بن قلاوون بدأت تفقد مبرر وجودها التاريخي، وبدأ الضعف يدب في كيانها، ونجح بالفعل أحد الأمراء الكبار وهو برقوق بن أنص في الاستيلاء على السلطنة وإقامة دولة جديدة هي دولة المماليك الجراكسة التي تأسست في سنة ٧٨٤هـ (١٣٨٢م)، ورغم أن السنوات الأولى لهذه الدولة قد شهدت دفعة قوية للبلاد على يد السلطان الجديد الظاهر برقوق، إلا أن الأمور سرعان ما عادت إلى التدهور المتسارع في عصر خلفائه ودخلت مصر في أزمة تاريخية خانقة لم تستطع منها فكاكًا رغم كل المحاولات الإصلاحية التي قام بها سلاطين من أمثال برسباى وقايتباى خلال القرن التاسع الهجري وانتهى الأمر بسقوط مصر في براثن الاحتلال العثماني سنة ٩٢٣ هـ (١٥١٧م).

 لقد كان العصر بأحداثه عصرًا يحفز على الكتابة التاريخية، ويدفع بها نحو التطور، فأحداثه تغري كل صاحب نظرة تاريخية للتأمل والتحليل، فكان طبيعيًا أن يظهر في ذلك العصر مؤرخون أفذاذ يمتلكون القدرة على التحليل ولا يقفون عند الرصد والتسجيل.

 ثم تراجعت تدريجيًا في حقبة الاحتلال العثماني لمصر، في القرون الثلاثة من السادس عشر حتى بداية التاسع عشر، وينتهي عصر الكتابة التاريخية التقليدية بانتعاشه أخيرة على يد عبد الرحمن الجبرتي الذي أحيا مدرسة الحوليات والتراجم في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار، وخلال القرن التاسع عشر ظهر اتجاه جديد للكتابة التاريخية أخذ يتحول تدريجيًا إلى الكتابة التاريخية الأكاديمية.

 وطوال هذه القرون تنوعت واتجه إلى الاشتغال بالكتابة التاريخية فئات متنوعة من المصريين، فنجد المؤرخين من ذوي الأصول المصرية الخالصة، سواء من استمر منهم على مسيحيته أو من تحول للإسلام، ومنهم من هم من أبناء القبائل العربية التي استقرت بمصر، ومنهم ذوي الأصول الأرمينية أو التركية أو الجركسية، بعضهم من طائفة الفقهاء والعلماء وهم الأكثر غلبة وظهورًا في الكتابة التاريخية العربية، أو من القسس والرهبان، وبعضهم من أرباب الدواوين ورجال الإدارة، والبعض الثالث مقاتلين من المماليك اتجهوا إلى تدوين التواريخ، ونجد كذلك المؤرخين "أولاد الناس" وهو المصطلح الذي كان يطلق على أبناء الأمراء المماليك، وأخيرا المؤرخين الشعبيين ومثلهم ابن زنبل الرمال قارئ الطالع في الرمل الذي أرخ في نص أدبي بديع لاحتلال سليم لمصر ومقاومة طومان باي آخر سلاطين المماليك له.

 وسنتوقف عند ثلاثة من الأسماء البارزة في رحلة الكتابة التاريخية في مصر وعن مصر من زمن بداية الكتابة التاريخية بالعربية حتى عصرها الذهبي.

  ابن عبد الحكم صاحب كتاب فتح مصر

 إنه أقدم مؤرخ مصري كتب بالعربية ووصلت إلينا مؤلفاته من العصر الإسلامي، وقد ولد ابن عبد الحكم حوالي سنة ١٨٧هـ (٨٠٣م) وتوفي في الفسطاط سنة ٢٥٧هـ، (٨٧١م)، ودفن بجوار قبر الإمام الشافعي، فعاش في قلب عصر الولاة، ففيه نشأ واشتغل بجمع التواريخ وتدوينها، كان الرجل ينتمي لأسرة من الفقهاء، فقد كان أبوه من رجال الفقه والحديث البارزين في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجريين، وقد تعرضت أسرته لمحنة شديدة في عصر الخليفة العباسي المتوكل على الله وولاية يعقوب بن إبراهيم على مصر، وصُودرت أموالهم وأودعوا السجون، وقد عاصر ابن عبد الحكم قيام الدولة الطولونية وعاش ثلاث سنوات بعد تأسيسها.

 وترجع أهمية ابن عبد الحكم إلى أنه صاحب أقدم كتاب عربي مؤلف في مصر يتناول تاريخ دخول العرب إليها، ورغم أن ابن عبد الحكم لم يكن معاصرًا لتلك الحوادث إلا إنه جمع الروايات المختلفة التي دونها السابقون عليه، أو تلك التي سمعها تروى شفاهًا بأسلوب جمع الحديث.


 ويحمل كتابه عنوان "فتح مصر"، ،بدأه بفصل عن وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبط، ثم فصل في ذكر فضائل مصر، ذلك الموضوع الذي ألف فيه بعض المؤرخين بعده كتبًا كاملة، من أقدم ما وصل إلينا منها كتاب عمر بن الكندي، ثم يأتي الحديث بعد ذلك سرد التاريخ الذي تخيله العرب لمصر من أقدم العصور، بما فيه التاريخ المتخيل للأنبياء الذين دخلوا مصر.

 يبدأ التاريخ الأقرب إلى الحقيقة مع حديثه عن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، لينتقل إلى سبب دخول عمرو بن العاص مصر، ومنه يتحدث عن وقائع فتح مصر، ويناقش بالتفصيل السؤال التاريخي الفقهي هل فتحت مصر صلحًا أم عنوة؟

ثم ينتقل لذكر بناء الفسطاط وخططها منذ أسسها عمرو بن العاص، كما يذكر خطط الجيزة، والقطائع، ويتحدث عن ما يسميه أخائذ الإسكندية، فهو يميز بين الخطط بمعنى ما اختطه الناس من مناطق جديدة وسكنوا فيها، والأخائذ وهي ما استولى عليه العرب من مساكن أهل مصر.

 وتحدث عن بعض الوقائع التاريخية مثل خروج عمرو للريف ومقاسمة عمر للولاة، كما تكلم عن الجزية ومقدارها، وما دار بين عمر وعمرو حول خراج مصر.

 كما خصص ابن عبد الحكم جزءًا من كتابه للحديث عن النيل فذكر أهمية النهر لحياة مصر، وتحدث عن روايات السابقين عن النهر وعظمته، وأورد ابن عبد الحكم في هذا السياق روايته الخرافية عن التضحية بفتاة كل عام حتى يأتي الفيضان ورفض عمر ورسالته المزعومة للنيل، وهي الرواية التي استند إليها كثير من الناس في أسطورة عروس النيل.

 وقد أكمل ابن عبد الحكم كتابه بتسجيل فتوح إفريقية والمغرب والأندلس والتي بدأت نقطة انطلاقها الأولى من مصر، ولم تصلنا نسخة أصلية للكتاب لكنه وصل مرويًا، ورغم ما يتضمنه الكتاب من روايات خرافية عن مصر وتاريخها إلا أن أهميته تكمن فيما يكشفه عن الرؤية السائدة في ذلك العصر.

 الحسن بن زولاق مؤرخ ضاع تاريخه

 عاش أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق الليثي المصري في عصر من عصور الانتقال؛ فقد ولد بالفسطاط سنة ٣٠٦ هـ (٩١٩م) وتوفى في سنة ٣٨٧ هـ (٩٩٧م)، ونشأ في بيت علم فقد كان جده الحسن بن على من مشاهير علماء مصر في القرن الثالث، كما كان من أعمامه محمد بن زولاق أحد اللغويين البارزين في عصره، وقد درس الحسن بن زولاق الفقه والتاريخ على يد أعلام القرن الرابع، فكان تلميذًا لأبى بكر زين الحداد من أعظم أئمة العصر وفقهائه، ودرس التاريخ على أبى عمر الكندي صاحب كتابي ولاة مصر وقضاة مصر.

 وقد تخصص ابن زولاق في التاريخ، واهتم على وجه الخصوص بتاريخ مصر دون غيرها فألف فيه العديد من الكتب والرسائل، وكانت الفترة التي عاشها كغيرها من عصور الانتقال ملهمة للمؤرخ الواعي الممتلك للرؤية التاريخية.

 لقد عاش ابن زولاق لحظات صعود دولة الإخشيديين وازدهارها، كما شهد تدهورها وانهيارها، وعاصر دخول الفاطميين لمصر والسنوات الأولى لدولتهم فيها، وكان تحول مصر إلى جزء من الدولة الفاطمية، وانتقال مقر خلافة الفاطميين إليها نقطة تحول مهمة في تاريخ مصر الإسلامية، فقد عادت مصر مركزًا رئيسيًا من مراكز الإشعاع الحضاري في عالم العصور الوسطى، وقد أرخ ابن زولاق لكل هذه الأحداث المهمة التي عاصرها وعايشها بنفسه، وكان قريب الصلة بمن صنعوها، فقدم صورة دقيقة عنها.

 اتصل ابن زولاق ببلاط الإخشيديين وكتب تاريخ الإخشيد بطلب من ابنه أبى الحسن على بن الإخشيد، واتصل بجوهر قائد المعز، وعن طريقة تعرف على أول خلفاء الفاطميين بمصر، ثم وضع كتابه سيرة المعز من خلال معرفة قريبة بالرجل، وتذكر المصادر التاريخية التي ترجمت لابن زولاق ثلاثة مؤلفات أخرى له تتناول كلها مصر التي شغلت اهتمامه بالكامل، وهي: تاريخ مصر وفضائل مصر وخطط مصر.

 وإذا كان عبد الرحمن بن عبد الحكم قد سبق ابن زولاق في الكتابة عن تاريخ مصر وفتح العرب لها، كما كتب في فضائل مصر بعض معاصري ابن زولاق كعمر بن الكندي، فإن مؤرخنا كان سباقًا في التأليف في مجال الخطط، فرغم أن السابقين على ابن زولاق، قد أشاروا إلى خطط الفسطاط وتوزيع مناطقها بين القبائل في مؤلفاتهم العامة عن مصر وتاريخها، فإن ابن زولاق على ما يبدو قد تناول الموضوع في كتاب مستقل يحمل عنوان الخطط.

 ويبدو أن ابن زولاق قد تناول خطط الفسطاط  بنوع من الإفاضة والتوسع، كما امتد به البحث والتقصي إلى خطط عواصم مصر الأخرى كالعسكر والقطائع، وربما يكون قد تناول في خططه إنشاء القاهرة التي شهد قيامها قبل وفاته بنحو ثلاثين عامًا كما يقول المؤرخ الراحل محمد عبد الله عنان.

 ورغم تنوع مؤلفات الحسن بن زولاق وغزارة إنتاجه الفكري إلا أن الجزء الأعظم من هذا الإنتاج لم يصلنا في صورته الأصلية، لقد فقدت جل مؤلفات ابن زولاق التاريخية، وما وصلنا منها جاء مبتورًا ناقصًا أو مضمنًا في مؤلفات غيره من المؤرخين الذين عاشوا بعده ونقلوا عنه، ومن حسن الحظ أن بعض هؤلاء المؤرخين قد ضمنوا في كتبهم مؤلفات كاملة أو شبه كاملة لابن زولاق، مثلما فعل أبو سعيد الأندلسي في القرن السابع الهجري، عندما نقل سيرة الإخشيد لابن زولاق كاملة في القسم الذي ألفه من كتاب "المُغرب في حلى المَغرب".

 كذلك لخص المقريزي فصلًا من كتاب ألفه ابن زولاق عن أخبار الماردانيين، وهم أسرة توارثت منصب الوزارة في زمن الإخشيديين، كما وصلتنا عن طريق المقريزي أيضًا فقرات متعددة من كتاب ابن زولاق عن المعز لدين الله الفاطمي في كتابه "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الخلفاء".

 وقد وصلتنا من بين مؤلفات ابن زولاق التاريخية أجزاء من مخطوطته عن فضائل مصر، لكنها أجزاء غير مكتملة ولا تشكل نصًا أصليًا للكتاب، أما الكتاب الوحيد الذي وصلنا كاملًا من أعمال ابن زولاق المصري فرسالة صغيرة تدخل في باب السير والتراجم بعنوان: "كتاب أخبار سيبويه المصري" ويترجم فيه لأحد المعاصرين له من ظرفاء ذلك العصر.

 وقد كان المفكر والمؤرخ الراحل محمد عبد الله عنان هو أول من ألتفت إلى أهمية هذا الكتاب عندما اكتشف نسخته المخطوطه التي كتبها المؤلف بخطه ونشر دراسه عن هذه النسخة محققًا نسبتها إلى المؤلف في الملحق الأدبي لجريدة السياسة سنة ١٩٣٢، ثم دفع بصورة من تلك النسخة إلى اثنين من الباحثين قاما بنشر الكتاب هما محمد إبراهيم سعد الذي كان من خريجي دار العلوم ويعمل بالتدريس بالمدارس الابتدائية وحسين الديب الضابط بمدرسة البوليس والإدارة، وقد قام عنان بالتقديم لهذه الطبعة التي صدرت عام ١٩٣٣.



 وفى مقدمة الرسالة يعرفنا الحسن بن زولاق بمعاصره سيبويه وبسبب تأليفه هذه الرسالة فيقول:

 "كان عندنا بمصر رجل يعرف بسيبويه، لو كان بالعراق لجمع كلامه ونقلت ألفاظه، ولو عرف المصريون قدره لجمعوا عنه أكثر مما حفظوه، وسئلت أن أجمع من كلامه ما أقدر عليه مما حفظته عنه، وما بلغني عنه، فعملت كتابي هذا بصفته وما كان يُحسنه حسب ما قدرت عليه.

 وهو أبو بكر محمد بن موسى بن عبد العزيز الكندي الصيرفي، المعروف بسيبويه، ولد بمصر سنة أربع وثمانين ومائتين، وتوفى في صفر سنة ثمان وخمسين وثلثمائة وسِنّهُ أربع وسبعون سنة، قبل دخول القائد جوهر إلى مصر بستة أشهر، وتأسف عليه لما ذكرت له أخباره، وقال: لو أدركته لأهديته إلى مولانا المعز صلوات الله عليه في جملة الهدية.

 وكان أبوه شيخًا صرفيًا يكنى أبا عمران أعرفه، لأبنه سيبويه معه قصص أنا أذكرها في كتابي هذا..."

 ورغم ضياع الغالبية العظمى من مؤلفاته، فإن النصوص التي وصلتنا أجزاء متفرقة منها هنا وهناك في كتابات المؤرخين الذين جاءوا من بعده تكشف عن حس تاريخي يقظ، وعن مؤرخ مدقق لماح، استفاد من قربه من مواقع اتخاذ القرار في فترة مليئة بالأحداث السياسية والتحولات الاجتماعية والفكرية والثقافية فرصد هذه التحولات، وحتى رسالته الصغيرة أخبار سيبويه وهى المؤلف الوحيد الذي وصلنا كاملًا تقدمه لنا كمؤرخ وأديب بارع في نفس الوقت، فالرسالة على صغرها ذات قيمة بالغة فهي أقدم نص أدبي عربي في مصر يصل إلينا مكتملًا، كما أن المؤرخ يستطيع أن يستخلص الكثير من ثناياها عن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية بل أيضًا عن الأوضاع السياسية.

 أننا أمام مؤرخ فذ بخل علينا الزمن بالاحتفاظ بمؤلفاته، إلا أنه يظل صاحب علامة بارزة في الكتابة التاريخية في مصر في العصر الوسيط.

   تقي الدين المقريزي شيخ مؤرخي العصر الوسيط

 ينتمي تقي الدين أحمد بن علي المقريزي إلى أسرة اشتهرت بالاشتغال بالعلم في دمشق وبعلبك والقاهرة، وترجع أصوله إلى بعلبك، فقد انتقل والده منها إلى القاهرة حيث عمل بديوان الإنشاء، والذي كان يعتبر من أهم دواوين الدولة في ذلك العصر، وقد ولد بحارة برجوان بخط الجمالية بالقاهرة سنة ٧٦٤هـ (١٣٦٤م)، وكانت دراسته دراسة دينية مثل أهل العلم في عصره، والتحق كوالده بالعمل كاتبًا في ديوان الإنشاء، فأتصل من خلال عمله بكبار رجال الدولة، وبأحداث عصره المهمة عن قرب، لكن المقريزي لم يستمر في وظيفة الكتابة بديوان الإنشاء طويلًا حيث انتقل للعمل في سلك القضاء فأصبح نائبًا من نواب قاضى القضاة الشافعي، كما تولى وظيفة محتسب القاهرة والوجه البحري في زمن السلطان الظاهر برقوق.

 كانت حياة المقريزي في زمن مضطرب، شهد انتقال السلطة من سلاطين دولة المماليك البحرية من أسرة قلاوون إلى السلاطين الجراكسة، وعاش الأزمة الاقتصادية الكبرى في مطلع القرن التاسع الهجري، وتنقل المقريزي ما بين القاهرة ودمشق ومكة واشتغل بتدريس الحديث النبوي في المدرسة المؤيدية بالقاهرة والمدرستين الإقبالية والأشرفية بدمشق، كما تولى إمامة جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي بالقاهرة، وتوفى المقريزي بالقاهرة سنة ٨٤٥ هـ (١٤٤٢م) وقد قارب على الثمانين من عمره الذي أفناه في الدرس والتأليف؛ لقد تتلمذ تقي الدين المقريزي على يد المؤرخ العلامة عبد الرحمن بن خلدون، وتأثر بأفكاره ونظرياته في التاريخ والعمران البشري، لكنه تفوق على أستاذه في تطبيق تلك النظريات على أحداث التاريخ، وظهر نبوغ المقريزي كمؤرخ في مؤلفاته المتعددة التي تراوحت بين الكتب الضخمة التي تتألف من عدة مجلدات، والرسائل الصغيرة التي لا تتجاوز بضع صفحات، ضاع أغلبها للأسف، لكن ما وصلنا يضعه بلا جدال في مصاف المبرزين من صناع الحضارة العربية الإسلامية.

  وأول مؤلفاته التي تنتمي إلى الكتب الطويلة وضعه في دمشق وهو كتاب "إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والحفدة والأحوال والأتباع" وهو كتاب في السيرة النبوية أعتمد فيه على الاقتباس من كتب السيرة التي وضعها سابقوه، وفى هذه المرحلة أيضا ألف رسالته الصغيرة التي حاول أن يطبق فيها نظرية أستاذه ابن خلدون عن العصبية القبلية على التاريخ العربي والإسلامي، وتعرف هذه الرسالة باسم كتاب "النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم". وأثناء إقامته في مكة وضع المقريزي عدة مؤلفات صغيرة منها: "ضوء الساري في معرفة تميم الداري" و "البتر المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك"، "ووصف حضرموت العجيبة"، "والإعلام بمن في أرض الحبشة من ملوك الإسلام".




 أما مؤلفاته الكبيرة فأهمها على الإطلاق كتاب "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" وكتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك".

 الكتاب الأول الذي اشتهر باسم خطط المقريزي قام فيه بدراسة مدينة القاهرة وضواحيها، بكل ما فيها من شوارع وحارات ودروب وأزقة ومنشآت دينية وتعليمية وتجارية، وقد تخللت الكتاب معلومات مهمة عن النظم السياسية والإدارية في مصر، وعن العادات والتقاليد والاحتفالات الشعبية والأعياد الدينية الإسلامية والمسيحية، مع تراجم موجزة لبعض الأعلام.

 أما كتاب السلوك، فيعتبر الكتاب العمدة في التأريخ لدولتي الأيوبيين والمماليك منذ نشأة الدولة الأيوبية في منتصف القرن السادس الهجري حتى وفاة المقريزي في منتصف القرن التاسع الهجري، وقد جمع فيه بين أسلوب التأليف الحولي والتأليف وفقا لعهود حكم السلاطين، وقد ختم به مؤلفاته الكبرى عن تاريخ مصر في العصر الإسلامي؛ فقد سبقه عملان كبيران: أحدهما مفقود "عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط"، وقد تناول فيه تاريخ مصر في عصر الولاة، والثاني "اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا" والذي يؤرخ فيه للدولة الفاطمية في مصر.





 أما رسائل المقريزي الصغيرة خاصة تلك التي ألفها في السنوات الأخيرة من حياته فهي متنوعة في موضوعاتها مابين الكتابة في التاريخ والاقتصاد والفنون وعلم الحيوان والمعادن، حتى النحل والعسل الأبيض كتب عنه مؤلفًا صغيرًا بعنوان "نحل عبر النحل"، ومن بين تلك الرسائل رسالة صغيرة تعرف بكتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، ويعد من الكتب العربية القليلة التي اهتمت بالناحيتين الاقتصادية والاجتماعية في التاريخ، وربطت بينهما بشكل علمي دقيق؛ وفى هذا الكتاب يؤرخ المقريزي لغلو الأسعار والمجاعات التي أصابت مصر منذ أقدم العصور حتى ٨٠٨هـ، ثم يحاول تشخيص أسباب الأزمة الطاحنة التي كانت مصر تعيش في ظلها في أوائل القرن التاسع الهجري ويقترح الحلول العملية لها.

  ومن المؤلفات الصغيرة للمؤرخ تقي الدين المقريزي رسالة من بين رسائله تحمل عنوان "شذور العقود في ذكر النقود"، وهي رسالة كتبها بناء على طلب مسئول كبير في الدولة كما يذكر في مقدمته للرسالة، وقد وضع هذه الرسالة التي تأخذ شكل التقرير في زمن السلطان المؤيد شيخ، بعد شهر صفر سنة ٨١٨هـ.

 لقد كان تقي الدين المقريزي قمة الهرم في العصر الذهبي للكتابة التاريخية في مصر والشام، كان مؤرخًا لعصر وكان في نفس الوقت علامة على عصر.

مقالي في مجلة ديوان عدد أكتوبر 2020

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...