رحلة مع حكاية المصريين والدستور (20)
دستور
1954
الدستور الذي كنا نستحقه ولم نحصل عليه
عماد أبو غازي
في 13 يناير سنة 1953 صدر مرسوم
بتأليف لجنة لوضع مشروع دستور جديد للبلاد، وانتخبت اللجنة علي ماهر رئيسا لها،
استمرت اللجنة تباشر عملها على مدى عام وثمانية أشهر، انقسمت اللجنة خلالها إلى
مجموعة من اللجان الفرعية التي ظلت تجتمع أسبوعيًا، إلى أن انتهت في أغسطس 1954 من
عملها وقدمت مشروعها، وقد رأى عبد الرحمن الرافعي عضو اللجنة أن في هذا إبطاء
شديد، خاصة إذا أجرينا مقارنة بين الوقت الذي استغرقته لجنة دستور 1954، والوقت
الذي أنجزت فيه لجنة الثلاثين عملها في وضع دستور 1923، حيث انتهت الأخيرة من
صياغة الدستور في أقل من ستة أشهر، رغم أنها بدأت عملها من الصفر تقريبًا؛ فدساتير
مصر قبل دستور 1923 كانت أقرب إلى لوائح تنظم عمل المجلس النيابي وتحدد سلطاته
وعلاقته بالحكومة، بينما لجنة دستور 1954، كان عملها مستندًا إلى نصوص دستور 1923
تجري فيها التعديل والإضافة بما يلائم الأوضاع الجديدة وفقًا لرؤية الرافعي.
نجيب وعلي ماهر
وقد صادفت هذه اللجنة ظروفًا ربما
تكون قد أعاقت عملها، فقد عملت في ظل اضطراب سياسي شديد، كما تعرض عملها للارتباك
مرتين أثناء أزمة مارس 54 وما بعدها، المرة الأولى عندما صدرت قرارات مجلس قيادة
الثورة يوم 6 مارس 1954 متضمنة الدعوة لتشكيل جمعية تأسيسية منتخبة بالانتخاب الحر
المباشر، تضع الدستور الجديد وتقره وتباشر مهام البرلمان إلى حين انتخاب برلمان
جديد وفقًا لأحكام الدستور الجديد، والمرة الثانية عندما انتصر الجناح الموالي
للحكم الشمولي في نهاية أزمة مارس، وبدأت إجراءات تصفية القوى الديمقراطية، حيث
ضمت قرارات العزل السياسي ستة من أعضاء اللجنة البارزين، هم: عبد الرزاق السنهوري
وعلي زكي العرابي ومحمد صلاح الدين وعبد السلام فهمي جمعة ومكرم عبيد ومحمود غالب،
ومع ذلك واصلت اللجنة عملها وقدمت مشروع الدستور لمجلس قيادة الثورة في أغسطس
1954، لكن الدستور لم ير النور.
وإذا كان نص المشروع الذي أعدته
اللجنة لم يؤخذ به، فالغريب أنه اختفى تمامًا لسنوات، ورغم أن عبد الرحمن الرافعي
كان عضوًا في اللجنة، إلا أنه لم يورد نص مشروع الدستور في كتابه المعنون:
"ثورة 23 يوليو 1952"، واكتفى فقط بنص المذكرة التي وضعتها لجنة نظام
بشأن اختيار النظام الجمهوري نظامًا للبلاد، وهي المذكرة التي أقرتها اللجنة في
بداية عملها، رغم حرصه الدائم في جميع مؤلفاته على إلحاقها بالوثائق السياسية
المهمة، وربما كان الظرف السياسي العام بعد أزمة مارس قد جعله يحجم عن وضع نص هذا
الدستور الذي رفضه مجلس قيادة الثورة.
ظل نص دستور 54 مختفيًا لمدة خمسة وأربعين سنة
إلى ان اكتشفه بالمصادفة الكاتب صلاح عيسى عام 1999 في صندوق المهملات بمكتبة معهد
البحوث والدراسات العربية، التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة، وكانت النسخة
التي عثر عليها صلاح عيسى عبارة عن مسودة مكتوبة على الآلة الكاتبة على ورق
"رز" ومجلدة بورق مقوى، وعليها إضافات مضافة بخط اليد وأخرى مشطوبة،
والعنوان المدون على النسخة: "نص المشروع قبل التعديلات التي أدخلتها لجنة الصياغة
في يوليو وأغسطس ٥٤"، وقام صلاح عيسى بنشر النص عام 2001 في كتاب يحمل عنوان
"دستور في صندوق القمامة"، وقد رجح المستشار طارق البشري أن تكون هذه
النسخة هي نسخة الدكتور السنهوري عضو اللجنة، وإن الإضافات عليها بخط يده، وقد
توصل الباحث الراحل محمد حاكم بعد ذلك إلى عدد كبير من محاضر اجتماعات اللجان
الفرعية المنبثقة عن لجنة دستور 54، وتقدم هذه المحاضر تفاصيل ما دار من مناقشات
في اللجان تفصيلًا.
لكن ما أهم ما ميز هذا الدستور؟
ربما كان الباب الأول من هذا الدستور والذي
يتكون من مادة واحدة أهم ما ميز هذا الدستور بين دساتير مصر، وربما كان أيضًا
سببًا رئيسيًا لرفض مجلس قيادة الثورة لدستور 54؛ فقد نصت المادة الأولى من
الدستور على أن: "مصر دولة موحدة ذات سيادة، وهي حرة مستقلة، وحكومتها
جمهورية نيابية برلمانية".
لقد انحازت لجنة دستور 54 للجمهورية البرلمانية
بما يعنيه ذلك من تحديد سلطات رئيس الجمهورية والتوسع في سلطات الحكومة التي
يشكلها رئيس الجمهورية بعد استشارة ممثلي الجماعات السياسية، كما نصت مواد الباب
الثالث؛ باب السلطات.
وجاء الباب الثاني الذي يتضمن الحقوق والحريات
العامة وبه 49 مادة ليؤكد على مكتسبات دستور 23 في مجال الحقوق والحريات ويضيف
إليها، فنص على عدم جواز إسقاط الجنسية، وحظر النفي على إطلاقه كما حظر تحديد
الإقامة لأسباب سياسية، وأكد على المساواة في الحقوق والواجبات العامة دون تمييز
"بسبب الأصل أو اللغة أو الدين أو الطوائف الدينية أو الآراء السياسية أو
الاجتماعية"، ونص على أن "حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية
القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات المرعية في الديار المصرية، على ألا
يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب"، ونصت المادة 20 على أنه "لا
يحاكم أحد إلا أمام القضاء العادي، وتحظر المحاكمة أمام محاكم خاصة أو استثنائية
ولا يحاكم مدني أمام المحاكم العسكرية"، كذلك نص مشروع الدستور على حق
المصريين في تأليف الجمعيات والأحزاب دون سابق إخطار أو استئذان.
نص مشروع الدستور كذلك على استقلال القضاء ومجلس
الدولة وخصهما بفصل مستقل في باب السلطات، وجعل للمحكمة العليا الدستورية باب
مستقل، وجعل من اختصاصها محاكمة رئيس الجمهورية.
أما الباب العاشر والأخير فيتضمن الأحكام العامة
ومن بينها "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية"، وتحديد
العاصمة، وتقييد سلطات رئيس الجمهورية في إعلان حالة الطوارئ.
لقد كان دستور 1954 دستورًا يستحقه الشعب
المصري، لكنه لم ينله، فقبل انتهاء اللجنة من عملها بخمسة أشهر كان أنصار الدولة
الشمولية قد انتصروا على المؤيدين للدولة المدنية الديمقراطية؛ وما كانوا ليفرطوا
في انتصارهم أبدًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق