الجمعة، 13 مايو 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 24 )

دستور 1971 الدائم الذي لم يدم

عماد أبو غازي
في سبتمبر سنة 1971 وفي أجواء إعلامية تروج لدخول البلاد "عصر جديد"، تم الاستفتاء على دخول مصر في اتحاد كونفيدرالي مع سوريا وليبيا تحت اسم "اتحاد الجمهوريات العربية"، وفي نفس الوقت جرى الاستفتاء على دستور جديد للبلاد تم وصفه بأنه الدستور الدائم، على أساس أن دستور 1964 كان دستورًا مؤقتًا يجري العمل به لحين قيام مجلس الأمة بصياغة دستور دائم يتم استفتاء الشعب عليه، بل نستطيع أن نقول أنه كان في أسلوب إصداره أقرب لإعلان دستوري مطول منه إلى دستور يقره الشعب.
 لم يكن وصف الدستور بأنه الدستور الدائم الأمر الوحيد الذي ميز الدستور شكليًا، لكنه أيضًا تميز بأنه أكثر دساتير مصر موادًا حتى صدور دستور 2012 الذي تفوق عليه في عدد المواد؛ فقد تضمن الدستور قبل تعديلاته المتوالية 211 مادة، ولو نظرنا إلى دساتير مصر قبل هذا الدستور، سنجد أن دستور 1882 مكون من 53 مادة، ودستور 1923 من 170 مادة، ودستور 1930 من 156 مادة، ودستور 1956 من 195 مادة، ودستور 1958 من 73 مادة، ودستور 1964 من 169 مادة، وخلال التعديلات المتوالية للدستور على مدار 30 عامًا تمت إضافة مواد جديدة للدستور تحت أرقام مكررة.
 لكن ما قصة هذا الدستور وكيف تمت صياغته؟
  بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 وتولي نائبه محمد أنور السادات رئاسة الجمهورية بعد ترشيح مجلس الأمة لاسمه واستفتاء الشعب عليه وفقًا لدستور 64 المؤقت.

السادات يؤدي اليمين وإلى جانبه الدكتور لبيب شقير رئيس مجلس الأمة
 وعاشت مصر لعدة شهور في ظل توازن بين الرئيس الجديد ومجموعة رجال الرئيس عبد الناصر الذين التفوا حول أحد نائبي الرئيس الجديد السيد علي صبري، وفي أواخر شهر أبريل من عام 71 بدء الصدام في قمة السلطة عندما فاجأ رئيس الجمهورية القيادة السياسية بمشروع الاتحاد مع سوريا وليبيا، كان هذا السبب المباشر للصدام في قمة السلطة في اجتماع للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، وفي 4 مايو تمت إقالة علي صبري.
علي صبري
 وتصاعد الصراع بسرعة، وفي 13 مايو 1971، تقدم أمين الاتحاد الاشتراكي وبعض أعضاء لجنته التنفيذية العليا ورئيس مجلس الأمة ووزراء الحربية والداخلية والإعلام والمواصلات باستقالاتهم من مناصبهم في محاولة لإحراج رئيس الجمهورية كما بدى وقتها.


محمد فائق وزير الإعلام

شعراوي جمعة وزير الداخلية
 وقد كان موقفهم هذا مستغربًا بالنسبة لي طوال أكثر من أربعين عامًا، فمفاصل الدولة ومؤسساتها وتنظيمها السياسي وقواتها المسلحة في أيديهم، فلماذا يستقيلون؟ وهل كانوا يتصورون أن الشارع سينتفض تضامنًا معهم؟ منذ أسابيع قليلة توجهت بالسؤال لواحد من هؤلاء الرجال، فكانت الإجابة أن قرارهم كان نابعًا من رغبة صادقة في تجنيب البلاد صراع في قمة السلطة في زمن الحرب بعد أن أدركوا استحالة التعاون مع رئيس الجمهورية.
 نعود إلى الأحداث؛ بادر الرئيس السادات باعتقالهم جميعًا مع مئات من أنصارهم في الاتحاد الاشتراكي ومجلس الأمة والجهاز الحكومي والمؤسسات الإعلامية، وتمكن خلال ساعات من السيطرة على الدولة بالكامل بمعاونة مجموعة جديدة في السلطة، وفي صباح السبت 15 مايو 1971 خرجت مظاهرات التأييد للرئيس السادات، وبدأت الصحف تشن هجومًا ضاريًا على الساسة المستقيلين ووصفتهم بمراكز القوى.


 وأطلق الرئيس السادات وأنصاره على ما حدث اسم ثورة التصحيح، أو ثورة 15 مايو، بينما أطلق عليها خصومه اسم انقلاب مايو.
 كان الرئيس السادات يبحث عن شرعية جديدة لنظامه، إلى جانب شرعية يوليو 52 التي لم يتخل عن استخدامها، في الخطاب الرسمي على الأقل، فسعى لأن يؤسس إلى جانب الشرعية الثورية شرعية دستورية جديدة، وبدأ رجال السلطة الجدد يطرحون مفاهيم جديدة وشعارات مغايرة مثل: "سيادة القانون" و"دولة المؤسسات"، كما أعلن السادات عن العودة لاسم مصر والتخلص من مسمى الجمهورية العربية المتحدة في محاولة واضحة لكسب تعاطف قطاع واسع من المجتمع، الذي تغيرت مشاعرة في أعقاب هزيمة يونيو 67 وبدأت تسيطر عليه مشاعر الحنين إلى ماض ما.

                                   السادات يحرق ملفات أمن الدولة
 وبدء السادات بعد شهور يستعين بجماعة الإخوان المسلمين التي أفرج الرئيس عن قادتها من السجون وسمح لمن كان قد غادر البلاد منهم في الخمسينات والستينيات بالعودة وممارسة النشاط بحرية، ليواجه بهم بقايا التنظيم الطليعي للاتحاد الاشتراكي وتيارات اليسار الشيوعي والناصري التي ظهرت على الساحة.
 وهنا كان لابد من صياغة الدستور "الدائم" للبلاد، خاصة مع دخول الرئيس السادات في مشروع اتحاد الجمهوريات العربية، فتشكلت لجنة لوضع مشروع الدستور، وحاولت اللجنة وضع مشروع يتضمن حماية الحريات واحترام حقوق الإنسان، لكن المشروع النهائي الذي تم الاستفتاء عليه أُدخلت عليه ـ كالعادة ـ بعض التعديلات التي تضمن سلطات واسعة لرئيس الجمهورية، كذلك تعليق معظم الحريات على ما يسمح به القانون.
 لقد جاء الدستور الجديد معبرًا عن توازنات اللحظة التي تمت صياغته فيها، وعن توجه النظام لإعادة السيطرة على المجتمع بأسلوب جديد.
 لقد عبر الباب الأول والذي يحمل عنوان "الدولة" عن هذه التوازنات، فأصبح اسم الدولة في المادة الأولى "جمهورية مصر العربية"، من ناحية يداعب حالة الحنين إلى الماضي التي ظهرت بعد هزيمة 67، ومن ناحية أخرى لا يقطع الخيوط مع الاتجاه القومي العربي.
 ومغازلة للتيار الإخواني وتأكيدًا لصورة "الرئيس المؤمن" يضيف إلى المادة الثانية التي تتحدث عن "الإسلام دين الدولة" نصًا يقول: "ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع"، ثم يعود في تعديل دستوري تم في عام 80 ليضيف ألف لام التعريف للعبارة لتصبح: "المصدر الرئيسي".


 وحافظ الدستور الجديد على فكرة "تحالف قوى الشعب العاملة" المستمدة من الميثاق الوطني، كما حافظ على نسبة الخمسين في المئة للعمال والفلاحين، التي كانت آداة من أدوات السلطة في السيطرة على المجلس التشريعي، لكن مع الانتقال للتعددية الحزبية المقيدة منصف السبعينيات تم تعديل بعض مواد الدستور بما يسمح بإنشاء الأحزاب.
 ولأن شعار الدولة الجديدة كان "سيادة القانون" فقد حمل الباب الرابع عنوان سيادة القانون، وتضمن بعض المواد التي وردت في دساتير سابقة لكنه أيضا أكد على حظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، وأفاض في شرح حقوق من يقبض عليه أو يعتقل.
 أما باب الحريات فرغم ما ضمه من حقوق وحريات شخصية وعامة وسياسية؛ إلا أن معظمها تم تعليقه على القانون مثلما كان في الدساتير السابقة، كما تم تخصيص فصل خاص للصحافة التي سميت بالسلطة الرابعة.
 وحافظ الدستور على السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية وأكد على النظام الرئاسي الاستبدادي، واستمر اختيار الرئيس من خلال استفتاء على اسم واحد يرشحه مجلس الشعب، إلى أن تم الانتقال لنظام الانتخاب بين أكثر من مرشح في عام 2005، وكان الدستور قد نص عند صدوره أن الحد الأقصى لرئيس الجمهورية دورتان فقط، لكن هذا النص تم تعديله عام 1980 ليجعل من حق الرئيس أن يتقدم لمدد أخرى دون تقييد.
 وقد استحدث دستور 71 في تعديلاته مجلسًا للشورى لنعود مرة أخرى لنظام البرلمان المكون من غرفتين.
 وفي النفس الوقت تم في الأول من سبتمبر سنة 1971 الاستفتاء في مصر وليبيا وسوريا على دستور اتحاد الجمهوريات العربية، ذلك الكيان الذي أُعلن عنه في 17 أبريل من نفس العام.

 وبناء على هذا الدستور أصبح للدولة الجديدة علم واحد وحكومة اتحادية وبرلمان اتحادي، لم يتبق منها شيئ، كما أنشئت الدولة الجديدة مجموعة من المشروعات الاقتصادية هي كل ما تبقى من دولة الاتحاد، بالإضافة إلى احتفاظ مقر الحكومة الاتحادية باسم قصر الاتحادية.

تبقى نقطة أخيرة، فإذا كان النظام بعد يوليو 52 كان قد اعتمد مجموعة من الوثائق السياسية التي توالى إصدارها، والتي كانت تفوق في أهميتها الدساتير المتعاقبة للبلاد، بدء من فلسفة الثورة، والمبادئ الستة، ثم الميثاق الوطني، وأخيرا بيان 30 مارس، فإن عصر السادات احتفظ بفكرة إصدار الوثائق السياسية إلى جانب الدستور، ومن الوثائق السياسية للنظام  الجديد: برنامج العمل الوطني، وورقة أكتوبر وورقة تطوير الاتحاد الاشتراكي.

 لقد عاش دستور 1971 قرابة أربعين عامًا وأدخلت عليه تعديلات عدة، وعندما قامت ثورة 25 يناير 2011 كان أسقاط هذا الدستور في مقدمة مطالبها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...