رحلة مع حكاية المصريين والدستور (
26 )
سقوط دستور 1971 والمسار المرتبك
عماد أبو غازي
لقد عاش دستور 1971 قرابة أربعين
عامًا وأدخلت عليه تعديلات عدة، وعندما قامت ثورة 25 يناير 2011 كان أسقاط هذا
الدستور في مقدمة مطالبها، كانت فكرة دستور جديد تلح على كثير من الأطياف السياسة،
لكلٍ مشروعه، ولكلٍ دستوره، كانت هناك منذ سنوات عدة مشاريع لدساتير مختلفة، كل
واحد منها يعبر عن تيار سياسي.
في أيام
الثورة الثمانية عشر أصبح السؤال حول الموقف من دستور 1971 مطروحًا بشدة، ماذا عن
الدستور، تعديل أم إلغاء؟ لقد اعتراف النظام بالحاجة لتعديل الدستور وقدم التعهدات
الغائمة في البداية، كان مبارك يتصور أن بإمكانه احتواء الثورة من خلال إقالة
الوزارة، وتعيين نائب له، والإعلان عن قبول أحكام محكمة النقض فيما يتعلق بالطعون
الانتخابية، والتعهد بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية التي كان مقررًا أن تجرى في
سبتمبر من نفس العام، والإعلان عن لا نية للتوريث، ثم تشكيل لجنة لتعديل عدد من
مواد الدستور التي كانت مثارًا للجدل ولانتقادات المعارضة، لكن قرارات مبارك كانت
تأتي متأخرة دومًا.
بدأت اللجنة المشكلة لدراسة تعديل
الدستور تباشر عملها، لكن عمل اللجنة توقف مع تنحي مبارك وتولي المجلس الأعلى
للقوات المسلحة دفة الأمور، وتم تعطيل العمل بالدستور وتشكيل لجنة جديدة بقرار من
المجلس برئاسة المستشار طارق البشري بعد يومين من تنحي مبارك.
المستشار طارق البشري
وكان بهذه اللجنة
الجديدة تمثيل واضح لجماعة الإخوان المسلمين ولتيار الإسلام السياسي، كانت اللجنة
مكلفة بمهمة محددة عليها أن تنجزها في عشرة أيام، وهي إعداد مقترح بتعديلات على
بعض مواد الدستور وما يرتبط بها من قوانين.
وكان في مقدمة مهام اللحنة: دراسة الغاء المادة 179 من الدستور المتعلقة بمكافحة الإرهاب، وتعديل
المواد 88 و77 و76 و189 و93 وكافة ما يتصل بها من مواد تري اللجنة ضرورة تعديلها
لضمان ديمقراطية ونزاهة انتخابات رئيس الجمهورية ومجلسي الشعب والشورى، ودراسة
التعديلات اللازمة للقوانين المتعلقة بالمواد الدستورية محل التعديل.
وانتهت اللجنة من إعداد مقترحها،
الذي حدد مسارًا للمرحلة الانتقالية ينتهي خلال ستة أشهر بانتخابات برلمانية
ورئاسية، ثم تشكيل البرلمان بمجلسيه لجمعية تأسيسية تضع الدستور الجديد للبلاد؛
وبناء على هذا أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة قرارًا بدعوة الناخبين للاستفتاء
على التعديلات في التاسع عشر من مارس 2011.
وهنا
بدأت على الساحة السياسية معركة جديدة؛ وانقسم المجتمع إلى فريقين؛ فريق يرفع شعار
"الدستور أولًا"، ويضم معظم القوى
الثورية والأحزاب الليبرالية واليسارية، وفريق يرفع شعار "الانتخابات
أولًا"، ويضم تيار الإسلام السياسي بتنويعاته، وعدد
قليل من رموز التيار المدني والقوى الثورية.
وبناء على هذا الاستقطاب كانت تتم
دعوة الناخبين بالتصويت بنعم أو لا في الاستفتاء، كما حولت تيارات الإسلام السياسي
المعركة إلى معركة حول الهوية الإسلامية واعتبرت أن الداعين لإسقاط دستور 71
يهدفون إلى إلغاء المادة الثانية، كما روج قطاع من الإعلام الرسمي لفكرة أن
الموافقة على التعديلات هي الطريق للاستقرار.
وقبل إجراء الاستفتاء استقالت
حكومة الفريق أحمد شفيق وتم تكليف الدكتور عصام شرف بتشكيل الحكومة، التي أعتبرت
حكومة الميدان، كان موقف عدد من وزراء الحكومة الجديدة مع البدء بصياغة دستور جديد
ثم إجراء الانتخابات على أساسه.
وفي أول اجتماع للحكومة عقب أداء اليمين الدستورية
اقترح وزير العدل المستشار محمد عبد العزيز الجندي وقف إجراءات الدعوة إلى
الاستفتاء، وإصدار إعلان دستوري لإدارة المرحلة الانتقالية، لكن الاقتراح قوبل
بالرفض من المشير طنطاوي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، باعتبار أن الدعوة قد
تمت للاستفتاء بالفعل ولا مجال للرجوع فيها.
تم الاستفتاء في 19 مارس، وشارك
فيه قرابة 45% من مجموع الناخبين، وشابته بعد المخالفات الطفيفة، كما تعرض الدكتور
محمد البرادعي للاعتداء أثناء توجهه للإدلاء بصوته في المقطم، فأضطر للمغادرة دون
التصويت.
وحازت التعديلات على موافقة 77% من المشاركين في الاستفتاء، ووصف أحد
مشايخ السلفية ما حدث بأنه غزوة الصناديق، في إصرار على تديين الصراع الدستوري.
وفقًا لهذه النتيجة، كان من
المفترض أن يعود دستور 1971 إلى الحياة معدلًا، ومن ثم يتولى إدارة شؤون البلاد
رئيس المحكمة الدستورية العليا وفقًا لنصوص الدستور، باعتبار أن مجلس الشعب منحل،
أو هكذا كان يبدو منطق الأمور! لكن ما حدث كان أمرًا مختلفًا تمامًا؛ ففي 30 مارس
2011 أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة إعلانًا دستوريًا من 63 مادة، تضمنت
المواد الإحدى عشر التي تم الاستفتاء عليها في 19 مارس، والمواد الأساسية في دستور
71 مع تعديلات طفيفة.
لم ينتهي الصراع بصدور الإعلان
الدستوري المنظم للفترة الانتقالية، فقد ظل كل طرف على موقفه، وشهدت هذه المرحلة
تأسيس عدد من الأحزاب الجديدة، كان أبرزها في التيار المدني بأجنحته المختلفة:
الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وحزب المصريين الأحرار، وحزب التحالف الشعبي
الاشتراكي، وحزب مصر الحرية، وحزب العدل، إلى جانب أحزاب التيار الإسلامي: الحرية
والعدالة، والنور، والأصالة، والبناء والتنمية، ومصر القوية، هذا إلى جانب عدد آخر
من الأحزاب الصغيرة التي كان بعضها إعادة انتاج للحزب الوطني الديمقراطي الذي تم
حله بحكم قضائي، وبلغ عدد الأحزاب في سبتمبر 2011 قرابة خمسين حزبًا نصفها أحزاب
جديدة، وكانت قضية الدستور أولًا أم الانتخابات أولًا، قضية خلافية أساسية بين هذه
الأحزاب.
استمر مسار الإعداد للانتخابات مع
تمسك المجلس الأعلى للقوات المسلحة به، واستمرت تصريحات عدد من وزراء الحكومة،
خاصة أعضاء المجموعة السياسية، تؤكد على أن المسار الصحيح ينبغي أن يبدأ بالدستور،
وانتصر المسار الأول.
الدكتور يحيى الجمل
وخلال الفترة من مارس حتى نوفمبر
2011 طرحت عدة مبادرات للحوار، الأولى عرفت باسم الحوار الوطني وكان الهدف منها
الخروج باتفاقات عامة بين القوى السياسية والاجتماعية تفتح الباب أمام وضع ضوابط
للجمعية التأسيسة عند صياغتها للدستور، وتولى المسؤلية عن ملف هذا الحوار الدكتور
يحيى الجمل نائب رئيس الوزراء، لكن الجلسة الأولى التي كانت مذاعة على الهواء،
فتحت أبواب هجوم واسع على آلية الحوار بسبب مشاركة بعض أعضاء الحزب الوطني
الديمقراطي فيه، وطرح فكرة المصالحة في إطار العدالة الانتقالية.
الدكتور عبد العزيز حجازي
ونتيجة لهذا
الهجوم تم نقل إدارة الملف إلى الدكتور عبد العزيز حجازي رئيس الوزراء السابق
ورئيس اتحاد الجمعيات، واسند إلى الدكتور يحيى الجمل مهمة إدارة حوار ثان عرف باسم
الحوار القومي، ولم يسفر أيًا من الحوارين عن نتائج ذات بال فيما يتعلق بقضية
صياغة دستور جديد.
وبدى واضحًا أن الجميع يتجه نحو
الانتخابات البرلمانية، وخلال شهر سبتمبر أثيرت مشكلة جديدة تتعلق بقانون
الانتخابات ونسبة مقاعد الفردي والقوائم الحزبية، فبدأ حوارًا موسعًا بين المجموعة
السياسية في حكومة الدكتور عصام شرف وقادة الأحزاب، استمر على مدار أسبوعين، وعقدت
في نهايته جلسة لجميع رؤساء الأحزاب بحضور بعض أعضاء المجلس الأعلى للقوات
المسلحة، أصرت خلاله معظم الأحزاب السياسية المدنية على زيادة نسبة مرشحي القوائم،
واقترحت بعض الأحزاب تأجيل الانتخابات من الأساس، بين أصر حزب الحرية والعدالة على
إجراء الانتخابات في موعدها بأي نظام من أنظمة الانتخاب، وقد أسفرت هذه اللقاءات
عن أدخال تعديل على الإعلان الدستوري في مادته الثامنة والثلاثين في 25 سبتمبر
2011، نص التعديل على أن يكون انتخاب ثلثي أعضاء البرلمان بالقوائم الحزبية
المغلقة والثلث بالنظام الفردي.
وفي 19 نوفمبر 2011 أضيفت مادة
للإعلان الدستوري برقم 39 مكرر تنص على تنظيم مشاركة المصريين في الخارج في
الانتخابات والاستفتاءات بقانون خاص، وكانت الحكومة قد أعلنت منذ توليها في مارس
2011 تبنيها لحق المصريين في الخارج في المشاركة في الانتخابات، لكن قوانين
الانتخابات لم تنص على ذلك، إلى أن حصل عدد من المصريين بالخارج على حكم من محكمة
القضاء الإداري يلزم الحكومة بتنظيم مشاركتهم في الانتخابات، ورفضت الحكومة الطعن
على الحكم وأصرت على الالتزام بتنفيذه، فصدرت هذه الإضافة على التعديل الدستوري
قبل استقالة الحكومة بأيام قليلة.
الدكتور علي السلمي
وكان اقتراب موعد الانتخابات
البرلمانية يثير نقاشًا متجددًا حول طريقة تشكيل الجمعية التأسيسية، والضوابط التي
ستحكم عملها، وهنا ظهرت الوثيقة التي عرفت باسم "وثيقة السلمي"، والتي
كانت تحدد أسلوب تشكيل الجمعية التأسيسية بما يضمن تمثيل كل الأطراف السياسية
والقوى المجتمعية فيها، كما تحدد مجموعة من المبادئ يتم الاتفاق عليها لتكون هادية
لعمل الجمعية التأسيسية عند صياغته للدستور الجديد، وكان الدكتور علي السلمي قد
طرح هذه الوثيقة في صورتها الأولى في صيف 2011 قبل أن ينضم إلى التشكيل الثاني
لحكومة عصام شرف نائبًا لرئيس الوزراء للتحول الديمقراطي.
في الجلسة الأولى للحوار حول الوثيقة
وأعيد إحياء الوثيقة مرة
أخرى بناء على اقتراح من المجلس الأعلى للقوات المسلحة في أواخر أكتوبر، ودارت
حولها نقاشات موسعة في الأسبوعين الأولين من شهر نوفمبر 2011، شارك ممثلين لمعظم
الأحزاب والقوى الثورية وقاطعتها أحزاب التيار الإسلامي، ودعت الأخيرة إلى تحويل
جمعة المطلب الواحد التي كان مقررًا لها يوم 18 نوفمبر من المطالبة بتسليم المجلس
الأعلى للسلطة إلى المطالبة بإقالة الدكتور علي السلمي، ورغم أن بعض أعضاء
المجموعة السياسية لمجلس الوزراء اجتمعوا يوم 15 نوفمبر بممثلين للتحالف
الديمقراطي الذي كان يقوده حزب الحرية والعدالة وتوصلوا لصيغة مقبولة من كل
الأطراف، إلا أن رئيسي حزب الحرية والعدالة والنور التقوا في اليوم التالي برئيس
الوزراء وأصروا على سحب الوثيقة، وعلى النزول إلى الميدان يوم 18 نوفمبر.
وفي
اليوم التالي بدأت أحداث محمد محمود الأولى، لتجري في النهر دماء جديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق