الجمعة، 3 أبريل 2020

تمثال نهضة مصر في الوجدان المصري



تمثال النهضة في الوجدان المصري

عماد أبو غازي


  تمر هذا العام؛ عام 2020، الذكرى المئوية لعرض النموذج الأول لتمثال نهضة مصر الذي نحته مختار في صالون الفنون بباريس، هذا التمثال الذي استغرقت رحلة إقامته ثمان سنوات، بين عرض نموذجه المصغر لأول مرة في مايو 1920 وإزاحة الستار عنه في مايو 1928 بميدان باب الحديد.



 ثمان سنوات شهدت معارك طويلة مع البيروقراطية التي أعاقت العمل في التمثال، ومعارك مع الساسة المؤيدين لاستبداد الملك فؤاد، فقد كان تمثال النهضة تعبيرًا عن ثورة الشعب، وكان في الوقت ذاته ثورة في القيم الفنية، لقد عرفت مصر تماثيل الميادين والحدائق منذ عصر الخديوي إسماعيل، لكن جميعها كانت بأيدي ناحتين أوروبيين، ولم تخرج عن تماثيل أسرة محمد علي وكبار رجال دولتهم، أو تماثيل الأسود الأربعة التي زينت كوبري قصر النيل، فجاء تمثال النهضة أول تمثال ميدان ينحته مصري في العصر الحديث، ليرمز به لثورة الشعب، ويختار الفلاحة المصرية لتكون رمزًا للنهضة، وكان هذا الاختيار في حد ذاته ثورة على قيم الدولة المصرية الحديثة التي أسسها محمد علي، وانتزاعًا لجزء مهم من الفراغ العام لصالح الشعب، وكان اختيار ميدان باب الحديد، الذي يعتبر مدخل القاهرة الرئيسي للقادمين من الوجهة البحري أو الوجه القبلي تحدٍ آخر للسلطة، وإذا كان رفض تجسيد الفلاحة للنهضة ظل مضمرًا في نفوس الملك والموالين له، فإن محاولة إقصاء التمثال عن مكانه المختار تكررت عدة مرات، لكن توازن القوى كان في صالح مختار وتمثاله، وانتهى الأمر برضوخ الملك فؤاد وتحديد موعد لإزاحة الستار عن التمثال أثناء تولي مصطفى النحاس رئاسة الحكومة الائتلافية بين الوفد والأحرار الدستوريين.
 ثمان سنوات شغل فيها التمثال الرأي العام المصري، واحتل مكانة خاصة في وجدان المصريين، ما زالت باقية إلى يومنا هذا بعد مئة عام.
 عندما قامت ثورة 1919 كان مختار يعيش في باريس ويعمل كبيرًا للنحاتين بمتحف جريفين للتماثيل الشمعية، وشارك لفترة في نشاط الجمعية المصرية بباريس التي كانت تروج للقضية المصرية وتدعم الثورة وتساند نشاط الوفد المصري بعد الإفراج عن سعد ورفاقه المنفيين وسفرهم مع باقي أعضاء الوفد إلى باريس.
 لقد انفعل مختار مثل كل المصريين بثورة 1919 وأحداثها، وقرر أن تكون مساهمته فيها من خلال فنه، فنحت تمثالًا يعبر عن الثورة التي اعتبرها نهضة للشعب المصري، وقدم هذا التمثال إلى معرض الفنون الجميلة في باريس سنة 1920 فحصل على شهادة تقدير.
ولفكرة التمثال قصة، فعندما انفعل مختار بأحداث ثورة 1919 نحت تمثالًا يعبر عن هذه الثورة، فجاء التمثال على هيئة رجل متوثب يرتدي ما يشبه العقال ويتأهب ليستل سيفه من غمده، لكن مختار تراجع عن الفكرة وحطم التمثال ولم يتبق منه سوى صورة فوتوغرافية نشرها الناقد جبرائيل بقطر لأول مرة في الأربعينيات بعد رحيل مختار.

 ونحت مختار بعدها رمز النهضة الذي نراه إلى اليوم في مدخل الطريق المؤدي إلى جامعة القاهرة، لقد سمى مختار تمثاله "نهضة مصر" لأنه رأى أن الثورة كانت التعبير الحي عن روح النهضة الشاملة والبعث الوطني، فجاء التمثال على هيئة فلاحة مصرية تستنهض "أبو الهول" من ثباته العميق ليربط بذلك بين نهضتنا المعاصرة وتراثنا المصري القديم.
وكان انجاز مختار للتمثال مواكبًا لفترة إقامة الوفد المصري في أوروبا لعرض قضية البلاد والدعوة لاستقلال مصر، فتعرف أعضاء الوفد على مختار وشاهدوا التمثال قبل عرضه على الجمهور.
 ففي مثل هذه الأيام منذ مئة عام، وبالتحديد في الأيام الأخيرة من أبريل 1920 زار بعض أعضاء الوفد مختار في مرسمه وشاهدوا النموذج الأول للتمثال الذي أدخل عليه مختار بعد ذلك بعض التعديلات الفنية فجعله أكثر مصرية، وفي الأسبوع الأول من شهر مايو 1920 شاهد سعد زغلول التمثال وأبدى أعجابه به، وعبر عن إعجابه هذا في رسالة بخط يده بعث بها إلى مختار أشاد فيها بالعمل وبالمعنى الرمزي الذي يحمله؛ قال سعد في رسالته:
"حضرة المصور الماهر مختار
شاهدت المثال الذي رمزت به لنهضة مصر فوجدت أبلغ رمز للحقيقة، وانهض حجة على صحتها، فأهنئك على هذا الخيال الواسع وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر، وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها فتشفع مثال النهضة بمثال الاستقلال والسلام
سعد زغلول
باريز 6 مايو سنة 1920”

 وبدأ بعض المصريين في باريس وبعض أعضاء الوفد يكتبون عن التمثال وعن مختار في الصحف المصرية داعين إلى الاحتفاء بالتمثال وبصاحبه.
  فكتب مجد الدين حفني ناصف سلسلة من المقالات في جريدة الأخبار التي كان يصدرها أمين الرافعي، واتخذ لها عنوانًا واحدًا: "النهضة الفنية في مصر"، ومما جاء فيها: "تغلغلت الفكرة في صدر مصورنا فوضعها على الورق ثم صورها صغيرة ثم كبرها حتى استقر قرار فكره على أن يكون حجمها هكذا، وكلما أراد أن يخط خطًا انبعث في مخيلته أثر من آثار جلال النهضة يحاول مصورنا أن يترجم عما في فكره من الخيال فيظل يحذف ويضيف ويضغط ويضخم، يرى أن هذه الهيئة من الطين لا تنطق بما في نفسه ثم يعيدها..."
وفي أعقاب هذه المقالات أرسل الدكتور حافظ عفيفي، وكان من ضمن أعضاء الوفد المصري وقتها، رسالة إلى أمين الرافعي رئيس تحرير الأخبار يقترح فيها أن تتبنى الجريدة الدعوة لاكتتاب عام لإقامة تمثال النهضة في أحد ميادين العاصمة، فقال فيها: "ولكن ألا يجب علينا أن نعمل ما تعمله الشعوب الحية فنفتح اكتتابًا أهليًا لنشتري تمثال مختار ليوضع في أحد ميادين العاصمة، فنكون بذلك احتفظنا بأثر خالد يشهد بنبوغ أبنائنا من جهة، ونقدم بذلك مكافأة مالية لهذا النابغة تنشيطًا له وتشجيعًا لأمثاله."
 وتلقف الرافعي الفكرة وتبنى الدعوة لها، فنشر في اليوم التالي بجريدة الأخبار نداءً لاكتتاب قومي عام تحت عنوان: "نهضة مصر دعوة إلى الأمة المصرية"، وساند فكرة الاكتتاب اثنان من أعضاء الوفد المصري هما ويصا واصف وواصف غالي، فنشر الأول مقالًا بعنوان "محمود مختار والنهضة الفنية في مصر"، ونشر الثاني مقالًا تحت عنوان "واجبنا نحو مختار"، وتواصلت الكتابات عن مختار وتمثاله.
 لقد عرف المصريون بقصة التمثال وبصاحبه من خلال هذه المقالات، كما بدأت الصحف المصرية تنقل عن الصحافة الفرنسية ما تكتبه عن التمثال وتترجمه إلى العربية، فشدت هذه المقالات الأذهان إلى التمثال والفكرة؛ وبالفعل بدأ الاكتتاب الشعبي، ثم أكملت الحكومة تكلفة إقامة التمثال الذي أزيح عنه الستار في 20 مايو 1928.
 لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تعرف مصر فيها فكرة الاكتتاب الشعبي لإقامة مشروعات علمية أو فنية، ففي مطلع القرن العشرين بدأت الدعوة للتبرع والاكتتاب من أجل إقامة جامعة مصرية، وقد نجحت الدعوة رغم مقاومة سلطات الاحتلال البريطاني لها، وتأسست الجامعة المصرية بأموال المصريين، وافتتحها الخديوي عباس حلمي الثاني في ديسمبر 1908، كذلك بدأ أعضاء الحزب الوطني حملة للاكتتاب من أجل إقامة تمثال لرئيس الحزب ومؤسسه مصطفى كامل عقب وفاته في 10 فبراير 1908، وقد انضم إلى حملة الاكتتاب شخصيات من مختلف الأحزاب والاتجاهات، وتشكلت لجنة لإقامة التمثال ضمت عددًا من الساسة والمفكرين، وتم تكليف النحات الفرنسي سافين بنحت التمثال، فأنجزه في أبريل سنة 1910، ووصل التمثال إلى مصر عام 1914، لكن الحكومة لم تسمح بإقامته في ميدان عام، وظل حبيس مدرسة مصطفى كامل لسنوات إلى أن قرر الملك فاروق عام 1938 السماح بإقامته في أحد الميادين العامة، وأزيح الستار عن التمثال في 14 مايو 1940؛ إذًا ففكرة الاكتتاب الشعبي كانت مسبوقة في الخبرة المصرية في ذلك الزمن، لكن الجديد هذه المرة كان حجم المشاركة الشعبية واتساعها، تلك المشاركة التي تكشف عن تأثير التمثال في وجدان المصريين بما يعبر عنه من قيم الثورة المصرية، التي اعتبرها المصريون نهضتهم.
 وهذه نماذج لبعض الخطابات التي كان يرسلها مصريون من مختلف الطبقات برفق تبرعاتهم؛ تقدم هذه الخطابات نموذجًا للشعور السائد بين المتبرعين، وكيف تراكم المبلغ من ملاليم الكادحين إلى جانب تبرعات الأثرياء؛ هذا خطاب من عامل بالسكة الحديد يقول:
  "إنني رجل فقير جدًا، أشتغل بهندسة السكة الحديد الأميرية بوظيفة فاعل، ويوميتي 70 مليمًا، ومتزوج بيتيمة الأب، وأم زوجتي تبيع ترمسًا، ولي شغف بقراءة الصحف عن عهد النهضة المصرية الأخيرة، بينما كنت جالسًا أقرأ جريدتكم الغراء بكيت بكاء شديدًا، فسألتني زوجتي عن سبب بكائي فأخبرتها عن التبرع لتمثال نهضة مصر، ولم يكن معي نقود أتبرع بها خلاف 200 مليم، فقالت زوجتي: إنها تتبرع بمائة مليم أيضًا، وقالت أمها مثلها، وكذلك فعل أخوها وعمره 15 سنة، أما أختها البالغة من العمر 13 سنة فقالت إنها لا تملك إلا 50 مليمًا فتبرعت بها، ولي طفل عمره سنة ونصف كانت أمه وفرت له 50 مليمًا فأحضرتهم، فأصبح المجموع 600 مليم، فأرجوكم أن تتقبلوا منا هذا المبلغ القليل لتوصيله إلى أمين صندوق تمثال نهضة مصر، وتتوسطوا في قبوله ونكون لكم من الشاكرين، هذا وإني أدعو جميع الفعلة زملائي في الزقازيق وخلافها وأدعو أيضا جميع العمال للتبرع لتمثال نهضة مصر لنتسابق مع أسيادنا الأغنياء زادهم الله من فضله
                                                                                    الشحات إبراهيم الكيلاني
الفاعل بهندسة السكة الحديد بالزقازيق"
 ملاحظة هامشية: ظهر اسم الشحات إبراهيم الكيلاني بعد أربع سنوات ضمن أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري الذين اعتقلتهم السلطات عام 1924.
 وهذا نص خطاب من تلميذ في مدرسة خليل أغا الابتدائية، قال فيه:
 "إن والدي يطلعني على ما كتب بجريدتكم بشأن نابغة مصر، وهو سيدي محمود مختار لأعلم أن النبوغ أكثر ما يكون من الطبقات التي أنا منها فأبذل جهدي لأكون عظيمًا، وإن المدح الذي كنت أسمعه من والدي لهذا النابغة جعلني أحبه حبًا لا مزيد عليه، واليوم علمت دعوتكم إلى الأمة المصرية، لتكتتب بمبلغ يدفع ثمنًا لتمثال نهضة مصر الذي أجاد إتقانه سيدي مختار ويكون ذلك مكافأة لذلك النابغة وبرهانًا على شعور الأمة الحي؛ وبما أني أرجو أن أكون رجلًا حيًّا فقد أردت أن أفتتح حياتي بالاشتراك في هذا الاكتتاب المقدس بنصف ما أملك وهو خمسة وعشرون قرشًا، وأقسم بوطنية مختار، وإنه لقسم كما تعلمون عظيم، إني لو كنت أملك مئات الجنيهات لاكتتبت بنصفها ولكن ما باليد حيلة.
مصطفى كمال التميمي
 وفي رسالة من متبرعة مصرية، قالت:
 "سيدي الفاضل مدير الأخبار
 إن المرأة المصرية التي كانت لها يد تذكر في تشجيع النهضة الوطنية في مصر لا تستطيع أن تحجم عن البذل في سبيل إقامة تذكار يخلد ذكرى هذه النهضة، ولا شك في أن السيدة برهنت في الحركة الأخيرة على مبلغ شعورها بالواجب وإدراكها لمعنى التعاون، لا شك في أنها ستقوم بتأدية ما هو مفروض عليها لتنفيذ هذا المشروع الجليل الذي سيكون شاهدًا على أن المصري والمصرية متكافئان في تقدير الواجب وتشجيع العاملين، وإني أرسل إليكم مع هذا خمسة وعشرين جنيهًا أملة أن يكون ذلك فاتحة اكتتاب كبير تقوم به سيداتنا العاملات حتى تبرهن المرأة المصرية مرة أخرى على أنها لا تتردد في الاشتراك في كل ما يعود على مصر بالنفع والخير.
حرم حسن الشريف"
 والنموذج الأخير الذي أقدمه هنا، رسالة من بعض أهالي كفر معوض بالشرقية، جاء فيها:
 "نحن المتبرعين بهذا (1 جنيه و650 مليمًا) فقراء كفر معوض، بندر الزقازيق، نتقدم إلى أغنياء الزقازيق طالبين منهم مشاركتنا في الاكتتاب لتمثال نهضة مصر، حتى نكون قد تساوينا بغيرنا من البلدان الأخرى، ولهم الشكر مقدمًا".
  لقد تنوعت أشكال الدعاية للتمثال ولحملة الاكتتاب الشعبي لإقامته، فلم تقتصر على الكتابة في الصحف والمجلات، إنما اتخذت أشكالًا أخرى كذلك؛ وكان من بين أشكال الدعاية طباعة بطاقات بريدية مصورة (كارت بوستال) عليها صورة النموذج الأول للتمثال لتحفيز الناس على الاكتتاب.



 لقد وصلت حصيلة الاكتتاب الشعبي إلى مبلغ ستة آلاف وخمسمائة جنيه، وبمقاييس ذلك العصر فإن هذا المبلغ يعد مبلغًا كبيرًا، ورغم أنه لا يكفي لإقامة التمثال إلا أن هذه الحصيلة كانت كافية لتكون نقطة بدء وانطلاق للعمل في تمثال النهضة.
  وتشكلت لجنة إقامة التمثال برئاسة حسين باشا رشدي وعضوية ويصا واصف وواصف غالي والدكتور حافظ عفيفي ومحمد محمود خليل وعبد الخالق مدكور وفؤاد سلطان وعبد القوي أحمد وأمين الرافعي؛ ووافقت اللجنة رغبة مختار في نحت التمثال في حجر الجرانيت الوردي بدلًا من تشكيله بالطين وصبه بالبرونز، كانت الفكرة جديدة وجريئة، لكن مختار أراد بها أن يحيي تقاليد فن النحت المصري القديم.
 وفي 25 يونيو 1921 وافق مجلس الوزراء على طلب اللجنة بالتصريح بتشييد التمثال من الجرانيت في ميدان باب الحديد، على أن تتولى وزارة الأشغال العمومية الإشراف على إنشاء قاعدة التمثال وإقامته عليها، وقد رصدت الحكومة مبلغ ثلاثة آلاف جنيه لقطع الأحجار ونقلها من أسوان إلى القاهرة، وعندما نفد المبلغ المخصص نجح ويصا واصف في شهر يوليو سنة 1924 أن يحصل على موافقة البرلمان على تخصيص مبلغ 12000 جنيه لاستكمال التمثال، وكان ذلك في عهد حكومة الشعب التي ترأسها سعد زغلول، وفي ظل برلمان كان للوفد المصري فيه أغلبية كاسحة.
 خلال السنوات التي قام فيها مختار بنحت التمثال تحول موقع العمل إلى ملتقى للفنانين والكتاب والساسة، يزورون موقع العمل وتسجل الصحف زيارتهم.

 لكن تبقى أبرز هذه الزيارات تلك التي قام به مجموعة من الساسة على رأسهم سعد زغلول وحسين رشدي وويصا واصف لموقع العمل في التمثال، والتي التقطت فيها الصورة التاريخية لسعد زغلول أمام التمثال بعد أن اكتمل وقبل رفعه على قاعدته وإزاحة الستار عنه.






كما تحول موقع التمثال إلى عنوان بريدي للمراسلات، فكانت الخطابات البريدية ترد إلى مختار من مصر وخارجها على عنوان "دار تمثال نهضة مصر"؛ وكان التمثال مكانًا لاجتماع الناس من مختلف الطبقات لالتقاط صورهم أمامه.


 لقد ترجم مختار الثورة في منحوتة رمزية، التف حولها الشعب بكل طوائفه، فسرعان ما أصبح التمثال شعارًا لعدد من الهيئات والشركات والمؤسسات في مصر، ومازالت هيئات كثيرة إلى يومنا هذا تتخذه شعارًا لها، في صورته الصريحة الكاملة أو في صورة مقطع من التمثال، أو معاد انتاجه في شكل مجرد، ومن أمثلة هذه الكيانات: الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ومجموعة شركات نهضة مصر للنشر والبنك الوطني المصري والمجلس القومي للمرأة وحزب المحافظين.








 وأصبح اسم "نهضة مصر" اسمًا تجاريًا والتمثال علامة تجارية، كما دخلت صورة التمثال ضمن إعلانات المنتجات الصناعية المصرية الجديدة، فاستخدمته بعض الشركات في الدعاية والإعلان لنفسها أو لمنتجاتها، ومن أبرزها شركة مصر للطيران عند انطلاقها، واتخذ وسيلة للترويج لبعض المنتجات الأجنبية كذلك مثل منتج كوكا كولا وبعض ماركات السيارات، كما استخدمت السلطة الملكية قاعدة التمثال أحيانًا لوضع لاقتات تحية للملك.





 كما استخدمت صورة التمثال على بعض الأوراق النقدية وطوابع البريد في مناسبات مختلفة، واستخدمت صورة التمثال في أغلفة كثير من الكتب التي تتناول موضوعات خاصة بتاريخ مصر أو وضعها السياسي، ومؤخرًا كان شعارًا للاحتفال بمئوية ثورة 1919.




وظهر التمثال كموضوع للسخرية في بعض الصور الفتوغرافية والأعمال الفنية، منها صورة لسراج منير وبهيجة حافظ في وضع الفلاحة وأبو الهول، وقد قام زوجان شابان في عام 1941 بتصوير نفسيهما على سطح منزلهما بنفس وضع التمثال.



 كذلك ظهر التمثال في بعض الأعمال الشعبية، فانتشرت نماذج صغيرة من الجبس الملون للتمثال، واستخدم كحلية على الأبواب المعدنية، وحلية للأغطية المعدنية للقلل.




 من الجدير بالذكر أن التمثال لم يحظ بتأييد مطلق في المجتمع فقد أثار موجة من النقد لدى بعض الكتاب من أبرزهم عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، كانت لهما انتقاداتهما على جوانب فنية في التمثال، وقد انصبت انتقادات العقاد على النموذج الذي قدمه مختار في فرنسا لما فيه من ملامح أوروبية، في الوقت الذي أشاد فيه بالتمثال الذي تم تنفيذه بالفعل والذي عالج فيه مختار جوانب الانتقاد التي وجهها العقاد وغيره للنموذج الأول؛ أم انتقادات المازني فقد تحولت إلى مساجلة على صفحات الجرائد بين مختار والمازني، واتخذت طابع الحوار الساخر، الذي وجه خلاله المازني انتقادات حادة للعمل من الناحية التشكيلية، ومن الناحية الرمزية على حد سواء، وقد ضمن بدر الدين أبو غازي المساجلة في كتابة الثاني عن مختار، الذي يحمل عنوان "المثال مختار"، والذي صدرت طبعته الأولى عام 1964؛ كما كان التمثال موضوعًا لكثير من الرسوم الكاريكاتيرية التي كان بعضها يسخر من مختار وتمثاله مثلما كان بعضها الآخر ساخرًا مما آلت إليه الأوضاع.




 لقد كان الالتفاف الشعبي حول التمثال/الرمز بداية لعلاقة جديدة بين المصريين والفنون التشكيلية، أو كما كانوا يطلقون عليها في ذلك الزمان مصطلح "الفنون الجميلة"، فتحول فن النحت إلى فن جماهيري ينشغل به عموم الناس مثله مثل الأغنية.




وشكل تمثال نهضة مصر ميلادًا جديدًا لمختار، قدمه للمصريين كمعبر عن ثورتهم وتطلعهم للمستقبل، وسعيهم لتحقيق الحداثة المتعثرة، التي أطلقوا عليها اسم النهضة، فأصبح مختار بمعنى من المعاني "رمزًا من رموز الوطن، وزعيم من زعماء الأمة"، وأصبح للتمثال مكانة في وجدان المصريين.





مقالي بمجلة ديوان الأهرام عدد أبريل 2020

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...