الثلاثاء، 12 يناير 2021

مصري في مؤتمر فرساي

 

مصري في مؤتمر فرساي

عماد أبو غازي

 من المعروف لنا جميعًا أن السبب الأساسي لتشكيل الوفد المصري كان المشاركة في مؤتمر الصلح في باريس أو ما عرف بمؤتمر فرساي في أعقاب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، ذلك المؤتمر الذي كان مقدرًا له أن يعيد رسم خريطة العالم بأيدي المنتصرين.

 والمعروف كذلك أن ثورة 1919 اشتعلت بسبب إصرار سعد زغلول ورفاقه على المشاركة في المؤتمر، ورفض سلطات الاحتلال البريطاني الاستجابة لمطلبهم، ثم القبض عليهم ونفيهم إلى مالطة يوم 8 مارس، فاشتعلت الثورة في اليوم التالي.

 ونعرف أيضًا أن الثورة نجحت في اجبار سلطات الاحتلال على الإفراج عن سعد وزملائه والسماح لهم بالسفر، وأنهم سافروا بالفعل إلى باريس، ولم يتمكنوا من حضور المؤتمر الذي أقر باحتلال بريطانيا لمصر.

 كما نعرف أن محمد فريد رئيس الحزب الوطني المصري الذي كان يعيش في منفاه الاختياري في أوروبا قد حاول هو الآخر التواصل مع المؤتمر وتحقيق حلم المصريين في المشاركة فيه لإنهاء احتلال وطنهم، لكنه فشل هو الآخر.

 أما الأمر الذي لا يعرفه أكثرنا أن مصر دخلت مؤتمر فرساي من باب الفن؛ وأن المصري الوحيد الذي حضر مؤتمر فرساي كان المثال المصري محمود مختار.


مختار

فما هي الحكاية؟

 سافر مختار إلى فرنسا بعد أن أنهى دراسته في مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة سنة 1911 في بعثة على نفقة الأمير يوسف كمال، لاستكمال دراسته لفن النحت بمدرسة الفنون الجميلة في باريس، ونجح بعد ثلاث سنوات من الدراسة في أن يعرض عملًا من أعماله في صالون باريس، وكان هذا العمل تمثال عايدة المستوحى من الأوبرا الشهيرة التي ألفها فيردي، وجاء في زيارة قصيرة إلى القاهرة في صيف 1914، عاد بعدها إلى باريس ليستكمل حلمه بالاحتكاك بعالم الفن الرحب؛ لكن طريقه لم يكن سهلًا ميسرًا، ففي 28 يوليو 1914 اشتعلت الشرارة الأولى للحرب العظمى كما سُميت وقتها، والتي أصبحنا نسميها بعد ذلك الحرب العالمية الأولى، تميزًا لها عن الحرب العالمية الثانية (1939-1945).


مختار في مرسمه في باريس

 وتقطعت السبل بمختار وانقطع عنه المال وعجز عن العودة للوطن، وعاش سنوات ثلاث قاسية عمل فيها في بعض الأحيان عاملًا في مصانع الذخيرة أو حمالًا حتى يتمكن من العيش، لكنه في نفس الوقت لم ينقطع عن ممارسة فنه.

 وفي السنة الأخيرة من الحرب أشرقت دنياه من جديد عندما رشحه أحد أساتذته للعمل في متحف جريفان للتماثيل الشمعية بباريس، وهو واحد من أهم متاحف الشمع في العالم، وسرعان ما أصبح مختار مديرًا فنيًا للمتحف.

 في 11 نوفمبر سنة 1918 توقفت المدافع في جبهات القتال في أوروبا، وحقق الحلفاء (بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة) نصرًا حاسمًا على دول المحور (ألمانيا والنمسا والمجر والدولة العثمانية)، وتقرر أن يُعقد مؤتمر دولي للصلح في فرنسا، عُرف بمؤتمر فرساي يضع فيه المنتصرون شروطهم ويقسموا الغنائم فيما بينهم، وتقرر أن يبدأ المؤتمر يوم 18 يناير سنة 1919، وفي 13 نوفمبر طالب سعد زغلول ورفقيه على شعراوي عبد العزيز فهمي السماح لهم بالسفر، ومن هنا بدأت رحلة الوفد المصري في السعي لنيل استقلال مصر.


13 نوفمبر 1918 جدارية على تمثال سعد بالإسكندرية

 على الجانب الآخر قررت إدارة متحف جريفان أن تسجل الحدث فنيًا، فطبيعة متاحف التماثيل الشمعية تقوم على عمل تماثيل للشخصيات السياسية والعسكرية والفنية، ومحاكاة الواقع ومتابعة أحداثه من خلال أعمال فنانيها التي تجسد هذه الأحداث في تماثيل من الشمع الملون، وقد رشح المتحف مديره الفني المثال المصري الشاب محمود مختار ليقوم بهذه المهمة، مهمة نحت تماثيل القادة المنتصرين.

 وكان مختار قد نحت للمتحف مجموعة من الأعمال المعبرة عن أحداث الحرب العالمية، منها "حلم غليوم" إمبراطور ألمانيا المهزوم الذي أشعل الحرب، وتمثال "تدمير كاتدرائية ريمس" وهي كاتدرائية أثرية في مدينة ريمس الواقعة إلى الشمال الشرقي من باريس والتي دمرها الألمان في بداية الحرب في سبتمبر سنة 1914 أثناء اجتياحهم الحدود الفرنسية، وكذلك تمثال "نضال الدبابات في الحرب"، وكانت الدبابة سلاح جديد ظهر لأول مرة في الحرب العالمية الأولى، واستخدم في جبهات القتال في محاولة لتقليل الخسائر البشرية عند اقتحام خطوط العدو، ثم تمثال "عودة الجنود الفرنسيين إلى باريس بعد النصر".

 كما صنع تماثيل لبعض القادة العسكريين الذين شاركوا في معارك الحرب على جبهات القتال، مثل: كتشنر وجوفر وبرشنج وفرنش.

 كان المطلوب من مختار أن يحضر في جلسات مؤتمر الصلح كمراقب ليصنع مجموعة من التماثيل الشخصية لقادة الحرب المنتصرين وللقادة السياسيين لدول الحلفاء، وبالفعل تقدمت إدارة المتحف بطلب للسلطات الفرنسية للحصول على تصريح يُسمح بمقتضاه للنحات محمود مختار بدخول ساحات المؤتمر، وعمل الرسوم التحضيرية لتماثيل القادة المنتصرين، وما زال متحف مختار بحديقة الحرية بالقاهرة يحتفظ في قاعة التذكارات بخطاب المتحف عليه صورة شخصية لمختار.

 كان هناك أربع شخصيات محورية في المؤتمر: الرئيس الأمريكي وودرو ولسن صاحب المبادئ الأربعة عشر الشهير، والذي دخلت بلاده الحرب في سنتها الأخيرة فرجحت كفة الحلفاء، ورئيس وزراء بريطانيا ديفيد لويد جورج، ورئيس وزراء فرنسا جورج كليمنصو، ورئيس وزراء إيطاليا فيتوريو إمانويلي أورلاندو، ونعرف أن مختار نحت تماثيل شمعية للثلاثة الأول على الأقل وضعت في متحف جريفان.


المنتصرون

 وهكذا كان مختار المصري الوحيد الذي سُمح له بحضور بعض جلسات مؤتمر الصلح، ليس ليحمل مطالب الشعب المصري في الاستقلال، لكن لينحت تماثيل قادة الدول الذين اجتمعوا لإعادة رسم خارطة العالم، في الوقت الذي لم يستمع فيه المؤتمر لمطالب ممثلي الشعب المصري الموكلين عنه للدفاع عن قضيته، أعني أعضاء الوفد المصري برئاسة سعد زغلول.

 هذا عن قصة مختار المصري الذي حضر مؤتمر الصلح من خلال عمله في متحف جريفان، لكن هل انتهت علاقة مختار بمتحف جريفان للشمع بهذه المهمة؟

 لقد ترك مختار أعمالًا أخرى في المتحف، نعرف منها عملين وصلت لنا صورهما الفوتوغرافية، والعملان يجسدان شخصيتين فنيتين نسائيتين ربطتهما بمختار علاقات صداقة وطيدة، وقرر أن يخلدهما بتمثالين من الشمع ينبضان بالحياة يصنعهما لهما في متحف جريفان.

  الصديقة الأولى هي راقصة البالية الروسية الشهيرة آنا بافلوفا (1881-1931) التي تعرف عليها في باريس، ثم زارت مصر، وأثناء زيارتها التقت مختار وترددت عليه أثناء عمله في تمثال نهضة مصر، وقضت ساعات معه في موقع العمل، والتمثال الذي نحته لها يجسدها وهي تؤدي إحدى رقصاتها.




آنا بافلوفا

  أما الصديقة الثانية فهي الفنانة الشابة الصاعدة وقتها أم كلثوم، والتي ربطته به صداقة طويلة، وعندما طلبت منه إدارة متحف جريفان أن ينحت تمثالًا لشخصية مصرية يوضع في المتحف، اختار بلا تردد أن يكون التمثال لأم كلثوم، ولم يكن تمثال أم كلثوم الشمعي في متحف جريفان التمثال الوحيد الذي نحته مختار لأم كلثوم، فقد نحت لها تمثالًا نصفيًا، لكن مصيره مجهول.





أم كلثوم

 يبقى سؤال أخير؛ أين هذه التماثيل الآن؟

 في عام 1991 أثناء الاحتفال بالمئوية الأولى لميلاد مختار أرسلت جمعية أصدقاء متحف مختار التي كانت الشريك الأساسي مع وزارة الثقافة المصرية في تنظيم تلك الاحتفالية التي استمرت على مدى عام كامل رسالة إلى إدارة متحف جريفان في باريس تطلب بيانات عن فترة عمل مختار في المتحف، وصور لأعماله، وتتساءل عن مصير هذه الأعمال، هل هي محفوظة في مخازن المتحف؟ باعتبار أن طبيعة العرض في متاحف الشمع تعتمد أسلوب العرض المتغير عادة.


تمثال أم كلثوم وتمثال آنا بافلوفا في قاعة العرض

 وجاء الرد صادمًا؛ لقد تم تدمير المتحف بالكامل في الحرب العالمية الثانية، وضاع معظم أرشيفه ولم يعد للأعمال القديمة أثر، وبدلًا من أن نحصل من المتحف على معلومات عن مآل أعمال مختار، والأوراق الخاصة به في متحف جريفان وجدنا أنفسنا في موقف مختلف تمامًا، فأرسلنا إلى المتحف صورة من الوثيقة الموجودة لدينا، وصور لتمثال أم كلثوم منفردًا، وصورة لقاعة العرض في المتحف يظهر فيها تمثال آنا بافلوفا وتمثال أم كلثوم.

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...