الأربعاء، 7 سبتمبر 2022

خمسين سنة جامعة – جزء أول

 

خمسين سنة جامعة – جزء أول

عماد أبو غازي

في شهر سبتمبر ١٩٧٢ من خمسين سنة وصلتني بالبريد بطاقة الترشيح اللي كان بيرسلها مكتب التنسيق، واللي بتبتدي بيها اول خطواتنا في الجامعة، رغم اننا بنكون عرفنا النتيجة من الجرايد اللي كانت بتعلن الحد الادنى للقبول في كل كلية من الكليات بعد انتهاء المرحلة الأولى. لكن بطاقة الترشيح هي المدخل للجامعة.



بطاقة الترشيح

المدة بين تقديم ملفاتنا في مكتب التنسيق اللي كان مكانه في المدينة الجامعية وبين وصول بطاقات الترشيح لنا كانت حوالي شهر. 

ايصال استلام الأوراق


بطاقة الرغبات نسخة يحتفظ بيها الطالب

يوم التقديم في مكتب التنسيق كانت المرة الأولى اللي ادخل فيها جامعة القاهرة ومدينتها الجامعية. بالنسبة لي كانت فخامة مباني الجامعة مبهرة. وكمان مباني المدينة الجامعية. من يوم ما دخلت من باب الجامعة في اغسطس ١٩٧٢ حسيت ان ده المكان اللي المفروض اقضي فيه عمري كله.


مبنى الكلية (صورة قديمة)

 بعد استلام بطاقة الترشيح بدأت اجراءات الكشف الطبي، الكشف الطبي للجامعة كان في مكان قرب ميدان الجيزة في شارع قرة بن شريك. اظن انه كان مكتب صحة الجيزة.

في سنة ١٩٧٢ كانت الدراسة مؤجلة لنص أكتوبر، اعتقد كان اول يوم في الدراسة ١٤ اكتوبر.

يوم الخميس السابق على بداية الدراسة رحت الكلية علشان ادفع المصاريف واستخرج الكارنيه وكانت المصاريف حوالي ٤ جنيه، كنا في رمضان وقفنا في الطابور من الساعة ١١ خلصنا قبل المغرب بربع ساعة، خرجت اخدت تاكسي لبيت جدتي في المنيل يدوب لحقت ميعاد الفطار، عددنا ما كانش كبير لكن الصراف وقتها، الحاج لطفي الله يرحمه، زي ما عرفنا اسمه وعرفناه بعد كده، كان خطاط في نفس الوقت، فكان بيكتب الايصالات على مهله وبخط واضح مقروء لا يقارن بخط الصرافين الحكوميين، فكان طبيعي نقعد من قبل الظهر لقرب المغرب، الحاج لطفي كان صراف الكلية وفي الوقت نفسه كان طالب معانا بيكمل دراسته الجامعية والتحق بقسم اللغة العربية.





يومها في الطابور اتعرفت على اول صديقين لي في الكلية، اسماعيل عبد العزيز وأحمد عبد الحكيم، او احمد الشاعر زي ما كنا بنسميه، لانه كان بيكتب شعر، ولسه عندي بعض القصايد اللي كتبها بخط ايده، استمرت صداقتنا طول سنين الدراسة، واستمرت صداقتي مع اسماعيل لغاية النهاردة حقيقي بقالنا سنين ما اتقبلناش، لكن متواصلين على الفيسبوك لغاية دلوقتي.



زميلي وصديقي إسماعيل عبد العزيز شطا

اول يوم في الدراسة السبت ١٤ أكتوبر ١٩٧٢ اذا كانت الذاكرة لسه سليمة، رحت الكلية بدري مع اصدقاء المدرسة اللي دخل كل واحد فينا كلية اللي متأكد انهم كانوا معايا كارم زيدان اللي دخل اعلام وسعد نعمان عاشور اللي دخل تجارة واعتقد رحنا لنجاد البرعي في كلية حقوق.

                                                                     

 كارم زيدان



سعد نعمان عاشور

 لفينا على كليتنا، كلية الآداب كانت الأكثر ترحيبا بالطلاب الجداد، اولا موقعها بيخلي مبناها الرئيسي منور بنور الدنيا الطبيعي من الصبح، وبعدين الكلية (اتحاد الطلبة واعضاء هيئة التدريس والادارة) بتستقبل العام الجامعي الجديد والطلاب الجداد اللي بينضموا للحياة الجامعية لاول مرة بالزينات والبالونات ولافتات الترحيب، وفي كل مكان بنلاقي جداول الدراسة متعلقة، وبنلاقي طلاب من الدفعات القديمة ومعيدين وموظفين من الكلية واقفين يرشدونا ومعاهم نسخ من جداول المحاضرات. ومن توزيعنا على المجموعات، فاكر يومها شفت الطالب محمد الشبة لاول مرة وكان في اخر دفعة في قسم الصحافة، وكان رئيس اتحاد الطلاب، بعد كده اصبحنا اصدقاء لغاية النهاردة، وكان من اللي بيستقبلونا بعض المعيدين، اللي بعد كده اصبحوا اساتذة في الكلية.

الساعة ١١ كان فيه لقاء مفتوح مع عميد الكلية للترحيب بالطلاب الجدد في واحد من المدرجين الرئيسين في الكلية، مدرج 74، وقتها كان بيحمل اسم الشهيد عبد الحكم الجراحي شهيد الحركة الطلابية في انتفاضة نوفمبر ١٩٣٥، واللي كان طالب في كلية الآداب، والمدرج الرئيسي التاني، مدرج 78 كان اسمه مدرج عمر شاهين، شهيد المقاومة الشعبية في القناة في معارك الفدائيين اللي ابتدت بعد الغاء النحاس باشا لمعاهدة ٣٦ في اكتوبر سنة ١٩٥١ واستمرت لغاية حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢، وعمر شاهين كان برضه طالب في كلية الآداب.


الشهيد عبد الحكم الجراحي


الشهيد عمر شاهين

عميد الكلية الدكتور يحيى هويدي استقبلنا بكلمة ترحيب عرفنا فيها بالكلية، وخلنا نشعر بالفخر للانتماء لها، كلمنا عن طه حسين ودوره في الثقافة المصرية، وان دي كلية طه حسين، كلمنا عن ان دراستنا بتعلمنا حرية التفكير، والتفاعل مع الحياة، ان الجامعة مش محاضرات فقط، لكن حياة جامعية كاملة، بحث ومكتبة وتفاعلا مع اساتذتنا وانشطة طلابية، قال لنا ان تذوق الحياة بكل ما فيها هو جزء من دراستنا.


طه حسين

الدكتور يحيى هويدي

 بعد ما كان تعلقي بالكلية، تعلق بالمبنى تحول الى تعلق بالمعنى وبالقيم اللي دراساتنا في كلية طه حسين بتغرسها جوانا، قيمة الحرية، قيمة إعمال العقل، قيمة الاستنارة. خرجت من لقاء الترحيب أكثر تمسكا بان حياتي ترتبط بالكلية دي.

السنة الأولى وقتها كانت الدراسة فيها عامة، وكنا بنتخصص من السنة التانية، الدفعة كانت حوالي ٢٠٠٠ طالب وطالبة، ودي كانت أكبر دفعة تدخل الكلية وقتها، المحاضرات العامة كنا مع بعض كلنا، لكن كنا متقسمين لسبع مجموعات (سكاشن بلغة الطلبة) في فصول التطبيقات في اللغة العربية واللغة الانجليزية، واللغة الفرنسية كانت مجموعات فقط، المحاضرات العامة كانت اللغة العربية واللغة الإنجليزية والتاريخ والفلسفة والجغرافيا والاجتماع، والمادة القومية، وبعدين كان فيه مادة اختيارية، بنختار من بين مواد الحضارة ومواد اللغات الشرقية واللغات القديمة، وهنا بتنقسم حسب اختياراتنا.

درس لنا في السنة الأولى مجموعة من أكبر أساتذة الكلية، في اللغة العربية درست لنا الدكتورة سهير القلماوي ودرس لنا كمان الدكتور عبد الحميد يونس والدكتور يوسف خليف والدكتور حسين نصار، وفي اللغة الانجليزية الدكتور رشاد رشدي، وفي التاريخ الدكتور حسن محمود والدكتور السيد رجب حراز، كان المفروض ان الدكتور محمد أنيس هو اللي يدرس لنا لكن ترك المادة للدكتور حراز، وفي الجغرافيا الدكتور محمد صبحي عبد الحكيم، في الفلسفة الدكتور يحيى هويدي، وفي الاجتماع الدكتورين أحمد ومصطفى الخشاب، وافتكر ان المادة القومية درسها لنا في السنة دي الدكتور عاطف غيث.









اما المجموعات في اللغة العربية فكان بيدرسها لنا المدرسين اللي أصبحوا بعد كده الأساتذة الكبار في القسم، زي الدكتور عبد المنعم تليمة والدكتور عبد المحسن طه بدر والدكتور أحمد مرسي والدكتور جابر عصفور والدكتور طه وادي. ومجموعات اللغة الإنجليزية وكنا بندرس فيها قواعد ونصوص أدبية ونصوص للفهم.







الكلية كانت بتشتغل من الساعة ٨ صباحا للساعة ٨ مساء. وكمان المكتبة المركزية كانت فاتحة لغاية ٨ مساء، كنا ندخل قاعات الاطلاع ما نسمعش صوت زي ما بيقولوا نرمي الابرة ترن. ما فيش استاذ او موظف او طالب يتكلم بصوت عالي، لو الواحد عمل صوت وهو بيقلب الورق بتاع الكتاب يبقى في ربع هدومه.

كانت فيه ساعات بين المحاضرات احيانا بتوصل لست ساعات. انا فاكر يوم السبت والتلات تحديدا كان عندي ساعات طويلة فاضية بين المحاضرات. كنا بنقضيها بين الانشطة الطلابية والمكتبة وكافتيريا الآداب اللي كانت من أشهر كافيتريات الجامعة واتصور فيها افلام كتير منها وقتها فيلم خلي بالك من زوزو. وكان ايجار الكافيتريا بيدخل لاتحاد الطلبة لدعم ميزانيته. الكلية والجامعة كلها كانت مكان مرحب بالطلاب. بنعيش فيها حياة كاملة.

ولحكايات الخمسين سنة بقية


السبت، 13 أغسطس 2022

اليوميات وإعادة كتابة تاريخ مصر الحديث

 

اليوميات وإعادة كتابة تاريخ مصر الحديث

عماد أبو غازي

  "تقديمي لكتاب مصر الريفية في أواسط القرن العشرين قراءة في مفكرات جدي للدكتور أحمد جمال الدين موسى، التقديم واحد من مجموعة تقديمات للكتاب من أصحاب تخصصات مختلفة... الكتاب يصدر قريبًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب."

غلاف الكتاب

يقدم لنا الدكتور أحمد جمال الدين موسى في هذا الكتاب قراءة في مفكرات جده الحاج موسى أحمد السيد منسي، الذي ولد في قرية من قرى محافظة الدقهلية عام 1896، وتوفي في عام 1964، وتضم هذه المفكرات يوميات تبدأ في عام 1926، وتنتهي قبل وفاة صاحبها بشهر تقريبًا.

 وإذا كانت مصادر كتابة التاريخ تتنوع تنوعًا كبيرًا وفقًا لموضوعات البحث وللعصور التاريخية التي نتعامل معها وللمناهج التي نتبعها في تحليل الظواهر التاريخية التي ندرسها؛ فإن المذكرات الشخصية واليوميات تعد أحد المصادر المهمة لدراسة التاريخ، وفي حالة مصر تزداد قيمتها وأهميتها كمصدر لدراسة تاريخنا الحديث والمعاصر، بسبب غياب الوثائق في كثير من الأحيان، إما بفعل غياب الوعي الأرشيفي أو بسبب قيود الإتاحة.

ويثير موضوع المذكرات الشخصية عدة تساؤلات أولية حول ما يمكن أن يوصف بأنه مذكرات، ومدى مصداقية هذا النوع من الكتابات، وإمكانية الاستناد إليها كمصدر يُوثق به لدراسة التاريخ، والحقيقة أنه منذ بدأ هذا النوع من الكتابات يعتمد كمصدر للدراسة التاريخية لدى باحثينا أثار نقاشات عدة بين المتخصصين، تحول بعضها إلى معارك فكرية وسياسية.

 وهناك عدد كبير من المذكرات التي كتبها سياسيون ومسؤولون في الدولة ومصريون ومصريات شاركوا في العمل العام بصور مختلفة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد أصبح كثير منها متاحًا ومنشورًا، وما زال بعضها مخطوطًا يحتاج لنشره، بل ما زلنا نكتشف مذكرات ويوميات جديدة لم تكن معروفة.

 كذلك هناك مذكرات ويوميات كتبها أشخاص بعيدون عن العمل العام، تكتشف بالمصادفة، قد تكون في أحيان كثيرة غنية بالمعلومات الجديدة، وتشكل مصدرًا مهمًا للتعرف على رؤى مختلفة للأحداث الكبرى فهي تكشف عن رؤية الأحداث من زاوية بعيدة عن تلك التي يراها منها المشاركون فيها، وتقدم هذه المذكرات مجتمعة مادة غنية للباحث وتكشف جوانب خافية في تاريخنا السياسي والاجتماعي والثقافي، واليوميات التي بين أيدينا تنتمي إلى هذا النوع الأخير.

 وتعتبر المذكرات الشخصية أو اليوميات نوعًا من أنواع الكتابة عن الذات أو من خلال الذات، هناك أنواع متعددة من الكتابة عن الذات، مثل: السيرة الذاتية والسيرة الذاتية ذات الطابع الأدبي والذكريات، بالإضافة إلى أدب الرحلة الذي يسجل فيه كاتبه نشاطًا محددًا مارسه في مرحلة من حياته؛ وهناك كذلك ما يسمى بالمذكرات، ويمكن أن نميز فيما يطلق عليه مسمى المذكرات بين شكلين مختلفين تمامًا: الأول الذكريات والثاني اليوميات، ورغم أن كلاهما يحمل مسمى المذكرات إلا أن هناك اختلافات جوهرية بينهما.

وهناك فروق واضحة بين هذه الأنواع التي تندرج تحت عنوان الكتابة عن الذات، من حيث سياق انتاجها، وأسلوب كتابتها، وفي القصد من وراء تدوينها، وفارق في موضعها بين أنواع السرد المختلفة، وفي موقعها بين مصادر دراسة التاريخ، وفي قيمتها كمصدر أولي لكتابة التاريخ، فضلًا عن التفاوت الزمني بين ظهور هذه الأنواع عمومًا، وظهورها ورسوخها في الثقافة العربية والمصرية بشكل خاص؛ وقد ظهرت جل هذه الأنواع منذ القرن التاسع عشر بين المصريين، وبين بعض من عاشوا في مصر وعملوا فيها لفترات متفاوتة.

 بين كل هذه الأنواع هناك نوع يعتبر الأكثر أهمية ومصداقية كمصدر أولي لدراسة التاريخ، إنه اليوميات التي يدون فيها صاحبها ما يفعله ويقع له وما يمر به في حياته يومًا بيوم، أو يقوم بالتدوين بشكل متقطع كل عدة أيام على فترات متقاربة، وبعض هذه اليوميات تبدأ مع بداية ارتباط صاحبها بالعمل العام، أو مع وصوله لسن معين، أو مع مناسبة أو حدث أثر في حياته، وقد يبدأ صاحب اليوميات بموجز لحياته قبل بدأ تدوين يومياته، وبعض أصحاب اليوميات يلتزم بالتدوين دون توقف، بينما نجد أن آخرين يتوقفون لفترات عن التدوين ثم يعودون إليه ثانية، وبعض هذه اليوميات قصد بها أصحابها أن تنشر في حياتهم أو بعد وفاتهم، والبعض الآخر كان يكتب يومياته لنفسه فقط، أو هكذا يبدو لنا، أي أننا أمام يوميات مقصودة كمصدر للتأريخ وأخرى غير مقصودة، وهذا النوع الذي لم يقصد به أصحابه النشر يكون أكثر مصداقية عادة.

 هذا ويختلف الباحثون حول اعتبار اليوميات مادة وثائقية، فبينما يذهب بعض المؤرخين إلى اعتبارها نوعًا من الوثائق الخاصة، يرى الأرشيفيون أن المعايير العلمية للوثيقة الأرشيفية لا تنطبق عليها، وأنها أقرب للإنتاج الفكري الذي ينبغي أن يحفظ في المكتبات، وربما يرجع جذر هذا الاختلاف إلى فهم المصطلح لدى كل طرف.

 فتعريف الوثيقة لغة هي ما يحكم به الأمر، وهي المستند وما جرى مجراه، أي أن المعنى اللغوي للكلمة يتضمن إشارة إلى الشيء الذي يرجع إليه ويعتد به في تحديد الأمور المختلفة بشكل عام، ومن هنا يمكن أن نطلق المصطلح على مستند قانوني أو إداري أو علمي، لكن المعنى الاصطلاحي للوثيقة في مجال دراسات الوثائق والأرشيف أكثر تحديدًا، حيث يقصد بها: المكتوب أو المستند الذي تمت صياغته في قالب أو شكل خاص، الذي ينتج كإفراز طبيعي من خلال ممارسة البشر أفرادًا ومجتمعات لنشاطهم اليومي، ويتضمن فعلًا قانونيًا أو واقعة قانونية أو عملًا إداريًا.

أما التعريف المعجمي لليوميات فيعرفها بأنها السجل الذي يدون فيه الشخص انطباعاته يوميًا، وهي المذكرات التي يدونها صاحبها يومًا بعد يوم، فهي نصوص دونها أصحابها بشكل قصدي ليسجلوا ما يمروا به في حياتهم العامة أو الخاصة أو كلتاهما يومًا بيوم، وفي التعريفات الاصطلاحية "عبارة عن محكي حميمي وشخصي، يكتب من يوم لآخر، ليس محكيًا استعاديًا إذ لا يتيح للمؤلف إمكان اتخاذ مسافة من الأحداث المروية،" كما تُعرّف بأنها "متوالية من النصوص، تكتب بشكل يومي، غير محددة بزمن معين، تبدأ أو تذيّل بتاريخ اليومية، يتم فيها تقييد الأحداث أو المواقف أو المقابلات أو الانطباعات والآراء، من وجهة نظر معينة، تختلف باختلاف الاهتمامات والأهداف"؛ أي إنها كتابة حرة لا تخضع لقالب محدد في صياغتها، ولا تهدف لإثبات الحقوق القانونية أو إنشائها، كما أنها لا تنظم عملًا إداريًا، وليس هناك إلزام بكتابتها.

 وقد ارتبط ظهور الدراسات الوثائقية الحديثة في أوروبا بالتحديث وبظهور الدولة القومية بشكل أساسي، ويشمل هذا الأمر الدراسات الوثائقية بشقيها؛ أي اتخاذ الوثيقة موضوعا للبحث من جانب، واعتمادها مصدرًا للمعلومات خاصة في مجال الدراسات التاريخية من جانب آخر، ولا يختلف الحال في العالم العربي عنه في أوروبا؛ فقد بدأ الاهتمام بحفظ الوثائق ثم استخدامها كمصادر للدراسة التاريخية مع تكوين الدولة الحديثة ومؤسساتها وظهور الأفكار القومية، كما ارتبط كذلك بموجة المد الاستعماري الأوروبي الزاحف على المنطقة العربية وما صاحبه من اهتمام استشراقي بدراسة المنطقة وتاريخها.

  وهي الفترة ذاتها التي بدأ فيها الاهتمام بالمذكرات الشخصية واليوميات والكتابات عن الذات عمومًا، فقد ارتبط هذا الاهتمام بالتحولات المصاحبة بالتحديث والحداثة، وإن تأخر الاهتمام بها لدينا عن الاهتمام بالوثائق قليلًا، ورغم أن بعض أشكال الكتابة عن الذات قديمة ترجع إلى ما قبل الحداثة بكثير، في معظم الثقافات الإنسانية بما فيها الثقافة العربية، فإن التعامل معها كمصادر للتاريخ بعد أن تحول إلى علم أمر حديث، مثلما الحال مع الوثائق الأرشيفية.

 وربما يرجع حرص بعض المؤرخين على اعتبار المذكرات واليوميات نوعًا من الوثائق إلى حالة "الولع بالوثائق" التي أصابت المؤرخين منذ تحول الوثائق إلى مصدر لدراسة التاريخ، وشاعت معها مقولات مثل "الوثائق أصدق مصدر لكتابة التاريخ"، "لا تاريخ بدون وثائق"، وربما من هنا جاء الخلط في توصيف كل مصدر من مصادر دراستنا للتاريخ بأنه وثيقة تاريخية، والحقيقة أن الوثائق تكذب مثلها مثل غيرها من مصادر دراسة التاريخ، كما أن مصادر التاريخ متعددة ومتنوعة لا تقتصر على الوثائق.

 لو استخدمنا المصطلحات العلمية فلا يمكن أن نصنف اليوميات باعتبارها وثائق، لكن هذا لا ينفي أهميتها كمصدر أولي لدراسة التاريخ مثلها مثل الوثائق القانونية والإدارية التي تحتفظ بها الأرشيفات، بل ربما تفوقها أهمية في بعض الحالات، وتعلو عليها في درجة الصدقية؛  ومن الجدير بالملاحظة أننا في مصر نحفظ المذكرات التي تقتنيها الدولة في دار الوثائق القومية في إدارة الوثائق الخاصة، وقد قام مركز وثائق وتاريخ مصر الحديث والمعاصر، أحد المراكز البحثية بدار الكتب والوثائق القومية منذ الستينيات بنشر بعض ما لديه من مذكرات وأوراق شخصية، لكننا ما زلنا نكتشف كل يوم جديدًا في أوراق العائلات، ومن بين هذا الجديد هذه اليوميات التي يقدم لنا الدكتور أحمد جمال الدين موسى قرأته فيها.

إن هذه اليوميات تعد مصدرًا مهمًا لكتابة التاريخ، وللتعرف على ما وراء الأحداث الكبرى وعلى تفاصيل ما يدور في الكواليس وخلف الأبواب المغلقة، خاصة إذا كان صاحب اليوميات لا يقصد نشرها، هذا فضلًا عما تقدمه من تفاصيل للحياة اليومية لأصحابها وأسرهم، وتزداد قيمتها إذا كان من يكتبها بعيدًا عن العمل العام، فهي في هذه الحالة تقدم لنا رؤية للتاريخ من أسفل كما يقولون.

 ولا شك أن اليوميات التي لا يقصد بها أصحابها أن تنشر للرأي العام تكون أكثر صدقًا، وأكثر قيمة للبحث التاريخي، ولعل مذكرات سعد زغلول من أصدق المذكرات التي وصلتنا، وأكثرها تلقائية، حيث لم يكن هدف سعد من تدوينه على الأقل في بداية الأمر أن ينشرها، كما أنه لم يغير فيها عندما أوصى بإمكانية نشرها، ويضاهي مذكرات سعد زغلول في مصداقيتها يوميات راغب إسكندر الذي كان يكتب بتلقائية شديدة، سواء في الأمور السياسية العامة أو في الأمور المتعلقة بحياته الشخصية والأسرية، وفضلًا عن تلقائية الرجل في التدوين وعدم مراجعته لما يكتبه فإنه يكشف عن كثير من تفاصيل السياسة المصرية في سنوات الثورة الأخيرة، 1922 إلى 1924، وهذا لا يعني أن المذكرات التي يكتبها صاحبها واضعًا نصب عينيه من البداية الجمهور الذي سيقرأها مثل مذكرات أحمد شفيق غير مهمة، لكن على الباحث في التاريخ أن يتعامل معها واضعًا في اعتباره هذا الأمر.

 ويدفعنا هذا إلى التساؤل حول أخلاقيات التعامل مع المذكرات ونشرها، هل يجوز حجب بعض الفقرات أم لا؟ سواء لمن يتاح لهم الاطلاع على المذكرات من المقربين من كاتبها، أو ممن يقومون بنشرها؟ وإذا كان هذا الأمر غير جائز بالنسبة للمذكرات واليوميات التي كتبها أصحابها بهدف النشر، فهل يجوز ذلك في المذكرات التي لم يقصد بها أصحابها أن تنشر وكانوا يكتبونها لأنفسهم؟ هل إذا كان في المذكرات غير المعدة للنشر ما قد يسيء لصاحبها أو ينتقص من قدره، يمكن أن نحذف أو نحجب أجزاء من المذكرات مثلما فعل عبد الرحمن الرافعي وآخرون مع مذكرات محمد فريد؟

 وقد طرح الدكتور أحمد جمال الدين موسى على نفسه هذا السؤال عندما فكر في نشر يوميات جده، الإشكاليات الأخلاقية في نشر اليوميات بدون إذن صاحبها أو معرفة نيته أو رغبته في اطلاع الغير عليها.

وقد اختار في نهاية الأمر طريقًا وسطًا، فهو لم ينشر اليوميات نشرًا كاملًا، إنما قدم قراءة فيها، واستبعد بعض أجزائها، وحذف بعض الأسماء في حالات محدودة لعدم الأهمية، أو لتجنب احتمالات التسبب في الإساءة أو الحرج لأحفادهم، كما في حالات وقائع السرقة وغيرها من حوادث الريف.

 وقدم لها بمقدمة وافية، كما أعاد تبويب النص وفقًا للموضوعات المختلفة التي تعرضت لها اليوميات، فقسمها إلى عشرين فصلًا، تعكس واقع هذه اليوميات وتكشف عن الجوانب المختلفة في حياة صاحبها، وربط بين أحداثها ربطًا سلسًا، جعلنا أمام نص مشترك بين الجد والحفيد، وجاءت هذه القراءة الواعية لتقدم لنا صورة صادقة عن تحولات الريف المصري على مدى قرابة أربعين عامًا شهدت خلالها مصر تحولات مهمة وفارقة سياسيًا، واقتصاديُا، واجتماعيًا، وثقافيًا.

 فمصر في سنة 1926، ملكية دستورية شبه ليبرالية، خرجت من ثورة شعبية استمرت لخمس سنوات متوالية، يتصارع فيها على السلطة ثلاثة أطراف: الوفد حزب الأغلبية الذي يتمتع بشعبية جارفة، والملك الساعي لتقويض الدستور، وبريطانيا التي تلعب دورًا حاسمًا في السياسة المصرية مستندة لوجود قواتها في مصر، ويسيطر كبار الملاك على الحياة السياسية ويتولون قيادة معظم الأحزاب ويستحوذون على القسم الأكبر من الفائض الاقتصادي، والأجانب يتمتعون بنظام الامتيازات، ومع ذلك كانت البلاد تخطو خطوات كبيرة على طريق التحديث والسعي للاستقلال التام والنظام الديمقراطي السليم، ومصر سنة 1964 جمهورية نظامها شمولي، بها تنظيم سياسي وحيد، ودعت حلم الديمقراطية، شهدت تحولات اقتصادية واجتماعية مهمة مع قوانين الإصلاح الزراعي وسياسات التمصير والتأميم، وشرعت في التوسع في القاعدة الصناعية، وبين العامين كانت قد جرت في النهر مياه كثيرة.

 فضلًا عما تقدمه هذه اليوميات من صور متعددة لجوانب من الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في قرية من قرى ريف الدلتا وما جاورها في الفترة من العشرينيات حتى الستينيات من القرن الماضي من خلال نشاط صاحب اليوميات وملاحظاته، فإن اليوميات تقدم كذلك متابعة للأوضاع العامة في مصر وتطور الأحداث الكبرى فيها وخارجها وانعكاسها على حياة الناس، وعن بعض الأحداث في صعيد مصر، بل وبعض الأمور خارجها من خلال تحركات أفراد العائلة وتنقلاتهم بسبب ظروف العمل، كذلك قدم الدكتور أحمد جمال الدين موسى في تقديمه لقراءته في اليوميات ملاحظات مهمة عن تطور أدوات الكتابة، من خلال الشكل المادي للمفكرات والأقلام المختلفة المستخدمة للتدوين فيها، بدءًا من القلم الكوبية، مرورًا بالريشة ثم القلم الحبر، وأخيرًا القلم الجاف، وهذا التطور يعكس تطورًا في ممارسات الناس في تلك السنوات الممتدة، وتغيير في أساليب حياتهم اليومية.

 اليوميات تبدأ بمفكرة سنة 1926 وتتوقف يوم الأحد 6 سبتمبر 1964، في ذروة مرض الشيخ موسى، والتي دون فيها عن حالته الصحية فكتب "قوى واهنة وأعضاء متراخية ورأس تدور، وكأني لا أقدر على حملها ونفس يضيق به الصدر. كل يوم يمر كأنه أضعف مما قبله. ولا أدري والله أمر من هذا أم انحلال جسماني. إليك أشكو يا مولاي وابتهل إن كان في الأجل بقية فأشفني وعافني، وإن كان هذا نذير الرحيل، فعفوًا ومغفرة وصفحًا. وفي كلتا الحالتين أطمح في رحمتك، فلا تحرمني منها يا رب العالمين".

 وفي يوم الجمعة 2 أكتوبر 1964 كتب الابن عبارة تفيد وفاة والده، صاحب اليوميات، فكتب: "في صباح هذا اليوم وفي نحو العاشرة صباحًا، انتقل إلى رحمة ربه الواسعة الوالد الشيخ موسى أحمد المنسي بعد حياة حافلة بأعمال البر والخير، فاللهم ارحمه برحمتك الواسعة، واجمعنا به في جنات الخلد يا رب العالمين. عبد الفتاح".

 وقد رصد الدكتور أحمد جمال الدين موسى فقدان مفكرات تسع سنوات متفرقات، وهي خسارة كبيرة، خاصة أن بينها سنوات شهدت أحداثًا مهمة في تاريخ مصر والعالم، مثل عام 1935 الذي عاد فيه دستور 1923 بعد انتهاء أطول انقلاب دستوري في تاريخ مصر في الحقبة شبه الليبرالية، وعام 1939 الذي بدأت فيه الحرب العالمية الثانية، وعام 1942 الذي وقعت فيه حادثة 4 فبراير الشهيرة، وكذلك انتصار مونتجومري في العالمين، فبلا شك كنا سنجد في مفكرات هذه السنوات تعليقات كاشفة عن رؤية ما كان يحدث.

 كما لاحظ كذلك وجود فراغات في مفكرات أخرى تستمر عدة أسابيع، وأحيانًا عدة شهور، وهذا أمر معتاد في كثير من اليوميات، لانشغال صاحبها في بعض الفترات وتوقفه عن الكتابة، وفي بعض الأحيان يلجأ أصحاب اليوميات إلى كتابة مختصر للفترات التي توقف فيها عن الكتابة أو يقدموا تفسيرًا لتوقفهم بين التاريخين.

***

 إننا أمام يوميات لرجل ينتمي إلى الطبقة الوسطى الريفية، تعلم تعليمًا أزهريًا، وعمل كمعلم بالمدرسة الأولية في قريته، ثم تولى إمامة وخطابة مسجدا الكبير، وعمل مأذونًا شرعيًا للناحية. وامتلك أرضًا زراعية، كان مراعيًا لها دومًا، كما اشتغل بالتجارة.

 يقدم الرجل نفسه في افتتاح التدوين في واحدة من مفكراته على النحو التالي: "هذه المفكرة تخص الفقير إلى الله الغني المغني موسى أحمد السيد منسي من المقاطعة مركز السنبلاوين دقهلية، ومأذون الشرع الشريف وأحد التجار وخطيب وإمام بالبلدة المذكورة، أصلح الله أحواله وبلغه في الدارين آماله، ووفقه لما يحبه ويرضاه، واجعله يوم القيامة من حزب لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم آمين. الكتابة في هذه المفكرة عبء علي، فأعني من كل نبع قطرة ومن كل شجرة ثمرة".

 ولا شك أن تعدد مسارات حياته تكسب هذه اليوميات قيمة فوق قيمتها، فهي تقدم لنا تفاصيل كثيرة عن كل مجال من مجالات نشاطه.

 ففي مجال الزراعة هناك الكثير حول تعاملات المزارع مع الجهات الحكومية، فالشيخ يدون في يومياته بشكل دقيق كل ما يطلبه من بذور وتقاوي وأسمدة ومبيدات، وأسعارها، والإجراءات المتبعة للحصول عليها، ونستطيع أن نتعرف من خلالها على مدى كفاءة الجهاز الحكومي وسرعته في الأداء، ونلاحظ كيف بدأ تدهور الأوضاع في الخدمات الزراعية اعتبارًا من 1954، فيحدث تأخير في توريد البذور، مع زيادة خيالية في أسعار التقاوي.

 كما يرصد المشكلات المتعلقة بمياه الري، وموجات هجوم الآفات الزراعية، وهذا مثال لما كتبه في يوميات الأحد 30 يوليو 1961: "آيات من الله تتوالى وحسرات من القلوب تتصعد، فتزفر الحميم والجحيم. آفات زراعية أكلت الأخضر واليابس، وغلاء في أسعار الحبوب، حتى أصبح الفقير لا يجد 65 قرشًا ليدفعها ثمن كيلة ذرة واحدة، وجفاف للمياه من جميع مصادرها، حتى كاد الهلاك يعم الإنسان والحيوان والزروع. وليست لنا حيلة إلا الالتجاء إلى الله والتضرع إليه أن يمد إلينا يده الرحيمة، فينقذنا ويعافينا ويرفع عنا ما نزل بنا، إنه بالمؤمنين رؤوف رحيم".

 ونتعرف على بعض أشكال علاقات العمل في الزراعة في هذا الوقت، والنظام المتبع فيها، حيث كان يتبع نظام المزارعة الذي يقوم على الشراكة بين صاحب الأرض والفلاح المزارع، كذلك نتتبع أسعار الأراضي الزراعية، حيث تكرر بيعه وشرائه لمساحات من الأرض، وفي كل مرة كان يسجل سعر الفدان بدقة.

 ويرتبط بنشاطه الزراعي تربية الماشية والدواجن والنحل، وتقدم لنا اليوميات تفاصيل مهمة عن الأسعار، ومتطلبات هذا النشاط الريفي من تجهيزات وعمالة.

 وتقدم لنا اليوميات نشاطه التجاري في القرية، والسلع المتنوعة التي كان يتاجر فيها، ومصادر حصوله عليها من المنصورة والسنبلاوين، وأحيانًا من متاجر كبيرة في القاهرة، مثل أورذدي بك، الذي أصبح عمر أفندي فيما بعد، وتكشف هذه التدوينات في اليوميات عن تطور الأسعار، وعن موجات الغلاء والتضخم والكساد، وعلاقة كل هذا بالأوضاع على الساحة الدولية؛ واستشهد هنا بعدة تدوينات في عامين متواليان، تكشف عن تأثر السوق المحلي بالمتغيرات في الأسواق العالمية.

 فكتب في 14 مارس 1946: "سافرت إلى السنبلاوين لمشتري بضاعة للدكان، ومنها إلى المنصورة. وقد لفت نظري ورود بضائع في السوق لم تكن موجودة من قبل ورخص أسعارها، مثل وابور بريموس ولوازمه، وأجهزة راديو كثيرة، وأكواب وأواني زجاجية واردة من أمريكا، أصلح الله الأحوال".

 وفي 21 يناير 1947 كتب: "سافرت إلى السنبلاوين لمشترى بضاعة، وأثمان المني فاتورة في هبوط محسوس، وحالة السوق في الأخذ والعطاء تكاد تكون متوقفة"؛ ثم في 25 يناير: "نزول مستمر في أسعار المني فاتورة بواقع نحو 30 في المائة عن الأسبوع الماضي"، وفي 11 فبراير: "سوق المني فاتورة فاترة، بل وواقعة، وقل الأخذ والعطاء والأمر لله سبحانه وتعالى"؛ ثم في 1 مارس: "هبوط مستمر في معظم الأثمان، وخصوصًا المني فاتورة وفي الحاجيات العامة، ونسأل الله النجاة والسلامة"؛ وفي 15 يوليو كتب: "ارتفاع في ثمن المني فاتورة والبقالة بخصوص تغيير نظام العملة بالإسترليني".

 كذلك نتعرف من خلال اليوميات على الإجراءات اللازمة لفتح المتجر في ذلك الزمن، وما كان يحتاج إليه من تصاريح، والجهات التي تتولى التفتيش على التزام المتجر بالشروط الصحية، ونتعرف كذلك على إجراءات التعامل مع التموين عندما أصبح متجره ضمن المتاجر التي تتولى توزيع الحصص التموينية، والمشاكل التي واجهته بسبب ذلك.

 ومن الطرائف المرتبطة بعمله في التجارة، ضمن ما كتبه في يوميات شهر أبريل 1943؛ طرفة سطو الفئران على الدكان، والتي أبرزها الدكتور أحمد جمال الدين موسى بين ما اختاره من تدوينات، فكتب في يوم الأربعاء 21 إبريل 1943: "اكتشفت سطو الفئران على درج به جزء من النقدية المدخرة. وقد أكلت ورقة مالية بمبلغ مائة جنيه، ولم يبق إلا ثلثها، كما أنها نقلت من درج إلى آخر عدة أوراق نقدية صغيرة وأكلت منها الكثير"؛ ويضيف في يوم 24: "نشرت جريدة المصري خبر عبث الفئران بأوراقنا المالية. وقد غالت الجريدة بجعلها سبعمائة جنيه، وأدعت بأن النيابة والإدارة حضروا للمعاينة، ولم يحصل شيء من ذلك. وقد صارت هذه المسألة احدوثة في أفواه الكثيرين، وكثرت علينا الأسئلة من كل ناحية، وحضر إلينا بعض الأصدقاء والرفاق يسألوننا حقيقة الأمر". ثم يذكر في 26 إبريل: "سافرت إلى السنبلاوين، وقابلت الحاج صالح عبد الدايم، وقد كنت أعطيته الورقة ذات المائة جنيه لصرفها، والحمد لله قد صرف قيمتها من البنك بعد جهد كما عرفنا، وأصبحت هذه المسألة كأنها منتهية، وإن كانت الرواية أضيف لها فصول وممثلين لا عدد لهم ولا حصر".

  كذلك تتحدث اليوميات عن الإجراءات المرتبطة بعمله كمأذون شرعي، وعلاقته بالمحكمة الشرعية، وما يصادفه من مشكلات في هذا العمل، وتفاصيل علاقة المأذون بالقاضي في المحكمة الشرعية وبجهة الإدارة.

 ومن الأمور اللافتة للنظر في اليوميات المرتبطة بعمله كمأذون شرعي، ما لاحظه في يوليو وأغسطس عام 1960 من زيادة واضحة في حالات الزواج في نطاق القرية والعزب المجاورة لها والتي تدخل في نطاق عمله، ثم تبين لها أن الظاهرة أعم من ذلك عندما اكتشف أن دفاتر عقود الزواج والطلاق قد نفدت من محكمتي السنبلاوين والمنصورة، ونعرف تفسير الظاهرة من يوميات ختام شهر يوليو، التي كتب فيها: "ظاهرة غريبة وإشاعة راجت وقويت بقرب صدور قانون يحرم عقد زواج لمن لم يؤد الخدمة العسكرية أو يعافى منها نهائيًا. وكان من جراء ذلك أن كثرت عقود الزواج على غير قياس، وتهافت الناس على الإكثار والإكثار منها، حتى لم يعد في المحكمة الشرعية دفاتر عقود زواج". ثم في يومية 31 أغسطس 1960، حيث كتب: "اليوم انتهى شهر اغسطس، وقد وقعت فيه ظاهرتان جديرتان بالملاحظة والتسجيل: الأولى كثرة عقود الزواج بما لم يسبق لها مثيل حتى انها جاوزت المعقول، وذلك ناشئ عن إشاعة منع الزواج إلا بعد استيفاء الخدمة العسكرية، وهي إشاعة باطلة. والثانية فراغ معظم الناس من جني أقطانهم على غير العادة".

  كذلك تضمنت اليوميات تفاصيل كثيرة عن جوانب مختلفة من حياة المجتمع الريفي، مثل: المناسبات الاجتماعية والدينية، والأعياد والمواسم والاحتفالات، والنشاط الصوفي، والطقوس المرتبطة بالميلاد والزواج والوفاة، ووسائل الانتقال وتطورها، ووسائل الاتصال الحديثة، كدخول الراديو والتلفزيون والتليفون، كذلك تطور المعمار والصناعة في الريف، كذلك تتحدث اليوميات عن أزمات مرت بها القرية وما جاورها، مثل نقص مياه الشرب، والتقلبات الجوية، كذلك تناول كثير من الجرائم والحوادث التي تقع في القرية، كما تعرضت اليوميات للأوضاع الصحية داخل العائلة، مع إشارات لبعض الحالات العامة مثل حالات الأوبئة التي ضربت البلاد.

وتضمنت اليوميات تفاصيل كثيرة عن رحلات صاحب اليوميات للحج، ورحلات بعض أفراد الأسرة، مما يجعل هذا النص في جانب منه متداخلًا ما بين اليوميات وأدب الرحلة.

 ورغم أن اليوميات تناولت تفاصيل كثيرة في الحياة الاجتماعية والأنشطة الاقتصادية، والحياة الأسرية بالطبع، إلا أن صاحبها يكتب في واحدة من يومياته: "لا أريد أن أخوض في السياسة الوطنية، ولكن أحداثها وخطوبها تفاقمت وتعاظمت"، ومع ذلك وردت في اليوميات أخبارًا متفرقة عن الانتخابات في عصور مختلفة، بداية من التسجيل في قوائم الناخبين سنة 1926 حتى انتخابات مجلس الأمة سنة 1964، كما تعرض لبعض الأحداث المحلية والدولية المهمة، مثل: الانقلاب الدستوري سنة 1930، واخبار الاحتجاجات ضد حكومة إسماعيل صدقي، ووفاة الملك فؤاد، والحرب العالمية الثانية، واغتيال أحمد ماهر، وإلغاء معاهدة 1936، وأزمة مارس 1954، ومعاهدة الجلاء، والعدوان الثلاثي، والوحدة المصرية السورية، وثورة العراق، ثم الانفصال.

 ويتابع صاحب اليوميات أيضًا أحداثًا عالمية علمية مهمة مثل إطلاق الاتحاد السوفيتي أول صاروخ إلى الفضاء، فيكتب في 7 أكتوبر 1957: "تناولت الصحف والإذاعة والأخبار المحلية والأجنبية خبر انطلاق القمر الروسي ببالغ الاهتمام، وإنه لخبر يذهل، وإنه لحادث هام يدعو إلى التفكير العميق والعميق".

   كما تظهر في اليوميات تدوينات كثيرة تتعلق بأصدقائه ومعارفه، ومن بينهم شخصيات لعبت أدوارًا في الحياة العامة، مثل الشيخ محمود شلتوت والشيخ حسنين مخلوف والشيخ أبو الوفا الشرقاوي، هذا بالطبع إلى جانب الحديث عن أفراد أسرته الصغيرة وعائلته الكبيرة، ومتابعته الدائمة لأحوالهم.

 كما تظهر في اليوميات مساحات واسعة من الحوار مع الذات حول قضايا وجودية، وتأملات وخواطر، ومناجاة، ودعاء، واستغفار.

***

 لفت الدكتور أحمد جمال الدين موسى في مقدمته ليوميات جده الانتباه إلى أن تلك اليوميات كاشفة عن حال الريف المصري ثقافيًا في النصف الأول من القرن العشرين؛ وكيف كان الريف منفتحًا على موجات التنوير، فيقول: "هذا ما نراه منعكسا في مفكرات جدي الشخصية؛ فعلى الرغم من أنه لم يسافر قط إلى أوروبا، ولم يتلق غير تعليم أزهري متوسط، وعاش طوال حياته في قرية صغيرة في ريف الدلتا، فإنه كان منفتحًا بقوة على نواتج الموجة التنويرية التي ساهم فيها لطفي السيد والدكتور هيكل وغيرهما."  ويؤكد على أنه "يمكن أن نرصد في مفكرات جدي العديد من أوجه الاهتمام بالمعرفة والشغف نحو التقدم والنهضة"، ويقدم أمثلة عدة على حالة الجد كنموذج دال على ما كان عليه الوضع وقتئذ، مثل الحرص على متابعة الصحافة والاشتراك في مطبوعاتها، والزيارات المتكررة لمعرض الجمعية الزراعية الملكية في القاهرة، وزيارة المتاحف، وحضور العروض المسرحية.

 وهنا يلح علينا السؤال المشروع الذي يطرحه الدكتور أحمد جمال الدين موسى: أين ذهبت هذه الرغبة العارمة في الرقي والتطور التي شغلت المصريين نحو قرن من الزمان؟ ولماذا فشلت النخبة؟

  في الحقيقة أنه بقدر ما تدفعنا هذه اليوميات عبر قراءة الحفيد في مفكرات الجد إلى طرح هذا السؤال، تدفعنا إليه أيضًا نصوص أخرى ظهرت مؤخرًا، أذكر منها ما نشره منذ ثلاثة أعوام الدكتور علي الحفناوي من مذكرات والده الدكتور مصطفى الحفناوي، وما نشرته مؤخرًا الدكتورة سامية محرز عن جدها إبراهيم ناجي من خلال ما وجدته من أوراقه، وأوراق الشيخ أحمد محمد إسماعيل الأمير، التي حققها ونشرها سعد عبد الرحمن مؤخرًا بعنوان التعليم المصري في نصف قرن أفكار وآراء ومقترحات مدرس تعليم أولي، ثم ما صادفته في تحقيقي لمذكرات النفي لمصطفى النحاس والتي صدرت منذ ثلاثة أعوام، وفي مذكرات راغب إسكندر المحامي والبرلماني الذي كان ينتمي إلى الطبقة الثالثة من الوفد المصري، كذلك ما صادفته في كتيب صغير عن تجربة المراكز الريفية التي عرفتها مصر في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، وكل هذه الأعمال تتضمن إشارات واضحة ودالة تؤكد ما جاء في يوميات الشيخ موسى منسي، وما أعرفه كذلك من حكايات عائلتي التي ترجع أصولها إلى ريف الدلتا كذلك، وتنتمي إلى الطبقة الوسطى الريفية، وبين أفرادها نماذج عدة مشابهة لهذا النموذج، كل هذه الشواهد تثبت أن الأمر ليس ظاهرة فردية، بل حالات متكررة، وتجعل الحاجة إلى الإجابة على السؤال الذي طرحه الدكتور أحمد جمال الدين موسى أكثر إلحاحًا، بل وتطرح علينا عدة أسئلة منبثقة من السؤال الأصلي.

 فحقًا، ماذا جرى؟ ولماذا؟ وكيف حدث هذا؟  

***

 ختامًا؛ إن إقدام الدكتور أحمد جمال الدين موسى على تقديم هذه القراءة الشيقة والعميقة والدالة في الوقت نفسه في أوراق جده تعد بحق خدمة للثقافة المصرية عامة وللبحث التاريخي خاصة؛ إننا أمام مصدر مهم للغاية لمن يريد دراسة التطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مصر بين عشرينيات وستينيات القرن العشرين، ولمن يريد أن يدرس تفاصيل الحياة في ريف الدلتا في تلك الحقبة، ولمن يعنى بدراسة التاريخ من أسفل، وبمعرفة آراء الناس وسماع أصواتهم.

 إن هذه اليوميات وغيرها من أوراق العائلات التي لم يشارك أفرادها في العمل العام تشكل مادة خام ثرية تسمح لنا بإعادة كتابة تاريخنا الحديث بعيدًا عن الرؤية الرسمية.

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...