السبت، 30 أبريل 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 11 )
أعيد نشر الجزء الثاني من مقالي عن دستور 23 الذي نشرته في 19 أبريل الجاري

الأمة مصدر السلطات

عماد أبو غازي

 "إن الدستور في روحه وفي مجموع نصوصه هو النظام الذي يكفل للشعب حكم نفسه بنفسه بإرادته واختياره، ويكفل لأفراده تمتعهم بحقوقهم الشخصيةوالسياسية، فالدستور هو المرادف للديمقراطية، والحكم المطلق هو قيام حكومات تفرض على الشعب فرضا، وتلجأ لكي تبقى على غير إرادته، إلى إهدار حقوقه وكبت حريته."
عبد الرحمن الرافعي

 في العاشرة والنصف من مساء يوم 19 أبريل سنة 1923 في سراي عابدين وقع الملك أحمد فؤاد الأول الدستور المصري المعروف بدستور 23، وتلاه في التوقيع جميع أعضاء مجلس الوزراء، وبذلك صار لمصر دستورًا مكتملًا بعد مائة وثماني وعشرين عامًا من بدء الخطوة الأولى لنضال الشعب المصري من أجل حقه في إدارة أموره بنفسه.


 لقد نجحت المعارضة لمحاولات حكومات توفيق نسيم ويحيى إبراهيم في غل أيديهما عن تشويه الدستور، فخرج في أقرب صورة لما صاغته اللجنة التي رأسها حسين باشا رشدي، ورغم اعتراض الوفد المصري والحزب الوطني، الحزبان الرئيسيان القائمان وقتها، على لجنة صياغة الدستور ووصفهما لها بلجنة الأشقياء، إلا أن الدستور الذي صدر في 170 مادة كان من خير الدساتير؛ "فقد أُسس في مجموعه على أحدث المبادئ الدستورية، فوضع نظاما دستوريا للحكم، وقرر في ذات الوقت حقوق المصريين وكفلها لهم"، كما وصفه عبد الرحمن الرافعي عضو الحزب الوطني وأحد المعارضين للجنة الدستور، أما الوفد المصري قد تحول إلى مدافع دائم عن هذا الدستور حتى إلغائه عقب إنقلاب يوليو 1952.
 رغم أن الملك هو الذي أصدر الدستور، ورغم أن من صاغ الدستور لجنة معينة وليست جمعية تأسيسية منتخبة، فإن دستور 23 أقر بشكل واضح لا يحتمل اللبس أن الأمة مصدر السلطات، حيث نصت المادة الثالثة والعشرين من الدستور على أن "جميع السلطات مصدرها الأمة"، ويعبر هذا النص عن انتصار الإرادة الشعبية خاصة وقد نصت المادة الخامسة والعشرين على أنه: "لا يصدر قانون إلا إذا قرره البرلمان وصدق عليه الملك"، وقد جعل الدستور للبرلمان حق إصدار القوانين التي يرفض الملك التصديق عليها بأغلبية الثلثين، فإذا لم تتحقق صدر بالأغلبية المطلقة في دور الانعقاد التالي.
 وقد نصت المادة الأولى من الدستور على أن "مصر دولة ذات سيادة وهي حرة مستقلة، ملكها لا يجزأ ولا ينزل على شيء منه وحكومته ملكية وراثية وشكلها نيابي."
 ونص الدستور على اختصاص المصريين وحدهم بتولي الوظائف العامة المدنية والعسكرية، كما أكد على أن لا يلي الوزارة إلا مصري، وعلى عدم جواز تولي أفراد الأسرة المالكة مناصب وزارية، وعدم جواز انتخابهم بالبرلمان.
  وحدد الدستور مخصصات الملك بمبلغ 150 ألف جنيه مصري، ومخصصات البيت المالك بمبلغ 111512 جنيه مصري، وجعل للبرلمان سلطة زيادتها.
 ونص الدستور في الفصل الخاص بالسلطة القضائية على أن "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون وليس لأية سلطة في الحكومة التدخل في القضايا".
 وفي الباب السادس من أبواب الدستور السبعة والذي يحمل عنوان أحكام عامة، نصت المادة 149 على أن "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية". وقد أثارت هذه المادة جدلًا واسعًا داخل لجنة الدستور حيث رفضها بعض الأعضاء إنطلاقًا من أن الدول لا تدين بدين محدد لكن أغلبية أفراد الشعب هم الذين يدينون بالإسلام، لكن اللجنة انتهت إلى هذه الصياغة، التي انتقلت إلى كل الدساتير المصرية، وتطورت فيما بعد إلى المادة الثانية في دستور 1971، وأضيف عليها ما أضيف من وضع دستوري للمؤسسات الدينية في دستوري 2012 و2014، وما زالت هذه المادة ووريثتها سببًا لبعض من مشاكلنا المعاشة.
 بينما تضمن الباب الثاني المكون من 21 مادة حقوق المصريين وواجباتهم، فأقر لأول مرة في تاريخ الدساتير المصريةالمساواة وعدم التمييز بين المصريين بسبب الأصل أو اللغة أو الدين، ونص الدستور أيضا على أن التعليم الأولي إلزامي ومجاني للبنين والبنات. كما نص بشكل قاطع على أن "الحرية الشخصية مكفولة" (المادة 4)، وعلى إلغاء النفي كعقوبة؛ حيث "لا يجوز إبعاد مصري عن الديار المصرية" (المادة 7)، وعلى أن "حرية الاعتقاد مطلقة" (المادة 12)، كما نصت المادة 13 على أن الدولة تحمي حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات المرعية في الديار المصرية على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب، ونصت المادة 16 على أنه "لا يسوغ تقييد حرية أحد في استعمالة أية لغة أراد في المعاملات الخاصة أو التجارية، أو في الأمور الدينية، أو في الصحف والمطبوعات أيا كان نوعها، أو في الاجتماعات العامة."
 ومن الحقوق التي قررها الدستور حق الاجتماع وتكوين الجمعيات، وحرية الصحافة وحظر الرقابة على الصحف، وحرية الرأي والتعبير؛ على أن أهم ما يؤخذ على هذا الباب أنه علق بعض الحريات على نصوص القوانين، الأمر الذي صار تقليدًا في كل الدساتير التالية، وقد عجلت الحكومة بعد صدور الدستور وقبل انتخاب البرلمان بإصدار قانون الاجتماعات العامة والمظاهرات وقانون الأحكام العرفية لتقييد الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور.
 وكما قال عبد الرحمن الرافعي في عام 1947 بعد ربع قرن على التجربة الدستورية المصرية الجديدة: "إن الحياة الدستورية في حاجة إلى جهاد المؤمنين بحقوق هذا الشعب وتعاونهم، لكي تستقر وتتغلب على العقبات التي تعترضها، ومن الواجب على الذين ينظرون بعين الرعاية والاعتبار إلى مصالح الوطن العليا، أن لا يترددوا في بذل ما يستطيعون من جهود للدفاع عن الحقوق العامة التي تتميز بها الشعوب الحرة عن الشعوب المستعبدة، فعلينا جميعا أن نؤدي هذا الواجب، إذا أردنا لهذا الشعب أن يأخذ مكانه بين الأمم الحرة المستقلة، ويساير ركب الحضارة والديمقراطية".

عبد الرحمن الرافعي

 لقد شهدت السنوات الثلاثين بين صدور دستور 23 وإلغائه سلسلة من الانقلابات الدستورية ومحاولات السرايا والسلطات البريطانية الالتفاف على الدستور ووقف العمل به بل وإسقاطه تمامًا، إنها سنوات النضال بين الحكم المطلق والشرعية الدستورية؛ وهذه حكاية أخرى من حكايات نضال المصريين من أجل حقوقهم.

الجمعة، 29 أبريل 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 10 )
إعادة لنشر القسم الأول من مقالي عن دستور 23 المشور يوم 19 أبريل

الطريق إلى دستور الثورة... دستور 1923

عماد أبو غازي

 عقب الثورات دائما تكتب الشعوب دساتيرها، هذا ما حدث في مصر؛ فعقب الثورة العرابية صدر دستور 1882 الذي أعاد الحياة النيابية للبلاد وألغته سلطات الاحتلال، وفي أعقاب ثورة 1919 وبعد أن انتهت الموجة الثورية عادت المطالبة بالدستور لتتصدر المشهد إلى جانب المطالبة بجلاء قوات الاحتلال.
 لقد ظهرت الدعوة إلى تشكيل حكومة تقود البلاد إلى نظام دستوري تستند إليه في المفاوضات مع بريطانيا من أجل الجلاء في المراسلات بين سعد وعدلي في فبراير ومارس 1920، وبدأت المطالبة بالدستور تتصاعد في صيف عام 1920، فقد تضمن مشروع الوفد المصري لاستقلال مصر الذي قدمه للورد ملنر يوم 17 يوليو 1920 تشكيل جمعية وطنية تضع الدستور المصري ويكون من مهامها التصديق على معاهدة استقلال مصر، وقد أكد سعد زغلول هذه الدعوة في بيانه الموجه للأمة في 22 أغسطس من نفس العام.

سعد
 عدلي يكن

 وعندما كلف السلطان فؤاد عدلي باشا يكن بتأليف الحكومة في مارس سنة 1921 قدم برنامج حكومته، ونص في هذا البرنامج على تشكيل جمعية وطنية تفصل في أمر أي معاهدة سياسية توقع مع بريطانيا، وإن هذه الجمعية الوطنية ستقوم بمهمة الجمعية التأسيسية لوضع الدستور وفقا للأنظمة الدستورية الحديثة.
 وبعد استقالة وزارة عدلي باشا يكن في ديسمبر 1921، وضع عبد الخالق ثروت شروطًا لقبول الوزارة كان في مقدمتها إعادة البرلمان، لكن الخطوات الحقيقية لوضع دستور للبلاد بدأت بعد صدور تصريح 28 فبراير 1922 الذي منحت فيه بريطانيا من جانب واحد استقلالًا منقوصًا لمصر، فتحولت مصر بمقتضى التصريح إلى مملكة دستورية.

عبد الخالق ثروت
 كانت الحركة الوطنية المصرية تطمح إلى تشكيل جمعية تأسيسية منتخبة تصوغ الدستور، لكن حكومة عبد الخالق باشا ثروت سارت على نهج آخر؛ ففي 3 أبريل سنة 1922 شكلت الحكومة لجنة لوضع مشروع الدستور وقانون الانتخابات، وكلفت حسين باشا رشدي رئيس الوزراء السابق برئاسة اللجنة، كما تم تعيين أحمد حشمت باشا نائبًا لرئيس اللجنة، وتشكلت اللجنة من ثلاثين عضوًا بخلاف الرئيس ونائبه، وضمت في عضويتها قانونيين وساسة ورجال دين، بالإضافة إلى بعض الأعيان ورجال المال والتجارة. وقد قاطع الوفد والحزب الوطني اللجنة ووصفوفها بلجنة الأشقياء وهاجموا أسلوب تكوينها واعتبروه مصادرة على حق الشعب في كتابة دستوره.
  انتهت اللجنة من عملها بعد أقل من سبعة أشهر، وقدمت مشروع الدستور إلى رئيس الوزراء عبد الخالق باشا ثروت في 21 أكتوبر سنة 1922، وبعدها بأيام قدمت مشروع قانون الانتخابات، فقام ثروت باشا برفعهما إلى الملك فؤاد لإصدارهما؛ لكن الملك لم يكن راغبًا في إصدار الدستور الذي رأى فيه تقليصًا كبيرًا لسلطاته.


 بدأ الملك يخطط للتخلص من عبد الخالق ثروت ليتخلص من دستوره، فدبر لإحراجه خروج مظاهرات من الأزهر تهتف بسقوط حكومة ثروت، وكان الموعد المحدد عقب صلاة الجمعة يوم 1 ديسمبر 1922، وكان مقررًا أن يحضر الملك ورئيس وزرائه الصلاة بالجامع الأزهر، وتسرب الخبر إلى ثروت باشا فبادر بتقديم استقالته في 29 نوفمبر فقبلها الملك على الفور، وفي خطاب الاستقالة عدد عبد الخالق باشا ثروت إنجازات وزارته، وفي مقدمتها مشروع الدستور الذي لم يصدره الملك.

توفيق نسيم
 وعقب استقالة عبد الخالق ثروت تولى محمد توفيق نسيم باشا رئاسة الوزارة وبدأ في تنفيذ خطة الملك فؤاد في تشويه الدستور، وقد أدخل نسيم باشا عشر تعديلات على مشروع الدستور تمت في تكتم شديد؛ أولها حذف النص على أن الأمة مصدر السلطات، وثانيها أنه جعل منح الرتب والنياشين من سلطة الملك وحده، وثالثها منح الملك حق حل مجلسي البرلمان، هذا الحق الذي تكرر استخدامه في عهدي فؤاد وفاروق، ورابعها جعل نصف عدد أعضاء مجلس الشيوخ بالتعيين، وخامسها انفراد الملك بتعيين رئيس مجلس الشيوخ دون مشاركة من الوزارة، وسادسها منح الملك حق إصدار مراسيم بقوانين في وجود البرلمان، وسابعها إخراج بعض المعاهدات التجارية من رقابة البرلمان، وثامنها تقييد سلطة البرلمان في مناقشة الميزانية، وتاسعها تأكيد سلطة الملك على معاهد التعليم الديني والأوقاف، وآخرها تغيير النصاب المطلوب لتنقيح الدستور وتدخل الملك فيه، كانت جميع هذه التعديلات تصب في اتجاه منح سلطات إضافية للملك، فقد شجعت هذه التعديلات الحكومة البريطانية على التدخل هي الأخرى في صياغة دستور البلاد وطالبت بحذف النصوص التي تؤكد على وحدة وادي النيل، وقد وافق نسيم باشا على إدخال هذه التعديلات أيضًا قبل أن تستقيل حكومته في 5 فبراير 1923 بعد شهرين وخمسة أيام من تشكيلها، أفسدت خلالها مشروع الدستور، وكانت كل إجراءاتها تتم في سرية كاملة.
 قررت وزارة يحيى باشا إبراهيم استكمال مسيرة وزارة نسيم باشا في تشويه مشروع الدستور لكن أمرها افتضح، وتعرضت لهجوم حاد أحرجها أمام الرأي العام، وكان في مقدمة المهاجمين عبد العزيز بك فهمي.

عبد العزيز فهمي
 ونجح الهجوم في وقف التلاعب في مشروع الدستور الذي عطل الملك فؤاد صدوره لستة أشهر.

 وفي مساء يوم 19 أبريل سنة 1923 رضخ الملك لضغوط الشعب وأصدر دستور البلاد، دستور 1923 الذي ظل رغم ما أصابه من تشويه من أهم الدساتير المصرية.

الخميس، 28 أبريل 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 9 )

حكاية مشروع السير وليم برونيت الذي أسقطته الثورة

بريطانيا العظمى ضد دستور للمصريين

عماد أبو غازي

 في الأسابيع الأولى لقيام الحرب العالمية الأولى وبالتحديد في الحادي عشر من نوفمبر سنة 1914 وعد الخديوي عباس حلمي المصريين بمنحهم الدستور، ذلك الوعد الذي لم يتحقق بعد إعلان الحماية البريطانية على مصر وعزل الخديوي في ديسمبر من نفس العام، ومع إعلان الحرب تعطلت الجمعية التشريعية وتوقف عملها طوال سنوات الحرب.
معسكرات قوات الحلفاء في الهرم 

 في 11 نوفمبر سنة 1918 وبعد أربع سنوات بالضبط من منشور الخديوي عباس حلمي الذي وعد فيه بدستور عصري كامل، أعلنت الهدنة وانتهت الحرب، وبدأ قادة الأمة يطالبون بإنهاء الأحكام العرفية والسماح لوفد يمثل مصر بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس، وكان على رأس هؤلاء المطالبين سعد زغلول الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية المعطلة.
 من ناحية أخرى كانت بريطانيا تعد العدة لمرحلة ما بعد الحرب في مصر؛ فقد كان متوقعًا أن تبدأ مطالبة المصريين بإنهاء الحماية التي زالت مبرراتها بانتهاء الحرب، وأن يطالبوا كذلك بعودة الجمعية التشريعية، بل وبدستور حقيقي يصون حقوق المواطنين ويحمي حريتهم ويعبر عن طموح المصريين في إدارة شئونهم بأنفسهم ، ويعكس ما ناضلوا من أجله لأكثر من قرن وربع من الزمان.
 بدأت الحكاية في ربيع سنة 1917، عندما قرر مجلس الوزراء في 24 مارس تشكيل لجنة لوضع مشروع لتعديل البنية القانونية والقضائية والإدارية في مصر بما يتلائم ووضع مصر الجديد بعد زوال تبعيتها للدولة العلية العثمانية وخضوعها للحماية البريطانية، مشروعات تضمن تقنين المكاسب التي تحققت لبريطانيا من الحماية حتى لو انتهت الحماية رسميًا بنهاية الحرب، وكان من بين أعضاء اللجنة السير وليم برونيت مستشار دار الحماية البريطانية في مصر والمستشار المالي للحكومة، والرجل الأقوى بين مستشاري الحكومة المصرية جميعًا، وتم تكليف برونيت بمهمة مقرر تلك اللجنة، التي عرفت باسم لجنة الامتيازات الأجنبية.

السير وليم برونيت؟
 انتهت اللجنة من صياغة عدة مشروعات لتغيير البنية القانونية المصرية، منها قانون العقوبات، وقانون الإجراءات الجنائية الذي كان يسمى قانون تحقيق الجنايات، وقانون المرافعات، بالإضافة إلى بعض فصول القانون المدني والقانون التجاري. كما وضعت اللجنة تصورًا لنظام قضائي جديد يدمج القضاء الوطني في القضاء المختلط الذي كان ينظر في القضايا التي يكون أحد أطرافها أجنبيًا، وكان الهدف من تغيير النظام القضائي سيادة القضاء المختلط على القضاء الوطني، وسيطرة القضاة الإنجليزي على المنظومة القضائية بما في ذلك تعيين نائبًا عامًا إنجليزيًا.
 وعندما حاول أعضاء اللجنة الترويج لمشروعاتهم في الأوساط القانونية والسياسية من خلال طرحها في المنتديات القانونية مثل الجمعية المصرية الاقتصاد السياسي والتشريع والإحصاء، تصدى لهم الوطنيون المصريون معلنين رفضهم لها، وكان من أبرز من تصدوا لهذه الهجمة سعد زغلول؛ فاشتبك مع عضو اللجنة المستر برسيفال المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية، الذي ألقى محاضرة في الجمعية يشرح فيها مشروع قانون العقوبات، وقد أكد سعد زغلول في مداخلته على رفض مشروع القانون الغريب عن المنظومة التشريعية المصرية المستقرة، وعلى ضرورة عودة الجمعية التشريعية للانعقاد لمباشرة رقابتها على القوانين، وكان لهذه المداخلة أثر بالغ في إحباط المشروعات البريطانية لتعديل المنظومة القانونية المصرية.


 وفي هذا السياق أعد السير وليم برونيت مشروعًا لقانون نظامي لمصر، أي دستور جديد للبلاد يحدد العلاقة بين السلطات في الدولة؛ ويصف المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919 ذلك المشروع، فيقول: "وضع السير وليم برونيت مشروع قانون نظامي لمصر، ينزل بها إلى مرتبة المستعمرات التي يراد جعلها سوقًا لكل من نزل بها من رعايا الدول الأجنبية، ويتلخص هذا المشروع في إنشاء مجلس نواب مصري، يؤلف من المصريين، ولكنه استشاري محض، ليس له سلطة قطعية في أمر من الأمور. وبجانبه مجلس شيوخ، يملك وحده السلطة التشريعية، ولكنه خليط من المصريين والأجانب، يؤلف من أعضاء رسميين، وهم الوزراء المصريون والمستشارون الإنجليز ومن في مرتبتهم من الموظفين البريطانيين، ثم من أعضاء منتخبين، ينتخبون بطريقة كثيرة القيود والشروط، منهم 30 مصريًا و15 أجنبيًا، بحيث تكون الأغلبية فيه للأعضاء الرسميين والأعضاء الأجانب المنتخبين، والأقلية للأعضاء المصريين المنتخبين، ولو نفذ هذا المشروع لصارت سلطة التشريع في يد شرذمة من الأجانب، ولصار المصريون في بلادهم غرباء."
 لقد كان المشروع محاولة واضحة من بريطانيا للسيطرة على سلطة التشريع في البلاد، وهي محاولة لها جذور قديمة تعود إلى زمن اللورد كرومر، فقد سبق له أن دعى في تقريره لسنة 1904 إلى إنشاء مجلس تشريعي مختلط.
 ظل المشروع طي الكتمان إلى أن قدمه برونيت لحسين باشا رشدي رئيس مجلس الوزراء في منتصف نوفمبر 1918 عقب تحرك الوفد المصري للمطالبة باستقلال البلاد، ورفض حسين باشا رشدي المشروع ورد عليه ردًا مفحمًا.

رشدي باشا
 وقد ظلت السلطات البريطانية تسعى لتمرير مشروعها الذي كان سيضمن لها سيطرة كاملة على البلاد، لكن أحدًا لم يكن يتوقع أن تقوم الثورة، ثورة 1919، فتطيح بالحلم البريطاني وتخط صفحة جديدة في تاريخ النضال الدستوري المصري.


الأربعاء، 27 أبريل 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 8 )

حكاية دستور لم يصدر أبدًا

عماد أبو غازي

 خلال السنوات الأولى من القرن العشرين كانت قضية الدستور تحتل مكانًا محوريًا في كفاح الشعب المصري من أجل نيل حقوقه، وكانت الأحزاب الثلاثة التي تشكلت في ذلك الوقت: حزب الأمة وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية والحزب الوطني، تعتبر قضية الدستور قضية أساسية في برامجها ونضالها اليومي، وأصبحت المطالبة بدستور للبلاد يضمن رقابة نواب الأمة على آداء الحكومة، ويعطيهم سلطة التشريع، ويصون حقوق الشعب وحرياته، من أولويات الأحزاب الثلاثة الرئيسية والحركة الوطنية في عمومها؛ وتحت ضغط هذه المطالبات جاء قرار الخديوي عباس حلمي الثاني بنظام أساسي جديد نشأت بمقتضاه الجمعية التشريعية، لكنها ظلت منقوصة السلطات.
 لكن الخديوي عباس حلمي كان يدرك أن إعلان الدستور مدخل أساسي للحصول على التأييد الشعبي وتحقيق إلتفاف الأمة من حوله، من هنا تأتي حكاية دستور 1914 الذي لم يصدر أبدًا.
 ففي 11 نوفمبر 1914 أصدر الخديوي عباس حلمي الثاني، عندما تأزمت به الأمور، منشورًا إلى الأمة في محاولة منه لاستمالة المصريين إلى جانبه ودفعهم لمساندة جيوش الدولة العثمانية التي بدأت تتجه إلى الحدود المصرية، وفي سياق هذه المحاولة أعلن الخديوي عن قراره بمنح الدستور الكامل للشعب، وحاول أن يبرر غياب الدستور كل هذه السنوات بتدخل الإنجليز في شئون البلاد.


 وفي الحقيقة لم تكن فكرة منح المصريين دستورًا من بنات أفكار الخديوي، فقد كان صاحب فكرة أن يعلن الخديوي دستورًا للأمة الزعيم محمد فريد، بل إن هذا الإعلان كان شرطًا للصلح بينهما بعد سنوات من القطيعة، كان فريد في منفاه الاختياري بجنيف عندما أشتعلت الحرب الشرارة الأولى للحرب العالمية الأولى صيف 1914، وكان الخديوي يقضي عطلته الصيفية في اسطنبول، وتعرض في 25 يوليو لمحاولة اغتيال فاشلة على يد الطالب المصري محمود مظهر الذي كان يدرس في المدرسة البحرية العثمانية، وعقب الحادث بشهر أرسل فريد رسالة إلى الخديوي يهنئه فيها بنجاته، وينصحه بمنح الدستور للأمة، وبناء على وعد من الخديوي بتنفيذ هذه النصيحة توجه إليه فريد لزيارته في اسطنبول، وفي اللقاء بين الرجلين أكد الخديوي أنه ينوي بالفعل إصدار دستورًا للبلاد، وفي خريف 1914 تطورت الأمور في مصر بشكل متسارع مع دخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا ضد إنجلترا، وفي 2 نوفمبر أعلن الفريق مكسويل قائد الجيوش البريطانية بمصر الأحكام العرفية في البلاد ووضع الصحف تحت الرقابة.



 وفي ذلك الوقت كانت الجيوش التركية تستعد للتوجه نحو حدود مصر الشرقية لمحاربة الإنجليز وطردهم من البلاد ووجه الخديوي رسالته إلى الأمة، وقد سجل الزعيم محمد فريد نص هذا المنشور الذي يعد وثيقة تاريخية مهمة وضمنه في مذكراته، ونشره المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية" نقلًا عن مذكرات فريد، قال الخديوي في منشوره:

"أبناء مصر والسودان الأعزاء
 ها قد أتت الساعة لخلاصكم من احتلال أجنبي وطأ البلاد من 32 سنة مضت، بدعوى أنه مؤقت، وأنه لتـأييد الأريكة الخديوية، كما تدل عليه تصريحات الحكومة الإنجليزية، ووعود رجالها الرسميين العلنية، لكنه ما مضت عليه الأعوام حتى نسى الوعود بالجلاء، وتداخل في شئون البلاد الإدارية والسياسية، فتصرف في مالية الحكومة تصرف المالك المبذر، واعتدى على حقوقنا في السودان، وأحل أبناءه مكان الوطنيين في الوظائف العمومية، وسلب استقلال القضاء، وسن القوانين الماسة بالحرية الشخصية والمضيقة على حرية الفكر والخطابة والكتابة والاجتماع، وقاوم رغباتنا ورغبات رعايانا في انتشار التربية والتعليم الصحيح في أرجاء القطر، وفي منح البلاد دستورًا كاملًا يتناسب مع أحوال التقدم العصري، ولما أعلنت الحرب الحاضرة بين الدول العظمى، جاءت الحكومة الإنجليزية فمنعتنا عن الرجوع إلى مصر، ودعتنا لترك الأستانة والرحيل لإيطاليا، فرفضنا هذا الطلب رفضًا باتًا، واعتبرناه أقصى ما تتعدى به هذه الدولة على حقوق الخديوية المصرية، واعتبرته الدولة العلية صاحبة السيادة على مصر اعتداء على الفرمانات الشاهانية، ولما كانت رغبات جلالة الخليفة المعظم وحكومته السنية هي تأييد هذه الفرمانات لتمام رفاهية البلاد المصرية والسودانية، فقد اقتضت إرادة أمير المؤمنين تسيير جيش عثماني عديد مظفر على القطر المصري لإعادة الحالة إلى ما كانت عليه قبل سنة 1882، وقد رأينا أن نسير مع هذا الجيش حتى يتم له النصر، بمعاونتكم بعضكم البعض، وقيامكم بتمهيد كل الوسائل لتسهيل مأموريته، واستعدادكم لاستقبالنا واستقباله بما هو معهود فيكم من الحمية الوطنية والإخلاص لجلالة الخليفة المعظم، ولنا، ولبلادكم، وبما أن الأمل وطيد في نجاحنا بمعونته تعالى؛ فإننا نعلن من الآن منحكم الدستور الكامل، وإلغاء القوانين المنافية للحرية، وإعادة الضمانات لاستقلال القضاء، والعفو عن المجرمين السياسيين، ومن صدرت ضدهم أحكام ورفعت عليهم دعاوى بسبب الحوادث الأخيرة، والعمل على تعميم التعليم وترقيته، وكل ما فيه تقدم البلاد المادي والأدبي، والسهر على راحة سكانها، وتوفير أسباب سعادتهم؛ وها هي الفرصة فانتهزوها، وليكن شعاركم خلاص مصر، مع احترام أرواح وأموال سكانها الأجانب، فأنه ليس لنا مقاوم فيها غير جيش الاحتلال، ومن يحاربنا معهم؛ حقق الله الآمال."

 كان هذا إعلان نوايا بعد فوات الآوان، وما كان له أن يلقى صد لدى المصريين، لقد ظل عباس حلمي يحكم البلاد 22 عامًا دون دستور، وسمح فقط في السنة الأخيرة من حكمه بتشكيل مجلس نيابي جديد منقوص السلطات، في الوقت الذي كان بإمكانه الاستناد إلى الحركة الوطنية المتصاعدة في السنوات العشر الأخيرة من حكمه لمواجهة سلطات الاحتلال، لكن شبح جده المنفي كان لا يفارق مخيلته، ولم يمتلك "شجاعة" الاستجابه لمطالب الأمة إلا بعد أن أصبح منفيًا هو الآخر بعيدًا عن مصر.

 على كل حال لم يكتب لهذا الوعد أن يتحقق، ففي 18 ديسمبر 1914 أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وإنهاء علاقتها بالدولة العلية العثمانية بعد احتلال دام قرابة أربعمائة عام، وفي اليوم التالي تم عزل عباس حلمي الثاني وتعيين الأمير حسين كامل سلطانًا على البلاد، وذهب الوعد بالدستور أدراج الرياح، لكن إلى حين.

الثلاثاء، 26 أبريل 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 7 )

دستور زمن الاحتلال

عماد أبو غازي

 بهزيمة الثورة العرابية واحتلال بريطانيا لمصر بدأت مرحلة جديدة في نضال الشعب المصري وأضيف إلى مهام النضال الوطني من أجل الدستور، النضال من أجل الجلاء؛ فأصبح شعار الحركة الوطنية ومطلبها لسنوات الدستور والجلاء.


 لقد تدخلت بريطانيا في مصر لمناصرة الخديوي توفيق في مواجهة الثورة العرابية، ورددت أن وجودها في البلاد رهن بإعادة الاستقرار، لكنها استمرت لما يقرب من 75 عامًا، وظل وجود بريطانيا في مصر حتى قيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914 أمرًا واقعًا دون إطار قانوني محدد ومعلن، ورغم أن مصر ظلت من الناحية الرسمية تابعة للسلطنة العثمانية، ورغم أن الخديوي كان ممثلًا لسلطة الدولة العثمانية في مصر، لكن السلطة الفعلية في البلاد كانت في يد القنصل العام أو المعتمد البريطاني الذي كان في الحقيقة هو الحاكم الفعلي للبلاد، كانت الخطوة الأولى لسلطات الاحتلال بمعاونة الخديوي توفيق السيطرة على الجيش المصري؛ فأصدر الخديوي في 19 سبتمبر سنة 1882 بعد احتلال القاهرة بخمسة أيام مرسومًا بإلغاء الجيش المصري! كما أصدر مرسومًا بتجريد كل الضباط الذين اشتركوا في الثورة من رتبة ملازم ثاني إلى يوزباشي من رتبهم العسكرية وحرمانهم من مستحقاتهم المالية، بينما تمت إحالة كبار الضباط وعلى رأسهم عرابي إلى المحاكمة، وكلف الخديوي ضابطًا إنجليزيًا سابقًا بإعادة تنظيم الجيش، وفي يناير 1883 أصدر توفيق مرسومًا بتعيين السير أفلن وود قائدًا عامًا للجيش المصري، ليحكم سيطرة سلطة الاحتلال على جيش البلاد الذي انضم ضباطه إلى الحركة الوطنية منذ أواخر عصر إسماعيل.


 كانت أولى الخطوات التي اتخذتها سلطات الاحتلال بعد أن استتبت لها الأمور في البلاد إعادة صياغة النظام السياسي؛ فأرسلت بريطانيا في 30 أكتوبر 1882 اللورد دفرين سفيرها في الأستانة مندوبًا ساميًا لها في مصر وكلفته بمهمة محددة: وضع نظام سياسي جديد للبلاد، كانت الفكرة الأساسية في هذا النظام الجديد إلغاء الحياة النيابية وسلب المصريين الدستور الذي حصلوا عليه بعد نضال طويل استمر لسنوات.
 واستجابة للتقرير الذي أعده اللورد دفرين أصدر الخديوي توفيق في أول مايو 1883 مرسومًا خديويًا بالقانون النظامي الجديد، ليحل محل دستور الثورة الذي صدر عام 1882، ونص القانون النظامي على إنشاء مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية ومجالس المديريات، لتحل جميعها محل مجلس النواب الذي كان قد متوقفًا منذ الاحتلال.

اللورد دوفرين
 ووفقًا لما نص عليه "دستور" زمن الاحتلال، فإن مجالس المديريات كانت تنتخب على درجتين، لمدة ست سنوات، ويتم التجديد النصفي للعضوية كل ثلاث سنوات، ويتفاوت أعضاء هذه المجالس ما بين 8 أعضاء للقاهرة و3 للفيوم، ويرأس مجلس المديرية مدير المديرية، أي المحافظ بلغة اليوم، وكانت مجالس المديريات تتدارس أحوال المديرية لكن رأيها كان استشاريًا غير ملزم، وكانت تنتخب من بين أعضائها ممثل المديرية في مجلس شورى القوانين، الذي كان يفترض أنه بديلًا لمجلس النواب، وكان يتألف من ثلاثين عضوًا من بينهم 14 عضوًا معينًا يختار من بينهم الرئيس وأحد الوكيلين، و16 عشر عضوًا منتخبًا يختار من بينهم الوكيل الثاني، وكان هناك عضوان منتخبان من خلال مندوبي الانتخاب الأول عن القاهرة والثاني عن الثغور، وأربعة عشر عضوًا منتخبين من بين أعضاء مجالس المديريات، واحد عن كل مديرية. وكان المجلس ينعقد مرة كل شهرين في جلسات سرية، ولا يملك أي سلطة في الرقابة أو التشريع، وكان رأيه غير ملزم للحكومة في أي أمر من الأمور.
 أما المجلس الثالث فكان يسمى الجمعية العمومية التي تجتمع مرة كل عامين، وتتشكل من الوزراء وأعضاء مجلس شورى القوانين و46 عضوًا منتخبا على درجتين يمثلون مديريات مصر المختلفة، وكانت السلطة الوحيدة الممنوحة للجمعية العمومية هي سلطة إقرار الضرائب والرسوم الجديدة، أما دورها في باقي الأمور فقد كان استشاريًا.
 ورغم أن هذه المجالس لم تكن تملك سلطة تشريع ولا رقابة وفقا للقانون النظامي، إلا أن مجلس شورى القوانين بدأ منذ عام 1892 يبدي اعتراضات على سياسة الاحتلال والحكومة الموالية له، وكان ذلك مواكبًا للتغير السياسي الناتج عن وفاة توفيق وتولي ابنه عباس حلمي الثاني منصب الخديوية، وللتطور الذي لحق بالحركة الوطنية مع عودة عبد الله النديم من المنفى.

عباس حلمي
 وعندما أصدر مصطفى كامل جريدة اللواء سنة 1900 دعا عبر صفحاتها لإقامة نظام نيابي حقيقي وإصدار دستور للبلاد، واقترنت من يومها المطالبة بالجلاء والمطالبة بالدستور، وعندما أسس مصطفى كامل الحزب الوطني عام 1907 كانت قضية الدستور ركنًا أساسيًا في برنامجه، وقد واصل محمد فريد قيادة النضال من أجل الدستور، ونجح الحزب الوطني بقيادة فريد في أن يحول مجلس شورى القوانين إلى ساحة من ساحات النضال الدستوري.

 وفي عام 1913 ومع تصاعد المطالبة بالدستور أصدر الخديوي عباس حلمي الثاني قانون نظامي جديد، نص على إنشاء الجمعية التشريعية لتحل محل مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية معًا، ورغم تسمية الهيئة النيابية الجديدة باسم الجمعية التشريعية إلا أنها لم تملك سلطة تشريع حقيقية، وفي الانتخابات التي أجريت في ديسمبر 1913 فاز سعد زغلول عن قسمي بولاق والسيدة زينب وأصبح الوكيل المنتخب للجمعية في دور انعقادها الوحيد، فقد قامت الحرب العالمية الأولى، وأعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وأنهت علاقتها بالدولة العثمانية، وعزلت الخديوي عباس وجاءت بحسين كامل سلطانًا على البلاد، وأعلنت الأحكام العرفية، وعطلت أعمال الجمعية التشريعية، وبات دستور الاحتلال في خبر كان.

الاثنين، 25 أبريل 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 6 )

دستور الثورة الضائعة...

 أول دستور للمصريين

عماد أبو غازي

 يعتبر دستور 1882 أول دستور حقيقي يصدر في مصر، كان الدستور ثمرة مباشره لجهد الحركة الوطنية المصرية في سبعينيات القرن التاسع عشر، وجاء الدستور موافقًا إلى حد كبير في روحه ونصوص مواده لمشروع دستور 1879 الذي أنجزته لجنة برلمانية في عهد حكومة شريف باشا، ذلك المشروع الذي أوقفه الخديوي توفيق بعد عزل أبيه إسماعيل ونفيه من البلاد.


 كان مشروع الدستور مكتملًا قبيل عزل الخديوي إسماعيل، لكن خلفه الخديوي توفيق رفض إصدار الدستور أو دعوة البرلمان أو إجراء انتخابات جديدة، رغم أن الحكومة طلبت هذا وأصرت عليه، الأمر الذي دفع رئيس مجلس النظار شريف باشا وأعضاء حكومته إلى تقديم استقالتهم، وكان توفيق بعد أن تولى الحكم في صيف 1879 يسعى إلى التخلص من حكومة شريف باشا بسبب انحيازها للنظام الدستوري، وانتمائها إلى تيار الحركة الوطنية المصرية التي كان انتزاع الدستور قضيتها الأساسية في ذلك الوقت، ومدخلها للوقوف في وجه التدخل الأجنبي في شئون البلاد من خلال برلمان قوي يراقب الحكومة ويمارس التشريع.
 وتولى توفيق رئاسة مجلس النظار بنفسه، واحتفظ باثنين فقط من النظار المنتمين لحكومة شريف باشا هما محمود سامي البارودي ومصطفى فهمي في الوقت الذي أصر فيه باقي النظار على موقفهم رافضين التعاون مع حاكم لا يقبل بالحكم الدستوري، لم يستمر توفيق طويلًا في جمعه بين مقعد الخديوية ورئاسة مجلس النظار حيث كلف رياض باشا المعروف بميوله الاستبدادية برئاسة المجلس، فكل من الرجلين توفيق ورياض متوافقًا مع الآخر في العداء للنظام الدستوري وفي الميل إلى الحكم الاستبدادي.
 أدت سياسة توفيق ورياض إلى مزيد من التأزم والاحتقان في الوضع السياسي العام في البلاد، فقد أعاد الخديوي العمل بنظام الرقابة الثنائية البريطانية الفرنسية على مالية مصر، وقامت الحكومة بملاحقة الوطنيين: فافتتح توفيق عهده بنفي السيد جمال الدين الأفغاني خارج البلاد في أغسطس 1879، ثم توالت الإجراءات ضد قادة الحركة الوطنية وضد الصحافة المعارضة، فتم تجريد الفريق شاهين باشا كينج وزير الحربية السابق من رتبه وألقابه لاتصاله بالحزب الوطني، ومحاكمة السيد حسن موسى العقاد ونفيه إلى أقاصي السودان لاعتراضه على إلغاء قانون المقابلة، وتم تعطيل بعض الصحف الوطنية وإنذار البعض الآخر مثل: مرآة الشرق والتجارة ومصر ومصر الفتاة والإسكندرية والمحروسة وطال الإغلاق صحفًا أوروبية تصدر في مصر مثل الريفورم، كما تم منع عدد من الصحف العربية التي تصدر في الخارج من دخول البلاد، مثل أبو نظارة وأبو صفارة والقاهرة والشرق.


 لقد تأزم الوضع السياسي في مصر، في الوقت الذي زادت فيه الأوضاع الاقتصادية لعموم المصريين ترديًا، وتواكب مع هذا الوضع الاضطهاد الذي تعرض له الضباط الوطنيون في الجيش.
 وتشكل في هذه المرحلة حزبان حملا الدعوة إلى التغيير والإصلاح، الحزب الوطني أو جمعية حلوان وجمعية مصر الفتاة بالإسكندرية، وتبنى الحزبان الدعوة للنظام الدستوري وإطلاق الحريات.
 وعندما تأزمت الأمور مع إصرار توفيق ورياض على سياستهما لم يعد أمام المصريين إلا الثورة، خاصة في ظل غياب المجلس النيابي الذي كان منبرًا للتعبير عن الغضب يحول دون انفجار الأوضاع.


 وبالفعل قامت الثورة العرابية التي وصلت لحظة الذروة في مظاهرة عابدين يوم 9 سبتمبر 1881، وكان في مقدمة مطالبها إقرار نظام دستوري للبلاد، ونجحت الثورة في أن تفرض على الخديوي عزل حكومة رياض باشا وإعادة شريف باشا إلى رئاسة مجلس النظار، وقد أشار شريف باشا في خطابه إلى الخديوي توفيق بقبول تشكيل الحكومة بوضوح إلى أنه سوف يسعى لوضع نظام دستوري يقوم على الفصل بين السلطات الثلاثة، فقد قال في الخطاب: "أبذل الهمة في تنظيم المجالس المحلية ووضع قوانين متناسقة متقنة النظام صريحة الأحكام، وفي تحديد القوى العمومية، أعني القوة المنوط بها وضع القوانين، والقوة القضائية المكلفة بالحكم بموجبها، والقوة التنفيذية، وتعيين خصائص كل قوة منها وحدودها".
 ونفذت حكومة شريف باشا مطالب الأمة في إعادة الحياة النيابية، فرفع شريف باشا إلى الخديوي توفيق تقريرًا في 4 أكتوبر 1881 بهذا الشأن، ثم قامت الحكومة بإجراء الانتخابات على أساس لائحة مجلس شورى النواب القديم، على أن يتحول المجلس المنتخب إلى جمعية تأسيسية تناقش مشروعًا للائحة جديدة هي بمثابة الدستور.
 وبالفعل تم انتخاب المجلس وافتتحه الخديوي في 26 ديسمبر 1881، وفي الثاني من يناير 1882 عرض شريف باشا مشروع القانون الأساسي الجديد على المجلس لدراسته وإجراء ما يراه من تعديلات عليه، وأكد في كلمته على انحياز الحكومة إلى منح المجلس النيابي المنتخب سلطاته الكاملة في الرقابة والتشريع.
 كان دستور 1882 يجمع بين خصائص قانون المجلس النيابي ولائحته الداخلية، لكنه أيضًا كان يضع قواعد النظام السياسي الجديد للبلاد، ورغم أن الدستور لم يشر في مواده إلى حريات المواطنين وحقوقهم ولا لمقومات الدولة الأساسية إلا أنه كان طفره في النظام السياسي المصري بمعايير ذلك العصر، وكان تعبيرًا عن إرادة شعبية لدى المصريين ناضلوا لسنوات من أجل تحقيقها، لقد تمت صياغة الدستور في 53 مادة تنظم أسلوب انتخاب مجلس النواب وتحدد حصانة أعضائه ودورات انعقاده ونظام عمله، وشروط حله والضوابط المنظمة لها، كما قرر الدستور في مواده الدور الرقابي والتشريعي لمجلس النواب بشكل واضح لا يحتمل اللبس، ومنح المجلس حق مسألة الحكومة وأعضائها مجتمعين أو فرادى وحق محاسبتهم، وأقر بمبدأ المسئولية الوزارية التضامنية للحكومة أمام المجلس، كما نص على حق المجلس في مناقشة الميزانية وإقرارها، ونظم أسلوب حل الخلاف بين الحكومة والمجلس في أي أمر من هذه الأمور، وأعطى الدستور للمواطنين حق مخاطبة المجلس بالعرائض وألزمه بدراستها والنظر فيها.

 لكن شريف باشا لم يستمر في الحكم لحين صدور الدستور، فقد اختلف مع القادة العسكريين للثورة حيث كان يرى ضرورة عودة الجيش لثكناته وترك إدارة شئون البلاد السياسية للجناح المدني للثورة، الأمر الذي رفضه عرابي ورفاقه، فاستقال شريف باشا من رئاسة الحكومة وتولاها محمود سامي البارودي باشا. 

محمود سامي البارودي باشا
 وفي ظل وزارته وفي 9 فبراير سنة 1882 نشرت الوقائع المصرية نص دستور 1882 الذي وضعه شريف باشا وقدمه لمجلس النواب لمناقشته وإقراره وأصدره الخديوي توفيق بسراي الإسماعيلية في 7 فبراير.

الأحد، 24 أبريل 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 5 )

شريف باشا أبو الدستور

عماد أبو غازي

  شهدت نهاية السبعينيات من القرن التاسع عشر تحولًا مهمًا في نضال الشعب المصري من أجل الدستور، فقد طرحت الحركة الوطنية الصاعدة التي ضمت قادة النخبة السياسية الجديدة الدستور والرقابة البرلمانية على الحكومة والمشاركة في التشريع على رأس مطالبها، وكانت تلك النخبة الجديدة تضم نوابا تمرسوا في العمل البرلماني منذ عام 1866، وبعضًا من أعيان الريف، ومجموعة من الكتاب ورجال الفكر والصحافة، وعناصر من الجهاز البيروقراطي للدولة، ومن ضباط الجيش خاصة من ذوي الأصول المصرية.
 وقد ارتبطت المطالبة بالدستور منذ ذلك الحين بقضية استقلال القرار الوطني ومواجهة التدخلات الأجنبية في شئون البلاد، فقد تفجرت الأزمة السياسية بين مجلس شورى النواب والحكومة في الأشهر الأخيرة من عصر الخديوي إسماعيل بسبب أزمة الدين الخارجي، والرقابة الثنائية البريطانية الفرنسية على مالية مصر، ورفض الوزير البريطاني المثول أمام مجلس شورى النواب وتجاهل الوزير الفرنسي لقرارات المجلس وتوجيهاته.
 وقد انتهت تلك الأزمة بقبول الخديوي إسماعيل للائحة الوطنية وإقالة ابنه توفيق من منصب رئيس مجلس النظار وتكليف شريف باشا بأعباء المنصب.

شريف باشا
 وقراءة مبررات إقالة الحكومة تكشف عن قوة الحركة الوطنية واستجابة الخديوي لها، فقد جاء في تلك المبررات:
 "لما لم يتيسر لهيئة مجلس النظار السابقة التوفيق للخدمات المتعلقة بإصلاح الأمور المادية والمعنوية المحتاج إليها الوطن، وإجرائها على المحور الموافق لعزم الأهالي قد صمم عموم أهالي الوطن العزيز تصميمًا جازمًا على تبديل هذه الهيئة بغيرها، وتسليم إدارة المصالح مع تأسيسها على أساس صحيح إلى ذوي اللياقة والأهلية من حضرات قدماء المأمورين الكرام الذين حازوا حسن الوثوق والاعتماد عليهم في أمور الحكومة، واعترف لهم بها الجميع، وبناء على هذا اجتمعت جمعية حافلة من حضرات أعضاء شورى النواب والعلماء الأعلام والذوات الفخام والمأمورين الكرام ووجوه البلد وأعيان المملكة ومعتبري الأهالي، وبعد أن وقعت بينهم المذكرات الكثيرة، مع ملاحظة ما ينبغي ملاحظته في خصوص هذه الوظيفة المهمة وإصلاح أحوال المالية والأمور الداخلية، عرضوا لأعتاب الحضرة الفخيمة الخديوية اللائحة العمومية التي حرروها على وفق الآراء العمومية، فتعلقت الإرادة السنية بوجوب إجراء المواد المندرجة فيها."
الخديوي إسماعيل
 إننا أمام تطور مهم في الحياة السياسية المصرية، فنص الوثيقة يعترف بشكل واضح بالإرادة الشعبية، والخديوي يوافق على تغيير الحكومة نزولًا على إرادة الأمة وممثليها، وفي نص الإرادة العلية الصادرة من الخديوي إسماعيل إلى شريف باشا لتكليفه بمسئولية منصب ناظر النظار في 7 أبريل سنة 1879 تأكيدًا على هذا المعنى؛ فقد استهل الخديوي أمر التكليف قائلًا: "إني بصفة كوني رئيس الحكومة ومصريًا أرى من الواجب علي أن أتبع رأي الأمة وأقوم بأداء ما يليق بها من جميع الأوجه الشرعية." ورغم أن إسماعيل كان حينئذ يخوض معركته الأخيرة مع الدائنين ومع الدول الأوروبية مستفيدًا من الحركة الوطنية، إلا أن خطاب تكليف شريف باشا أرسى مبدأ نزول الحاكم على الإرادة الشعبية وانصياعه لها وإقرار مبدأ رقابة الأمة على الحكومة، وقد تأكد هذا المعنى في أكثر من موضع في الخطاب، فعندما يوجه الأمر لشريف باشا بتشكيل الحكومة يشير إلى "أن تكون تلك النظارة مشكلة من أعضاء أهليين مصريين يتبعون في سيرهم الطرق المنصوص عليها في الإرادة المذكورة، ويتحفظوا على مأمورياتهم كل التحفظ، إذ أنهم مكلفون بالمسئولية لدى مجلس الأمة الذي سيجري انتخاب أعضائه وتعيين مأموريته بوجه كاف للقيام بتأدية ما يلزم للحالة الداخلية ومرغوب الأمة نفسها." وفي موضوع آخر قال: "وأن تجتهد النظارة قبل كل شيء في أن تستعد لاستحضار قوانين مماثلة للقوانين الجاري عليها العمل في أوروبا." في تكليف واضح بصياغة دستور للبلاد.
 وقد بادر شريف باشا عقب توليه رئاسة مجلس النظار بتنفيذ إرادة النواب في استمرار انعقاد مجلس شورى النواب، فدعا المجلس للاجتماع في 10 أبريل 1879، وتُلي كتاب وزير الداخلية باستمرار دورة المجلس وإلغاء القرار الذي سبق أن أصدرته حكومة محمد توفيق باشا بفضه.
 وفي 17 مايو اجتمع المجلس، وحضر شريف باشا رئيس مجلس النظار وقدم للمجلس مشروع اللائحة الأساسية الجديدة لمناقشتها وإقرارها، في خطوة مهمة في طريق منح المجلس النيابي سلطة التشريع في مصر، حيث أشار شريف باشا في كلمته بشكل واضح إلى سلطة مجلس شورى النواب في مراجعة القوانين وتعديلها أو إقرارها.
 وتم تشكيل لجنة من أعضاء المجلس ضمت كل من: عبد السلام بك المويلحي وعثمان الهرميل والسيد السرسي ومحمود سالم وبديني الشريعي وعبد الغني خالد وباخوم لطف الله وعبد الرزاق الشوربجي وإبراهيم الجيار وعبد الوهاب الشيخ ومحمد رجب كساب وخضر إبراهيم وعبد الرحمن وافي وتمام حباير وسليم سعيد، وانتخب المويلحي رئيسا للجنة. ويعتبر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي أن هذه اللجنة كانت بمثابة لجنة دستورية، وأن مجلس شورى النواب قام بمهمة الجمعية التأسيسية.
 ويعتبر الرافعي أن اللائحة الأساسية لعام 1879 أول دستور وضع في مصر على أحدث المبادئ العصرية رغم عدم صدورها بمرسوم خديوي، لكن من وجهة نظره فإن تلك اللائحة التي ارتضتها الحكومة وقدمتها إلى مجلس شورى النواب مع لائحة الانتخاب لتنال إقرار المجلس، تعتبر أساسًا لدستور 1882 الذي اقتبس كثير من نصوصه منها.
 وقد تضمنت تلك اللائحة سلطات واسعة لمجلس النواب تضاهي سلطات البرلمانات الأوروبية في الرقابة والتشريع، كما أنها أعطت أهالي السودان حق انتخاب ممثليهم في المجلس، وأقرت مبدأ الحصانة البرلمانية وجعلت النائب وكيلًا عن عموم الأمة وليس وكيلًا عن دائرته فقط.
 لكن مشروع الحركة الوطنية وجهود شريف باشا لم تكلل بالنجاح، فقد نجحت بريطانيا وفرنسا في عزل الخديوي إسماعيل وتولية ابنه توفيق مكانه، وقد كلف توفيق شريف باشا بالاستمرار في رئاسة مجلس النظار في 5 يوليو 1879، وأكد في خطاب التكليف على علمه بأن "الحكومة الخديوية يلزم أن تكون شورية ونظارها مسئولين"، وأنه ينبغي "تأييد شورى النواب وتوسيع قوانينها لكي يكون لها الاقتدار في تنقيح القوانين وتصحيح الموازين وغيرها من الأمور المتعلقة بها".

الخديوي توفيق
 لكن الأمور سارت في مسار آخر؛ فقد تم تعطيل أعمال مجلس النواب قبل أن ينتهي من مناقشة القوانين واللوائح المحالة إليه من الحكومة، ثم جمع توفيق في أغسطس 1879 بين الخديوية ورئاسة مجلس النظار، بعد استقالة شريف باشا احتجاجًا على رفض الخديوي إجراء انتخابات مجلس النواب، ثم أسند المنصب إلى رياض باشا المساند للحكم الاستبدادي، ليستمر في المنصب إلى أن قامت الثورة العرابية في سبتمبر 1881، فيعود شريف باشا بناء على طلب الثوار وقادة الحركة الوطنية فيعيد الحياة النيابية ويقوم بإعداد مشروعًا جديدًا للدستور.
 من هنا استحق شريف باشا لقب أبو الدستور فكما يقول عبد الرحمن الرافعي: "على يد شريف باشا قام النظام الدستوري في مصر، ففي عهد وزارته للداخلية سنة 1866 أنشئ مجلس شورى النواب، وفي عهد رأسته للوزارة سنة 1879 كملت سلطة المجلس بتقرير مبدأ المسئولية الوزارية أمامه، وفي وزارته الثالثة سنة 1881 أنشئ مجلس النواب على غرار المجالس النيابية الحديثة."


أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...