السبت، 14 مايو 2016

رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 25 )


أزمة التعديلات الدستورية

عماد أبو غازي
 منذ صدر دستور 1971 وعلى مدار أربعين عامًا إدخلت عليه عدة تعديلات، يمكن تحديدها في ثلاثة تعديلات رئيسية في أعوام 1980 و2005 و2007، تم استفتاء الشعب عليها، وجرى العمل به بالفعل، ثم التعديلات الرابعة التي تم الاستفتاء عليها في مارس 2011 بعد ثورة 25 يناير، وتم بعدها بأقل من أسبوعين وقف العمل بالدستور نهائيًا.
 وأتى كل تعديل من هذه التعديلات في سياق حراك سياسي، ونجحت السلطة من خلالها في تعزيز قوتها وتمرير مواد مرفوضة من المعارضة السياسية في وسط حزمة من التعديلات التي يمكن قبولها.
 لقد كان لكل تعديل من هذه التعديلات قصة.
 التعديل الأول الذي وقع بعد أقل من عشر سنوات من إقرار الدستور جاء بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، وتغيير خريطة القوى السياسية في مصر، ودخول رئيس الجمهورية إلى العمل الحزبي بترأسه للحزب الوطني الديمقراطي الذي أعلن عن تأسيسه في عام 1978، وقفز إليه معظم أعضاء حزب مصر العربي الاشتراكي الذي كان بمثابة الحزب الحاكم ووريثًا أكبر للاتحاد الاشتراكي العربي، كما اختار السادات معارضته المتمثلة في حزب العمل الاشتراكي، وفي نفس الوقت كان حزب الوفد الجديد قد انتزع وجوده بحكم قضائي، وأصبح ممثلًا جديدًا لليبرالية المصرية.


 ومع انتصاف الفترة الثانية والأخيرة لرئاسة أنور السادات وفقًا لدستور 71، فقد كان الدستور ينص على أن مدة الرئيس ست سنوات تجدد لمرة واحدة، وبناء على طلب من مجموعة من أعضاء مجلس الشعب قادتهم النائبة فايدة كامل التي كانت عضوة عن الحزب الوطني الديمقراطي ونائبة لدائرة الخليفة، بدأت الدعوة لتغيير نص المادة الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية ليصبح انتخابه لمدة ست سنوات تجدد لمدد أخرى.
 وتبنى المقترح في يوليو 1979 ثلث نواب المجلس إعمالًا لنص المادة 189 من الدستور، وفي شهر سبتمبر من نفس العام تشكلت لجنة من أعضاء المجلس لدراسة المقترحات، واستمرت في عملها لعدة شهور انتهت بإعداد تقرير بالتعديلات المطلوبة، وأقر المجلس التعديلات، وطرحت للاستفتاء الشعبي في مايو 1980، وجاءت نتيجة الاستفتاء لتعلن موافقة أكثر من 98% من المشاركين في الاستفتاء على التعديلات.
 تم في هذا الاستفتاء تعديل خمس مواد وإضافة باب جديد ينص على إنشاء مجلس الشورى، لتعود مصر إلى نظام البرلمان من غرفتين الذي انتهى بإلغاء دستور 1923.
 كانت أبرز التعديلات بالإضافة للسماح بترشح رئيس الجمهورية بلا حد أقصى، تتعلق بتعديل المادة الثانية من الدستور بإضافة ألف لام التعريف لكلمة مصدر، فيصبح نص المادة: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، بدلًا من "مصدر رئيسي للتشريع"، في سياق مغازلة الرئيس السادات للتيارات الإسلامية التي ظل يستخدمها لضرب المعارضة اليسارية إلى أن جاء الصدام الحاد معها في صيف 1981، الذي انتهى بقيام أحد التنظيمات الإسلامية بجريمة أغتيال السادات في 6 أكتوبر 1981، دون أن يستفد من المادة التي عدلها أنصاره في الدستور، واستفاد منها مبارك لثلاثين عامًا.
 إلى جانب تعديل المادة الثانية والمادة السابعة والسبعين، تم تعديل المواد الأولى والرابعة والخامسة لتتوافق مع التغيرات التي طرأت على الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد، مثل النص على تعدد الأحزاب، والاشتراكية الديمقراطية.
 أما التعديل الثاني فجاء في عام 2005 مع تزايد الحراك السياسي في الشارع المصري الذي رفع شعارات "لا للتوريث... لا للتمديد"، وفي سياق إقليمي ودولي كان يوحي بعد الغزو الأمريكي للعراق أن هناك نية قوية لدى الولايات المتحدة الأمريكية لإجبار الأنظمة العربية على إجراء إصلاحات سياسية واضحة.


 فأعلن مبارك في فبراير 2005 عن اقتراح بتعديل دستوري للمادة 76 من الدستور، بما يسمح بإجراء انتخابات رئاسية بين أكثر من مرشح، بدلًا من الاستفتاء على اسم المرشح الوحيد الذي يطرحه مجلس الشعب.
 وفي 25 مايو 2005، الأربعاء الأسود، تم الاستفتاء على تعديل المادة 76 لتصبح أطول مادة في تاريخ الدساتير المصرية، مع إضافة المادة 192 مكرر لتنص على استبدال كلمة الانتخاب بكلمة الاستفتاء على رئيس الجمهورية أينما وردت في الدستور والقوانين، وحصلت التعديلات على موافقة 88,5 % من أصوات المستفتين.




 وفيما يلي ما كتبته وقتها في صحيفة الدستور يوم الأربعاء 1 يونيو 2005 بعنوان "ليه قلت آه ...؟":

 "يوم الأربعاء الماضي كان موعد الاستفتاء على تعديل المادة 76 من الدستور، ولأول مرة أجد نفسي حائرًا ومترددًا في قراري فيما سأفعل، هل أشارك أم أقاطع؟  وإذا شاركت ماذا سأقول لا أم نعم أم سأبطل صوتي؟
 فمنذ تقدمت بطلب استخراج بطاقتي الانتخابية عام 1973 عندما أكملت عامي الثامن عشر لم أتغيب عن استفتاء أو انتخاب إلا مضطرًا، لغياب جبري قيد الحبس والاعتقال مرتين، في تعديلات الدستور مايو سنة 1980 والاستفتاء على رئيس الجمهورية في أكتوبر 1981، أو لعجز عن الوصول إلى أبواب اللجنة الانتخابية مثلما حدث في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة عام 2000 بسبب المعارك بين أنصار المرشحين والحصار الأمني الذي لم يسمح إلا بدخول من يعرفه مندوبو واحد من المرشحين، لذلك فبطاقتي الانتخابية مسجل عليها مشاركتي في 19 انتخاب واستفتاء منذ مايو 1974، ورغم عدم ثقتي في كثير من الانتخابات التي شاركت بالتصويت فيها، إلا أنه كانت لدي قناعة دائمة أن واجبنا أن نشارك ونقول ما نريد أو نختار من نريد أيًا كانت النتيجة، فالمشاركة أول خطوات التغيير، وهي السبيل لسد الطريق أمام من قد يتلاعبون في أصواتنا، في كل مرة كنت أذهب بقرار واضح محدِدًا لمن سأعطي صوتي في الانتخابات حتى ولو كنت متأكدًا من عدم فوز من صوت له، وفي كل استفتاء كنت أتجه إلى الصندوق بقرار واضح لأقول لا في مرات ونعم في مرات أخرى وأبطل صوتي في مرات ثالثة.
 أما هذه المرة فالأمر اختلف، لم يعد الموضوع بهذه السهولة والوضوح، فالاستفتاء حول تعديل للدستور طالبت به القوى الديمقراطية في مصر لسنوات طويلة، لكن الصيغة التي أقرها مجلس الشعب للتعديل وضعت ضوابط مبالغ فيه للترشيح لمنصب الرئاسة تصل إلى حد التعجيز، وجاءت هذه الضوابط في صلب مواد الدستور بدلًا من موضعها الطبيعي، أي القانون المنظم لانتخابات منصب رئيس الجمهورية، والهدف بالطبع عدم تمكين المعترضين على هذه الضوابط من الطعن عليها بعدم الدستورية، وتواكب مع هذا تصعيد للمواجهة الأمنية ضد المظاهرات السلمية للمعارضين، وحصار لمحاولاتهم إيصال رأيهم للمواطنين بصورة لا تبشر بأمل في تغيير حقيقي، وجاءت دعوة المعارضة لمقاطعة الاستفتاء والتزام البيوت يوم 25 مايو لتزيد التردد، فكرت بالفعل في المقاطعة وأعجبتني للوهلة الأولى فكرة البقاء في البيت، لكني تساءلت: إذا كنا نعاني من المقاطعة السلبية للمواطنين وإحجامهم عن المشاركة السياسية، فهل واجبنا في مواجهتها دعوة الناس للمشاركة أم دفعهم إلى مزيد من السلبية؟ وإذا جاءت نتيجة الاستفتاء بمشاركة بنسبة مشاركة منخفضة فهل هذا نتاج دعوة المعارضة للمقاطعة وقناعة الناس بها أم نتاج السلبية والإحجام عن المشاركة السائدين في مجتمعنا؟ ثم هل شعار التزام البيوت كشكل من أشكال العصيان السياسي شعار صائب من أحزاب المعارضة الرئيسية؟ أتصور أنه شعار خاطئ فلا ينبغي أن ترفع المعارضة شعارًا لا تستطيع تحقيقه فهذا إضعاف لموقفها.
 ساعدتني على حسم موقفي ابنتي، فطول الأسبوع السابق على الاستفتاء كانت مريم ( 14 سنة ونصف ) تسألني يوميًا هل سأذهب للاستفتاء أم لا؟ وإذا ذهبت ماذا سأقول؟ قالت لي إن المقاطعة سلبية، وعندما قلت لها عندك حق، لكن التعديل لا يفي بالغرض منه، وأنا متردد هل أذهب وأقول لا؟ وهل لا هنا ستكون لا للصورة التي تم بها تعديل المادة أم لمبدأ التعديل نفسه ؟ قالت لي ممكن تروح ومتقولش نعم أو لا تبطل صوتك، سر اهتمام مريم بالاستفتاء لأنها تدرس بالمدرسة الفرنسية، وتتعلم في مقررات المواد الاجتماعية وفقا للمناهج الفرنسية حقوق المواطن وواجباته، وفي مقدمتها حقوقه السياسية، بعد مناقشة طويلة مع مريم وبعد طول تفكير حزمت أمري وقررت أن أذهب إلى لجنتي الانتخابية وأدلي بصوتي، إذًا لن أقاطع سأذهب، لكن ماذا أقول في الاستفتاء؟
 يوم الاستفتاء قررت بعد تفكير وذهبت وقلت نعم، رغم عدم موافقتي على صيغة التعديل، لكني أتصور أن التعديل مهما كانت عيوبه وجوانب القصور فيه خطوة مهمة إلى الأمام، وهو خطوة أولى وليس نهاية الطريق، لقد كان تغيير أسلوب اختيار رئيس الجمهورية مطلبًا للقوى الديمقراطية منذ وعينا على العمل السياسي، فإذا تحقق هذا المطلب اليوم منقوصًا سنأخذه ونطالب بالمزيد، وإذا كان اختيار الشعب لرئيس الجمهورية من بين عدد من المرشحين في انتخاب سري مباشر قد احتاج إلى 50 سنة من النضال والعمل الدؤوب قبل أن يتحقق، فإنه من المؤكد أن تعديل شروط الترشيح لن تحتاج إلى خمسين سنة أخرى، فالزمن غير الزمن، وقد دارت عجلة التغيير ولن يوقفها أحد."

 وبعدها بأسبوعين كتبت في جريدة الدستور مقالًا جاء فيه:  
 "حول مشروع الدستور المصري الذي أُعد سنة 1954 ولم ير النور، وكان الكاتب الكبير الأستاذ صلاح عيسى قد قدم دراسة مهمة حوله في جريدة المصري اليوم، وتواصلت حلقات هذه الدراسة القيمة على مدار عدة أسابيع، وأنهاها بالحلقة التي نشرت في عدد يوم السبت 4 يونيو وضمنها نص الدستور كاملًا، مع دعوة لتشكيل جماعة تتبنى هذا المشروع ليكون دستورًا جديدًا لمصر يحل محل دستور 1971، بعد أن أدخل صلاح عيسى على المشروع الأصلي بعض التعديلات التي اقترحها، كي يتواكب مشروع الدستور القديم مع العصر الذي نعيش فيه اليوم، وليلبي متطلبات جدت خلال السنوات الخمسين الماضية، وهي تعديلات محدودة فمشروع دستور 54 الذي يقوم على أساس النظام الجمهوري البرلماني، وينص بشكل حاسم على صيانة الحريات الأساسية للمواطنين، ويحافظ على مبدأ الفصل التام بين السلطات ويحفظ لكل سلطة كيانها واستقلالها، هذا المشروع ما زال صالحًا ليكون أساسًا لإصلاح ديمقراطي حقيقي في مصر، ودعوة صلاح عيسى دعوة مهمة تستحق الالتفاف حولها وتأييدها من أجل مستقبل هذا البلد."

  نجح مبارك في أول انتخابات رئاسية تنافسية في خريف 2005، وتمت انتخابات مجلس الشعب التي أدت إلى سيطرة الحزب الوطني مجددًا على المجلس مع معارضة أخوانية هي الأكبر في تاريخ البرلمانات المصرية، ومحاصرة واضحة للمعارضة الليبرالية واليسارية.


وقرب نهاية عام 2006 أقدم مبارك على طلب إجراء تعديلات دستورية جديدة تضمنت 34 مادة في أضخم تعديل دستوري عرفته الدساتير المصرية.
 وتضمنت التعديلات: إلغاء كل ما يخص الاشتراكية والسلوك الاشتراكي وتحالف قوى الشعب العاملة، من نصوص الدستور، والنص على مبدأ المواطنة واعتبارها الأساس الذي يقوم عليه نظام الحكم، وحظر أي نشاط سياسي أو حزبي على أساس الدين أو الجنس أو الأصل، وإنشاء لجنة عليا مستقلة للإشراف على الانتخابات تكون لها صلاحيات مطلقة وتحل محل الإشراف القضائي، والنص على إصدار قانون مكافحة الإرهاب، وتعديل شروط مشاركة الأحزاب السياسية في الانتخابات الرئاسية، وتقنين حماية البيئة واعتبارها واجب وطني.

 وتم الاستفتاء على التعديلات في 26 مارس 2007 بعد موافقة مجلسي الشورى والشعب عليها في نفس الشهر، وحازت التعديلات على موافقة 75% من المستفتين، ويومها لم أذهب للاستفتاء.
كانت هذه السنوات التي سبقت ثورة يناير 2011 سنوات للصراع السياسي، سنوات شهدت دعاوى الإصلاح، جنبًا إلى جنب الحراك الذي حرث الأرض للثورة، كانت الآمال كبيرة والقدرات ما زالت قاصرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...