الثلاثاء، 10 مايو 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 21 )

دستور 1956

وتأسيس دولة الاستبداد

عماد أبو غازي

 في 16 يناير 1956 انتهت المرحلة الانتقالية التي حددها الإعلان الدستوري الصادر في يناير عام 1953، فخرج جمال عبد الناصر على الجماهير في مؤتمر شعبي كبير بميدان عابدين ليعلن من هناك دستورًا جديدًا للبلاد، كانت لجنة الدستور التي تشكلت بمقتضى ذلك الإعلان قد أنهت عملها في أغسطس 1954، لكن المشروع الذي أنجزته اختفى، ولم يؤخذ بشيء منه في دستور 1956، بل جاء على العكس منه تقريبًا.


 بدء الدستور بمقدمة إنشائية على لسان الشعب المصري يقول فيها: "نحن الشعب المصري الذي انتزع حقه في الحرية والحياة، بعد معركة متصلة ضد السيطرة المتعدية من الخارج والسيطرة المستغلة من الداخل، نحن الشعب المصري الذي تولى أمره بنفسه، وأمسك زمام شأنه بيده، غداة النصر العظيم، الذي حققه بثورة 23 يوليو سنة 1952 وتوج كفاحه على مدى التاريخ"، ويسترسل كاتب مقدمة الدستور بهذا الأسلوب معددًا ما عرف بالمبادئ الستة للثورة، لينتهي إلى أن الشعب هو من وضع دستوره وأقره، في عبارة تقول: "نحن الشعب المصري، وبعون الله وتوفيقه وهداه، نملي هذا الدستور ونقرره ونعلنه، مشيئتنا وإرادتنا وعزمنا الأكيد، ونكفل له المهابة والقوة والاحترام."
وقد تضمن الدستور 196 مادة موزعة على ستة أبواب، وجاء الدستور جديدًا ومختلفًا ومعبرًا عن مرحلة الحكم الشمولي بامتياز، ومحصنًا لما تم اتخاذه من إجراءات استثنائية في السنوات السابقة على صدوره والتي أسست للنظام الجديد، حيث نصت المادة 191 وهي من بين مواد الباب الخامس المعنون "أحكام عامة" على أن: "جميع القرارات التي صدرت من مجلس قيادة الثورة، وجميع القوانين والقرارات التي تتصل بها وصدرت مكملة أو منفذة لها، وكذلك كل ما صدر من الهيئات التي أمر المجلس المذكور بتشكيلها من قرارات أو أحكام، وجميع الإجراءات والأعمال والتصرفات التي صدرت من هذه الهيئات أو من هيئة أخرى من الهيئات التي أنشئت بقصد حماية الثورة ونظام الحكم لا يجوز الطعن فيها أو المطالبة بإلغائها أو التعويض عنها بأي وجه من الوجوه وأمام أية هيئة كانت."
 وباستعراض نصوص دستور 1956 نجد أنه نص للمرة الأولى في تاريخ الدساتير المصرية على أن مصر دولة عربية وأن الشعب المصري جزء من الأمة العربية، وجاء هذا النص في المادة الأولى من الباب الأول، والتي أكدت كذلك على أن مصر جمهورية ديمقراطية، كما نصت المادة الثالثة من الدستور على أن "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية"، لتصبح هذه المادة للمرة الأولى أيضا ضمن مقومات الدولة التي تتصدر مواد الدستور بعد أن كانت في الدساتير السابقة تأتي ضمن الأحكام العامة في نهاية الدستور.
 ومن الأمور التي أقرها دستور 1956 للمرة الأولى أيضًا حق المرأة في الترشيح للبرلمان، وقد حقق هذا الدستور بذلك مطلبًا ظلت المرأة المصرية تناضل من أجله منذ عشرينيات القرن الماضي.
 أما باب الحريات فأنه نص بوضوح على أن "حرية الاعتقاد مطلقة"، وعلى أن "الدولة تحمي حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقًا للعادات المرعية في مصر، على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب"، كما نص على حرية الرأي والتعبير والبحث العلمي، وحرية الصحافة والطباعة والنشر، وحق الاجتماع العام وحق تكوين الجمعيات، إلا أنه علق معظم الحقوق والحريات على قوانين تنظمها، ومن هنا تمكن النظام من تقييد الحقوق والحريات بالقانون، خاصة في ظل هيمنة السلطة على البرلمان، كما أن الدستور لم ينص على حق تكوين الأحزاب، ونص بدلًا من ذلك في المادة 192 التي تتصدر الباب السادس الخاص بالأحكام الانتقالية والختامية على أن: "يكون المواطنون اتحادًا قوميًا للعمل على تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة ولحث الجهود لبناء الأمة بناء سليمًا من النواحي السياسية والاقتصادية."
 كما نصت المادة نفسها على أن "يتولى الاتحاد القومي الترشيح لعضوية مجلس الأمة." وبالتالي أصبحت السلطة التشريعية رهينة لدى التنظيم السياسي الذي يتم تكوينه وتحديد نظامه بقرار من رئيس الجمهورية. وبهذا النص تمت "دسترة" نظام الحزب الواحد أو التنظيم السياسي الواحد في مصر.
 لكن أخطر ما في هذا الدستور إلى جانب إلغاء التعددية الحزبية أنه وضع أسس النظام الرئاسي الذي يستحوذ فيه رئيس الجمهورية على سلطات واسعة للغاية، فهو رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء، حيث نص الدستور على أن رئيس الجمهورية يعين الوزراء ونوابهم ويعزلهم ويرأس اجتماعات مجلس الوزراء، كما يضع السياسة العامة للدولة بالاشتراك مع الوزراء، كما أن له حق حل مجلس الأمة، كذلك فإن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس مجلس الدفاع الوطني، وقد نص الدستور على أن مدة رئيس الجمهورية ست سنوات، ورئيس الجمهورية وفقًا لدستور 1956 لا يتم انتخابه من بين مجموعة من المرشحين، لكن يتم اختياره باستفتاء عام بناء على ترشيح مجلس الأمة، وبالتالي فلا يوجد تنافس على منصب الرئيس؛ ورغم هذا النص فإن الاستفتاء على رئيس الجمهورية تم في نفس يوم الاستفتاء على الدستور دون أن يرشح الرئيس مجلسًا للأمة، حيث نصت المادة 193 على أن يجرى الاستفتاء على الدستور يوم 23 يونيو 1956، ونصت المادة 194 على أن يجرى الاستفتاء لرياسة الجمهورية في نفس اليوم.
 وفي اليوم المحدد تم الاستفتاء الذي شارك فيه حسب الإحصاءات الرسمية أكثر من خمسة ملايين ونصف ناخب من بين قرابة خمسة ملايين وسبعمائة ألف مقيدين في جداول الناخبين، ووافق على الدستور 97,6% بينما وافق على اختيار جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية 99,9% من مجموع المصوتين، لنبدأ بذلك عصر جديد من عصور استلاب إرادة الأمة عبر أسلوب الاستفتاء.

 لم يعش دستور 1956 طويلًا فقبل أقل من عامين ألغي بقيام الوحدة المصرية السورية وإعلان الجمهورية العربية المتحدة، لكنه كان الأساس الذي استلهمته دساتير مصر بعد ذلك لعدة عقود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...