الثلاثاء، 27 مايو 2014



قراءة في تاريخ الأحزاب السياسية في مصر (6)

الوفد يقوى بتطهير صفوفه
عماد أبو غازي
 لقد بدأ الوفد المصري في نوفمبر 1918 كمجموعة من الشخصيات السياسية موكلة من الأمة للسعي من أجل استقلال البلاد، ورغم وجود لائحة أو قانون ينظم عمل الوفد المصري إلا أنه لم يكن في بدايته حزبًا بالمعنى المتعارف عليه للأحزاب السياسية، ومع حركة جمع التوكيلات بدأ جسد الوفد يتشكل بامتداد مصر من أقصاها إلى أقصاها، وأصبح جامعو التوقيعات على التوكيلات نواة لأعضاء لجان الوفد في مختلف محافظات مصر، وربما يكون الميلاد الحقيقي للوفد كحزب قد جاء مع الثورة، ثورة 1919 التي تفجرت عقب نفي سعد زغلول ورفاقه، وأثناء الثورة سواء في مرحلتها الأولى التي استمرت لأسابيع قليلة وشملت البلاد كلها، أو في مرحلتها الثانية الهادئة التي استمرت لسنوات تشكلت لجان الوفد، كما تشكلت لجنته المركزية في أبريل 1919 لدعم مهمة الوفد المصري في باريس، أما الجهاز السري للوفد الذي قاده عبد الرحمن بك فهمي ولعب دورًا أساسيًا في نجاح الثورة، فقد نشأ في خضم الثورة واستمر بعدها بسنوات.

 عبد الرحمن بك فهمي


 لقد تشكل الوفد حول برنامج من نقطتين، أو بمعنى أدق حول مطلبين، الاستقلال والدستور، نفس ما ظلت الحركة الوطنية المصرية تطالب به طوال نضالها المتواصل، لقد تشكل الوفد المصري من أشخاص ينتمون إلى اتجاهات سياسية مختلفة جمع بينهم العمل من أجل استقلال مصر وحصولها على دستور يحقق إدارة الشعب لأموره.
 وحزب من هذا النوع لا يصمد طويلا بهذا التشكيل الذي يضم تنويعات غير منسجمة من السياسيين، كان من الممكن أن يكون هذا التكوين الذي بدأ به الوفد المصري سببًا في انهياره، لو كانت يد قيادة الوفد مرتعشة تسعى إلى إرضاء الجميع، كان من الممكن أن يتحول الوفد إلى ساحة للصراع المدمر للحزب وللوطن وثورته فقد كان الوفد حلم المصريين وأملهم في الخلاص، لكن القيادة القوية الحازمة لسعد زغلول ومن بعده مصطفى النحاس أنقذت الوفد المصري من هذا المصير، وجعلته جديرًا بأن يكون حزبًا يلتف حوله الشعب المصري من أجل تحقيق الجلاء والحصول على الدستور ثم حمايته، لم يخش قادة الوفد من الانشقاقات في الوفد مهما كانت قامة وقيمة من قاموا بها، خرجت من الوفد ثلاثة أحزاب قادها ساسة وزعماء كبار، ومضى الوفد في طريقه حزب الأغلبية الساحقة في أي انتخابات نزيهة جرت في مصر منذ دستور 1923 حتى انقلاب يوليو 1952.
 لم يهتز سعد زغلول أو يضعف أمام ضغوط بعض أعضاء الوفد البارزين الذين حاولوا الانحراف بالحزب عن طريق الثورة، ولم يخشى من اتخاذ اجراءات صارمة وحازمة تجاه من خرجوا عن مبادئ الوفد. كانت القرارات سريعة وحازمة منذ الأشهر الأولى لتأسيس الوفد، فقبل أن يمضي عام على تأسيس الوفد المصري قرر الوفد في يوليو سنة 1919 ومصر ما زالت تعيش في ظلال الثورة، قرر الوفد المصري اعتبار صدقي باشا ومحمود بك أبو النصر منفصلين عن عضويته، وذلك لما نسب إليهما من مخالفتهما مبدأ الوفد وخطته، ثم تم فصل حسين واصف باشا، ويعتبر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي أن هذا كان أول انشقاق في الوفد. فهل أعاق هذا القرار مسيرة الوفد؟ الإجابة بالنفي، بل على العكس كان التخلص من إسماعيل صدقي رغم أنه أحد المنفين مع سعد باشا إلى مالطة، مصدر قوة للوفد فقد كان صدقي باشا دومًا ميالًا للتحالف مع القصر.
 
إسماعيل باشا صدقي  
وإذا كان الانشقاق الأول صغير الحجم والتأثير، فإن الانشقاق الثاني كان أكبر وأخطر تأثيرًا، ففي فبراير سنة 1921 أبلغت الحكومة البريطانية السلطان فؤاد بنيتها إنهاء الحماية على مصر وصياغة شكل جديد للعلاقة بين البلدين، وبناء على ذلك كلف السلطان فؤاد عدلي يكن باشا بتأليف الحكومة في مارس، فقام الأخير بإبلاغ سعد زغلول بنية حكومته خوض مفاوضات مع بريطانيا، فقرر سعد العودة إلى مصر ووضع مجموعة من الشروط لاشتراك الوفد المصري مع الحكومة في عملية التفاوض مع بريطانيا، وتتلخص هذه الشروط في أن يكون الهدف من المفاوضات إنهاء الحماية تماما، والاعتراف بالاستقلال التام لمصر، وإلغاء الأحكام العرفية والرقابة على الصحافة قبل الدخول في المفاوضات، وأن يرأس سعد فريق المفاوضين ويكون أغلب أعضاؤه من الوفد المصري، وأخيرا أن يصدر مرسوم سلطاني متضمنا هذه الشروط، وكان سعد يرى أن هذه الشروط تتوافق تماما مع التوكيل الذي يحمله الوفد من الأمة.



عدلي باشا
 وافق عدلي يكن على الشرطين الأولين، كما ألغى الرقابة على الصحف، أما الأحكام العرفية فلم يكن بمقدوره إلغائها حيث أن السلطة العسكرية البريطانية هي التي قررتها، لكن بقيت مسألة رئاسة وفد المفاوضات حجر عثرة أمام اتفاق سعد وعدلي، فقد أصر عدلي على أن الأعراف والتقاليد تقتضي أن يتولى رئيس الحكومة رئاسة أي وفد للمفاوضات ما دام مشاركا فيه، بينما كان سعد يرى أن حكومة عدلي ليست حكومة دستورية منتخبة بل حكومة معينة من سلطان عينته سلطات الحماية البريطانية وبالتالي ليس لرئيسها الحق في رئاسة وفد المفاوضات الذي ينبغي أن يمثل الأمة.

واجتمعت هيئة الوفد يوم الخميس 28 أبريل 1921، لمناقشة الموقف، فرأت الأغلبية عدم الاشتراك في المفاوضات مع عدم محاربة الوزارة العدلية، لكن سعد تمسك بموقفة وأصر على ضرورة سحب الثقة من الحكومة، خصوصًا بعد المضايقات التي تعرض لها هو وأعضاء الوفد في جولتهم بأقاليم مصر من قبل الحكومة، فاستقال علي باشا من الوفد، ووجه كل من محمد باشا محمود وحمد الباسل وعبد اللطيف المكباتي وأحمد لطفي السيد ومحمد علي علوبة رسالة مفتوحة إلى سعد زغلول نشروها في الصحف، فرد سعد في اليوم التالي ببيان للأمة أعلن فيه فصل الأعضاء المخالفين دون تردد لأنهم بادروا بنشر الخلاف الحزبي الداخلي على الرأي العام، رغم أن من بينهم علي باشا شعراوي أحد رفيقي سعد في لقاء المعتمد البريطاني يوم 13 نوفمبر 1918.
 سرعان ما انضم إلى المنشقين المفصولين في موقفهم كل من: عبد العزيز فهمي وحافظ عفيفي وعبد الخالق مدكور، ثم استقال جورج بك خياط في يونيو، وكان هؤلاء المنشقون النواة التي ألتف حولها خصوم سعد ليشكلوا في أكتوبر 1922 حزب الأحرار الدستوريين، ورغم أن الحزب ضم أبرز قادة الوفد المصري وغيرهم من الساسة البارزين إلا أن حزب الأحرار الدستوريين حصل في انتخابات أول برلمان عقب دستور 23 على ستة مقاعد فقط من 214 مقعدًا، وفاز حزب الوفد بتسعين في المئة من المقاعد.  لقد خرج في هذا الانشقاق الكبير معظم أعضاء الوفد المصري، ولم يبق مع سعد سوى مصطفى النحاس وواصف بطرس غالي وسينوت حنا وويصا واصف وعلي ماهر، وكما يقول عبد الرحمن الرافعي: "إن كانوا من جهة العدد أقلية في الوفد بالنسبة للأعضاء المنشقين إلا أن شخصية سعد اجتذبت إلى جانبه الغالبية العظمى من الأمة".

الثلاثاء، 13 مايو 2014


 قراءة في تاريخ الأحزاب السياسية في مصر (5)

قصة التوكيلات التي صنعت الوفد المصري

عماد أبو غازي
 لعبت حملة جمع التوكيلات للوفد المصري الدور الأساسي في تشكيل الحزب وبنائه على أرض الواقع، فقد كانت خطوة ضرورية لاكتساب الشرعية لوجوده من خلال الحصول على توكيل من الأمة بتمثيلها، وكان جمع التوقيعات من المصريين فردًا فردًا سبيل الوفد إلى توحيد الشارع المصري خلف السعي نحو الاستقلال، وكان بداية الطريق إلى ترسيخ قيادة الوفد للأمة، وإبراز سعد زغلول كزعيم للحركة الوطنية المصرية.
 بعد أن أقر الوفد صيغة التوكيل النهائي، انطلقت حركة جمع التوقيع على التوكيلات بطول البلاد وعرضها، ومعها انطلقت روح جديدة في الأمة، كانت البداية لحركة التوقيعات على التوكيلات بعد طبع الصيغة الأخيرة، ووزعت التوكيلات أولًا على أعضاء الهيئات النيابية، ثم امتد توزيعها بين مختلف الجماعات والتجمعات، وسرعان ما انتشرت حركة جمع التوقيعات على التوكيل من القاهرة إلى المدن والقرى في شمال البلاد وجنوبها، وشاعت الحركة بين مختلف طبقات الأمة.
سعد
 ويجمع المؤرخون الذين درسوا ثورة 1919 وأرخوا لها على أن الموقف الوطني لحكومة حسين باشا رشدي ساعد على انتشار الحركة واتساعها، فقد كانت حركة الوفد المصري تتم بالتنسيق الكامل بين سعد وزملائه من ناحية ورئيس الوزراء حسين رشدي وعدلي يكن أهم أركان وزاراته من ناحية أخرى، وكان هناك دعم واضح من الحكومة لحركة التوكيلات، كان الجميع يوقن أن هناك هدفا مشتركا يتمثل في الوصول إلى استقلال البلاد، وإن التكاتف والتعاون والوحدة سبيلًا وحيدًا لتحقيق هذا الهدف.

حسين باشا رشدي
 
 لقد أصدر رئيس الحكومة ووزير الداخلية حسين باشا رشدي تعليمات صريحة إلى مديري الأقاليم بعدم التعرض لحركة التوقيع على توكيل الوفد، ولا شك في أن هذا الموقف دعم الحركة وطمأن الناس ودفعهم للتوقيع على التوكيل بسهولة ويسر.
  وقد قدمت عملية جمع التوكيلات نموذجًا في النضال الوطني السلمي القانوني والسياسي، فعلى الصعيد القانوني أعطى التوكيل مشروعية للوفد في تمثيل الأمة، وعلى الصعيد السياسي وفرت حركة جامعي التوقيعات فرصة أمام أنصار الوفد للاتصال بالجماهير وشرح القضية، وبناء قواعد تنظيمية للوفد في مختلف مديريات مصر، ومن ناحية أخرى كان التوكيل بمثابة عقد التزام بين الوفد وجماهير الشعب ظل يشكل قيدا على كل محاولة للتفريط في حقوق الأمة في المفاوضات السياسية مع بريطانيا، كانت الفكرة عبقرية، وتتبدى عبقريتها في طبيعتها القانونية وقدرتها على حشد الناس في ذات الوقت، فالتوكيل إنابة من الأمة فردًا فردًا للوفد للحديث باسمها في قضية الاستقلال، وحركة جمع التوقيعات على التوكيلات في حد ذاتها دفعت مصر لتتحرك من ثباتها، وكانت فرصة للدعاية للقضية بين الجماهير ولحشدهم خلف زعامة شعبية حقيقية يشعر كل مواطن أنها تمثله فعلًا.
 ويبدو أن سلطات الاحتلال البريطاني لم تدرك للوهلة الأولى خطورة الحركة، ولم تكن تتصور الاستجابة الشعبية الهائلة لسعي الوفد المصري من أجل تحقيق استقلال البلاد، لكن التوكيلات وصلت إلى 2 مليون توكيل في شعب كان تعدده 14 مليونًا، كانت السلطات البريطانية في مصر تكتفي بالمماطلة في الرد على طلب سعد وأعضاء الوفد المصري بالسفر، وتمنيهم بأن الأمر محل دراسة، لكن اتساع حركة التوقيع على التوكيلات وانضمام ضباط الجيش والموظفين العموميين لها، ومباركة الحكومة للحركة دفعت السلطات البريطانية لتغيير موقفها، فقد شعرت سلطات الاحتلال البريطاني بخطورة الحركة فقررت التصدي لها، فأصدر المستر هينز المستشار الإنجليزي لوزارة الداخلية أوامره إلى مديري المديريات باستخدام القوة لمنع حركة التوقيعات وبمصادرة التوكيلات.
 وجاء رد سعد زغلول في رسالة وجهها إلى حسين رشدي باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية يوم 23 نوفمبر 1923 أوردها عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919، قال فيها:
 "حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء ووزير الداخلية
 أتشرف بأن أرفع لدولتكم ما يلي: لا يخفى على دولتكم أنه على أثر فوز مبادئ الحرية والعدل التي جاهدت بريطانيا العظمى وشركاؤها لتحقيقها، ألفت مع جماعة من ثقات الأمة ونوابها وأصحاب الرأي فيها وفدا لينوب عنها في التعبير عن رأيها في مستقبلها تطبيقا لتلك المبادئ السامية، لذلك شرعنا في جمع هذا الرأي بصيغة توكيل خاص، فوق ما لكثير منا من النيابة العامة، فأقبل الناس على إمضاء هذا التوكيل إقبالًا عظيمًا مع السكينة والهدوء، هذا أقل مظهر نعرفه من مظاهر الإعراب عن رأي الأمة في مصيرها، لكنه قد اتصل بنا أن وزارة الداخلية قد أمرت بالكف عن إمضاء هذه التوكيلات، ونظرا إلى أن هذا التصرف يمنع من ظهور الرأي العام في مصر على حقيقته، فيتعطل بذلك أجل مقصد من مقاصد بريطانيا العظمى وشركائها، وتحرم الأمة المصرية من الانتفاع بهذا المقصد الجليل، ألتمس من دولتكم باسم الحرية والعدل أن تأمروا بترك الناس وحريتهم يتمون عملهم المشروع، وإذا كانت هناك ضرورة قصوى ألجأت الحكومة على هذا المنع، فإني أكون سعيدًا لو كتبتم لي بذلك حتى نكون على بصيرة من أمرنا، ونساعد الحكومة بما في وسعنا على الكف عن إمضاء تلك التوكيلات.
 وفي انتظار الرد تفضلوا يا دولة الرئيس بقبول شكري سلفًا على تأييد مبادئ الحرية الشخصية وعظيم احترامي لشخصكم العظيم.
 الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية ورئيس الوفد المصري
سعد زغلول"
 وعندما بلغ قيادات الوفد قيام السلطات بمصادرة التوكيلات الموقعة، أرسل سعد خطابا ثانيا إلى رشدي يوم 24 نوفمبر 1918 يشكو فيه من "أن رجال الحكومة لم يقتصروا على منع التوقيع على التوكيلات بل تجاوزوه إلى مصادرة ما تم التوقيع عليه منها..."
 ووفقا لتفسير الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه "تطور الحركة الوطنية" فإن الهدف من الخطابين كان إثبات واقعة المصادرة أكثر مما كان الهدف منهما وقف إجراءات منع حركة التوكيلات.
 وفي اليوم التالي يوم 25 نوفمبر 1918 رد حسين باشا رشدي على سعد زغلول مؤكدًا أن المصادرة جاءت بأوامر من المستشار البريطاني استنادًا إلى استمرار الأحكام العرفية.
  واستمرت حركة التوكيلات فقد شعر رجال الإدارة أن الحكومة توافق عليها وتساندها فتراخوا في التصدي لها.
 لقد كانت حركة جمع التوقيعات على توكيل الوفد المصري في السعي من أجل استقلال البلاد الخطوة الأساسية على طريق حشد الشعب المصري وتنظيمه في اتجاه الثورة، وكان الوفد المصري قد نجح في حشد الشعب كله حول قضية الاستقلال من خلال تلك الحملة، لذلك عندما صحت مصر يوم 9 مارس على خبر نفي سعد زغلول ورفاقه إلى مالطة هبت ثائرة، واعتبر كل مصري وقع على التوكيل نفسه جزءًا من الوفد المصري، ومسئولًا عن استعادة الزعماء المنفيين.
 
مشهد من الثورة
 
إنها خبرة من خبرات الشعب المصري التي تكررت مرات عدة وفي كل مرة كانت تثبت نجاحها، وفي تلك المرة كانت إعلان بالميلاد الحقيقي لأكبر حزب في تاريخ مصر.
 

الاثنين، 12 مايو 2014


قراءة في تاريخ الأحزاب السياسية في مصر ( 4 )

الوفد ضمير الأمة

عماد أبو غازي
 في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى لعب التياران الرئيسيان في الحركة الوطنية المصرية من خلال حزبيهما: حزب الأمة والحزب الوطني دورا أساسيًا في تشكيل الوعي السياسي للمصريين، وكان للحزبين الفضل في إعادة النخبة المصرية مرة أخرى إلى المشاركة بإيجابية في العمل السياسي، وحتى عندما قامت الحرب ورغم إعلان الأحكام العرفية وفرض الرقابة على الصحف وتعطيل الجمعية التشريعية أثناء سنواتها الأربع، ظلت الروح الوطنية تنمو ببطء في تربة هيئتها سنوات النضال الوطني والديمقراطي منذ مطلع القرن، سنوات البعث الوطني وتمهيد التربة من أجل المطالبة بالاستقلال والدستور بفضل هذين التيارين، تيار الحزب الوطني وتيار حزب الأمة.
 وكما يقول المؤرخ الراحل الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه المهم "تطور الحركة الوطنية في مصر": "إذا كان الحزب الوطني قد غرس في تلك الحقبة من تاريخ مصر بذرة الكراهية للاحتلال ومقاومته في نفوس الشعب، فإن حزب الأمة قد ثبت بدوره أسس القومية المصرية، وألقى بذور الاستقلال عن كل من تركيا وبريطانيا، وبمعنى آخر أنه بينما كان عمل الحزب الوطني قائمًا على هدم الاحتلال، كان عمل حزب الأمة قائما على بناء أسس مصر الحديثة المستقلة، وواضح أن العمليتين: الهدم والبناء يكمل كل منهما الآخر".
 لقد مهد الحزبان الأرض فأثمر زرعهما الثورة المصرية الكبرى في القرن العشرين، ثورة 1919، وتلقى راية القيادة منهما تشكيل جديد ظل الفاعل الأساسي في الحياة السياسية المصرية حتى هزيمة الديمقراطية في أزمة مارس 1954؛ إنه الوفد المصري.
 وترجع قصة تأسيس الوفد المصري إلى شهر نوفمبر سنة 1918، فمع نهاية الحرب حدث ما لم يكن في الحسبان وما لم تكن تتوقعه سلطات الاحتلال، فقبل أن تنتهي الحرب اتفق سعد باشا زغلول الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية وزعيم المعارضة بها وزميليه في الجمعية عبد العزيز فهمي بك وعلي شعراوي باشا على أن يطلبوا من دار الحماية تحديد موعد لهم ليقابلوا السير رجنلد وينجت المندوب السامي البريطاني للتحدث إليه في طلب الترخيص لهم بالسفر إلى لندن لعرض مطالب البلاد على الحكومة الإنجليزية.
 وقبل أن تعلن الهدنة بساعات تقدم سعد ورفيقيه يوم الاثنين 11 نوفمبر بطلبهم إلى دار الحماية بوساطة من حسين باشا رشدي رئيس الوزراء، فاستجابت دار الحماية لطلبهم وحددت لهم موعدًا يوم الأربعاء 13 نوفمبر 1918 الساعة الحادية عشر صباحًا، وقابلوا المعتمد البريطاني ودار بينهم حوار طويل استمر لمدة ساعة، حاول خلالها وينجت إثناء الرجال الثلاثة عن مطالبهم مقدمًا الحجة وراء الحجة، وفندوا هم دعاواه الواحدة بعد الأخرى، وأكد عبد العزيز بك فهمي على مطالب الأمة قائلا: "نحن نطلب الاستقلال التام".... وأكد على أن للحزب الوطني وحزب الأمة هدف واحد وطريقين مختلفين للوصول إليه.
 

جدارية 13 نوفمبر 1918 قاعدة تمثال سعد زغلول بالإسكندرية لمختار
 وبعد أن انتهى اللقاء توجه الزعماء الثلاثة إلى وزارة الداخلية لمقابلة حسين رشدي باشا في مكتبه بالوزارة وأبلغوه بما دار في اللقاء، وكان رشدي باشا قد أعد في نفس اليوم خطابًا للسلطان أحمد فؤاد يستأذنه فيه السماح له ولعدلي يكن باشا بالتوجه إلى لندن للسعي نحو تحقيق استقلال مصر، وفي نفس اليوم أيضًا التقى رشدي بالسير ونجت، فتسأل الأخير كيف يتحدث ثلاثة رجال باسم الأمة؟
 ومن هنا جاءت فكرة تأسيس الوفد المصري، فعندما علم سعد من رشدي باشا ما دار في لقائه مع ونجت اجتمع مساء 13 نوفمبر 1918 مع رفيقيه للتشاور في أسلوب يثبت جدارتهم بتمثيل الأمة، فاتفقوا على تأليف هيئة تسمى الوفد المصري في إشارة إلى أنها وفد مصر للمطالبة باستقلالها، وأن تحصل هذه الهيئة على توكيلات من الأمة تمنحها بمقتضاها هذه الصفة وتفوضها للحديث باسمها.
 استغرق تأسيس هيئة الوفد المصري عشرة أيام بين 13 و23 نوفمبر سنة 1918، وتألف الوفد في تشكيله الأول يوم 13 نوفمبر برئاسة سعد زغلول باشا وعضوية علي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك وعبد اللطيف المكباتي ومحمد علي علوبة بك، وكانوا جميعًا أعضاء في الجمعية التشريعية باستثناء محمد محمود وأحمد لطفي السيد، كما كان أغلبهم من الميالين لتيار حزب الأمة باستثناء محمد علي علوبة عضو اللجنة الإدارية للحزب الوطني وعبد اللطيف المكباتي المؤيد لتيار الحزب الوطني، واتفق أعضاء الوفد على قانونه الذي تضمنت مادته الأولى أسماء أعضاء الوفد، ونصت مادته الثانية على أن مهمة الوفد هي السعي بالطرق السلمية المشروعة، حيثما وجد للسعي سبيلًا، في استقلال مصر استقلالًا تامًا، وقررت المادة الثالثة من القانون أن الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر التي يعبرون عنها رأسًا أو بواسطة من يمثلونهم بالهيئات النيابية، كما أشار القانون في مادته الثامنة إلى أن للوفد أن يضم إليه أعضاء جدد، الأمر الذي حدث بالفعل خلال الأيام والأسابيع التالية، فقام سعد بضم كل من مصطفى النحاس بك والدكتور حافظ عفيفي بك على اعتبار أنهما يمثلان الحزب الوطني فقد كانا من المعتنقين لمبادئه حسب تعبير الرافعي، وضم شخصيات أخرى تمثل عناصر مختلفة من الأمة هم: حمد الباسل باشا وإسماعيل صدقي باشا ومحمود بك أبو النصر وسنيوت حنا بك وجورج خياط بك وواصف غالي بك وحسين واصف باشا وعبد الخالق مدكور باشا، وقد صدق الأعضاء على قانون الوفد في 23 نوفمبر سنة 1918.
 لم يكن الوفد المصري بهذه الصورة التي بدأ بها حزبًا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل جماعة من الساسة تنوب عن الأمة وتمثلها في المطالبة باستقلالها، فقد عرفت مصر الأحزاب السياسية بشكل جنيني في سبعينيات القرن التاسع عشر، ثم عرفت التشكيلات الحزبية المكتملة في العقد الأول من القرن العشرين بتأسيس حزب الأمة وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية والحزب الوطني، بالإضافة إلى عدد من الأحزاب الصغيرة الأخرى، ولم يكن الوفد عندما قام حزبًا على شاكلة هذه الأحزاب، كان تجمعًا من الساسة حول هدف واحد محدد وبرنامج من نقطة واحدة هي السعي من أجل استقلال مصر استقلالًا تامًا.
 عندما تأسس الوفد كان الحزب الوطني لا يزال قائما رغم ملاحقة سلطات الاحتلال لقادته أثناء الحرب، وكان رجال حزب الأمة قد تحولوا إلى الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والثقافية بعد إغلاق جريدة الحزب سنة 1915، وتحول بعض شبابهم إلى الكتابة في مجلة السفور، وعقب الحرب وتأسيس الوفد شكل مجموعة من هؤلاء الشباب الحزب الديمقراطي المصري، وحاولوا الانضمام للوفد، لكن مسعاهم لم يكلل بالنجاح فلم يكونوا قد أعلنوا عن حزبهم بشكل رسمي بعد، ولم يقبلهم سعد في الوفد رغم قربهم من تيار حزب الأمة سياسيًا وفكريًا، وانتمائهم بدرجة أو أخرى إلى مدرسته.
 وتم الاتفاق على صيغة التوكيل التي أصبحت ميثاقا للوفد في نضاله الوطني، التي جاء فيها: "نحن الموقعين على هذا أنبنا عنا حضرات سعد زغلول باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد علي بك وعبد اللطيف المكباتي بك ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك، ولهم أن يضموا إليهم من يختارون، في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلا في استقلال مصر استقلالًا تامًا".

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...