رحلة مع حكاية المصريين والدستور (
19 )
زمن الإعلانات الدستورية وتحصين القرارات
عماد أبو غازي
عندما قام
الضباط الأحرار بحركتهم في 23 يوليو 1952 كان البرلمان معطلًا والأحكام العرفية
معلنة منذ حريق القاهرة في 26 يناير 1952، وكان على النظام الجديد بعد عزل فاروق
في 26 يوليو أن يحدد موقفه من دعوة البرلمان للاجتماع وفقًا لأحكام الدستور، كان
الساسة ورجال القانون الذين تعاونوا مع ضباط يوليو من أمثال علي ماهر والسنهوري
وسليمان حافظ من خصوم الوفد التاريخيين، ولما كان حزب الوفد يحوز على الأغلبية
الساحقة في البرلمان، فقد سعوا إلى إقناع القادة الجدد بعدم دعوة البرلمان
للانعقاد، وفي سبيل ذلك ضحوا بالدستور، دستور 23، الذي كان محلًا لاجماع شعبي قبل
انقلاب يوليو.
وبدأت مسيرة هدم النظام الدستوري
يوم 13 نوفمبر الذي يوافق ذكرى عيد الجهاد الوطني، فقد شهد ذلك اليوم صدور مرسوم
يحمي قرارات القائد العام وتدابيره من الطعن لمدة ستة أشهر.
ودخل علي ماهر على الخط ليمهد
لإلغاء الدستور في محاضرة له في 14 نوفمبر 1952 عندما قال: "إنه يرجو أن
نواجه حياتنا السياسية بدستور يتجنب تخلف دستور سنة 1923 عن مواكبة الديمقراطية
الحرة وتطورها"، وأكد أن دستور سنة 1923 قام على المبادئ التي كانت سائدة في
القرن التاسع عشر ولم يعد صالحًا للبقاء في العصر الحديث.
بالفعل أعلن محمد نجيب في 10
ديسمبر 1952 سقوط دستور 23 في بيان جاء فيه: "إنه أصبح لزامًا أن تغير
الأوضاع التي كادت تودي بالبلاد والتي كان سندها دستور سنة 1923"، كما أشار
البيان إلى أنه "لا مناص من أن نستبدل بذلك الدستور دستورًا آخر جديدًا
يُمكّن للأمة أن تصل إلى أهدافها حتى تكون بحق مصدر السلطات"، وأعلن نجيب
الذي كان يجمع بين رئاسة مجلس قيادة الثورة ورئاسة الحكومة إلى أن الحكومة بصدد تشكيل
لجنة لوضع الدستور الجديد للبلاد.
وفي 13 يناير سنة 1953 صدر مرسوم
بتأليف لجنة من خمسين عضوًا لوضع مشروع دستور جديد للبلاد يتفق وأهداف
"الثورة".
ضمت اللجنة بين أعضائها ممثلين
لمختلف الأحزاب والاتجاهات والطوائف الدينية في مصر، فضمت ممثلين لأحزاب الوفد والأحرار
الدستوريين والسعديين وللحزب الوطني والحزب الوطني الجديد وحزب الكتلة والحزب
الاشتراكي وجماعة الإخوان المسلمين، كما ضمت ثلاثة من رؤساء الهيئات القضائية هم:
المستشار أحمد محمد حسن رئيس محكمة النقض، والدكتور عبد الرزاق السنهوري رئيس مجلس
الدولة والشيخ حسن مأمون رئيس المحكمة العليا الشرعية، ومن رجال الدين: الشيخ عبد
الرحمن تاج والشيخ محمد الأودن والأنبا يؤنس، كذلك كان من بين أعضائها ثلاثة من
رجال الجيش والمتقاعدين، وكان من بين أعضاء اللجنة الدكتور طه حسين وأحمد لطفي
السيد وعبد الرحمن الرافعي وفكري أباظة والدكتور عبد الرحمن بدوي، ومن الطريف من
بين أعضاء اللجنة اللجنة ثلاثة من أعضاء اللجنة التي وضعت دستور 1923، وهم: علي
ماهر ومحمد علي علوبة وعلي المنزلاوي.
وبعد تشكيل اللجنة بأربعة أيام
أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا بإعلان فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات تنتهي في 16
يناير سنة 1956، وفي اليوم التالي صدر مرسوم بحل الأحزاب السياسية ومصادرة جميع
أموالها لصالح الشعب ما عدا جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تساند النظام الجديد
وتدعم قراراته، وقد صدر قرار حلها بعدها بعام في يناير 1954، وفي نفس اليوم أي 18
يناير 1953 صدر مرسوم بقانون بتحصين القرارات والتدابير التي يتخذها القائد العام
للقوات المسلحة باعتباره رئيس حركة الجيش بقصد حماية الحركة والنظام القائم
باعتبارها من اعمال السيادة، وذلك لمدة عام بدلًا من ستة أشهر.
اجتمعت اللجنة عقب تشكيلها وانتخبت
علي ماهر رئيسًا لها، كما شكلت لجنة فرعية من خمسة عشر عضوًا لوضع الخطوط الرئيسية
للدستور، وانتخبت اللجنة من بين أعضائها لجنة خماسية لبحث نظام الحكم المقترح، وهل
يكون نظامًا ملكيًا أم نظامًا جمهوريًا؟ ليتم وضع الدستور من البداية على أسس
واضحة، وتشكلت هذه اللجنة من: عبد الرازاق السنهوري وعبد الرحمن الرافعي ومكرم
عبيد والسيد صبري وعثمان خليل عثمان، انتهت اللجنة بإجماع آراء أعضائها إلى اختيار
النظام الجمهوري، على أن يتم استفتاء الشعب على هذا الاختيار، ووضعت تقريرًا
مفصلًا ضمنته مبررات قرارها، استعرضت فيه أصل النظام الملكي في العالم وتحوله إلى
ملكيات دستورية، وتطور نظام الحكم الحديث في مصر، وناقشت وجهات نظر أنصار النظام
الملكي وأنصار النظام الجمهوري، وفندت أسانيد أنصار الملكية، وانتهت إلى قرارها
الذي جاء فيه:
"رأت اللجنة باجماع الآراء
ترك النظام الملكي والأخذ بالنظام الجمهوري، ويسرها أن تلتقي في هذه النتيجة مع ما
تحس أنه الاتجاه الشعبي الواضح، على أنها ترى مع ذلك استفتاء الشعب للتعرف على
رأيه في هذه المسألة الجوهرية، التي هي أقرب إلى أن تكون مسألة شعبية تتعلق
بالشعور، على أن تكون مسألة فنية تتعلق بالدستور".
وكانت الصحف قد بدأت بالفعل تناقش
فكرة إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية، وبات واضحًا أن هناك تيارًا متصاعد
يؤيد الجمهورية؛ لكن الشعب لم يستفت في الأمر، ففي 18 يونيو 1953 قرر مجلس قيادة
الثورة إلغاء النظام الملكي وإنهاء حكم أسرة محمد علي وإعلان الجمهورية، على أن
يتولى محمد نجيب رئاستها، ويكون للشعب الكلمة الأخيرة في نوع الجمهورية واختيار
شخص الرئيس عند إقرار الدستور الجديد.
وفي 10 فبراير سنة 1953 أصدر
القائد العام للقوات المسلحة قائد ثورة الجيش إعلانا دستوريًا ينظم إدارة البلاد
في المرحلة الانتقالية، ونص الإعلان على أن يتولى قائد الثورة ومجلس قيادتها أعمال
السيادة العليا وبصفة خاصة التدابير التي يراها لازمة لحماية الثورة والنظام
القائم عليها لتحقيق أهدافها، كما نص على حقه في تعيين الحكومة وعزلها، وعلى تشكيل
مؤتمر من مجلس الثورة ومجلس الوزراء ينظر في السياسة العامة للدولة، ليبدأ بذلك
عصر الإعلانات الدستورية والقرارات المحصنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق