السبت، 29 أكتوبر 2016

عبد المحسن حموده
عاش حياته من أجل حرية الوطن وحرية الإنسان
عماد أبو غازي



عرفت من قليل بخبر رحيل الدكتور عبد المحسن حموده أول امبارح...
 عبد المحسن حموده صفحة من صفحات النضال الوطني والديمقراطي في مصر من الأربعينات،
كان مناضل صلب وصاحب مبدأ عاش حياته مدافع عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية من أول ما انضم للطليعة الوفدية، عاش حياته بيحارب الاستبداد بكل أنواعه؛ ديني أو عسكري أو بوليسي، أول مرة قابلته كانت في فبراير 1976 كان في احتفال اتحاد طلاب كلية الآداب جامعة القاهرة وأسرة مصر وجماعة التاريخ المصري في الكلية بالذكرى الثلاثين ليوم كفاح الطلاب ضد الاستعمار (21 فبراير) وذكرى انتفاضة الطلبة والعمال سنة 46. ويومها كانت أول مرة أسمعه بيتكلم، وجاب معاه لوحة رخامية تذكارية باسم مصطفى موسى، وضعنا اللوحة على قاعدة النصب التذكاري لشهداء الجامعة اللي موجود قصاد الباب الرئيسي لجامعة القاهرة باسم مصطفى موسى باعتباره واحد من أبرز قادة الحركة الطلابية في 1946، مصطفى موسى كان زميل كفاح عبد المحسن حموده في الحركة الطلابية وفي الطليعة الوفدية، اللي كانت بتشكل الجناح اليساري في حزب الوفد بقيادة الدكتور مندور وعزيز فهمي، واللي أعاد عبد المحسن حموده إحياء اسمها فيحزب الطليعة الوفدية في السبعينات، لكن ما قدرش يرجع الكيان للوجود. نرجع للوحة التذكارية كان مصطفى موسى توفى قبلها، وكانت نوع من أنواع الوفاء من عبد المحسن حموده لزميله وقائده في النضال، ومحاولة من جيلنا في الحركة الطلابية الجديدة وقتها لتأكيد إننا امتداد لتاريخ طويل من النضال. اللوحة دي فضلت سنين في مكانها. وأزيلت مع تجديد النصب التذكاري من عدة سنوات للأسف. وللأسف كمان تم محو أسماء شهداء الجامعة اللي استشهدوا في العمل الفدائي ضد الإنجليز في القناة سنة ٥١ واللي كانت أساميهم محفورة على قاعدة النصب التذكاري. وتم حفر شعارات كليات الجامعة مكانها!!!
 عبد المحسن حموده كان واحد من الأبناء البررة لمصطفى النحاس واستمر مخلص لذكراه حتى أيامه الأخيرة، آخر مرة قابلته فيها من سنتين ماشي في شارع 26 يوليو في الزمالك كلمني عن قضيته الأخيرة اللي كسبها ومش عارف ينفذ حكمها، قضية إقامة تمثال مصطفى النحاس في ميدان التحرير.
 النهارده باعيد نشر مقال كتبته عنه من 8 سنوات تقريبا عن قضية التمثال.  

مخربشات
قضية الدكتور حموده
عماد أبو غازي

 الدكتور عبد المحسن حمودة مناضل وطني لا يكل ولا يمل، شارك في الحركة الوطنية المصرية منذ أربعينيات القرن الماضي، وفدي أصيل، ابن بار من أبناء الزعيم مصطفى النحاس، ابتكر أسلوبًا جديدا من أساليب النضال السياسي في مواجهة الاستبداد، وتفوق فيه، النضال القضائي، أو بمعنى أدق المواجهة في ساحات القضاء، عندما فصل من الاتحاد الاشتراكي العربي سنة 1973 في إطار الحملة التي أطاحت بالعشرات من الكتاب والمثقفين عقابًا لهم على تضامنهم مع الحركة الطلابية، رفع قضية أمام المحاكم يطالب فيه بالتعويض لأنه لم يكن عضوًا بالاتحاد الأشتراكي من الأصل، وكسب القضية بعد سنوات في المحاكم، وعندما تم توقيع معاهدة كامب ديفيد وأصدر نقيب المهندسين المهندس عثمان أحمد عثمان بيانًا أعلن فيه تأييد كل مهندسي مصر للمعاهدة، رفع الدكتور مهندس عبد المحسن حمودة قضية ضد النقيب باعتباره مهندسًا لا يؤيد المعاهدة، وفي عريضة الدعوة عدّد الدكتور عبد المحسن حمودة أسباب رفضه للمعاهدة، وحول عريضة الدعوة إلى بيان سياسي ناقش فيه بالتفصيل بنود المعاهدة، وعرض وجهة نظره الرافضة لها، وصور مئات النسخ من عريضة الدعوة لتوزيعها في المؤتمرات السياسية والندوات، ورغم أن ما كانت تحمله عريضة الدعوة من نقد للمعاهدة كان حادًا وحاسمًا وقويًا، أقوى مما يمكن أن يحمله أي بيان سياسي، إلا أن أحد لم يستطع أن يتصدى له أو يمنعه من توزيع العريضة البيان، ومن القضايا التي رفعها الدكتور حموده وكسبها، قضية التعويض عن وفاة ابنه باسل بسبب سوء المعاملة في أحد أقسام الشرطة، وقد أسس بقيمة التعويض مركزًا من مركز حقوق الإنسان يحمل اسم باسل حموده.
 قضايا الدكتور حموده دفاعًا عن الحريات وعن حقوق الإنسان وعن القيم الوطنية والديمقراطية كثيرة، لكن أخر هذه القضايا التي كسبها الدكتور حموده كانت قضيته من أجل إقامة تمثال للزعيم مصطفى النحاس في ميدان التحرير.
 ومصطفى النحاس زعيم وطني يستحق أن يكون له تمثال في أهم ميادين القاهرة تخليدًا للقيم التي عاش وكافح من أجلها، واعتذارًا لهذا الرجل الذي تم تشويه تاريخه وحجب اسمه بعد انقلاب يوليو إلا إذا ذكر مقرونًا بالأكاذيب التي تشكك في وطنيته وإخلاصه، وربما كان مسلسل الملك فاروق الذي أذيع في رمضان الماضي أول عمل درامي يصحح الصورة المغلوطة التي قدمت على مدى سنوات لهذا الزعيم العظيم.
 ينتمي مصطفى النحاس إلى الرعيل الأول من مؤسسي الوفد المصري الذين انضموا إلى سعد زغلول، وكان الوفد عندما تأسس يضم خليطًا من السياسيين من اتجاهات مختلفة يمثلون أطياف الخريطة السياسية المصرية التي تشكلت في السنوات الأولى من القرن العشرين، بعضهم كان ينتمي إلى حزب الأمة أو إلى التيار السياسي الذي يمثله ذلك الحزب الذي أسسه أحمد لطفي السيد، وفي مقدمة هؤلاء سعد زغلول نفسه، وبعضهم كان ينتمي إلى الحزب الوطني حزب مصطفى كامل، أو التيار السياسي الذي يمثله، ومنهم كان مصطفى النحاس، الذي أصبح بسرعة من أقرب المقربين إلى الزعيم سعد زغلول، ونفي معه، وأصبح سكرتيرًا عامًا للوفد المصري.
 شارك مصطفى النحاس في أول حكومة وفدية تشكلت بناء على نتيجة أول انتخابات برلمانية أجريت على أساس دستور 1923، وقد تشكلت هذه الحكومة في 28 يناير 1924 برئاسة سعد زغلول، وتولى مصطفى النحاس فيها وزارة المواصلات، لكن تلك الوزارة لم تكمل العام واستقالت في نوفمبر 1924 احتجاجا على العقوبات التي فرضتها بريطانيا على مصر بعد اغتيال السردار لي ستاك.
 وبعد فشل الانقلاب الدستوري الأول الذي قاده زيور باشا تنفيذًا لإرادة الملك، تشكلت حكومة إئتلافية بين الوفد والأحرار الدستوريين، وأصبح مصطفى النحاس وكيلًا لمجلس النواب، وبعد وفاة سعد زغلول في 23 أغسطس 1927 انتخب الوفد مصطفى النحاس رئيسًا له في 23 سبتمبر وأقر الانتخاب رسميًا في اجتماع الهيئة البرلمانية الوفدية في 26 سبتمبر، وحل محله في سكرتارية الوفد مكرم عبيد، ومن يومها حمل مصطفى النحاس راية النضال الوطني والديمقراطي زعيمًا لحزب الأغلبية في ظروف حصار مستمر للحياة النيابية على يد الملك المستبد والسفارة البريطانية.
 بعد أقل من ستة أشهر شكل النحاس باشا أول وزارة برئاسته، كانت وزارة إئتلافية امتدادا للإئتلاف بين الوفد والأحرار الدستوريين الذي بدأ بوزارة عدلي باشا يكن سنة 1926، شكل النحاس الوزارة في 16 مارس 1928، وفي خطابه إلى الملك فؤاد الذي يعلن فيه قبول تشكيل الوزارة قال أنه يستمد قوته من ثقة ممثلو الأمة وتأييدهم، وتشجيع الرأي العام، وأكد على أن ارتباط الأمة بالملك رهنا بصيانته للدستور وتمكين تقاليده، لكن حكومة النحاس لم تدم طويلا، فبعد ثلاثة شهور نفذ الملك فؤاد انقلابه الدستوري الثاني عطل العمل بالدستور، مستعينا بمحمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين.
 وخلال الفترة من مارس 1928 إلى يناير 1952 تولى مصطفى النحاس رئاسة الوزارة سبع مرات، منها مرتان في عهد فؤاد ثم مرة في ظل مجلس الوصاية على فاروق وأربع مرات في عهد فاروق، لكن مجموع ما قضاه النحاس في الحكم لا يتجاوز سبع سنوات وعدة أسابيع قليلة، فعادة ما كان حكمه ينتهي بانقلاب دستوري يدبره الملك بمباركة الإنجليز، وفي الوزارة الأخيرة التي أقالها فاروق في 27 يناير 1952، كانت مؤامرة حريق القاهرةالمبرر لإقالة الوزارة.
 لكن لماذا ينبغي أن نقيم تمثال لمصطفى النحاس؟
 الإجابة يطول شرحها، والقضاء الإداري أصدر حكمه لصالح قضية الدكتور حموده لكن الحكم ما اتنفذش لغاية النهارده، ورحل الرجل من غير ما ينجح في تنفيذ الحكم.

 عاش عبد المحسن حموده عمره وحلم كتير وكافح علشان حلمه وكان مثال للإخلاص للمبدأ لكن رحل قبل ما يشوف حلمه بيتحقق.

الاثنين، 17 أكتوبر 2016

الدولة والفنون الجميلة في مصر
(مقالي المنشور في العدد الأخير من مجلة الراوي خريف 2018) 

عماد أبو غازي

 يظهر دور الدولة الحديثة في مصر في علاقته بالفنون الجميلة في مجالين أساسيين، المجال الأول يرتبط بشغل حيز من الفراغ العام بالأعمال الفنية خاصة الأعمال النحتية الميدانية والعمائر الرسمية، والمجال الثاني إدارة الدولة في حقل الفنون التي تتمثل في إنشاء لجان أو إدارات حكومية تنهض بمهام الإشراف على تعليم الفنون وتنظيم المعارض واقتناء الأعمال الفنية وتشجيع المبدعين.
 منذ أقدم عصور الحضارة المصرية كانت الدولة تلعب دورًا أساسيًا في مجال الفنون، وكان الفن الرسمي الذي تشرف على إنتاجه الدولة يلتزم برؤية الدولة وعقيدتها، فقد كانت الفنون وسيلة من وسائل إنتاج السلطة والترويج لها، وكانت فنون العمارة لقرون طويلة أداة السلطة الرئيسية في فرض وجودها بقوة في فراغ المدينة.
 ومع بداية تأسيس ما نطلق عليه الدولة المصرية الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر عقب تولي محمد علي باشا مقاليد باشوية مصر، بدأت الدولة الجديدة تنتج فنونها متأثرة في ذلك بمرجعيتين أساسيتين إحداهما تشكل امتدادًا لتأثيرات ثقافة العصور الوسطى والأخرى تعبيرًا عن التوجه نحو الحداثة؛ المرجعية الأولى: نموذج الفن الإسلامي في صورته العثمانية، والمرجعية الثانية: الفنون الأوروبية الحديثة.
 ربما كان جامع محمد علي بالقلعة الذي تم البدء في تشييده عام 1830 بأعلى قلعة الجبل ليكون حاضرًا بقوة في مشهد المدينة مؤكدًا سلطة الدولة الجديدة أبرز منجزات فن العمارة في عصر محمد علي باشا؛ ويقدم هذا الجامع نموذجًا لمعمار المساجد المشيدة على الطراز العثماني المستمد من طرز الكنائس البيزنطية التي ترجع لمرحلة العصور الوسطى.


 وعلى الجانب الآخر عرف عصر محمد علي باشا اهتمامًا باستقبال الفنانين الأوروبيين الذين قاموا برسم كبار رجال الدولة وفي مقدمتهم الباشا نفسه، فيما يمكن أن نعتبره دورًا للدولة في مجال إدخال الفنون الأوروبية الحديثة في مصر؛ فأدخلت الدولة بذلك تقليدًا جديدًا في مجال الفنون اتسع في عهد الخديوي إسماعيل (1863 ـ 1879)، عندما بدأ مشروعًا للتوسع العمراني في القاهرة وغيرها من المدن المصرية، وتخطيط أحياءها الجديدة على غرار تخطيط المدن الأوروبية في ذلك الوقت، بما في ذلك استخدام العناصر الفنية في تجميل المدينة، فأمر الخديوي إسماعيل بإقامة تماثيل الأسود الأربعة عند مدخلي كوبري قصر النيل الذي أقيم في سنة 1872 لربط حي الإسماعيلية الجديد بالجزيرة، وقد تم تكليف النحات الفرنسي جاكومار بعمل التماثيل الأربعة. وفي سياق المشروع العمراني الجديد استدعت الدولة بعض النحاتين الأوروبيين، لعمل تماثيل ميدانية لأفراد الأسرة العلوية الحاكمة وكبار رجال دولتهم.



 ففي القاهرة أقيمت تماثيل إبراهيم باشا وسليمان باشا الفرنساوي ومحمد بك لاظوغلي في ثلاثة من ميادينها الجديدة، فقد أسند الخديوي إلى الفنان الفرنسي كوردييه مهمة نحت تمثال لأبيه إبراهيم وذلك في عام 1868، وأزيح الستار عنه في ميدان العتبة في عام 1872 ثم نقل بعد ذلك إلى موضعه الحالي بميدان الأوبرا. أما تمثالي سليمان باشا الفرنساوي ولاظوغلي فقد نحتهما الفرنسي جاكومار.



وفي الإسكندرية أقيم تمثالا لمحمد علي باشا من نحت جاكومار أيضًا.


 وقد استمرت الدولة في تبني مشروعات تجميل المدينة بإقامة التماثيل في ميادينها وحدائقها العامة؛ ففيما بعد أقيم تمثال لنوبار باشا بحديقة الشلال بالإسكندرية، ثم تمثال الخديوي إسماعيل؛ قام المثال الإيطالي بييترو كانونيكا بنحته وأهدته الجالية الإيطالية لمصر، وأزاح عنه الستار الملك فاروق في 4 ديسمبر 1938 في مكانه الأصلي بالقرب من ميدان المنشية أمام الموقع الذي أصبح قبرًا للجندي المجهول.


 هكذا استخدمت الدولة منذ عصر الخديوي إسماعيل الفنون في إضفاء طابع جمالي جديد على المدن المصرية، وتم توظيف فن النحت في تحقيق حضور الدولة في الفراغ العام، فاحتلت رموز دولة محمد علي وأبنائه الميادين الرئيسية، واحتاج الأمر لما يزيد عن نصف قرن من الزمان وثورتين شعبيتين قبل أن يشترك في شغل الفراغ العام للمدينة تماثيل لأشخاص من خارج الأسرة الحاكمة وأعوانها.
 وكان أول تمثال ميداني لشخص من خارج الأسرة العلوية ورجالها، تمثال مصطفى كامل الذي نحته هو الآخر نحات أوروبي هو ليوبولد سافان وبدأ العمل فيه بعد وفاة مصطفى كامل بعامين، وكما كان أول تمثال لمصري من خارج الأسرة العلوية ورجالها، فقد كان أول تمثال يشييد باكتتاب شعبي من أعضاء الحزب الوطني وأنصاره؛ ورغم أن سافان انتهى منه سنة 1913 فقد ظل التمثال حبيس مدرسة مصطفى كامل حتى صيف عام 1938 عندما نقل إلى مكانه الحالي في عهد الملك فاروق.
 وبعد ثورة 1919 دخل إلى الساحة النحاتون المصريون وفي طليعتهم مختار بتمثاله الذي التفت حوله الأمة، تمثال نهضة مصر، ليفرض به حضور الفلاحة المصرية في ميدان عام، في عمل يعبر عن الثورة الشعبية الكبرى، وبدأ العمل في التمثال باكتتاب شعبي واسع شاركت فيه مختلف طبقات الأمة، وتشكلت لجنة لتنفيذ المشروع برئاسة حسين باشا رشدي رئيس الوزراء السابق، وقد وفر الاكتتاب جزء من تكلفة إقامة التمثال، ورأى مختار أن ينفذ عمله في الجرانيت فأسهمت السكة الحديد في العمل بتحمل نفقات نقل أحجار الجرانيت من أسوان إلى القاهرة، ثم تبنت الحكومة المشروع في عهد رئاسة عبد الخالق باشا ثروت لها، وأصبح مشروعًا من مشروعات الدولة تشرف عليه وزارة الأشغال العمومية، وقد أزيح الستار عن التمثال في مايو عام 1928، ثم نقل التمثال من موقعه الأصلي بميدان باب الحديد إلى موقعه الحالي بالقرب من جامعة القاهرة في عام 1955، ليحل محله التمثال الجرانيتي الضخم لرمسيس الثاني ليظل هناك لما يزيد عن خمسين عامًا، في سابقة لخروج التماثيل المصرية القديمة الأصلية إلى الميادين العامة.


 بالإضافة لتمثال نهضة مصر كلفت الدولة محمود مختار بعمل تمثالين للزعيم سعد زغلول عقب وفاته في أغسطس سنة 1927، واحد في القاهرة والثاني في الإسكندرية، وقد منعت الحكومة إقامتهما بعد انقلاب إسماعيل صدقي على الدستور سنة 1930، ولم يتم رفع الستار عن التمثالين إلا عام 1938، نفس العام الذي نقل فيه تمثال مصطفى كامل من مدرسته إلى ميدان سوارس بوسط المدينة.


 وبمرور السنوات أصبحت تماثيل المصريين تحتل ميادين القاهرة بعد أن كانت حكرًا على المصريين من أصول أجنبية، وكانت البداية بتمثالي الزعيم سعد زغلول في القاهرة والإسكندرية، وتمثال آخر لسعد ببنها، ثم النصب التذكاري لشهداء الجامعة في ثورة الشباب سنة  1935، وعقب جريمة إغتيال أحمد ماهر باشا أقيم تمثال له أمام كوبري الجلاء بالقاهرة، وبعد يوليو 1952 أقيمت عدة تماثيل احتلت عددًا من الميادين والحدائق العامة، منها تماثيل طلعت حرب ومحمد فريد وأحمد شوقي وابن خلدون بالقاهرة والجيزة، وأحمد عرابي بالشرقية، والعقاد بأسوان، بالإضافة إلى الأعمال النحتية والصرحية التي تخلد مناسبات وطنية، مثل انتصار أكتوبر 73، وإعادة افتتاح قناة السويس، كذلك تبنت الدولة تجميل واجهات المباني العامة بأعمال فنية جدارية، وقد صدر قانون يلزم  بتخصيص نسبة من تكلفة إنشاء أي مبنى عام لتجميله بأعمال فنية.
 ثم كان التوقف عن إقامة التماثيل الميدانية لسنوات باستثناء تماثيل بعض زعماء أمريكا اللاتينية التي أقيمت في إطار اتفاقيات لتبادل تماثيل الزعماء السياسيين بين مصر وبعض تلك الدول، إلى أن بدأت الدولة المصرية تشهد في السنوات الأخيرة إقامة تماثيل الميادين والحدائق مرة أخرى، فأقيمت تماثيل لزعماء سياسيين وقادة عسكريين وفنانيين وأدباء، منها تماثيل عمر مكرم والفريق عبد المنعم رياض وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وطه حسين ونجيب محفوظ وغيرهم.
 لقد كانت تماثيل الميادين والحدائق العامة ساحة من ساحات المعارك في مجال الفن التشكيلي بين الدولة والقوى السياسية قبل 1952، وبين الدولة الجديدة والماضي بعد 1952؛ فقد تعرض تمثال النهضة للتضييق من الحكومات الموالية للسرايا فتوقف العمل فيه مرات، وبعد سقوط الانقلاب الدستوري الأول سنة 1926 وتشكيل حكومة إئتلافية من حزبي الوفد والأحرار الدستوريين تم استئناف العمل في التمثال، وانتهى مختار من العمل فيه في شتاء سنة 1927، لكن الملك فؤاد أرجأ حفل إزاحة الستار عنه قرابة العام، وتوقف العمل في تمثالي سعد مرات بسبب موقف الحكومة من الثورة ومن سعد، وحُجب تمثال مصطفى كامل ثلاثين عامًا،  في العهد الملكي، وبعد 1952 تعرضت تماثيل عدة للنقل من موقعها بسبب التطورات السياسية منها تمثال نوبار باشا وتمثال الخديوي إسماعيل بالإسكندرية حيث نقلا إلى مخازن المحافظة لأعوام قبل أن يعودا مؤخرًا في موضعين جديدين، الأول في مدخل مسرح سيد درويش بشارع فؤاد، والثاني بميدان الخديوي إسماعيل بكوم الدكة.وتمثال سليمان باشا في القاهرة الذي نقل من مكانه في ميدان سليمان باشا إلى المتحف الحربي وحل محله تمثال الاقتصادي المصري طلعت حرب الذي نحته الفنان فتحي محمود، وتغيير اسم الميدان والشارع ليحملا اسم طلعت حرب، أما تمثال ديليسبس في بور سعيد بمدخل قناة السويس الشمالي فقد دمره الشعب بسبب العدوان الثلاثي سنة 1956، وقد تم ترميمه مؤخرًا وتحتفظ به هيئة قناة السويس.


 أما المجال الثاني والمتمثل في التخطيط للفنون الجميلة ورعايتها فقد بدأ مبكرًا أيضًا، ربما نستطيع أن نرجع البدايات الأولى إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما أسبغ الخديوي عباس حلمي الثاني منذ عام 1892 رعايته على صالون القاهرة للتصوير الذي أقيم في المسرح الخديوي، وكان الصالون قد بدأ لأول مرة في عام 1891، وتواصلت دوراته في الأعوام من 1894 حتى 1897. ولم تشهد تلك الدورات مشاركة لفنانيين مصريين إلا أن الحال اختلف تمامًا بعد افتتاح مدرسة الفنون الجميلة، فأصبحت المشاركة المصرية هي الغالبة في المعارض الفنية، فعندما نظمت جمعية محبي الفنون الجميلة صالون القاهرة منذ عام 1924 كانت المشاركة المصرية هي الغالبة، وقد حظي صالون القاهرة أيضا برعاية الملك فؤاد وقام بافتتاحه بنفسه، وتم وضع دوراته لسنوات طويلة تحت رعاية رأس الدولة المصرية.

الملك فؤاد الأول
 وإذا كان إنشاء أول مدرسة للفنون الجميلة سنة 1908 قد تم بمبادرة أهلية فردية من الأمير يوسف كمال إلا أن الدولة بعد عشرين عامًا تبنت تعليم الفنون الجميلة في مصر وأدخلته تحت مظلتها من خلال إشراف وزارة المعارف العمومية على مدرسة الفنون الجميلة العليا الحكومية منذ سنة 1928، والتي تطورت على مر السنين لتصبح كلية للفنون الجميلة تتبع إحدى الجامعات الحكومية، وأضيف إلى جانبها خمس كليات أخرى للفنون الجميلة، فضلًا عن كلية التربية الفنية وكلية الفنون التطبيقية، وبهذا أصبحت الجامعات الحكومية الفاعل الأساسي في تعليم الفنون في مصر تعليمًا أكاديميًا.

الأمير يوسف كمال
 وفي أعقاب الثورة المصرية وصدور دستور 1923 بدأت الدولة تهتم بمجال الفنون الجميلة وانقسم الإشراف عليه بين وزارتي الأشغال والمعارف، وفي المرحلة الأولى كانت الدولة تتعامل مع الفنون الجميلة من خلال لجان استشارية تضم بعض الفنانيين المصريين وبعض المهتمين بالفنون لوضع الخطط واقتراح السياسات، وربما كانت أولى هذه اللجان لجنة الفنون الجميلة التي تشكلت بقرار من وزير المعارف سنة 1924، وكان من بين أعضائها المثال مختار، وكان من أهم ما أنيط بها القيام به؛ العناية بشؤون البعثات الفنية واختيار المبعوثين، وتنظيم مدرسة الفنون الأهلية، وتقرير اعتماد ثابت للفنون، وتبنت اللجنة الدعوة لإنشاء مراقبة للفنون الجميلة تتبع وزارة المعارف الأمر الذي تحقق فيما بعد. فخلال تولي علي الشمسي باشا لوزارة المعارف صدر قرار إنشاء مكتب خاص للفنون الجميلة يتبع وزارة المعارف، كان الأساس للمراقبة العامة للفنون الجميلة فيما بعد، بناء على اقتراح اللجنة الاستشارية.
 وفي عام 1926 صدر مرسوم ملكي بإنشاء لجنة استشارية جديدة للفنون الجميلة لها سلطة بحث "المشروعات والوسائل الخاصة بتعليم الفنون الجميلة وإنشاء المتاحف واقتناء الطرف الفنية وإقامة المعارض ونظام البعثات للخارج". وقد وضعت اللجنة لائحة للبعثات، كما وضعت تقريرًا عن سياسة لاقتناء الدولة للأعمال الفنية، وأوصت بتقرير مخصص للفنون الجميلة في ميزانية الدولة، كما دعت لأنشاء متحف الفن الحديث الذي تجمعت نواته الأولى من أعمال جيل الرواد والمبعوثين الأوائل.
 وفي سنة 1949 تعود اللجنة الاستشارية للفنون الجميلة للحياة بتشكيل جديد، ويرأسها محمد محمود خليل بك رئيس جمعية محبي الفنون الجميلة، وتشكلت اللجنة هذه المرة أيضًا بمرسوم ملكي، وكانت تتولى مجموعة من المهام مثل إنشاء الجوائز الفنية وحماية المواقع التاريخية والمناظر الطبيعية والميادين العامة وما يقام بها من منشآت وتماثيل، كما كانت تتولى مهمة إنشاء المتاحف وإقتناء الأعمال الفنية، وتنظيم المعارض في مصر وتحديد مشاركات مصر في المعارض الخارجية، فضلًا عن اقتراح سياسة تعليم الفنون الجميلة، وإعانة الجمعيات الفنية ودعمها. وكانت الدولة ممثلة في علي أيوب باشا وزير المعارف ترى أن الإدارات الحكومية عاجزة عن وضع رؤية لسياسة تنمية الفنون الجميلة والنهوض بها، ومن ثم فإن اللجنة الاستشارية للفنون الجميلة يقع عليها عبء التخطيط واقتراح السياسات، وعلى الأجهزة الحكومية التنفيذ، وقد تبنت الدولة في ذلك الوقت مقترح رئيس اللجنة الاستشارية بالتوسع في إقامة متاحف للفنون الجميلة في عواصم محافظات مصر ومدنها الكبرى، بدءً بالإسكندرية وبورسعيد والسويس لكن العمل توقف بعد ذلك.

محمد محمود خليل
 ومن الجدير بالذكر هنا أنه طوال الحقبة الليبرالية كانت جمعية محبي الفنون الجميلة تقوم بدور المعاون في رسم سياسة الدولة في مجال الفنون، وفي إقامة المعارض وفي تأسيس متحف الفن الحديث. واللافت للنظر أيضًا أن اللجان في معظمها جمعت ما بين العناية بالفنون التشكيلية وفنون الموسيقى والتمثيل.
 وفي المرحلة التي أعقبت وصول الضباط الأحرار إلى السلطة في يوليو 1952، بدأت مرحلة جديدة في العمل الرسمي في المجال الثقافي عمومًا بما في ذلك مجال الفنون التشكيلية، ففي أواخر عام 1952 أنشئت وزارة للأرشاد القومي تداخلت في مجال العمل الثقافي، وتراجع تدريجيًا دور الجمعيات الأهلية والمجتع المدني في الثقافة والفنون مثلما تراجع في المجال العام كله.
 وفي عام 1956 أنشئت مصلحة الفنون التابعة لوزارة الإرشاد القومي، في نفس الوقت الذي كانت فيه الإدارة العامة للفنون الجميلة ـ التي تعتبر التطور الإداري لمراقبة الفنون الجميلة ـ تتبع وزارة التربية والتعليم. وظل الحال على ذلك حتى عام 1958 عندما أنشئت وزارة الثقافة والإرشاد القومي فضمت كل الأجهزة الثقافية للدولة بما فيها الإدارة العامة للفنون الجميلة التي تطورت على مدار السنين لتصبح الهيئة العامة للفنون سنة 1971، وتضم أكاديمية الفنون والإدارة العامة للفنون الجميلة والمتاحف الفنية والاكاديمية المصرية للفنون بروما، ثم تحولت الى المركز القومي للفنون التشكيلية في 1980 ثم قطاع الفنون التشكيلية في الألفية الجديدة.
 وفي نفس الوقت تم إشراك الفنانيين والنقاد والأكاديميين في إدارة الشأن الفني من خلال لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والأداب الذي تأسس سنة 1956 كمجلس استشاري لرئاسة الوزراء، ثم أُلحق بوزارة الثقافة والإرشاد القومي عام 1958 بعد أن أضيف لاختصاصه مجال العلوم الاجتماعية، وكان دور المجلس ولجانه استشاري في أغلبه، وفي عام 1980 حل محله المجلس الأعلى للثقافة بسلطات أوسع، ومن ضمن لجانه لجنة للفنون التشكيلية. كذلك تشكلت المجالس القومية المتخصصة التابعة لرئاسة الجمهورية في السبعينيات، ومن بينها مجلس قومي للثقافة والفنون.
 وقد بدأ الاهتمام من جانب الدولة بتوفير اعتمادات للمقتنيات الفنية، وتشجيع حركة المعارض، وإعداد مراسم للفنانين، والاهتمام باحياء الحرف التراثية والتقليدية، ورعاية المواهب الفنية من خلال نظام منح التفرغ. ولعبت لجان المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ومن بعده المجلس الأعلى للثقافة دورًا أساسيًا في منح التفرغ والمقتنيات الفنية وتمثيل مصر في المعارض الفنية الخارجية.

الدكتور ثروت عكاشة
  ويعد نظام منح التفرغ من أهم ما قدمته الدولة للفنانيين منذ إنشاء وزارة الثقافة فقد استفاد منه عشرات الفنانيين على مدار ما يزيد عن خمسين عام، ويقوم هذا النظام على حصول الفنان على منحة للتفرغ للإبداع الفني، وفي نهايتها يقدم عملًا فنيًا أو مجموعة من الأعمال الفنية تنظم بها إدارة التفرغ بوزارة الثقافة معرضًا فنيًا سنويًا، ورغم ما أثير في السنوات الأخيرة من انتقادات لهذا النظام إلا أنه في جوهره نظامًا مهمًا لدعم الإبداع بشرط الشفافية ووضوح القواعد والإلتزام بها.
وقد أتاح نظام التفرغ بالفعل إنجاز عديد من الأعمال الفنية المتميزة.
 أما الشكل الثاني لدعم الإبداع التشكيلي فقد تمثل في نظام المقتنيات الذي بدأ مبكرًا، وكان الاقتناء يتم من خلال لجنة فرعية منبثقة عن لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى، تقوم بزيارة المعارض الفنية على مدار العام وتقتني ما تراه من أعمال فنية متميزة لحساب الدولة في حدود الموازنة المالية المخصصة للاقتناء.
 وقد تبنت الدولة ممثلة في وزارة الثقافة تنظيم المعارض الفنية وأضيفت خلال الستينيات قاعات عرض جديدة تستوعب المعارض الجماعية والخاصة، وقد أغلق أغلبها في السبعينيات. ومن أبرز المعارض التي نظمتها وزارة الثقافة المعرض العام الذي أصبح معرضًا موازيًا لصالون القاهرة الذي استمرت جمعية الفنون الجميلة تنظمه حتى مطلع الثمنينيات ثم توقف لسنوات ليعود في ثوب جديد، ويعد المعرض العام من أهم المعارض الفنية التي تقدم إبداع التشكليين المصريين، وقد نظمت الدولة أيضًا إلى جانبه لعدة سنوات سوق الفنون التشكيلية الذي كان وسيلة لاقتناء المواطنين للأعمال التشكيلية بأسعار في حدود قدرتهم بهدف نشر الثقافة التشكيلية في المجتمع، كما نظمت محافظة الإسكندرية بينالي البحر المتوسط للفنون منذ منتصف الخمسينيات وما زالت دورته تتوالى إلى الآن بعد أن انتقلت تبعيته لوزارة الثقافة.
 وخلال الستينيات والسبعينيات تبنت وزارة الثقافة فكرة معارض الموضوع الواحد، مثل: السد العالي، النوبة، العمل، الفن والميثاق، الفن والمعركة، انتصارات أكتوبر، وغيرها من الموضوعات.
 وعلى صعيد آخر تم إغلاق متحف الفن الحديث بعد هدم مبناه التاريخي في وسط المدينة، وظلت مجموعاته مشتته إلى أن أعيد افتتاحه في مبناه الحالي في أواخر الثمانينيات، ومع ذلك شهدت هذه الحقبة توسعًا في إقامة المتاحف الفنية والقومية، فأضيفت إلى الخريطة المتحفية متحف مختار في يوليو عام 1962 بعد أن ظلت أعماله في متحف مؤقت منذ مارس 1952، وفيما بعد افتتح متحف ناجي ومتحف محمود سعيد، كذلك أنشئت الدولة عددًا من المتاحف القومية التي يعتمد العرض المتحفي فيها بشكل أساسي على الاعمال التشكيلية من لوحات وجداريات وأعمال نحتية، مثل متحف مور هاوس ومتحف جواد حسني ببور سعيد 1959، ومتحف المنصورة القومي في دار ابن لقمان 1960.


 قد شهدت هذه المرحلة مشاركة بعض الفنانين في الدعاية للنظام الجديد وصياغة الشعارات والإعلام والاحتفالات الفنية، حتى أن العلم المصري الحالي أصله من تصميم الفنان علي كامل الديب.
 وقد أسهم التشكليون كذلك في تسجيل الأحداث الكبرى وتوثيقها والتعبير عنها فنيًا، فنظمت وزارة الثقافة في عام 1959 رحلة الباخرة دكا إلى النوبة لتسجيل الحياة فيها قبل غرقها بسبب مشروع السد العالي، وشارك فيها أبرز فناني مصر في هذه الحقبة، وأنتجت هذه الرحلة معرض النوبة الذي أقيم في القاهرة والإسكندرية عام 1962. وفي النصف الاول من الستينيات نظمت الوزارة رحلات للفنانيين التشكليين لتسجيل عملية بناء السد العالي. كما نظمت معارض لتعبيرات الفنانين التشكليين عن هذا المشروع. كما نظمت وزارة السد العالي رحلة اخرى للفنانين عام 1966 لزيارة موقع العمل.

 لقد تراوحت علاقة الدولة بالفنون الجميلة في مصر من مرحلة إلى أخرى في تاريخنا الحديث، بين الهيمنة الكاملة حتى نهاية عصر الخديوي إسماعيل، والتراجع لحساب القطاع الأهلي في الحقبة شبه الليبرالية، ثم العودة مرة أخرى لتصدر المشهد في مرحلة الخمسينيات والستينيات، وما نحتاجه اليوم بعد قرنين من دخول مصر إلى مجال الفنون الحديثة، علاقة متوازنة بين الدولة ومجال الفنون التشكيلية، خاصة بعد أن أصبحت هناك أسواق محلية وإقليمية بل وعالمية للفن التشكيلي المصري، نحتاج لدولة داعمة دون وصاية أو تدخل في المجال الفني، نحتاج إلى منظومة لتطوير آليات السوق الحر في مجال الفنون التشكيلية، نحتاج إلى استعادة دور المجتمع المدني والقطاع الأهلي دون وصاية من الدولة. 

السبت، 15 أكتوبر 2016

من حكايات الحياة البرلمانية في مصر

صفحة من نضال الشعب المصري ضد الاستبداد والتزوير

(1) عندما قاطع المصريون الانتخابات لأول مرة

عماد أبو غازي
 عرفت مصر النظم البرلمانية الحديثة منذ ستينيات القرن التاسع عشر، وقد شهدت السنوات المائة والخمسين من الحياة البرلمانية في مصر تجارب عدة في إجراء انتخابات نزيهة تعبر عن إرادة الشعب الحقيقية، لكنها شهدت كذلك تجارب مريرة في تزوير الإرادة الشعبية، وسرقة أصوات الناخبين لصالح أحزاب موالية للملك أو أحزاب حاكمة في السلطة، وكانت مقاطعة الانتخابات وسيلة من وسائل فضح التزوير ومواجهة اغتصاب السلطة، وإسقاط الشرعية عن المغتصبين.


سعد
 لقد استخدمت الأحزاب السياسية أسلوب المقاطعة عدة مرات، أولها في مواجهة الانقلاب الدستوري الذي قام به الملك فؤاد عام 1925، عندما حل الملك البرلمان مرتين ليتخلص من الأغلبية الوفدية، وقام رئيس الوزراء زيور باشا باستصدار مرسوم من الملك في 8 ديسمبر سنة 1925 بقانون انتخاب جديد جعل فيه الانتخاب على مرحلتين، ووضع شروطًا مالية للانضمام لهيئة المندوبين الناخبين.
 تبدأ الحكاية عندما استقالة حكومة سعد زغلول في 24 نوفمبر 1924 احتجاجًا على تدخل بريطانيا في شؤون مصر والسودان عقب حادث اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري، وفي نفس اليوم كلف الملك فؤاد أحمد زيور باشا بتأليف الحكومة، التي أذعنت للتدخل البريطاني، وحتى تتلافى معارضة البرلمان بأغلبيته الوفدية طلبت في 25 نوفمبر من الملك إصدار مرسوم بتأجيل عمل البرلمان لمدة شهر، وقبل أن ينتهي الشهر بيوم واحد أصدر الملك مرسومًا بحل مجلس النواب، وتحديد يوم 6 مارس سنة 1925 موعدًا لانعقاد المجلس الجديد بعد انتخابه، وقررت الحكومة إجراء الانتخابات بنظام الانتخاب غير المباشر عن طريق المندوبين رغم أن البرلمان كان قد أصدر قانونًا جديدًا للانتخاب على مرحلة واحدة، ولم تكتف الحكومة بذلك بل خرقت القانون الانتخابي الملغى والذي قررت إجراء الانتخابات على أساسه، فقد كان القانون ينص على انتخاب ثلاثين مندوبًا لمدة خمسة أعوام يباشرون خلالها مهمة انتخاب النواب، ولم يكن قد مضى على انتخابهم سوى عام، لكن لأنهم أتوا في المرة الأولى ببرلمان بأغلبية وفدية ساحقة، فقد قرر زيور باشا ووزير داخليته إسماعيل صدقي أن يستبدل بهم غيرهم، وأسس زيور لنفسه حزبًا سماه حزب الاتحاد ليخوض به الانتخابات، وكان شعار ذلك الحزب اللقيط "الولاء للعرش".

زيور باشا
 وحتى تضمن الحكومة نجاح مرشحيها تلاعبت في تقسيم الدوائر الانتخابية بقرار من مجلس الوزراء تم بمقتضاه تعديل حدود نصف الدوائر الانتخابية، وإمعانًا في التلاعب تم قبول ترشيحات في بعض الدوائر بعد انتهاء الموعد القانوني للترشح.
 ورغم جهود الحكومة وضغوطها فاز الوفد بأغلبية مقاعد مجلس النواب حيث فاز في 116 من 214 دائرة، وعندما فاز سعد زغلول برئاسة البرلمان أصدر الملك فؤاد مرسومًا بحل البرلمان بعد ثمان ساعات من انعقاده يوم 23 مارس 1925.
 وبعد ثلاثة أيام استصدرت الوزارة مرسومًا ملكيًا بوقف الانتخابات لحين وضع قانون جديد للانتخابات، واستغلت الحكومة غياب البرلمان وأخذت تصدر القانون تلو القانون مقيدة الحريات ومعتدية على الحقوق، فعدلت قانون العقوبات لتشدد فيه العقوبة على جرائم النشر، وأصدرت قانونًا للجمعيات والهيئات السياسية وضعت فيه القيود على نشاط الجمعيات والأحزاب السياسية، وقد رفضت الأحزاب الثلاثة الكبرى: الوفد والوطني والأحرار الدستوريين هذه التشريعات وقرروا عدم الرضوخ لها والدعوة إلى خرقها بالممارسة الفعلية، كذلك أطلقت الحكومة يد الشرطة في التنكيل بالمعارضين.
 وفي تحد للحكومة قرر البرلمان الانعقاد من تلقاء نفسه يوم السبت 21 نوفمبر 1925، فأصدرت الحكومة أوامرها للجيش بحصار البرلمان وإغلاق كل الطرق المؤدية إليه لمنع وصول النواب، فنقل النواب اجتماعهم إلى فندق الكونتيننتال بميدان الأوبرا، وقرر البرلمان بمجلسيه سحب الثقة من الحكومة واعتبر نفسه في حالة انعقاد دائم.


 وفي 8 ديسمبر 1925 أصدرت الحكومة قانونًا جديدًا للانتخابات، وكانت الحكومة قد وقعت قبلها بيومين اتفاقية التنازل عن واحة جغبوب لسلطات الاحتلال الإيطالي في ليبيا، لكنها لم تتمكن من تنفيذها، ونفذها صدقي باشا في الانقلاب الدستوري الثالث (1930 ـ 1935) ، وفي اليوم التالي لصدور قانون الانتخابات أصدرت الأحزاب قرارها بمقاطعة الانتخابات على أساس القانون الجديد ودعت إلى اعتباره كالعدم.
  وبدأت المقاطعة الفعلية بامتناع عدد من العمد ومشايخ البلدان عن تطبيق القانون الجديد، ورغم إحالة عدد منهم للمحاكمة وعزل بعضهم إلا أن حركة المعارضة اتسعت، وجاء رد العمد باستقالة عدد كبير منهم من مناصبهم.
 وفي يناير 1926 تشكلت لجنة تنفيذية لأحزاب المعارضة، وأصدرت الأحزاب بيانًا يتضمن قرارًا مشتركًا بمقاطعة الانتخابات وعقد مؤتمر يضم شيوخ الأمة ونوابها لمناقشة الوضع الذي آلت إليه البلاد، وجاء في البيان:
 "تجتاز البلاد في الوقت الحاضر دورًا من الأدوار العصيبة في حياتها السياسية، إنها جاهدت ما جاهدت حتى حصلت على الدستور الذي قرر سيادتها وجعل أمرها شورى بين أبنائها، غير أنها ما كادت ترسخ فيها قدم الحكم النيابي حتى امتدت إليها يد الاستبداد تعبث بدستورها، وهبت عليها ريح الحكم المطلق تلعب بتشريعها وإرادتها.
 تلكأت الحكومة في عقد مجلس النواب، وامتنعت عن دعوته، وانقضى الميعاد المحدد في الدستور لانعقاده، وظهرت نزعة الاعتداء عليه في صور مختلفة، وأساليب منوعة، فوجم الناس واضطربت الأفئدة لهذا الخطر المحدق بالحياة النيابية، وسارع نواب البلاد إلى الاجتماع في 21 نوفمبر 1925 من تلقاء أنفسهم، كحكم الدستور ووحي ضمائرهم، وجددوا يمينهم باحترام الدستور وإنقاذ الحياة النيابية، وأظهر معاني هذا الاجتماع الذي أيدته الأمة من كل ناحية أنه كان بمثابة إنذار للحكومة لتراجع نفسها وتكف عن التمادي في أخطائها وتقدر نتائج اعتدائها وتخفف عبء مسئوليتها بالمبادرة إلى الرجوع للحياة النيابية، ولكن قد مضى على هذا الاجتماع شهران كاملان وتلك الحكومة سائرة في طريقها مقيمة على خطتها غير مكترثة بإرادة الشعب ولا متعظة باجتماع نوابه ولا حافلة بآرائهم، بل هي مصرة على الاستمرار في انتهاك حرمة الدستور والاستخفاف بإرادة الأمة.
 إزاء هذه الحالة الخطيرة، وفي غمار هذا الاعتداء الصارخ، وأمام الأيمان التي أقسمت قد اتفقت كلمة الأحزاب المؤتلفة:
 أولًا: مقاطعة الانتخابات تنفيذًا لقراراتها السالفة التي تلقتها الأمة بكل تأييد فامتنع كثير من عمدها ونوابها عن الاشتراك في مهزلة الانتخابات وأصر باقي الأفراد على مثل هذا الإباء.
 ثانيا: على عقد مؤتمر يجمع شيوخ الأمة ونوابها وذوي الرأي والمكانة فيها لبحث هذه الحالة وتقرير ما يراه مناسبًا للخروج منها، وسترى الحكومة إن هي استمرت في عملها قيمة ذلك الإجماع، كما أن المؤتمر سيبحث في الحالة الحاضرة ويقرر ما يناسب لمعالجتها ويثبت بكل الدلائل أن الأمة كتلة واحدة في الدفاع عن مصالحها إذا ما جد الجد واشتد الخطر.
 والله وحده الموفق لما يشاء."
 وقد وقع على البيان رؤساء الأحزاب المؤتلفة (الوفد والأحرار الدستوريين والوطني) وعدد من قادتها ونوابها في البرلمان.
 خضعت الحكومة وقررت في 18 فبراير 1926 وقف العمل بالقانون الجديد وإجراء الانتخابات على أساس القانون الذي أصدره البرلمان سنة 1924 والذي يقضى بأن تجرى الانتخابات بنظام الانتخاب المباشر، وقررت الأحزاب الثلاثة أن تخوض الانتخابات مؤتلفة، وحققت انتصارًا ساحقًا وتشكلت حكومة إئتلافية من الوفد والأحرار الدستوريين برئاسة عدلي يكن، وتولى سعد رئاسة مجلس النواب، وانتصرت إرادة الأمة.
(2) المقاطعة طريق الشعب إلى النصر

 في عام 1930 قاد الملك فؤاد بمعاونة إسماعيل باشا صدقي أخطر الانقلابات الدستورية في تاريخ مصر في الحقبة الليبرالية، بدأ الانقلاب باستقالة حكومة النحاس باشا في صيف ذلك العام بسبب إعاقة الملك فؤاد لعملها، ورغم تجديد البرلمان الثقة بها إلا أن فؤاد قبل الاستقالة وكلف إسماعيل باشا صدقي بتشكيل حكومة جديدة، وخلال أربعة أشهر من تشكيلها نفذت خطة الملك، فتم إلغاء دستور 1923 وأصدر الملك بدلًا منه في 22 أكتوبر 1930 دستورًا جديدًا مشوهًا معيبًا، واستكمالًا لمقومات الاستبداد حل الملك جميع مجالس المديريات، وأصدرت حكومة صدقي قانونًا جديدًا للانتخابات ملحقًا بالدستور، ألغى مبدأ الانتخاب المباشر، وجعل الانتخابات على مرحلتين، في الأولى يختار الناخبون مجمع انتخابي، ثم يقوم أعضاء هذا المجمع بانتخاب البرلمان نيابة عن الناخبين، كما رفع القانون سن الناخب إلى 25 سنة، واشترط في عضو المجمع الانتخابي شروطًا مالية وتعليمية استبعد به معظم المواطنين، كما حرم جميع المشتغلين بالمهن الحرة من محامين وأطباء وصحفيين ومهندسين من خارج القاهرة حق ترشيح أنفسهم لعضوية البرلمان.

فؤاد وصدقي
 وكان صدقي قد أكمل ديكور نظامه الجديد بتأسيس حزب يسانده مثلما فعل زيور باشا في الانقلاب الدستوري سنة 1925 عندما أسس حزب الاتحاد، وأسمى صدقي حزبه حزب الشعب وأخذت الإدارة تروج لهذا الحزب وتدعو الناس بمختلف وسائل الترغيب والترهيب والتوريط في الانضمام له.
 بعد ساعات من صدور دستور 1930 بدأ الوفد في قيادة الحركة الشعبية للاحتجاج على إلغاء دستور 23، من خلال البيانات والمؤتمرات السياسية والمقالات الصحفية، وانضم الحزب الوطني للمعارضة ببيان عاجل أصدرته لجنته الإدارية بعد 48 ساعة اعتبرت فيه أن ما حدث اعتداء صارخ على الدستور، وسرعان ما انضم حزب الأحرار الدستوريين الذي كان صدقي ينتمي إليه عندما كلفه الملك بتشكيل الحكومة إلى المعارضين.
 وفي 6 نوفمبر 1930 أصدر الوفد بيانًا أعلن فيه مقاطعة الانتخابات على أساس دستور صدقي وقانونه جاء فيه:
 "أما وقد اعتدت وزارة صدقي باشا على دستور الدولة واستبدلت به دستورًا باطلًا من صنعها رغم إرادة الأمة وهي تعمل لإكراه البلاد بالقوة على الاعتراف به والرضوخ له، واستصدرت مرسوما بقانون انتخاب جديد على خلاف ما يقضي به الدستور، وبما أن دستور الدولة الذي أقسم الكل على احترامه والطاعة له هو حق مقدس للأمة لا يمكنها التفريط فيه ولا السكوت على المساس به أو مخالفة أحكامه. فلهذا قرر الوفد عدم الاعتراف بالدستور ولا بقانون الانتخاب الجديدين وعدم الرضوخ لهما ومقاطعة الانتخابات العامة بجميع عملياتها."
 واتخذ حزب الأحرار الدستوريين قرارًا مماثلًا، وهكذا اتفق الوفد والأحرار الدستوريين على مقاطعة أي انتخابات تجرى على أساس دستور 30 وقانونه الانتخابي، وشكل الحزبان لجنة للتنسيق بينهما في المقاطعة، ونفذا قرارهما، وفي نفس الوقت استقال عدد من العمد ومشايخ القرى حتى لا يشاركوا في تزوير إرادة الأمة، وبدأت موجة الاستقالات باستقالة 250 من العمد والمشايخ ثم اتسعت الحركة وتضاعف العدد رغم تحويل الحكومة العمد والمشايخ المستقيلين إلى مجالس تأديبية وتغريمهم بمبالغ مالية كبيرة وملاحقتهم والقبض عليهم.
 أما الحزب الوطني فقد انقسمت قيادته، ورأت الأغلبية المشاركة في الانتخابات بينما كان رأي الأقلية المقاطعة، وكانت هذه ضربه لحركة المعارضة حيث أضفت مشاركة الحزب الوطني في الانتخابات مظهرًا لوجود معارضة برلمانية.
 وفي مارس 1931 تشكل ائتلاف بين الوفد والأحرار الدستوريين صدر عنه ميثاق قومي تعاهد  فيه طرفيه على مقاطعة الانتخابات والنضال لإعادة دستور 23 والحياة البرلمانية السليمة على أساس منه، وبدأ زعماء الحزبين حركة واسعة لزيارة أقاليم مصر والدعوة بين الجماهير لرفض دستور 30 وقانون الانتخابات الجديد والعمل على إسقاطهما وإعادة دستور 23، ولم يأبه زعماء الأحزاب بقمع السلطة ولا بطشها، ولا باستعانتها بالجيش لفض مؤتمرات المعارضة بالقوة، ولم يتوقف قادة الأمة عن مسعاهم حتى بعد أن وصل بطش حكومة صدقي إلى حد محاولة قتل النحاس باشا طعنًا بسونكي بندقية أحد الجنود وهي المحاولة التي فشلت بسبب حماية سنيوت حنا عضو الوفد للنحاس باشا بجسده وتلقيه الطعنة عوضًا عنه.


 وتصعيدًا للمواجهة قرر الوفد والأحرار عقد مؤتمر وطني عام في 8 مايو 1931، وعندما منعت الحكومة انعقاده بالقوة بدأت حملة لجمع التوقيعات على بيان المؤتمر الوطني، وكان في مقدمة الموقعين مصطفى النحاس باشا رئيس الوفد ومحمد محمود باشا رئيس الأحرار الدستوريين وعدلي باشا يكن رئيس مجلس الشيوخ المستقيل والشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر السابق وويصا واصف رئيس مجلس النواب المنحل، ووقع على البيان إلى جانب قادة الحزبين عدد من الوزراء والسفراء والضباط السابقين، كما انضم إلى التوقيع على البيان مجموعة من أفراد الأسرة المالكة وهم الأمراء والنبلاء عمر طوسون ومحمد علي وعمرو إبراهيم وسعيد داود ومحمد علي حليم وإبراهيم حليم.

محمد باشا محمود
 رغم اتساع المعارضة وانضمام بعض رجال السرايا الذين شاركوا فؤاد من قبل في انقلاباته الدستورية إليها مثل زيوار باشا الذي وقع على البيان وجاء اسمه في مقدمة الموقعين، فإن حلف صدقي وفؤاد استمر في خطته، وتمت الانتخابات في يونيو 1931، تمت على أساس دستور الملك وقانون الانتخابات الذي سلب الشعب إرادته وحقوقه.
 لكن البرلمان ظل برلمانًا هزليًا يشارك فيه حزبان للسلطة: حزب الشعب الذي أسسه صدقي، وحزب الاتحاد الذي أسسه قبلها بخمس سنوات زيوار باشا في أول انقلاب دستوري، وإلى جانبهما الحزب الوطني الذي باع المبادئ التي قام عليها منذ أسسه مصطفى كامل سنة 1907.

 لقد نجح صدقي في تشكيل برلمانه المزور، إلا أن مقاومة الوفد والأحرار الدستوريين ومقاطعتهما للانتخابات فتحت الطريق للنصر ولإسقاط صدقي ودستوره وقانون انتخابته بعد خمس سنوات من النضال.

الخميس، 13 أكتوبر 2016

حكاية البرلمان المصري

عماد أبو غازي


 البرلمانات أو المجالس النيابية المنتخبة هي وسيلة من وسائل الشعوب للمشاركة في الحكم وإدارة أمور البلاد، وقد بدأ نضال الشعب المصري من أجل حقه في المشاركة في إدارة أموره مع ثورته في يوليو 1795 التي نجح فيها المشايخ في إرغام مراد بك وإبراهيم بك زعيمي المماليك على التعهد بعدم فرض ضرائب جديدة دون الرجوع لمشورة المشايخ، ووثقوا هذا التعهد في وثيقة رسمية، وفي زمن الحملة الفرنسية شارك ممثلون لطوائف المصريين المختلفة في الديوان الخصوصي الذي أنشأه بونابرت، ثم جاء محمد علي ليؤسس مجلس المشورة سنة 1829من 156 عضوا يمثلون الطوائف والأقاليم ويبدون رأيهم في أمور إدارة الدولة.


 لكن الجذور الأولى للحياة البرلمانية الحقيقة في مصر بدأت في عصر الخديوي إسماعيل بتأسيس مجلس شورى النواب سنة 1866، وتوالت المجالس النيابية من ذلك الحين، مجلس شورى القوانين، الجمعية التشريعية، مجلس النواب ومجلس الشيوخ، مجلس الأمة، ثم مجلس الشعب ومجلس الشورى، وأخيرًا عدنا مع دستور 2014 لمسمى مجلس النواب مرة أخرى.
 وقد عرفت الحياة البرلمانية طوال قرن ونصف صعودًا وهبوطًا، شهدت بضع مرات انتخابات حقيقية وفي أغلب الأحوال انتخابات مزورة أو موجهة من السلطة أو مقيدة بقيود على الترشيح تجعل من المجالس التي تأتي بها مجالس ضعيفة وخاضعة للسلطة، عبر هذا التاريخ كانت هناك مجالس تباشر الرقابة الفعلية والتشريع، ومجالس تحقق للحاكم رغباته في مواجهة الشعب، مجالس تواجه وأخرى تهادن.
 ونحن نحتفل بمرور 150 عامًا على نشأة الحياة البرلمانية في مصر، هذه بعض صفحات من تاريخ البرلمانات المصرية.
برلمان الثورة
 الثورة التي أقصدها هنا هي ثورة 1919، والبرلمان الذي أعنيه برلمان 1924، الذي جاء بناء على دستور 1923 الذي كان ثمرة من الثمرات التي أتت بها ثورة 1919 العظيمة، والذي جاء في مذكرة وزير الحقانية (العدل الآن) التي أعلنت مع الدستور في 19 أبريل سنة 1923 ما نصه: "متى صدر الدستور الجديد فإن الحالة تتغير تغيرا تاما إذ إصدار الدستور والاعتراف بمبدأ كون الأمة هي مصدر جميع السلطات يجعلان سحب الدستور بعد منحه أمرا غير مستطاع".
 بعد صدور الدستور بشهور قليلة أجريت الانتخابات البرلمانية، وقد أشرفت على إجرائها حكومة يحيى باشا إبراهيم، ويعتبر المؤرخون أن هذه الانتخابات كانت الأكثر نزاهة في تاريخ الحياة النيابية في مصر.
 وقد شاركت في الانتخابات ثلاثة أحزاب كبرى، الوفد المصري، حزب الثورة، وقائدها ومفجرها، وحزب الأحرار الدستوريين الذي يعد أول انشقاق رئيسي من الوفد وكان يمثل الجناح المعتدل في الحركة الوطنية المصرية، والحزب الوطني، حزب مصطفى كامل الذي تأسس في عام 1907، وكان الحزب الوحيد النشط الباقي على الساحة السياسية من أحزاب ما قبل الحرب العالمية الأولى.
 اكتسح الوفد المصري الانتخابات وحصل على جميع مقاعد مجلس النواب التي كان عددها يبلغ 216 مقعدا، ما عدا عشرين مقعدا تقريبا ذهبت للأحرار الدستوريين والحزب الوطني.
 وتم تكليف سعد زغلول رئيس الوفد المصري بتشكيل الحكومة، فقبل التكليف وأعلن في رسالة للملك تمسكه بأهداف الثورة وسعيه مؤيدًا بالشعب لتحقيقها.
 وأجرت حكومة الوفد انتخابات مجلس الشيوخ بحياد تام، ووفقا لنص الدستور فكان للملك أن يعين خمسا أعضاء مجلس الشيوخ، وهنا تفجرت أول المعارك الدستورية بين حكومة الوفد والملك فؤاد، فقد أراد فؤاد أن يختار الأعضاء المعينين، وأصر سعد أن هذا حق الحكومة، مستندًا إلى الدستور الذي ينص على أن الوزارة هي المهيمنة على شؤون الدولة وأن الملك لا يباشر سلطاته إلا بواسطة وزرائه، ولجأ الملك وسعد للتحكيم القانوني، فجاءت فتوى البارون فان دي بوش، تؤيد رأي سعد فانتصرت إرادة الأمة.

 وفي يوم 15 مارس سنة 1924 انعقدت جلسة البرلمان التي ألقى فيها سعد زغلول خطاب العرش معلنًا فيه خطة حكومته، وقال في بدايته للنواب والشيوخ: "أحيى فيكم ممثلي شعبي الكريم، وأهنئكم منتخبين ومعينين بالثقة العظمى التي حزتموها لتؤلفوا أول برلمان مصري تأسس على المبادئ العصرية، وأحمد الله أن تحققت بتأسيسه أمنية من أعز أمانيّ وأول رغبة من رغبات أمتي الشريفة، اليوم تدخل في دور التنفيذ النظامات النيابية التي قررها الدستور ولا ريب في أنها تبشر بإقبال عصر جديد من القوة والسعادة على بلادنا المحبوبة".
 لقد نجحت ثورة 1919 في أن تصل برجالها إلى البرلمان ومقاعد الوزارة، ورغم البداية القوية للحكومة ولبرلمان 1924 إلا أن حادثة اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش البريطاني انتهت باستقالة حكومة سعد زغلول، وتعيين زيوار باشا الموالي للملك والمهادن للإنجليز رئيسا للوزراء، وسرعان ما حل البرلمان وأجرى انتخابات شهدت ضغوطًا شديدة وتدخلًا من جهة الإدارة، ومع ذلك حقق فيها الوفد أغلبية بلغت 116 نائبا مقابل 87 نائبًا لباقي الأحزاب؛ الأمر الذي دفع الحكومة لحل البرلمان بعد ساعات من انعقاد أولى جلساته وانتخاب سعد زغلول رئيسًا له، ومن هنا بدأ مسلسل الانقلابات الدستورية وتزوير الانتخابات الذي أتقنه الملك فؤاد طوال فترة حكمه، وصار عليه ابنه فاروق من بعده.
برلمان السلطة
 في مقابل برلمان 1924 الذي جاء معبرًا عن الثورة كان برلمان إسماعيل صدقي سنة 1931 برلمان السلطة المعادي للشعب المغتصب لإرادته.
 كان فؤاد قد ضاق منذ اللحظة الأولى بالدستور الذي قيد سلطاته، وأقر مبدأ رقابة الأمة من خلال ممثليها المنتخبين على سلوك الحكومة وممارساتها، ومنح الشعب سلطة التشريع من خلال نوابه، وصان الحريات العامة للمواطنين وحافظ على حرمة حياتهم الخاصة، وأرسى مبدأ الفصل بين السلطات.

 وخلال السنوات التي تلت صدور الدستور قاد فؤاد ثلاثة انقلابات دستورية، أولها في مارس 1925، عندما عطل الحياة النيابية لمدة عام وشهرين تقريبًا، ثم عطلها مرة ثانية من يوليو 1928 إلى أكتوبر 1929، وفي المرتين كان لتضامن الحزبين الكبيرين الوفد والأحرار الدستوريين وقيادتهما للنضال الشعبي دورًا أساسيًا في عودة الحياة البرلمانية سريعًا، إلا أن ثالث تلك الانقلابات الدستورية وأخرها في عهد فؤاد كان الأخطر والأطول والأشد تأثيرًا، وقد وقع ذلك الانقلاب الدستوري بعد أقل من عام من عودة الحياة البرلمانية في أكتوبر 1929، وكان مصطفى النحاس باشا قد شكل الوزارة في الأول من يناير سنة 1930، ودخلت الحكومة في مفاوضات فاشلة مع الإنجليز حيث رفض النحاس باشا تقديم تنازلات لهم في تلك المفاوضات، الأمر الذي أثار غضبهم ودفعهم إلى تأييد الملك في انقلابه الدستوري الجديد، أما الملك فقد كانت دوافعه للإطاحة بالنحاس وبالدستور عديدة، لكن الصدام الأكبر مع الملك جاء لسببين الأول تدخله في اختيار أعضاء مجلس الشيوخ المعينين ضاربًا عرض الحائط بأحكام الدستور التي كانت تعطي للحكومة حق ترشيح الأسماء وللملك حق إصدار القرار فقط، وكان هذا الأمر مسار نزاع دائما بين السرايا والحكومة خاصة في ظل حكومات الوفد التي كانت تصر على التمسك بحقوقها الدستورية، وعلى أن تجعل من مصر ملكية دستورية يتراجع فيه دور الملك المباشر في السياسة لحساب الحكومة المؤيدة من البرلمان.


 أما الأمر الثاني فكان مشروع قانون محاكمة الوزراء الذي أصرت حكومة النحاس باشا على إصداره متضمنًا نصوصًا تقضي بعقاب الوزراء الذين ينقلبون على دستور الأمة أو يحذفون حكمًا من أحكامه أو يغيرونه بغير الطريق الذي رسمه الدستور، أو يخالفون حكمًا من أحكامه الجوهرية، فضلًا عن محاكمة أي وزير يبدد أموال الدولة العامة، وكان غرض الحكومة صيانة النظام الدستوري وحمايته من العبث والانقلابات، وقد رفض فؤاد توقيع مرسوم إحالة القانون إلى البرلمان لمناقشته.
 عندئذ قدم النحاس استقالة حكومته في 17 يونيو 1930، وأكد فيها أن سببها عدم تمكنه من تنفيذ برنامجه، واتجه النحاس باشا إلى مجلس النواب وأعلن أن الوزارة قدمت استقالتها وحدد أسباب الاستقالة، وغادر البرلمان، إلا أن المجلس قرر بعد مناقشة قصيرة تجديد الثقة بالحكومة.


 لكن فؤاد قبل استقالة الوزارة يوم 19 يونيو، وفي اليوم التالي كلف إسماعيل باشا صدقي بتشكيل الوزارة، لينفذ نية الملك المبيتة بالتعدي على دستور الأمة ويغتال حقوقها التي اكتسبتها عبر نضال طويل، فأصدر مرسومًا بتأجيل اجتماع البرلمان شهرًا، اعتبارًا من يوم 21 يونيو، أي اليوم التالي لتأليفه الوزارة، فهو يعلم أن مجلس النواب كان قد جدد الثقة بحكومة النحاس باشا المستقيلة، وإنه لن يمنح حكومته الثقة، ولكن رئيسي مجلسي البرلمان ويصا واصف وعدلي يكن أصرا على حق المجلسين في الانعقاد في الموعد المحدد من قبل ليتلا مرسوم التأجيل على النواب كما تقضي بذلك الأعراف الدستورية، وبدأت الأزمة تتصاعد عندما وجه صدقي خطابًا إلى ويصا واصف يبلغه فيه بأنه غير مسموح لأي عضو من أعضاء مجلس النواب بالحديث بعد تلاوة مرسوم تشكيل الحكومة ومرسوم تأجيل انعقاد البرلمان، وينذره فيه باتخاذ الوسائل الكفيلة بضمان ذلك، لكن ويصا واصف الذي كان يعتبر نفسه ممثلًا للأمة يستمد منها سلطته، رد على الإنذار ردًا حاسمًا، جاء فيه: "إنه ليس من حق الحكومة أن توجه إلى رئيس مجلس النواب مثل هذا الخطاب لما فيه من تدخل السلطة التنفيذية في إدارة جلسات المجلس".

 وجاء رد صدقي بمحاصرة البرلمان وإغلاق أبوابه بالسلاسل الحديدية يوم 23 يونيو 1930، ومع ذلك فقد اتجه النواب والشيوخ إلى مبنى البرلمان في الموعد المحدد وأصدر ويصا واصف أوامره إلى حرس البرلمان بتحطيم السلاسل الحديدية بالبلط، وعرف الرجل من يومها باسم محطم السلاسل.


 ودخل النواب إلى مجلسهم وعقدوا الجلسة، ووجه عدلي باشا يكن رسالة احتجاج شديدة اللهجة إلى رئيس الحكومة.


 وبعدها بثلاثة أيام أي في يوم 26 يونيو عقد أغلبية أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب وعدد من أعضاء مجالس المديريات اجتماعًا بمقر النادي السعدي ـ النادي السياسي للوفديين ـ وأصدروا بيانًا أقسموا فيه على الدفاع عن الدستور ومقاومة كل اعتداء يقع عليه، واتفقوا على عدم التعاون مع الحكومة، وفي الأسابيع التالية تصاعدت موجات الاحتجاج في مختلف مدن مصر، وتصدى النظام لها بالقوة المسلحة مستعينًا بالجيش إلى جانب الشرطة، فسقط عشرات الشهداء دفاعًا عن الدستور.
 وفي يوم 12 يوليو استصدرت الحكومة من الملك مرسومًا بفض الدورة البرلمانية بالمخالفة للدستور، فالبرلمان لم يكن قد أقر الميزانية بعد ولم يكن قد أمضى في دورته 6 أشهر كما ينص على ذلك دستور 23، وعاودت الحكومة إغلاق مبنى البرلمان واحتلاله بالقوة المسلحة، رد النواب بتقديم عريضة إلى الملك يطلبون منه دعوة البرلمان إلى اجتماع غير عادي يوم السبت 26 يوليو سنة 1930 لاستجواب الوزارة والاقتراع على الثقة بها، لكن الملك لم يستجب بالطبع، فعقد النواب اجتماعهم للمرة الثانية في النادي السعدي.
 وفي يوم 21 سبتمبر 1930 قدم النواب عريضة ثانية إلى الملك يطالبونه فيها بدعوة البرلمان للانعقاد في اجتماع غير عادي في أقرب وقت للنظر فيما عرضته الوزارة من تعديل قانون الانتخاب، واتخاذ القرار الذي يراه المجلسان في ذلك، وذكروا في عريضتهم أن النواب في اجتماعهم السابق يوم 26 يوليو 1930 كانوا قد أصدروا قرارا بعدم الثقة بالوزارة، الأمر الذي يوجب استقالتها.
 ولم تأبه الحكومة برأي الأمة، ولا بمعارضة النواب من الوفد حزب الأغلبية، ولا حتى برأي أصدقائها القدامى الأحرار الدستوريين الذين أصدروا بيانًا يطالبون فيه بألا يمس التعديل لقوانين الانتخاب الأسس الدستورية، وأخبر صدقي الجميع في صورة إنذار نهائي بأنه اتفق مع الملك على إصدار دستوره الجديد، ومضى صدقي إلى نهاية الشوط فأعلن إلغاء دستور الأمة واستبدال به دستور الملك، وصدر بذلك المرسوم الملكي بتاريخ 22 أكتوبر سنة 1930. كما صدر في اليوم نفسه قانون الانتخاب الجديد، وصدر الأمر بحل مجلسي النواب والشيوخ القائمين.
 رغم اتساع المعارضة وانضمام بعض رجال السرايا الذين شاركوا فؤاد من قبل في انقلاباته الدستورية إليها مثل زيوار باشا فإن حلف صدقي وفؤاد استمر في خطته، وتمت الانتخابات في يونيو 1931، تمت على أساس دستور الملك وقانون الانتخابات الذي سلب الشعب إرادته وحقوقه.
 وليس هناك أفضل من وصف عبد الرحمن الرافعي لتلك الانتخابات، وقد اخترت الرافعي تحديدًا لأنه ينتمي إلى الحزب الوطني الذي لم يقاطع تلك المهزلة، فشهادته إذنً ليست مجرحة، قال الرافعي:
 "قاطعت الأمة هذه الانتخابات مقاطعة تامة، أشبهت في روعتها واتساع مداها مقاطعة الأمة للجنة ملنر سنة 1919، بل إن تضحيات البلاد من القتلى والجرحى في هذه الانتخابات كانت أعظم وأكبر من تضحياتها في مقاطعة لجنة ملنر، وقد عمدت الحكومة إلى تزوير عملية الانتخابات، فأوعزت إلى لجان الانتخاب أن تزور محاضرها، بحيث تثبت فيها حضور الناخبين كذبا وزورا، وبذلك تمت هذه المهزلة بل هذه المأساة الانتخابية وكانت سابقة خطيرة اتبعتها الإدارة كلما أرادت الحكومة اصطناع برلمان صوري".
 لقد نجح صدقي في تشكيل برلمانه المزور على حساب مئة شهيد مصري ومئة وخمسة وسبعون جريحًا من بين عشرات الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع ليتصدوا للتزوير، وجاء البرلمان ليقر بعد عام واحد من تشكيله اتفاقية التنازل عن واحة جعبوب في الصحراء الغربية لإيطاليا التي كانت تحتل ليبيا وقتها، وهي الاتفاقية التي وقعها زيور باشا سنة 1925 ورفضت جميع البرلمانات على مدى 7 سنوات التصديق عليها، كما شدد العقوبة في قضايا النشر، وبدأت سنوات من اضطهاد الوطنيين وأنصار الديمقراطية في مصر والتنكيل بهم ما بين سجن واعتقال وإبعاد عن الوظائف وملاحقة في لقمة العيش.

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...