الجمعة، 9 يونيو 2017

عصر الغوري... زمن البناء والفناء

عصر الغوري... زمن البناء والفناء

عماد أبو غازي

 مرت على مصر في تاريخها الطويل فترات عانت فيها من أزمات شديدة أثرت في حياة الناس وانعكست على سلوكهم، مثلما عاشت قرون ممتدة من الازدهار والبناء الحضاري، وكانت تلك الأزمات عادة مؤذنة بانهيار دول وقيام دول جديدة، أو فاتحة لعصور احتلال أجنبي طويل، لكن مصر حتى في أشد أزماتها عرفت بقع ضوء صغيرة لم تنطفأ كانت بمثابة البذور التي تنبت الحضارة من جديد.
 ومن لحظات الأزمة في تاريخنا المصري السنوات الأولى من القرن السادس عشر الميلادي العاشر الهجري، تلك السنوات التي شهدت سقوط دولة المماليك الـﭽراكسة وخضوع مصر لقرون ثلاثة من الاحتلال العثماني.


 تعود بنا عجلة الزمن اليوم إلى ذلك العصر، مصر في أواخر عصر دولة المماليك الـﭽراكسة، وعلى وجه التحديد إلى عهد السلطان الأشرف قانصوه الغوري، الذي حكم البلاد ما بين سنتي 1501 و1516 ميلادية الموافقة لسنوات 906 و922 هجرية.
 لقد تمكن السلطان قانصوه الغوري بفضل الدهاء السياسي الذي كان يتمتع به من الاستمرار في حكم مصر لمدة خمسة عشر عاما، فدخلت مصر في أيامه مرحلة من استقرار السلطة بعد سلسلة من الاضطرابات والفوضى والصراعات السياسية والعسكرية بين أمراء المماليك، لقد عاشت مصر في السنوات الخمس السابقة على حكم السلطان قانصوه الغوري حالة من عدم الاستقرار منذ توفى السلطان الأشرف قايتباي أقوى سلاطين دولة المماليك الجراكسة في سنة 901 هجرية الموافقة لسنة 1496 ميلادية، ففي خمس سنوات تولى حكم البلاد خمسة سلاطين، كان مصير أربعة من بينهم العزل أو القتل، الأمر الذي أنهك البلاد وأضعفها وأنهى حالة الاستقرار والسكينة التي شهدها عصر السلطان الاشرف قايتباي، وإذا كان عصر الغوري قد شهد استقرارا لنظام الحكم واستتبابا لأمور السلطنة، أراح المصريين من وطأة الصراعات العسكرية المستمرة في شوارع القاهرة وضواحيها بين أمراء المماليك وما كان يترتب عليها من سلب ونهب، إلا أن البلاد كانت تعيش في ظروف صعبة، ما بين أزمة اقتصادية طاحنة، ومظالم متزايدة، هذا فضلًا عن الأخطار الخارجية التي كانت تحيط بالبلاد من كل جانب البرتغاليون من الجنوب والصفيون من الشرق ثم العثمانيون من الشمال.
 هذا فضلًا عن أن مصر كانت تمر بأزمة مست الهياكل الاقتصادية الأساسية في المجتمع، وهزت قواعد اقتصاد البلاد، والذي كان يعتمد بشكل أساسي على الإنتاج الزراعي، ثم على تجارة المرور. وقد بدت مظاهر تلك الأزمة في ارتفاع أسعار السلع الأساسية أو ندرتها في الأسواق، والحديث عن تلك المظاهر متكرر في كثب الحوليات التاريخية، فنادرًا ما تمر سنه من السنوات دون حديث هنا أو هناك عن ارتفاع في سعر سلعة أساسية أو اختفاء سلعة أخرى، وكان هذا انعكاسا للنقص المستمر في مساحة الأراضي المزروعة بسبب انخفاض عدد السكان، وبالتالي انخفاض قوة العمل، لقد تفاعلت الأزمة الاقتصادية مع الأزمة السكانية التى عاشتها مصر فى القرنين التاسع والعاشر الهجريين، والمتمثلة فى نقص عدد السكان وفناء أعداد كبيرة منهم، بسبب موجات القحط والمجاعات والأوبئة المتوالية فقد أدى هذا النقص السكانى إلى مزيد من تأزم الأوضاع الاقتصادية بسبب نقص الأيدى العاملة اللازمة للزراعة، وبالتالى بوار مساحات جديدة من الأراضي، والعجز عن ضم محاصيل أراض أخرى، الأمر الذي ترتب عليه نقص المواد الغذائية وارتفاع في أسعارها. هذا بالإضافة إلى انهيار كثير من الصناعات والحرف. وكان الارتفاع المستمر في أسعار السلع يساوي انخفاضا مقابلا في القيمة الشرائية للعملة، علاوة على انخفاض قيمتها الفعلية بسبب انخفاض نسبة المعدن الثمين فيها، وهكذا ارتبطت الأزمة الاقتصادية بأزمة مالية، تراجع فيها دور الذهب في النظام النقدي لدولة المماليك، وسادت العملات الفضية ثم النحاسية، كما تغلغلت إلى الأسواق المالية العملات الذهبية الأجنبية القوية وتراجع الدينار المصري. ومما ساعد على تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية في عصر المماليك ووصولها إلى الذروة، اكتشاف الرحالة البرتغالي فاسكو دي جاما لطريق رأس الرجاء الصالح سنة 1498 ميلادية. وكان ذلك الكشف ضربة أجهزت على وضع مصر كمركز رئيسي في طريق تجارة المرور بين الشرق والغرب، ففقدت بذلك مصدرا أساسيا من مصادر داخلها، وفي الوقت ذاته شكل وصول السفن البرتغالية إلى مياه المحيط الهندي وبحر العرب، بل والبحر الأحمر عبئا عسكريا جديدا على مصر كانت له تكلفته الاقتصادية الباهظة.


وفوق هذا وذاك كانت مصر تعيش في ظل فساد لم تشهد له مثيلا في تاريخها، ووصل الفساد إلى حد تولي مناصب القضاء ومناصب الدولة برشاوى تدفع للسلطان، وعندما غضب الغوري على قضاة القضاة الأربعة في مصر ذات مرة وعزلهم دفعة واحدة أضطر بعد عدة أيام إلى تعيين غيرهم دون أن يتلقى رشوة منهم سجل مؤرخ عصر الغوري محمد بن أحمد بن إياس المصري في كتابة بدائع الزهور في وقائع الدهور الواقعة باعتبارها من النوادر التي تستحق الذكر في زمن الغوري، وإن دل هذا على شيئ فإنما يدل على مدى تغلغل الفساد في البلاد وقتها.

   لكن الصورة كان لها عدة أوجه، فالغوري كان من البنائين العظام شيد عديد من العمائر الدينية والمدنية والتعليمية والاقتصادية والعسكرية، كما كان يعقد مجالس للعلم والأدب يجمع فيها علماء وأدباء عصره، وعندما سقط الغوري صريعا في معركة مرج دابق وهو يدافع عن سلطنته، كتب ابن إياس عنه قائلا: "وكانت مدة سلطنته بالديار المصرية والشامية خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يوما، فكانت هذه المدة على الناس كل يوم منها كألف سنة مما تعدون. وكانت صفته طويل القامة غليظ الجسد ذو كرش كبير، أبيض اللون، مدور الوجه، مشحم العينين، جهوري الصوت، مستدير اللحية، ولم يظهر بلحيته الشيب إلا قليلا. وكان ملكا مهابا جليلا مبجلا في المواكب ملئ العيون في المنظر، ولولا ظلمه وكثرة مصادراته للرعية وحبه لجمع الأموال لكان خيار ملوك الـﭽراكسة بل وخيار ملوك مصر قاطبة.... واستمر يرتع في ملك مصر على ما ذكرناه من التنعم والرفاهية، وهو نافذ الكلمة وافر الحرمة والأمراء والنواب والعسكر في قبضة يده لم يختلف عليه اثنان، إلى أن وقعت الوحشة بينه وبين سليم شاه بن عثمان ملك الروم فخرج إليه، وجرى له هذه الكاينة العظمى التي لم تقع لملك من ملوك مصر ولا غيرها من الملوك...".
 وبعد أن يسترسل ابن إياس في ذكر مظالم الغوري ومساوئه يبدأ في سرد الوجه الآخر من الصورة، مجموعة منشأته المعمارية العظيمة التي تعبر عن قمة من قمم فنون العمارة والبناء التي وصل إليها المعماريون المصريون في ذلك العصر، والتي يستغرق تعديدها صفحتين كاملتين من تاريخ ابن إياس، وتتنوع هذه المنشأت والعمائر ما بين قصور ومدارس ومساجد وأسبلة ووكالات وخانات وتحصينات عسكرية، ولعل أشهر أعماله تلك المجموعة المعمارية التي تضم الجامع والمدرسة والخانقاه والقبة والضريح والوكالة في خط الشرابشيين من أخطاط القاهرة الفاطمية، تلك المنطقة التي سميت بعدها على اسمه، حي الغورية.
 ولنترك الحديث لابن إياس مره أخرى يعدد ما أنشأه السلطان قانصوه الغوري من العمائر بالقاهرة، قال ابن إياس: "فمن ذلك الجامع والمدرسة اللتان أنشأهما في الشرابشيين، والوكالة والحواصل والربوع التي أنشأها خلف المدرسة عند المصبغة، ومن إنشائه المئذنة التي أنشأها في الجامع الأزهر وهي برأسين، وأنشأ هناك الربع والحوانيت التي بالسوق خلف الجامع. وأنشأ الربوع التي بخان الخليلي، وجدد عمارة خان الخليلي وأنشأ به الحواصل والدكاكين. وأنشأ في باب القنطرة ربعين ودكاكين، وكذلك الربعين التي بين الصورين والطاحون عند المصبغة. وأنشأ البيت الذي في البندقانيين لولده وتناهى في زخرفه، وأنشأ هناك ربعا ووكالة، وأنشأ الميدان الذي تحت القلعة، ونقل إليه الأشجار من البلاد الشامية، وأجرى إليه ماء النيل من سواقي نقالة، وأنشأ به المناظر والبحرة والمقعد والمبيت برسم المحاكمات. وأنشأ جامعا خلف الميدان عند حوش العرب بخطبة ومأذنة، وجدد غالب عمارة القلعة......". ويعدد منشاءته الأخرى خارج القاهرة، بل وخارج مصر كذلك: "وأنشأ بالطينة على ساحل البحر الملح قلعة لطيفة بها أبراج وجامع بخطبة، وأنشأ بثغر رشيد سورا وأبراج لحفظ الثغر، وجدد عمارة أبراج الإسكندرية، وأصلح طريق العقبة، وأنشأ هناك خانا بأبراج على بابه، وجعل فيه الحواصل لأجل ودائع الحجاج، وأنشأ في الأزنم أيضا خانا وجعل فيه الحواصل مثل الخان الذي في العقبة، وحفر هناك الآبار في عدة مواضع من مناهل الحجاج، وخارجها، وأنشأ بمكة المشرفة مدرسة ورباطا للمجاورين والمنقطعين هناك، وأجرى عين بازان بعد ما كانت انقطعت من سنين، وأنشأ بجده سورا على ساحل البحر الملح وفيه عدة أبراج بسبب حفظ بندر جدة من الفرنج، وجاء هذا السور من أحسن المباني هناك، وأنشأ على شاطئ البحر الملح بالينبع الصغير سورا وأبراجا منيعة، وله غير ذلك من الآثار الحسنة عدة مبان..."
ويلخص تقييمه للغوري في عبارة موجزة:
  "كان خيار ملوك الـﭽراكسة على عوج فيه.... وقد افتتح أوائل دولته بمصادرات وظلم وأخذ أموال بغير حق، واختتمت أواخر دولته بفتن وضرب سيف وذهاب أموال وأرواح وأمور مهولة وحوادث غريبة وفتن عظيمة ليس لها آخر، والأمر إلى الله من قبل ومن بعد يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل."

الأحد، 4 يونيو 2017

زمن المماليك... علامات النهاية

زمن المماليك... علامات النهاية

عماد أبو غازي

 عاشت مصر في القرن الأخير من زمن المماليك في ظلال أزمة اجتماعية اقتصادية طاحنة، وكان من الطبيعى أن تؤثر هذه الأزمة الاجتماعية على الوضع السياسى، فتنعكس فى تفاقم وضع الانفصام بين الشعب المحكوم والطبقة العسكرية الأجنبية الحاكمة، فتسود حالة من عدم المبالاة بمصير الدولة، إلا أنه على الرغم من حدة الفوارق الطبقية، والشعور العام بالسخط، وكراهية الشعب للمماليك، فإن كل حركات المقاومة اتخذت طابعًا عفويًا، ومن ثم لم تقم أى حركة إيجابية لتغيير المجتمع، لقد اتخذ التمرد والعصيان أشكالًا سلبية؛ كرفض المجتمع والهرب منه، أو تشكيل جماعات من العياق والشطار والفتيان، وفى حالات أخرى كون الخارجون على المجتمع عصابات تسطو على الأسواق فيما عرف باسم المناسر، جمع منسر، وربما كانت أقوى حركات التمرد والعصيان هى ثورات العربان الذين عاشوا على أطراف الوادى والدلتا؛ ونجحوا فى الاحتفاظ لأنفسهم بوضع خاص طوال العصر المملوكي احتفظوا فيه بحقهم في حمل السلاح، لكن ثورات العربان لم تكن وبالًا على الحكام من المماليك فقط، بل كانت عواقبها تصيب الفلاحين المصريين كذلك، الذين كانوا يعانون من العربان بمثل ما يعانون من حكام البلاد المماليك.
 وعلى الصعيد السياسى كذلك؛ شهدت البلاد حالة من عدم الاستقرار فى السلطة، فداخل النخبة الحاكمة؛ بلغت الصراعات على السلطة أشدها لدرجة أن أربعة عشر من سلاطين دولة الجراكسة قتلوا أو عزلوا، ولم تتجاوز فترات حكم كثير من سلاطين الجراكسة شهورًا قليلة؛ بل إن بعضهم لم يتح له تولى السلطنة إلا لساعات!


 ولم يقتصر الاضطراب والصراع بين المماليك على القمم العليا فى هذه الطبقة؛ بل امتد ليصل إلى المماليك الصغار، لقد عرف عصر الجراكسة عشرات من حالات التمرد التى يقوم بها المماليك ـ خاصة الجلبان - احتجاجًا على التأخير فى صرف جوامكهم (مرتباتهم)، أو على إنقاص هذه الجوامك. وكان لهذه الثورات والاضطرابات السياسية آثارها السلبية على الوضع الاقتصادى، فإذا كان معظم هذه الثورات والإضرابات قد نجم عن سوء الأوضاع الاقتصادية، فقد دفعت من ناحية أخرى بالوضع الاقتصادى إلى الهاوية، إذ عندما تقع هذه الاضطرابات فى الريف؛ كانت تؤدى إلى مزيد من هجر الفلاحين للأراضى. أما إذا وقعت فى المدن؛ فكانت أولى نتائجها إغلاق الأسواق وتخريبها.
 وامتدت مظاهر الاضطراب والفساد إلى الإدارة الحكومية للبلاد؛ فأصبحت الوظائف تولى بالرشوة أو تشترى من السلطان، وبالتالي أصبح من يلي الوظيفة هو من يقدر على الدفع لا من يصلح للقيام بمهامها. كما أصبح الهم الأول لموظفى الدولة استعادة ما دفعوه للسلطان أو لكبار الأمراء حتى يصلوا إلى هذه الوظائف، ومن ثم فقد بالغوا فى فرض المغارم والرسوم على الأهالى حتى يعوضوا ما دفعوه، وذلك فى وقت كانت حالة غالبية الشعب تسير من سيئ إلى أسوأ؛ ولا تحتمل فرض أى أعباء جديدة، هذا وقد امتدت ظاهرة تولى الوظائف بالرشوة إلى القضاة، فأصبح تولى منصب قاضى القضاة رهنًا بما يدفعه الساعي إلى الوظيفة من مال للسلطان، ولجأ القضاة إلى أساليب متعددة لاستعادة ما دفعوه للسلطان مقابل توليهم وظائفهم، فإما الحصول عليها من المتقاضين، أو بتعيين أعداد كبيرة من النواب أكثر من الحاجة، في مقابل مبالغ من المال يدفعها هؤلاء النواب لهم، فدخل بذلك الفساد إلى القضاء.
 وهكذا أصبح الراغب فى قضاء حاجة من حاجاته مطالبًا أن يقدم لعمال الدولة وقضاتها مقابلًا ماليًا أخذ فى التزايد مع اشتداد الأزمة، بل إن التجار والزائرين الأجانب كانوا مضطرين لدفع رشًا لكبار رجال الدولة ليضمنوا معاملة طيبة منهم.
 لكن أخطر ما فى الأمر هو امتداد ظاهرة الرشوة إلى تولى المناصب العسكرية، الأمر الذي زاد الجيش المملوكي ضعفًا على ضعف.
 لقد كان انهيار القوة العسكرية للجيش المملوكي في العصر الجركسي أمرًا واضحًا للعيان وله أسبابه المتعددة، فقد خرجت مصر من الوباء الكبير وقد فقدت قسمًا كبيرًا من سكانها، ومن بين من فقدتهم قطاعات من الجيش المملوكي.
 وكانت الأزمة الاقتصادية الطاحنة عاملًا ثانيًا أضعف الجيش من ناحية، وقيد قدرة سلاطين المماليك فى تعويض من فقدوهم من مماليك، كما قيدت كثرة الأوقاف في الأراضي الزراعية أيديهم في منح الإقطاعات العسكرية.
  ثم كانت الحروب المتوالية في مطلع القرن التاسع الهجري، فزادت الجيش إنهاكًا على إنهاكه.
  وأخيرًا... فإن سياسة الاعتماد في تعويض النقص في الجيش على المماليك الذين يجلبون شبانًا كبارًا أدت إلى انهيار تقاليد وقواعد الفروسية المملوكية؛ خاصة بعد أن سمح السلاطين لمماليكهم بسكنى المدينة ومغادرة الطباق.
 إن ما عاشته مصر منذ الوباء الكبير الذي حل بها فى منتصف القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) كانت شكل من أشكال الأزمات التقليدية التي عاشتها المجتمعات البشرية في الشرق والغرب في العصور الوسيطة، لكن أبعاد هذه الأزمات وآثارها القريبة والبعيدة تفاوتت من مجتمع إلى آخر حسب استجابته لهذا التحدي الطبيعي، ففي الوقت الذي دفعت فيه الأزمة المجتمعات الأوروبية إلى الانطلاق من ظلام العصور الوسطى إلى النهضة والتحديث، إلى مشارف العصر الحديث كانت استجابة المجتمع المصري في العصر المملوكي لهذه الظواهر سلبية وعاجزة.
 وعلى الرغم من كل هذه الأزمات المتوالية أو ربما بسببها فقد عرفت مصر في ذلك الوقت سنوات من الازدهار الفكري، خاصة مع تراجع الحكم العربي للأندلس ثم زواله نهائيًا، ونزوح كثير من علمائه إلى مصر، وكان في مقدمتهم العلامة ابن خلدون، كما ظهر فيها علماء من أبنائها من أمثال القلقشندي أو من أسر نزحت من المشرق العربي من أمثال تقي الدين المقريزي، لقد كان عصر التحول عصرًا جاذبًا لاحتراف الكتابة التاريخية وازدهارها، فازدهار الكتابة التاريخية دومًا مرتبط بعصور النحو والاضطراب أكثر من ارتباطه بعصور الاستقرار.
 كما عرفت البلاد كذلك ازدهارًا غير مسبوق في تاريخنًا في العصر الإسلامي للفنون والحرف والهندسة والمعمار.
 لكنها لم تشهد نضجًا لقوى اجتماعية محلية قادرة على الإمساك بزمام المبادرة والإطاحة بدولة المماليك العاجزة والانطلاق بالمجتمع المصري إلى الأمام.
 لقد ارتبط المصير المحتوم لدولة المماليك بظهور قوة إقليمية جديدة صاعدة، فقد أدى ظهور الدولة العثمانية في آسيا الصغرى إلى تراجع دور سلطنة المماليك تدريجيًا إلى أن زالت دولتهم في عامي 1516 ـ 1517م /922 ـ 923 هـ، على يد العثمانيين، ولم يكن الغزو العثماني لمصر حدثًا مفاجئًا في تاريخ المنطقة، إذ إنه منذ منتصف القرن التاسع الهجرى بدأت علاقات الود والصداقة بين الدولتين المملوكية والعثمانية تنقلب إلى علاقات عداء؛ حتى انتهت بهذه الحرب التى قضت على دولة المماليك. وقد مرت العلاقات العثمانية المملوكية ابتداءً من عهد برقوق (784-801هـ/ 1382- 1399م) بفترات من التوتر والانفراج بلغت حد الصدام العسكرى في عهد قايتباى (872 ـ 901 هـ / 1468 ـ 1496م)، لقد تمثلت أهم الأسباب المباشرة لهذا الصدام فى تكرار إيواء المماليك للأمراء العثمانيين الفارين من حمامات الدم في البلاط العثمانى، ثم صراع النفوذ على الإمارات الحدودية في مناطق الأناضول الجنوبية الشرقية المتاخمة للشام؛ كإمارات ذي القادر وبني رمضان، ودولتي الشاه: البيضاء والسوداء، والموقف من الصفويين، لكن هناك أسباب أخرى بعيدة لهذا الصدام، كالسعي إلى الهيمنة على منطقة المشرق الإسلامي سياسيًا ودينيًا وحضاريًا، علاوة على اتجاه العثمانيين إلى تأمين طرق تجارتهم الآتية من الشرق عبر البلاد العربية، والحصول على ما كانت دولة المماليك تحصل عليه من مكوس وعوائد إذا نجحوا فى التصدى للخطر البرتغالي الذي أصبح يهدد المنطقة في أواخر القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي.

 وهكذا أزالت الدولة العسكرية الفتية التي تنتمي إلى العصور الوسطى بكل ما فيها من جمود دولة المماليك من الوجود، وجمدت الوضع في مصر لثلاثة قرون أخرى.

السبت، 3 يونيو 2017

نتائج "الخصخصة" المملوكية


نتائج "الخصخصة" المملوكية

عماد أبو غازي
 لقد أدى تحول مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في أواخر عصر المماليك من ملكية الدولة إلى ملكية الخاصة للأفراد، بسبب التوسع في البيع من أملاك بيت المال إلى تغيرات في البنيان الاجتماعي لمصر في عصر المماليك الجراكسة، فإلى جانب تحول شكل العلاقة بالأرض من علاقة حيازة للمنفعة إلى ملكية رقبة كاملة، أصبحت الأرض الزراعية ـ مصدر الثروة الرئيسية في المجتمع ـ سلعة متداولة تنتقل من يد إلى يد أخرى بسهولة؛ وأصبحت الأرض متاحة لمن يملك ثمنها، بغض النظر عن انتمائه للهيئة العسكرية الحاكمة (أمراء المماليك) أو لقمم الجهاز الإداري للدولة؛ وبذلك لم تعد السلطة السياسية وحدها هي مصدر الاستحواذ على ريع الأرض الزراعية.


 ومن هنا فقد اتسعت قاعدة الملكية الخاصة وتغيرت بصورة يمكن أن نتحدث معها عن بوادر ظهور طبقة جديدة من ملاك الأراضي الزراعية، تجمع بينهم مصالح مشتركة ترتبط بملكية الأرض.
 وقد نستطيع أن نحدد الملامح العامة لتلك الطبقة الجديدة التي انتقلت إليها ملكية نصف الأراضي الزراعية في مصر بصورة تقريبية، وذلك من خلال العينة الممثلة التي تقدمها لنا الوثائق والدفاتر المالية التي وصلت إلى أيدينا، والتي تكشف عدة أمور أهمها: إن أكثر من نصف حالات البيع من أملاك بيت المال في عصر المماليك الجراكسة ذهبت إلى الطبقة الحاكمة متمثلة في السلطان وأمراء المماليك، كما أن خمس حالات البيع كانت لأشخاص مرتبطين بأمراء المماليك، كأولاد الناس، وهم أبناء المماليك، وزوجات المماليك وعتيقاتهم وجواريهم، بينما شكلت حالات البيع لأشخاص من أصول غير مملوكية نسبة الربع تقريبًا.
 وتضعنا هذه المؤشرات أمام صورة تقريبية للمجموعة التي انتقلت إليها ملكية قسم كبير من الأراضى الزراعية في مصر في عصر المماليك الجراكسة، وهي مجموعة يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات رئيسية وفقًا لأصولها العرقية ووظيفتها الاجتماعية:
الفئة الأولى: الطبقة العسكرية الحاكمة التي تتكون من السلطان وأمراء المماليك الذين يحترفون القتال، ويشكلون قمة السلطة السياسية في الدولة، وقد ترتب على بيع جزء من أملاك بيت المال لهم تحولهم من حائزين للأراضي إلى ملاك لها، بما في ذلك السلاطين أنفسهم، الأمر الذي يتيح استقرار الثروة في أيديهم وأيدي ورثتهم الشرعيين من بعدهم.
الفئة الثانية: تنتمي بصلة الدم أو الزواج أو الرق لبعض أفراد الفئة الأولى، وتتكون بشكل أساسي من "أولاد الناس"، ثم زوجات أمراء المماليك وجواريهم.
الفئة الثالثة: فتتكون من عناصر بعيدة تمامًا في أصولها العرقية والوظيفية عن المماليك، فأفرادها من أصول عربية مختلفة أو مصرية، وهم بعيدون في الغالب عن الوظائف العسكرية، وتشكل مشاركتهم في امتلاك الأرض الزراعية تغيرًا ذا دلالة في الوضع الذي ساد في مصر لعدة قرون سابقة.
 وإذا كانت الفئة الأولى (السلطان وأمراء المماليك) بعيدة تمامًا عن الفئة الأخيرة من الملاك، فإن الفئة الثانية، والتي تتشكل من "أولاد الناس" أساسًا، كانت تتجه بشكل تدريجي إلى الاندماج مع الفئة الثالثة، ليشكلا معًا نسيجًا واحدًا متجانسًا إلى حد كبير، فبحكم طبيعة النظام المملوكي فإن "أولاد الناس" كانوا يبتعدون عن احتراف القتال. ويتجهون بشكل عام إلى الاختلاط بالمجتمع المصري، ويشاركون في حياته المدنية.
ولا شك في أن الاتجاه إلى تجميع الملكية وتراكم ثروة المجتمع في يد فئة لا تحترف القتال، ولها فرص أكبر في الحياة، كان يمكن أن يؤدي إلى إدارة ثروة المجتمع بشكل أكثر رشادًا واستقرارًا.
 لقد كان تغير العلاقات الإجتماعية الناتج عن تغير شكل الملكية في المجتمع، وظهور ملامح طبقة جديدة من الملاك، نصفها تقريبًا من أولاد الناس والمصريين يمكن أن يؤدى إلى خروج البلاد من أزمتها الطاحنة، خاصة في ظل عجز طبقة المماليك عن الاستجابة للتحديات التي كانت تحيط بالمجتمع آنذاك، بل وتحولها إلى عقبة في طريق تطور ذلك المجتمع.
 غير أن هناك مجموعة من العقبات وقفت في طريق هذا التطور المهم الذي شهدته مصر في عصر المماليك الجراكسة أهمها:
أولا: إن ملكية الأراضي الزراعية كانت في أغلب الأحيان ملكية شائعة غير مفرزة؛ أي أن المشتري يقوم بشراء حصة من أراضي قرية في ناحية من النواحي، أو قرية من القرى دون تحديد لحدودها. ومن هنا فهو يملك جزءًا من ريع الأرض أكثر مما يملك الأرض نفسها، وبرغم أن هذا الوضع لم يكن يشكل قيدًا على حرية المشتري في التصرف فيما يملكه، فإنه كان يدخل الدولة بشكل أو بآخر كطرف حاضر دائمًا في علاقة الملكية، فيبدو أن تحصيل الريع كان يتم من خلال الشاد في الناحية، وهو موظف إداري مالي يتبع الدولة. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الملاك عادة ـ باستثناء مشايخ العرب ومشايخ النواحي ـ كانوا ملاكًا غائبين، فإن هذه الأوضاع كانت تضعف ـ إلى حد ما ـ من الآثار الإجتماعية الإيجابية لظاهرة البيع من أملاك بيت المال.
 ثانيا: المصادرات للأملاك والأموال التي عرفها عصر المماليك الجراكسة، الأمر الذي أصبحت معه الملكية غير مستقرة، كما أصبح أصحاب الأملاك ـ خاصة من الأمراء وكبار الموظفين ـ قلقين باستمرار على ثرواتهم العقارية، وهو وضع غير مشجع بشكل عام على تحقيق تراكم للثروة.
 ثالثا: ترتب على ما سبق اتجاه الكثيرين إلى وقف أملاكهم حماية لها من المصادرة، وبرغم أن نظام الوقف الأهلي كان يتيح للواقف (المالك السابق) ولورثته من بعده الحصول على القسم الأكبر من ريع أملاكهم، فإن نظام الوقف كان يحد من الدور الاجتماعي للملكية الخاصة بصفة عامة.
ثم جاء الإحتلال العثماني، فقطع الطريق على استمرار التحولات الإجتماعية التى ارتبطت بالبيع من أملاك بيت المال، وأخر التطور الطبيعي لتلك الطبقة الجديدة لفترة من الزمن، فقد توقفت عمليات التملك للأراضى الزراعية لسنوات، باستثناء ما يتم بيعه عن طريق ديوان المواريث الحشرية، وبذلك أجهض الغزو الخارجى الإمكانيات الكامنة فى المجتمع، وأجل عملية التحول الكامل إلى شكل الملكية الخاصة للأرض الزراعية لعدة قرون أخرى. فلم تستقر الملكية الخاصة فى مصر تماما إلى بصدور اللائحة السعيدية سنة 1858م. وباستقرار الملكية الزراعية وقعت تغيرات سياسية واجتماعية مهمة تأخرت لأكثر من ثلاثة قرون بسبب الإحتلال العثمانى.
تبقى ملاحظة مهمة على صورة التكوين الاجتماعي الجديد الذي نتج عن قيام الدولة بالبيع من أملاك بيت المال فى عصر المماليك الجراكسة، فلا شك فى إن عمليات الانتقالات التى أعقبت شراء العقارات من بيت المال ترتب عليها تعديل لملامح هذه الصورة، وتكشف لنا الوثائق والدفاتر المالية عن مقدار التغير الذي طرأ على فئات الملاك بعد الانتقال في الملكية.
أولا: إن قرابة ثلثي الأراضي ظلت ملكًا للمشترين أو أسرهم أو ورثتهم الشرعيين، أو انتقلت إلى جهات وقفهم، الأمر الذي يشير إلى قدر من استقرار الملكيات فى إطار أسر محدودة.
ثانيا: برغم أن الانتقال بالوراثة قد حافظ على الملكية فى الإطار الأسرى، فإنه غير الصورة إلى حد كبير على المستوى الفئوى لصالح "أولاد الناس"، حيث إن ورثة أمراء المماليك غالبًا ينتمون إلى هذه الفئة.

ثالثا: أن الانتقالات التى تمت خارج النطاق الأسرى ونسبتها تقرب من الثلث انتقلت إلى ملكية السلاطين، وهذا مؤشر مهم على مدى استشراء ظاهرة الفساد التى ارتبطت بعمليات البيع من أملاك بيت المال خاصة في عصر السلطان قانصوه الغوري، فالسلطان يبيع أملاك الدولة لنفسه عبر وسيط.

الجمعة، 2 يونيو 2017

الخصخصة في زمن المماليك

الخصخصة في زمن المماليك

قراءة في تطور الحيازة الزراعية فى مصر

عماد أبو غازي
قضية حيازة الأرض الزراعية فى الشرق من القضايا التى تثير جدلًا واسعًا بين المؤرخين المشتغلين بدراسة التطورات الإجتماعية والاقتصادية، ودراسة تاريخ القانون عمومًا، وبين المعنيين بدراسة تطور الملكية بشكل خاص، ومن الأفكار الشائعة عن الشرق فى الفترة التى تسمى بالعصور الوسطى، فكرة غياب الملكية الخاصة للأرض الزراعية وسيادة أشكال من ملكية الدولة لها.
 لكن هل هذه حقيقة ما جرى؟


  الإجابة بالنفي، فى ضوء ما تكشف عنه الوثائق الأصلية التى ترجع إلى العصر المملوكي، ثم ما تضيفه الدفاتر المالية التى ترجع إلى فترة الإحتلال العثمانى لمصر، والتي نقلت عن مثيلاتها فى عصر المماليك الجراكسة، وعلى وجه التحديد من دفاتر تم تحريرها فى سنة 891 هـ، أي في عصر السلطان الأشرف قايتباي.
 ويبدو من دراسة الوثائق المملوكية والدفاتر العثمانية، أن عصر المماليك الجراكسة شهد تطورًا مهمًا لأشكال الحيازة الزراعية، بحيث إننا نستطيع أن نقول إن شكل الحيازة الزراعية في مصر عند نهاية ذلك العصر [أوائل القرن 10هـ/16م] قد اختلفت عما كان عليه فى بدايته [أواخر القرن 8هـ/14م]؛ فخلال مائه وأربعين عامًا تقريبًا، هي الفترة التي حكم فيها سلاطين الجراكسة منذ أسس برقوق دولتهم حتى نجح سليم العثماني في احتلال مصر، خلال تلك السنوات، كانت هناك ظاهرتان لافتتان لنظر فيما يتعلق بأوضاع الأراضى الزراعية:
الظاهرة الأولى: التوسع في بيع الأراضي الزراعية المملوكة لبيت المال.
والظاهرة الثانية: اتساع نطاق الوقف على أعمال البر، أو على النفس والذرية.
 إن دراسة مجموعات الوثائق التي تحتفظ بها الأرشيفات المصرية سواء تلك التي ترجع إلى عصر المماليك وما قبله، أو الدفاتر المالية للعصر العثماني - تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن عصر المماليك الجراكسة قد شهد تزايدًا لمعدلات بيع أملاك بيت المال، حيث فاقت تلك المعدلات بكثير ما كانت عليه فى كل العصور السابقة على عصر الجراكسة مجتمعة، فقد شكلت وثائق بيع أملاك بيت المال التى أمكن حصرها، وترجع إلى ذلك العصر نسبة 96% من إجمالى ما أمكن حصره من تلك النوعية من الوثائق فى الفترة الممتدة ما بين دخول العرب لمصر حتى الاحتلال العثماني لها.
 وتثبت الوثائق أن مصر قد عرفت الملكية الخاصة للأرض الزراعية طوال تاريخها الإسلامى على الأقل، غير أن الأمر ظل على ما يبدو ظاهرة هامشية، حيث كانت الغالبية العظمى من الأراضي الزراعية فى يد الدولة، إلى أن جاء عصر المماليك الجراكسة فتغيرت الصورة بشكل واضح.
 وإذا كنا لم نستطع بعد أن نصل إلى تقدير دقيق لمساحة الأراضي الزراعية التي انتقلت من ملكية الدولة إلى ملكية الأفراد خلال عصر المماليك الجراكسة، فإن الوثائق تحمل إشارات لا تخلو من دلالة واضحة حول حجم البيوع؛ ففي بعض الأحيان تشير الوثائق إلى أن بيت المال قد باع قرى بكاملها، كما إننا نعرف كذلك من خلال الوثائق أن حالات البيع شملت مساحات متفاوتة من 275 قرية بمصر والشام على الأقل.
 كذلك فإن مقارنة ما ورد في المصادر التاريخية التي ترجع إلى أوائل عصر المماليك الجراكسة، بما ورد في المصادر التى تتناول فترة بداية الحكم العثماني لمصر، تؤكد أن البيع غير بالفعل وضع حيازة الأرض الزراعية وملكيتها في مصر حيث يذكر القلقشندى أن "البلاد المصرية بجملتها جارية في الدواوين السلطانية وإقطاعات الأمراء وغيرهم من سائر الجند، إلا النذر اليسير مما يجرى في وقف من سلف من ملوك الديار المصرية ونحوهم على الجوامع والمدارس والخوانق، ونحوها مما لا يعتد به لقتله".
ويؤكد المقريزي ذلك كذلك في خططه فيقول: "منذ كانت أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى يومنا هذا (أوائل القرن التاسع الهجرى) فإن أراضى مصر كلها صارت تقطع للسلطان وأمرائه وأجناده. ثم يقسم أرض مصر إلى سبعة أقسام: قسم يجرى في ديوان السلطان.. وقسم من أراضي مصر قد أقطع للأمراء والأجناد.. وقسم ثالث جعل وقفًا محبسًا.. وقسم رابع يقال له الأحباس يجري فيه أراض بأيدي قوم يأكلونها.. وقسم خامس قد صار ملكًا يباع ويشترى ويورث ويوهب، لكونه اشترى من بيت المال، وقسم سادس لا يزرع للعجز عن زراعته.. وقسم سابع لا يشمله ماء النيل، فهو قفر".
 وتختلف الصورة تمامًا عند بداية الاحتلال العثماني لمصر، حيث نجد أن الأراضي التي خرجت من حوز الدواوين السلطانية وديوان الجيوش المنصورة المسئول عن الإقطاعات، قد قاربت نصف مساحة الأرض الزراعية في مصر، فقد كانت الأوقاف تشكل حسب رواية الإسحاقي المؤرخ "عشرة قراريط من أراضى مصر، أي نسبة 41.66% من تلك الأراضي، هذا بالطبع بخلاف الأملاك الخاصة التي لم يتم وقفها أو لم تحبس.
 إن ما ورد فى هذه المصادر التاريخية يحمل عدة دلالات:
 الدلالة الأولى: التوسع الكبير فى بيع أملاك بيت المال، فبعد أن كانت الأراضي الخارجة عن ملكية الدولة "لا يعتد بها لقتلها"، أصبحت مساحتها تقارب نصف مساحة الأراضي الزراعية في مصر.
 الدلالة الثانية: إن ما ورد في المصادر التاريخية الروائية يتفق إلى حد كبير مع المؤشرات التي تقدمها دراسة وثائق بيع أملاك بيت المال ودفاتر الرزق الجيشية والإحباسية، من حيث اتجاه حركة البيع وتطورها خلال عصر المماليك الجراكسة.
 الدلالة الثالثة: اتجاه الكثيرين إلى وقف الأراضي التي أشتروها من بيت المال، خشية مصادرتها، وسعيًا لإعفاء ريعها من الضرائب.
 وهذه الحقيقة أيضًا تؤكدها وثائق بيع أملاك بيت المال ـ أي وثائق بيع أملاك الدولة بلغة عصرنا ـ حيث يتضح أن أكثر من نصف الأراضي التي تم بيعها من أملاك بيت المال قام المشترون بوقفها بعد شرائهم لها.
 وهذا يتماشى مع ما يردده المؤرخون كثيرًا من أن أراضي مصر في نهاية العصور الوسطى كانت وقفًا، وأن الملك الحر كان قليلًا.
خلاصة القول: إن شكل حيازة الأرض الزراعية قد شهد تحولًا كبيرًا خلال عصر المماليك الجراكسة نتيجة لبيع أملاك بيت المال؛ فمن ناحية تحولت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية من ملكية الدولة - سواء أكانت مباشرة تدار من خلال الدواوين السلطانية أو ديوان الوزارة، أو كانت موزعة على بعض المستفيدين كرزق وإقطاعات - إلى الملكية الخاصة للأفراد. ومن ناحية أخرى تحول جزء كبير من تلك الأراضي التي أصبحت أملاكًا إلى أوقاف، بعضها أوقاف خيرية مرصودة على جهات البر المختلفة، والبعض الآخر أوقاف أهلية مرصودة على واقفيها وذراريهم وعتقائهم، وفي الحالتين كانت تلك الأراضي تعفى على ما يبدو من الضرائب بأنواعها المختلفة، الأمر الذي يعني انخفاض موارد الدولة المالية ودخلها العام. لهذا السبب يبدو مما ورد في الدفاتر المالية أن وقف الأراضي الزراعية كان يحتاج أحيانًا إلى استصدار مراسيم سلطانية شريفة، تسمح للمالك بوقف ما يملك.
 ولا شك فى أن ذلك الوضع الجديد، كان له تأثير سلبي على النظام الإقطاعي، حيث انخفضت بشكل ظاهر مساحة الأرض المتاحة للدولة كي تمنحها للأمراء كإقطاعات، وينصب التأثير السلبي على الجوانب السياسية والاجتماعية للنظام الإقطاعي أكثر مما ينصب على الجوانب الاقتصادية لذلك النظام؛ حيث إن معظم الأراضى المباعة آلت إلى حائزيها السابقين، ومن هنا فلا نستطيع القول بأن دخل الأمراء الذى يحصلون عليه من ريع الأرض الزراعية قد انخفض نتيجة لبيع أملاك بيت المال؛ لكنه من المؤكد أن تحول الأمراء من مقطعين إلى ملاك قد أسهم- مع عوامل أخرى ـ في انهيار علاقات الولاء الإقطاعي، وحقق لأولئك الأمراء قدرًا أكبر من الشعور بالاستقلال عن الدولة وعن سلطانها.
وبرغم ما سبق فإننا لا نستطيع القول بأن ما حدث كان ظاهرة سلبية فى مجملها، فنظام الإقطاع الحربي المملوكي بصورته التي وصل إليها في أواخر عصر الجراكسة، كان قد أصبح عقبة في طريق المجتمع المصري، ومن هنا فلم يكن انهيار ذلك النظام أمرًا سلبيًا إذا ظهر البديل الملائم.

 فهل كان بيع أملاك بيت المال أو الخصخصة بلغة عصرنا يسهم فى ظهور مثل هذا البديل؟

الخميس، 1 يونيو 2017

دولة البرين والبحرين... دولة الجباية والمصادرة

دولة البرين والبحرين
 دولة الجباية والمصادرة
عماد أبو غازي
 بعد سنوات قليلة من تأسيس دولة المماليك سقطت دولة الخلافة العباسية، وقد نجح المماليك بقيادة سيف الدين قطز في صد المغول وهزيمتهم في موقعة عين جالوت، وأصبحت دولة المماليك القوة الكبرى في عالم الشرق، واستكملت دولتهم في عهد بيبرس وقلاوون وأبنائه تصفية الممالك الصليبية الصغيرة في بلاد الشام، واستمرت قوة دولة المماليك التي سيطرت على مصر والشام وبلاد الحجاز في صعود، لكن هذا الصعود سرعان ما انقلب إلى تراجع وانهيار بسبب صراعات السلطة بين الأمراء الكبار، وما أن انتصف القرن الرابع عشر الميلادي إلا وكان الحال قد تبدل، وبدأ الوهن يصيب دولة البرين والبحرين، البر الشامي والبر المصري، والبحر الأحمر والبحر الأبيض، لكن الدولة سرعان ما تصحو من جديد بقيام  دولة المماليك الجراكسة، لكنها كانت صحوة ما قبل الموت، صحوة الاحتضار الذي استمر قرابة قرن من الزمان، احتضار طويل تتخلله ارتعاشات للجسد تخالها عودة للروح، لكن الانهيار كان المصير المحتوم في نهاية المطاف.

 لقد كانت مصر في تلك الحقبة تعيش لحظات تحول وانتقال في تاريخها؛ فقد خرجت من محنة الفناء الكبير أو الموت الأسود الذي ضرب العالم القديم كله من مشرقه إلى مغربه في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وكانت البلاد تحاول أن تستعيد قواها مرة أخرى بعد أن أنهكها الوباء القاتل واستنزفها عندما حصد أرواح مئات الآلاف من البشر.
  ومن ناحية أخرى كانت الصراعات السياسية تعصف بكيان الدولة، دولة المماليك البحرية التي ظهرت إلى الوجود على أنقاض الدولة الأيوبية عقب معركة المنصورة التي انتصر فيها مماليك الصالح نجم الدين أيوب على لويس التاسع، وكان هذا الانتصار هو شهادة الميلاد للدولة الجديدة التي حملت أعباء القضاء على الوجود الصليبي في المشرق العربي، وبمجرد نجاح تلك الدولة في مهمتها التاريخية في عصر خليل بن قلاوون بدأت تفقد مبرر وجودها التاريخي، وبدأ الضعف يدب في كيانها، وبدا الأمر كما لو كان النجاح إيذانا بالنهاية، ونجح بالفعل أحد الأمراء الكبار هو برقوق بن أنص الجركسي في الاستيلاء على السلطنة وإقامة دولة جديدة هي دولة المماليك الـﭽراكسة التي تأسست في سنة 784 هجرية، ورغم أن السنوات الأولى لهذه الدولة قد شهدت دفعة قوية للبلاد على يد السلطان الجديد الظاهر برقوق، إلا أن الأمور سرعان ما عادت إلى التدهور المتسارع في عصر خلفائه ودخلت مصر في أزمة تاريخية خانقة لم تستطع منها فكاكا رغم كل المحاولات الإصلاحية التي قام بها سلاطين من أمثال شيخ وبرسباى وقايتباى خلال القرن التاسع الهجري وانتهى الأمر بسقوط مصر في براثن الاحتلال العثماني سنة 923 هجرية الموافقة لسنة 1517 ميلادية.
 وفي عصر دولة المماليك الـﭽراكسة جاءت الموجة التترية الثانية بقيادة تيمور لنك ووصلت إلى دمشق واحتلتها، ورغم تراجع تلك الموجة إلا أن دولة المماليك عانت من التراجع في مكانتها الإقليمية.
  لقد أخذت عوامل الانهيار تنخر فى جسد الدولة طوال سنوات، حتى أصبحت مصر ـ دولة ونظاما- فى أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الهجريين، أى ما يقابل القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، تعيش مرحلة أفول، أما هذه العوامل ـ كما رصدها المؤرخون المعاصرون لتلك الفترة ـ فهى عديدة ومتنوعة ومتشابكة فى الوقت نفسه، إذ اختلطت المظاهر بالأسباب، واختلطت الأسباب بالنتائج، فدخل المجتمع المصرى فى حلقة متوالية من التردى والتدهور المستمر.
 فعلى الصعيد الاقتصادى؛ عاش المجتمع المملوكى لسنوات طوال فى ظل أزمة اقتصادية طاحنة، ولو تتبعنا مظاهر هذه الأزمة؛ فسوف نجد المصادر التاريخية مليئة بأمثلة لها، فالحديث عن ارتفاع أسعار السلع الأساسية أو ندرتها في الأسواق أو اختفائها أساسا، وكان السبب الأساسي وراء ذلك نقص المساحة المزروعة، الذي يرجع إلى نقص السكان بسبب الأوبئة والمجاعات، وكان نقص السلع والغلاء يؤدي إلى مزيد من المجاعات التي تدفع بالبلاد إلى مزيد من التأزم وتدور الأمور في حلقة مفرغة لا فكاك منها.
 وكان الارتفاع المستمر فى أسعار السلع يؤدي إلى إنخفاض القيمة الشرائية للنقود، التي كانت قيمتها قد تراجعت أصلا بسبب انخفاض نسبة المعدن الثمين فيها.
 وقد تصدت الدولة لمعالجة الأزمة الاقتصادية والمالية، لكنها اتبعت أساليب فاقمت من حدة هذه الأزمة بدلا من أن تؤدى إلى حلها. فقد لجأت الدولة إلى فرض ضرائب جديدة؛ أو إلى زيادة الضرائب المفروضة، الأمر الذي أدى إلى اتساع ظاهرة هجر الفلاحين للأرض، وبالتالى مزيد من النقص فى مساحة الأراضى المزروعة، والمصادر التاريخية مليئة بذكر أنواع الضرائب والمكوس والمغارم التي كانت الدولة تفرضها باستمرار فى محاولة لزيادة مواردها.
 أما الأسلوب الثاني الذي لجأت إليه الدولة فكان احتكار تجارة بعض السلع، أو قيام الدولة ـ ممثلة في السلطان- بشراء سلعة ما من السواق بسعر أقل من سعرها؛ ثم إعادة بيعها بسعر أعلى، أو فرض سلع معينة من الذخيرة السلطانية (تجارة السلطان) على التجار بسعر محدد أو بعملة محددة. وقد امتد هذا الأسلوب إلى التجار الأجانب الذين كانت الدولة تتعامل معهم، فأدت هذه السياسات في الداخل إلى مزيد من رفع الأسعار، وفي العلاقات التجارية الخارجية إلى اضطراب في علاقات مصر التجارية.
  كذلك لجأ السلاطين إلى أسلوب مصادرة الإقطاعات والعقارات والأموال. وقد زاد هذا الأسلوب من تعقيد الأزمة، حيث أدت سياسة المصادرات إلى تعسف الموظفين فى جمع الأموال بكل الطرق حتى يتمكنوا من الوفاء بما قد يطلبه منهم السلطان؛ أو يعوضوا ما يصادره، ومن ناحية أخرى؛ أدت المصادرات إلى زيادة واضحة فى الأراضى والعقارات الموقوفة، فقد كانت مصادرة الأوقاف - أو فرض الضرائب عليها- أكثر صعوبة منها على غيرها من أراض وعقارات، حتى بلغت مساحة أراضى الأوقاف فى مصر عند دخول العثمانيين ما يقرب من نصف مساحة الأراضي الزراعية، وانعكس هذا بطبيعة الحال على قدرة الدولة على منح الإقطاعات، ومن ثم فقد بدأ الانهيار يتسرب بسرعة إلى النظام العسكري المملوكي.
 ومن الأساليب التي لجأت إليها الدولة لحل المشكلة الاقتصادية غش العملة بتخفيض نسبة المعدن الثمين فيها، أو إنقاص وزنها أو عيارها؛ وفي الوقت نفسه إرغام الناس على التعامل بها بقيمة أعلى من قيمتها الحقيقية.
 وباستثناء بعض المحاولات القليلة للإصلاح النقدي الجاد- التي لم يقدر لها الاستمرار طويلا- لا نجد إلا حلولا تزيد المشاكل الاقتصادية تفاقما.
 وفي نفس الوقت؛ تراجعت الدولة عن أداء كثير من مهامها فى مجال الإنشاءات والأعمال الضرورية لخدمة الزراعة، كشق الترع والقنوات؛ وإقامة الجسور السلطانية، الأمر الذي أدى إلى مزيد من الانهيار في الوضع الاقتصادي.
 لقد كانت كل سياسات تلافي الأزمة في حقيقتها سياسات منحازة؛ تخدم مصالح القمم العليا لطبقة المماليك المسيطرة على المجتمع. ومن الجدير بالملاحظة أن سياسات الدولة لحل المشكلة الاقتصادية والمالية؛ تواكبت مع زيادة إنفاق الفئات العليا فى المجتمع على الاستهلاك الترفي، وزيادة إنفاق الدولة على الأعباء العسكرية، بصورة أصبحت معها التكلفة الاقتصادية والاجتماعية لتصرفات المماليك شديدة الوطأة على اقتصاد البلاد، حيث أصبح المجتمع المصري قائما على تبديد فوائض إنتاجه بشكل مستمر.
 لقد انعكست الأزمة الاقتصادية على الصعيد الاجتماعى فى صورة تزايد واضح فى حدة الفوارق الطبقية في المجتمع. وقد لفتت هذه الظاهرة إنتباه مؤرخي العصر؛ فرصدوها في كتابتهم. كذلك رصد الرحالة الذين زاروا مصر هذه الظاهرة، ففي الوقت الذي يصفون فيه حياة المماليك بالبذخ الشديد ويصفون ثراء قصورهم ودورهم، فإنهم يصفون حياة العامة في المدن والفلاحين في الريف بالبؤس الشديد والفقر المدقع.
 ولعل الوثائق الخاصة شاهد أكيد على هذه الظاهرة، فما فيها من وصف لقصور ودور المماليك وكبار رجال الدولة وكبار رجال الدين؛ يعكس مدى رفاهية الحياة التي كان هؤلاء يعيشون فيها، فى مقابل آلاف من السكان يعيشون بلا مأوى.
 وعلى مستوى آخر؛ شهد العصر المملوكي الجركسي تفككا واضحا داخل إطار الطبقة العليا في المجتمع؛ فقد انهار النظام الاجتماعى للمماليك الذى كان يعتمد على ولاء المماليك لأميرهم (الأستاذية)، وارتباط المملوك بزملائه (الخشداشية) لقد تحللت هذه العلاقات بسبب السياسات الجديدة التى أتبعت فى دولة الجراكسة فى شراء المماليك، فبدلا من شراء المماليك أطفالا صغارا وتربيتهم فى الطباق، لجأ السلاطين والأمراء إلى شراء مماليك من الشباب اليافع عرفوا باسم الجلبان، وذلك فى محاولة لتعويض الأعداد التى فقدت فى الفناء الكبير، ومع انتشار هؤلاء الجلبان؛ بدأت علاقات الولاء داخل المجتمع المملوكي تتفكك وتتهرأ. كذلك، كان لاتجاه السلطان برقوق إلى الإكثار من الجراكسة وتوليتهم المناصب الأساسية فى الدولة؛ أثره البالغ فى تنمية التمايز بين المماليك من أصل جركسي والمماليك من أصول أخرى.
 وهكذا احكمت الأزمة خناقها على دولة البرين والبحرين التي صارت دولة للجباية والمصادرة.

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...