الجمعة، 12 فبراير 2021

متحف مختار

 

متحف مختار

عماد أبو غازي

 في الطرف الغربي من حديقة الحرية بالجزيرة يقع مبنى متحف مختار الذي افتتحه وزير البحث العلمي صلاح هدايت نيابة عن الرئيس جمال عبد الناصر ومعه الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة والإرشاد القومي، في صباح يوم 24 يوليو 1962، ويعتبر متحف مختار أول متحف تقيمه الدولة في مصر مخصص لأعمال فنان مصري واحد، كما يعد رابع المتاحف الفنية في مصر، فقد سبقه متحف الفن الحديث بالقاهرة ومتحف الشمع بحلوان ومتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية، وقد افتتح معه أيضًا في الأسبوع نفسه متحف محمد محمود خليل بالجيزة.

 ويضم متحف مختار معظم أعمال نحات مصر الأول محمود مختار (10 مايو 1891 - 27 مارس 1934)، بالإضافة إلى بعض أوراقه وصوره ومتعلقاته الشخصية، ويضم المتحف كذلك مقبرة مختار، وقد نقلت إليها رفاته من مقابر أسرته قبيل افتتاح المتحف بأيام.




وقد ولد مختار في 10 مايو 1891 بقرية طنبارة من قرى محافظة الغربية، وهي قرية صغيرة قريبة من مدينة المحلة الكبرى، كان أبوه الشيخ إبراهيم العيسوي عمدة للقرية، أما أمه نبوية البدراوي فكانت ابنه للبدراوي أحمد عمدة قرية نشا السابق الذي نفاه الخديوي إسماعيل إلى السودان وصادر أملاكه بسبب مواقفه المعارضة لسياسته، وتتبع قرية نشا الآن محافظة الدقهلية.

 كانت نبوية البدراوي الزوجة الثانية للشيخ إبراهيم العيسوي، تزوجها بعد وفاة زوجته الأولى، وكانت في سن أبنائه من تلك الزوجة المتوفاة، وقد أنجبت له مختارًا وبنتين تصغرانه سنا، لكن نبوية البدراوي لم تستمر كثيرًا مع زوجها الشيخ الكبير، وانفصلت عنه عندما أحست بأنه يميز أبناءه من زوجته الأولى عن أبنائه منها، وعادت أم مختار إلى قريتها نشا، وهناك نشأ مختار، وأمضى طفولته، وصنع تماثيله الأولى من الطين على ضفاف الترعة.

والدة مختار نبوية البدراوي

 ومع مطلع القرن العشرين انتقلت السيدة نبوية البدراوي إلى القاهرة لتعيش فيها بعد عودتها من رحلة للحج، وسرعان ما لحق بها ابنها مختار، عندما رآه الشيخ محمد أبو غازي أحد رجال قريته نشا يبكي على الطريق مفتقدًا أمه وشقيقتاه، فقرر أن يصحبه معه إلى القاهرة غير مبال بغضب أخواله، فتغير مصير مختار وهو في الحادية عشرة من عمره، ليصبح بعد سنوات قليلة نحات مصر الأول في عصره وليترك لنا في حياته الفنية القصيرة التي أمضاها بين القاهرة وباريس قرابة مئة عمل معظمها بمتحفه بحديقة الحرية بالجزيرة، بالإضافة إلى التماثيل الميدانية الثلاثة؛ نهضة مصر وتمثالا سعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية.

 في القاهرة شق مختار طريقًا جديدًا لحياته عندما افتتح الأمير يوسف كمال مدرسة الفنون الجميلة بقصره بدرب الجماميز، وعين فيها عددًا من الأساتذة الأوروبيين، وكان مختار أول طالب يلتحق بالمدرسة الجديدة يوم افتتاحها في 12مايو 1908، بعد يومين من إكماله عامه السابع عشر.

مختار في مدرسة الفنون الجميلة

 في سنوات الدراسة تبين أساتذته نبوغه وتميزه في فن النحت، فخصصوا له مشغلًا منفردًا بالكلية، ونحت مختار مجموعة من الأعمال خلال سنوات دراسته بمدرسة الفنون بالقاهرة مستلهمًا أغلبها من التراث العربي أو من البيئة المحيطة به، لكن لم يتبق منها إلا القليل، وقد شارك مختار ببعضها في أول معرض لطلبة مدرسة الفنون الجميلة.

 وعندما تخرج مختار من المدرسة في سنة 1911 أرسله الأمير إلى مدرسة الفنون الجميلة بباريس في بعثة لاستكمال دراسته لفن النحت بناء على توصية أساتذته، وهناك أعاد اكتشاف هويته المصرية، وقد أمضى مختار سنوات الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) في باريس في ظروف قاسية، لكنه تمكن قرب نهاية الحرب من الالتحاق بمتحف جريفان للتماثيل الشمعية بباريس، وهناك نحت مجموعة من الأعمال فقدت جميعها للأسف ووصلتنا صور فوتوغرافية للقليل منها، مثل تمثاله لأم كلثوم وتمثال راقصة البالية آنا بافلوفا.

مختار في باريس



متحف جريفان للتماثيل الشمعية بباريس

 وتعتبر ثورة 1919 الميلاد الجديد لمختار، فعندما قامت الثورة قرر أن يخلدها بتمثال يعبر عن الصحوة المصرية، فجاء تمثال نهضة مصر الذي عرض نموذجه المصغر بصالون باريس للفنون ونال عنه شهادة تقدير، والتف المصريون حول فكرة التمثال واكتتبوا من أجل إقامته، وأصبح التمثال رمزًا لمصر الناهضة، صنع به مختار لنفسه مكانة في وجدان المصريين.

 وتوفي مختار في 27 مارس 1934 قبل أن يكمل عامه الثالث والأربعين، وهنا تبدأ حكاية متحف مختار التي تمتد من يوم وفات مختار حتى افتتاح المتحف في احتفالات مرور عشر سنوات على 23 يوليو 1952.

 فما هي هذه الحكاية؟

 عندما رحل مختار كان لرحيله وقع صادم على أصدقائه ومحبيه، وقد سارعت السيدة هدى شعراوي إلى الدعوة لتأسيس جمعية لأصدقاء مختار تعمل على إحياء ذكراه، انضم لها عدد من أصدقائه، ووضعت الجمعية هدفًا من بين أهدافها جمع أعمال مختار في متحف أسوة بما كان يجرى مع كبار الفنانين الأوروبيين، وبادرت أسرة مختار بإهداء ما لديها من أعماله للدولة مقابل إقامة متحف ومقبرة لمختار، على أن تتولى جمعية أصدقاء مختار مهمة التنسيق مع الدولة، وبدأت الجمعية التي ترأستها السيدة هدى شعراوي في العمل على جلب أعمال مختار الموجودة في فرنسا، وصب نسخ من بعض الأعمال الموجودة في حوزة الأفراد ضمن مجموعاتهم الخاصة.


 وقد أدى قيام الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) إلى تعثر جهود استعادة أعمال مختار من الخارج؛ لكن ما أن انتهت الحرب حتى استأنفت الجمعية جهودها في جمع تراث مختار، وفي السعي لدى وزارة المعارف العمومية للوفاء بوعدها بإقامة المتحف، إلا أن وفاة هدى شعراوي في 12 ديسمبر 1947 أدت إلى تعثر الجهود وتوقف عمل جمعية أصدقاء مختار.

 وفي عام 1951 تجددت الجهود من أجل إقامة المتحف، عندما أعاد محمد بك شعراوي ابن هدى شعراوي إحياء جمعية أصدقاء مختار، وتواكب هذا مع تولي الدكتور طه حسين صديق مختار وعضو الجمعية وزارة المعارف العمومية في حكومة الوفد الأخيرة وتولي الفنان الرائد راغب عياد زميل دراسة مختار وصديقه إدارة متحف الفن الحديث، فتقرر حينئذ إقامة متحف مؤقت لأعمال مختار ملحقًا بمتحف الفن الحديث، وتحدد لافتتاحه يوم 27 مارس 1952 الذي يوافق الذكرى الثامنة عشر لرحيل مختار، لكن القدر لم يمهل طه حسين لافتتاح المتحف الذي وقف وراءه بقوة، فقد أقال الملك فاروق وزارة الوفد في أعقاب حريق القاهرة، وافتتح المتحف وزير المعارف وقتها محمد باشا رفعت، وبدى أن الأمر توقف عند هذا الحد.


المتحف القديم


  إلا أن الأمل في تحقيق حلم إقامة متحف خاص ومقبرة لمختار تجدد مرة أخرى عندما تولى الدكتور ثروت عكاشة وزارة الثقافة والإرشاد القومي في أكتوبر 1958.


ثروت عكاشة

 وحمل الشعلة من أجل تنفيذ المشروع الذي تحمس له الدكتور ثروت عكاشة ثلاثة رجال، هم الناقد بدر الدين أبو غازي ابن شقيقة مختار الذي قدم الفنان للجمهور من خلال كتابه "مختار حياته وفنه" ومقالاته المتعددة عنه، ومعه اثنان من تلاميذ مختار هما الفنان علي كامل الديب والفنان عبد القادر رزق، وانضم لهم المعماري رمسيس ويصا واصف الذي حول الفكرة الحلم إلى واقع على الأرض، عندما وضع تصميم المتحف وأشرف على تنفيذه، ويعد المعماري رمسيس ويصا واصف أحد أهم المعماريين المصريين في القرن العشرين وصاحب تجربة مميزة في مجال العمارة المستلهمة من البيئة والمرتبطة بها.


بدر الدين أبو غازي


علي كامل الديب


عبد القادر رزق


رمسيس ويصا واصف

 نجحت وزارة الثقافة والإرشاد القومي في إقناع محافظة القاهرة بتخصيص مساحة من الركن الغربي لحديقة الحرية لإقامة المتحف، في موضع منخفض عن مستوى الطريق، وجاء المبنى يحمل طرازًا معماريًا حديثًا لكنه مستلهم من عمارة المعابد المصرية القديمة، وعلى وجه التحديد واجهته التي تستدعي إلى الذهن واجهة معبد الدير البحري بالبر الغربي للأقصر، ويرتبط المبنى بالطريق من خلال جسر مقنطر.

 وقد أعيد تنظيم المتحف وتغيير مسار العرض فيه أكثر من مرة طوال السنوات الثمانية والخمسين منذ افتتاحه، ويتكون المتحف من دورين، الدور الأول وله شرفة كبيرة تسمح بعرض بعض الأعمال، وبها الآن تمثال كاتمة الأسرار ورأس تمثال سعد زغلول، ومدخل المتحف من هذا الدور حيث يلتقي الزائر بالنسخة الكبيرة من تمثال على شاطئ النيل؛ واحدة من مجموعة الفلاحات حاملات الجرار، وهي المجموعة المميزة لمختار والتي جسد فيها العلاقة بين الفلاحة والماء، ثم تواجه الزائر واحدة من أعمال مختار التي استلهم فيها الموروث التراثي المصري القديم، تمثال إيزيس الذي نحته مختار في الرخام الأبيض الناصع، وتضم القاعة مجموعة من أعمال مختار المنحوتة في الرخام.

 ويمزج الترتيب الحالي للعرض المتحفي بين أساسين: الخامة والموضوع، ويتكون المتحف من سبع قاعات للعرض بالإضافة إلى المقبرة وقاعة التذكارات، تشغل الأعمال البرونزية إحدى القاعات، بينما تشغل الأعمال الحجرية قاعة أخرى، ومشروع تمثالي سعد زغلول في القاهرة والإسكندرية قاعة ثالثة، والبورتريهات الشخصية قاعة رابعة، ومن بينها تماثيله لعدلي يكن والدكتور علي إبراهيم ومحمود خيرت، ومجموعة الفلاحات قاعة خامسة.




 أما عمل مختار الفريد رياح الخماسين فقد احتل مركز قاعة صغيرة تحيط به بعض الأعمال الصغيرة، وإلى جانب إبراز العرض لتماثيل كاتمة الأسرار ورأس سعد وإيزيس ورياح الخماسين، يبرز العرض كذلك تمثال عروس النيل الذي نحته مختار في الحجر والتمثال البرونزي لقية في وادي الملوك الذي نحته مختار بمناسبة اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون.





 ويضم المتحف أربعة من أقدم أعمال مختار التي نحتها في فترة دراستها بمدرسة الفنون الجميلة بدرب الجماميز بين عامي 1908 و1911، تماثيل التسول وابن البلد ورأس مارسيلة والتمثال النصفي لزميله الفنان محمد حسن، وهي كل ما تبقى من أعمال تلك المرحلة المبكرة.






 كما يحوي المتحف بعض الأعمال غير المكتملة مثل: مشروع تمثال الاستقلال وتمثال فارس وحصان ورجل يسير.



 أما قاعة التذكارات فتضم مجموعة من أوراق مختار الشخصية وصوره الفتوغرافية والأدوات التي كان يستخدمها في عمله، وبعض ملابسه، وقطعة من أثاث منزله، ونماذج لرسومه الكاريكاتيرية في جريدتي السياسة الأسبوعية والكشكول، واثنان من التماثيل الساخرة التي نحتها، ومن أهم ما تضمه قاعة التذكارات شهادة التقدير التي حصل عليها مختار من صالون باريس سنة 1920 للنموذج الأول من تمثال نهضة مصر، وصورة زنكوغرافية لخطاب متحف جريفان للتماثيل الشمعية بباريس إلى مؤتمر الصلح بفرساي الذي عقد بعد نهاية الحرب العالمية الأولى للسماح لمختار بحضور جلسات المؤتمر لعمل تماثيل لقادة الدول الحاضرين في المؤتمر.

 كذلك تحوي القاعة طوابع البريد والعملات التذكارية التي صدرت في مناسبات مختلفة تخليدًا لذكرى مختار أو التي تحمل أعماله، ونسخة من الجبس لوجه مختار ويده اليمنى قام بصبهما زميله النحات أنطون حجار لحظة وفاته.







 أما المقبرة فبها تمثال نصفي لمختار نحته أيضًا أنطون حجار، ونحت بارز لوجه مختار من أعمال الفنان عبد القادر رزق، كما أهدى زميل دراسة مختار وصديقه الفنان الرائد يوسف كامل لوحة زيتية لمجموعة من الزهور إلى المتحف لتوضع في المقبرة، فقد جرت العادة في كل عام أن يحيي المتحف ذكرى ميلاد مختار وذكرى رحيله بحضور أفراد من أسرته وبعض أصدقائه وتلاميذه، ويضع الجميع بقات الزهور على المقبرة، وفي مرة من المرات قرر الفنان يوسف كامل أن يحمل معه لوحة الزهور بدلًا من الباقة، لتظل هذه اللوحة خالدة على جدار المقبرة.

مقالي المنشور بمجلة الثقافة الجديدة.

 

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...