السبت، 16 مايو 2015


سيرة مناضل من أجل الوطن
فتحي رضوان من كتابته
( 3 )
 

عماد أبو غازي

 
 رغم أن لفتحي رضوان عديدًا من المؤلفات والكتب بخلاف سيرته الذاتية؛ أهمها: "عصر ورجال" و"أفكار للكبار" و "مع الإنسان في الحرب والسلام" و"أخي المواطن" و"هذا الشرق العربي"، إلا إنه خلال رحلته الممتدة كان المقال الصحفي وسيلته الأساسية في التعبير عن مواقفه السياسية وآرائه وأفكاره، من خلال مصر الفتاة واللواء الجديد في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، ثم من خلال جريدة الشعب في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
 وإذا كانت مقالاته في المرحلة الأولى قد دارت بشكل أساسي حول الدعوة للاستقلال التام ونهضة الأمة في مواجهة الاستعمار الإنجليزي؛ فإن مقالات المرحلة الأخيرة كانت تدور حول مجموعة من القضايا التي شغلت مصر، أبرزها الديمقراطية وحقوق الإنسان وقضية فلسطين والموقف من الولايات المتحدة وسياستها في المنطقة، كما تناول عديدًا من القضايا الدولية مثل سباق التسلح ومشكلة الجوع.
 وفي مجال له بمجلة الهلال عدد مارس 1983 بعنوان "هذا العالم المجنون" يتساءل: "هل تتحقق المخاوف أم ينجح الإنسان في أن يخرج نفسه من هذا الجنون الذي أصيب به واستولى عليه؟ يحسب بعض الناس أن عالم الأقوياء عالم ميؤس منه، فلا نفع فيه ولا رجاء، وإنه سيواصل تسابق الهلاك، مدفوعًا بالقصور الذاتي، وبالخضوع لما ألفه من التنافس والتسابق من أجل السيادة، فمفتاح النجاح في يد الفقراء الذين يتجردون من المصلحة، وهم الأكثر عددًا والأكثر غنى في واقع الأمر؛ فهل يتحقق حلم الضعفاء الأقوياء، الفقراء الأغنياء؟"
 وقد تميز أسلوب فتحي رضوان في المقال السياسي بالرؤية الناقدة والتحليل التاريخي عند تناوله لموضوعاته المختلفة مع لغة ساخرة وعبارة واضحة، والمتتبع لمقالات فتحي رضوان السياسية في السبعينيات والثمانينيات يتبين أن السنوات قد انضجت خبرته، لكنها لم تغيير أهدافه، ظل على إيمانه بالانتماءين العربي والإسلامي لمصر، ودعوته للاستقلال الوطني الكامل والحقيقي، وعدائه للاستعمار بكافة أشكاله، ربما فقط تغيرت الوسائل، كما أن التجربة أضافت إليه إيمانًا عميقًا بقضية حقوق الإنسان في مصر والوطن العربي، فرأس المنظمة العربية لحقوق الإنسان عند تأسيسها، وأسس المنظمة العربية لحقوق الإنسان.
 ولم يقتصر ما كتبه فتحي رضوان على المقال السياسي فحسب؛ فقد كان له إنتاج غزير في موضوعات مختلفة ومتنوعة، وقد نشر فتحي رضوان في السنوات الأخيرة في عدد من كبريات الصحف والمجلات المصرية والعربية، منها: الأهرام والأخبار والدوحة والفجر والهلال، وفيها نشر الكثير من كتاباته طوال خمسين عامًا حيث نشر أول مقالاته في فبراير 1932 عن تركيا القديمة وتركيا الحديثة.
 وتنوعت كتابات فتحي رضوان في تلك المجلات وتعددت موضوعاتها، ما بين التاريخ والفكر والأدب والفن. وعلاقة رضوان بالثقافة والفنون أصيلة، فقد كان يرى في الإحياء الثقافي للأمة ركنًا من أركان نهضتها الشاملة ووسيلة من وسائل تحريرها السياسي والاقتصادي، انعكس هذا الموقف في برنامج مصر الفتاة، وفي أول الحملات السياسية للحركة والتي بدأت بسؤال عنيف صارخ: من الذي سجن تماثيل عظمائنا... سعد ومصطفى كامل؟ السؤال الذي رأى فيه فتحي رضوان رباطًا مباشرًا بين الفنون والعمل السياسي، كما ارتبط بالفنون الجميلة من خلال صداقته للنحات عبد القادر رزق الذي كان عضوًا في مصر الفتاة، وشارك في إخفاء الفريق عزيز المصري بعد فشله في الهروب من مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، كما كان فتحي رضوان عضوًا بمجلس إدارة جمعية أصدقاء متحف مختار، وواحدًا من مؤسسيها في الثمنينيات، ولفتحي رضوان كتابات في الفن والنقد الأدبي؛ فكتب عن المثال مختار عدة مقالات في الدوحة والهلال، وكتب عن رواية الوسية للدكتور خليل حسن خليل مقالًا نقديًا في مجلة الدوحة. فضلًا عن ذلك كان فتحي رضوان نفسه أديبًا وكاتبًا مسرحيًا له عدة أعمال مسرحية ومجموعات قصصية، منها: مومس تؤلف كتابًا، وإله رغم أنفه، ودموع إبليس، وهي أعمال أدبية حاول من خلالها تقديم أفكاره ومقولاته الاجتماعية والسياسية والأخلاقية عن طريق الحوار المسرحي. والقضية الأساسية في أعمال فتحي رضوان الأدبية، كيف يستعيد الإنسان ذاته من خلال إدراكه لقواه الكامنة؟
 وكان لفتحي رضوان اهتمام واضح بمناقشة آراء كبار المفكرين في عصره، وكتب العديد من المقالات عبر أكثر من خمسين عامًا في مناسبات مختلفة في هذا الاتجاه، وجمع أهمها في ثلاثة من كتبه: "عصر ورجال" و"أفكار الكبار" و"دور أصحاب العمائم"، حيث تعرض في هذه الكتابات لمجموعة من المفكرين والمثقفين، وناقش دورهم في حياتنا الثقافية والفكرية، وفي هذه المقالات كان ناقدًا لكثير من المقولات التي جرت مجرى المسلمات في حياتنا الثقافية، ولم يكن يراها كذلك. كما قدم وجوهًا لم تأخذ حظها في التعريف بها في حياتنا الثقافية رغم دورها وإنجازها الكبير ومساهماتها الفكرية المهمة.
 وقد ناقش فتحي رضوان في كتاباته الأخيرة بعض المفاهيم النظرية حول الثقافة ودور المثقفين في المجتمع. وقد كان فتحي رضوان صاحب إنجاز مهم في مجال الثقافة عندما كان وزيرًا للإرشاد القومي، ففي عهده أنشئت مصلحة الفنون لتحسين حال الفنون جميعًا وترقيتها. وكانت هذه المصلحة هي النواة الأولى لوزارة الثقافة فيما بعد، وكان لها دورها في دعم وتطوير فنون المسرح والموسيقى والسينما، واتجهت لتوظيف الفنون الشعبية والعناية بها، كما شهدت فترة توليه الوزارة صدور واحدة من أهم المجلات الثقافية في الخمسينات والستينات مجلة المجلة (1957 ـ 1971) كذلك تأسس في تلك الفترة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب.
 وعند الحديث عن مقالات فتحي رضوان لا يمكن أن نغفل عن موضوع أثير لديه ظل يكتب فيه لسنوات طوال مقالًا كل عام في صحيفة من الصحف، أقصد ذكرى معركة رشيد التي هزم فيها المصريون من أهالي رشيد قوات حملة فريزر الإنجليزية سنة 1907، والتي لم يمل أبدًا من تذكير الشعب بها والدعوة إلى الاحتفال بذكراها باعتبارها رمزًا للمقاومة الشعبية الناجحة في مصر. ولنترك الكلمة الأخيرة لفتحي رضوان عن تاريخ مصر التي عشقها وشعبها الذي عاش حياته من أجله:
 "ولابد لنفهم التاريخ المصري في حقيقته الناصعة المبرأة من الزيف أن نعرف الحقيقة الكبرى في هذا التاريخ، تلك هي أن في هذا التاريخ شخصية ثابتة تراها من خلف الأحداث والصور الخارجية لنوع الحكم ولونه، واسم الحاكم وجنسه، وللتقاليد والأزياء السائدة وللتراتيل والأناشيد المسموعة في الهياكل أو الكنائس أو المعابد، تلك الشخصية الثابتة الخالدة هي شخصية الشعب المصري، فأنت إذ تقرأ ما كان يقوله المصريون لقمبيز مثلًا منذ آلاف السنين وهو يتهيأ لاقتحام بلادهم ـ تراه أشبه ما يكون بما قاله المصريون في سنة 1956 بعد الميلاد، فالمصري بقى في مسلكه العام واتصاله بالطبيعة وسعيه الحضاري وفهمه لحقائق الحياة هو هو على مر الحقب وكر الأزمنة؛ فلقد عاش المصري الأول بين صحراوين حمتا حضارته من الغزاة فترة، وصانتاه من الاختلاط الذي يخفي خصائصه، فلما ثبتت هذه الحضارة وتأصلت خصائصها أصبح مستحيلًا على أية حضارة أخرى أن تغيير من أصولها."

الجمعة، 15 مايو 2015


في ذكرى النكبة

 تمر اليوم الذكرى 67 لإعلان دولة إسرائيل وبدأ الحرب العربية الإسرائيلية، حرب 48، أعيد اليوم نشر مقال كنت قد كتبته عن حرب 1948 في ذكرها الستين...

لماذا هزمنا في حرب 48 ؟
 و لماذا ضاعت فلسطين؟

عماد أبو غازي

 ستون عامًا مضت على ما نسميه في أدبياتنا السياسية العربية "النكبة"، و"النكبة" هي هزيمة العرب، أو بمعنى أدق جيوش ست أو سبع دول عربية، في الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، حرب 1948، وهي الهزيمة التي أدت إلى ضياع نصف فلسطين، وقيام دولة إسرائيل عليها، وبقيت بين يدي العرب مساحة تقارب نصف فلسطين، غزة والمناطق التي أسميناها الضفة الغربية لنهر الأردن ومعها مدينة القدس القديمة، ذلك النصف الذي تسلمته مصر وإمارة شرق الأردن وبقى في حوزتهما، حافظت مصر على قطاع غزة كمنطقة فلسطينية تحت الإدارة المصرية وضمت شرق الأردن الضفة إليها مكونة المملكة الأردنية الهاشمية، إنه النصف الذي تأجل ضياعه لعشرين عاما أخرى عندما ابتلعت إسرائيل ما تبقى من فلسطين في حرب يونيو 1967.
  طرحت النكبة على العقل العربي أسئلة متعددة ومازالت تطرح، مثل: لماذا هزمنا في حرب 48؟ ولماذا ضاعت منا فلسطين؟ ولماذا هزمنا ونحن أكثر من اليهود عددًا؟ لماذا هزمنا ونحن جيوشًا وهم "عصابات"؟
 ولهذه الأسئلة إجابات متعددة أقربها حضورًا على ألستنا طوال ستين عامًا: إنها الأسلحة الفاسدة! أو الخيانة! وربما كان تآمر حكامنا هو السبب! أو ربما التحالف الاستعماري مع المنظمات الصهيونية التي أسست إسرائيل ودعمه المفتوح لها!
 فهل هذه هي الإجابات الحقيقية أو الوحيدة؟
 لقد ثبت أن قضية الأسلحة الفاسدة أسطورة "فاسدة" وحجة واهية مليئة بالمبالغات، أما خيانة حكامنا وتأمرهم فاتهام قد يطال بعض الحكام العرب الذين جمعتهم علاقات وطيدة مع زعماء الحركة الصهيونية منذ عشرينيات القرن العشرين مثل الهاشميين، لكنه لا يطالهم جميعًا، فهي تهمة لا تطال بأي حال الملك فاروق أو حكومته أو قادة جيشه، فلم يكن فاروق خائنًا ولا الفريق حيدر ولا النقراشي باشا، وكان النصر حيويًا لهم؛ لكن ما باليد حيلة فقد دخل فاروق الحرب واهمًا أنه سوف يحقق نصرًا سهلًا، وأرغم حكومته وجيشه على دخولها، والنصر كان سيضيف إليه إضافة تاريخية تمد في أجل حكمه المتهاوي، كان يسعى بالفعل إلى النصر ولا يتآمر من أجل الهزيمة، أما الدعم الاستعماري فأمر معروف لا شك فيه، وليست الدولة اليهودية في فلسطين إلا جزءًا من المشروع الاستعماري الأوروبي الكبير في المنطقة منذ طرح بونابرت الفكرة أثناء حملته على مصر والشام نهاية القرن الثامن عشر، ثم بلورها بالمرستون وزير خارجية بريطانيا عقب هزيمة محمد علي وإرغامه على توقيع اتفاقية لندن في سنة 1840، وحَوَلَ بلفور الدولة اليهودية لمشروع فعلي بوعده الشهير في نوفمبر 1917، ذلك الوعد الذي أصبح قيد التنفيذ منذ خضعت فلسطين للانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى بمقتضى مقررات مؤتمر الصلح، إذاً فمن يدخل الحرب دون أن يحسب حساب الدعم الاستعماري للمنظمات اليهودية غافل بل مغفل، وإذا هُزم فحجته غير مقبولة.
  دائمًا نردد أن العرب مجتمعين كانوا ـ وما زالوا ـ أكثر عددًا من الإسرائيليين. فعلًا مجموع شعوب الدول العربية أكبر من المستوطنين اليهود في فلسطين، والفلسطينيين أكثر عددًا من المستوطنين اليهود الوافدين، لكن السؤال الذي ينبغي أن نبحث عن إجابته، هل حقًا كانت القوات العربية أكثر عددًا من القوات الإسرائيلية في ميدان المعارك؟
 الإجابة لا، فمجموع الجيوش العربية التي دخلت فلسطين ليلة 14/15 مايو 1948 كان واحد وعشرين ألف مقاتل موزعين على النحو التالي: لمصر عشرة آلاف مقاتل، وللأردن أربعة آلاف مقاتل، ولكل من سوريا والعراق ثلاثة آلاف مقاتل، أما لبنان فشارك بألف مقاتل، وعلى الجانب الآخر كان عدد القوات التابعة للمنظمات اليهودية في فلسطين خمسة وستين ألف مقاتل وعشرين ألف مقاتل احتياطي، يشكل جيش الهاجاناه قوامها الأساسي، فقد وصل عدد مقاتليه إلى 62 ألف مقاتل، إضافة إلى قوات منظمة الأرجون، وقوة البوليس اليهودي الذي كان خاضعًا للإدارة البريطانية، فضلًا عن منظمة شتيرن الإرهابية والتي كان عدد أفرادها قليلًا لا يتجاوز عدة مئات، أي أن القوات اليهودية كانت أكثر عدد من القوات العربية لخمس دول، كان عددها يبلغ ثلاثة أضعاف عدد الجيوش العربية مجتمعة.
 وبعد المرحلة الأولى من المعارك وإعلان الهدنة، زاد كل طرف من الطرفين قواته قبل استئناف المعارك، فوصل مجموع الجيوش العربية إلى خمسة وخمسين ألف وسبعمائة مقاتل، حيث وصل عدد كل من الجيشين المصري والعراقي إلى خمسة عشر ألف مقاتل والجيش الأردني إلى عشرة آلاف مقاتل والجيش السوري إلى ثمانية آلاف مقاتل أما الجيش اللبناني فتضاعف عدد قواته إلى ألفي مقاتل، أما المملكة العربية السعودية فقد شاركت في تلك المرحلة من الحرب بسبعمائة مقاتل وكان هناك خمسة آلاف مقاتل متطوعين من فئات متفرقة، في المقابل ضاعف الجانب الإسرائيلي أيضا قواته لتصل إلى مائة وعشرين ألف مقاتل.
 هذا عن العدد الذي حقق فيه الجانب الإسرائيلي تفوقًا دائمًا طوال فترة الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، فرغم أن ست دول عربية من الدول السبع "المستقلة" قد دخلت ميدان المعركة، فضلًا عن متطوعين من دول أخرى محتلة، مثل السبعمائة متطوع ليبي الذين جمعهم عزام باشا أمين عام الجامعة العربية بحكم علاقته التاريخية بليبيا فقد كان التفوق العددي دومًا من نصيب إسرائيل.

 أما العدة والعتاد والاستعداد فحدث ولا حرج، كانت هناك ستة جيوش عربية في ميدان المعركة، لكنها ليست بجيوش حقيقية على مستوى الخبرة والتدريب والتجهيزات والتسليح والتنسيق.
 من حيث التكتيك العسكري كانت الجيوش العربية تعتمد على أساليب قديمة في مواجهة أساليب حرب عصابات حديثة اتبعتها القوات الإسرائيلية، تلك القوات التي اكتسبت خبرة حقيقية من خلال مشاركتها في معارك حقيقية أثناء الحرب العالمية إلى جانب الحلفاء ضد المحور، بينما كانت جيوشنا تقوم بمهام محدودة هامشية في تلك الحرب، وكانت شعوبنا تهتف في الشوارع إلى الأمام يا روميل.
 وعلى مستوى التسليح كان هناك تفوق واضح للجانب الإسرائيلي، كان تسليح القوات الإسرائيلية حديثًا متطورًا، في مقابل أسلحة قديمة بلا صيانة تمتلكها الجيوش العربية، هذا فضلًا عن نقص الذخائر الذي دفع رئيس الوزراء الأردني توفيق باشا أبو الهدى إلى دعوة قائد جيشه الجنرال جلوب البريطاني إلى عدم المبادرة بإطلاق النار على اليهود واستخدام الذخيرة في الرد عليهم فقط إذا بادروا بإطلاق النار! كانت القوات الإسرائيلية تمتلك ورشًا لإصلاح وصيانة وتطوير الأسلحة، بل مصانع لتصنيع بعض أنواع السلاح الخفيف، بينما كانت الجيوش العربية مضطره لإرسال أسلحتها إلى بلدانها للصيانة والإصلاح.
 كانت القوات الإسرائيلية على خبرة عالية بالأرض التي تحارب عليها، بينما معظم الجيوش العربية لا تعرف شيئا عن ميدان المعركة، كانت هناك ستة جيوش عربية يفترض أنها تحارب معركة واحدة لكن دون تنسيق حقيقي بينها ودون هدف استرتجي واحد، هل الهدف تأمين الأراضي المخصصة للعرب في قرار التقسيم؟ هل الهدف ملء الفراغ الناجم عن انسحاب بريطانيا وإنهاء انتدابها لفلسطين؟ هل الهدف طرد المستوطنين اليهود من فلسطين؟ هل الهدف إقامة دولة فلسطينية على كامل أرض فلسطين؟ أم مجرد تحقيق مكاسب داخلية لكل نظام في بلده؟ أم ورطة تورطت فيها تلك الجيوش التي كان معظم قادتها يرون أنهم غير جاهزين للحرب، ويرى بعض الساسة في الدول التي دخلت الحرب أنهم دخلوا حربًا لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟
 لقد كان التنسيق العسكري الميداني مفتقدًا بين الجيوش العربية وكانت سياسة المحاور المتصارعة بين الدول العربية المشاركة في المعارك هي الغالبة، محور هاشمي أردني عراقي في مواجهة محور مصري سوري، علاقة عدائية تاريخيًا بين الهاشميين والسعوديين، ولبنان يبدو محايدًا في تلك الصراعات، أما اليمن تحت حكم الإمام فعلى هامش الدنيا والتاريخ والزمن.
 كانت القوات الإسرائيلية تنفرد بجيش عربي وراء جيش، والجيوش الأخرى تقف موقف المتفرج، فحقق الإسرائيليون تفوقًا تكتيكيًا فوق تفوقهم العددي بفضل غياب التنسيق بين الجيوش العربية.
  لكن هل كانت الحرب مفاجأة للعرب حتى يقعوا في هذا التخبط والارتباك؟ في الحقيقة كانت الأمور كلها تنبأ بالحرب ما دام العرب يرفضون قرار التقسيم ويرفضون الاستعمار الاستيطاني لفلسطين فلم يكن أمامهم إلا الاستعداد للقتال، لكنهم لم يستعدوا أبدًا.
 فرغم إعلان الدولة العربية رفضها لقرار التقسيم ورغم بيان الجامعة العربية حاد اللهجة عالي الصوت كالعادة الذي صدر في 8 ديسمبر 1947، لم تستعد الدول العربية للموقف بل قررت الحكومات العربية عدم الدخول إلى فلسطين إلا بعد انسحاب بريطانيا، ربما لم يكن في قدرتها غير ذلك! لكنها لم تجهز قواتها لما بعد الانسحاب، وكان البديل قوات المتطوعين ناقصة التدريب فاقدة الخطة والاستراتيجية التي دخلت فلسطين، من الشمال دخل جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي في ديسمبر 1947، وقام بعدد قليل من العمليات الفاشلة، ومن الجنوب دخلت كتائب المتطوعين المصريين بقيادة الشهيد أحمد عبد العزيز وقامت ببعض العمليات الناجحة واستمرت في ساحة المعارك إلى أن سقط أحمد عبد العزيز برصاص الجيش المصري في أغسطس 1948! في مقابل حرب عصابات ناجحة مؤثرة من جانب المنظمات اليهودية كانت حرب العصابات العربية ضعيفة وغير مؤثرة، وكان لهذا تأثيره السلبي على جموع الشعب الفلسطيني التي لم تنتظم في حركة مقاومة مسلحة لمواجهة اغتصاب الأرض والوطن.
 كانت السنوات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية قد شهدت تصعيدًا في العمليات الإرهابية التي كانت تقوم بها المنظمات المسلحة اليهودية ضد السكان الفلسطينيين بهدف إجبارهم على ترك أراضيهم تمهيدًا لقيام الدولة اليهودية، وكثيرًا ما كانت سلطات الانتداب البريطاني تتغاضى عن هذه العمليات بل كانت توفر لها أحيانًا غطاء ومساندة، وقد شهدت الأسابيع السابقة على الانسحاب البريطاني من فلسطين ليلة 14/15 مايو 1948 وإعلان دولة إسرائيل تصاعدًا في وتيرة المذابح التي تنفذ ضد المدنيين الفلسطينيين، والتي قامت بها الجماعات الصهيونية المسلحة فيما يشبه عمليات للتطهير العرقي، وكان لها ـ وللأسف بفضل الدعاية العربية التي ضخمت في هذه المذابح أحيانًا وعملت على نشر أخبارها ـ أثرًا نفسيًا سلبيًا على آلاف من الفلسطينيين الذين تركوا أراضيهم وهربوا، لقد تصور بعض الساسة الفلسطنيين أنهم بذلك يحفزون الشعب على المقاومة لكن النتيجة كانت عكسية، فسهلوا مهمة القوات الصهيونية في الاستيلاء على الأراضي المقررة لقيام الدولة اليهودية وفقًا لقرار التقسيم، بل وعلى مساحات أكبر منها مما كان مخصصًا للدولة العربية، ولعل أشهر تلك المذابح وأوفرها "حظًا" من الدعاية مذبحة دير ياسين (أبريل 1948) وقد نفذت هذه المذبحة جماعتا الأرجون وشترن اليمنيتين المتطرفتين، حيث أزالتا قرية دير ياسين إحدى قرى القدس التي كان عدد سكانها يبلغ 700 نسمة من الوجود بهدف بث الرعب في قلوب الفلسطينيين، وبلغ عدد من سقط من الفلسطينيين في مذابح أبريل 1948 أكثر من 1500 فلسطيني، ويقول المؤرخ الإسرائيلي أريه يتسحافي عن تلك المذابح: "إنه في بلدة واحدة قتل ستون من الأعداء (يقصد الفلسطينيين) في منازلهم من غير المقاتلين، وقد كان من المستحيل تفادي ضرب النساء والأطفال، ففي بلدة أخرى تم تفجير 20 منزلًا بسكانهم وقتل حوالي ستين من العرب معظمهم من النساء والأطفال"، ويفاخر مناحم بيجين الذي كان زعيمًا لجماعة الأرجون التي أسهمت في تنفيذ مذبحة دير ياسين بما حدث فيقول في مذكراته: "استولى على العرب في جميع أنحاء فلسطين بعد مذبحة دير ياسين رعب لا حد له وأخذوا يهربون للنجاة بأرواحهم"، وكان هذا بالتحديد الهدف المنشود، أن يترك الفلسطينيون الأرض خالية أمام القوات اليهودية لتتقدم دون مقاومة، لقد تحولت العمليات الصهيونية خلال الأسابيع القليلة التي سبقت 15 مايو 1948 إلى عمليات حربية واسعة النطاق تدعمها القوات البريطانية بطريق مباشر مرة، وبطرق غير مباشرة مرات، وتتغاضى عنها مرات ومرات، وعرف التحرك الصهيوني بخطة داليت وهي خطة هجومية للاستيلاء على الأراضي العربية مع الانسحاب البريطاني عنها، استهدفت السيطرة على المنطقة المخصصة لليهود وفقًا لقرار 29 نوفمبر 1947 بتقسيم فلسطين، ثم التوسع خارج الحدود التي رسمتها الأمم المتحدة في قرار التقسيم للدولة اليهودية، وخلال فترة وجيزة تم احتلال أجزاء واسعة من فلسطين وطرد أهلها منها وتدمير القرى العربية بأكملها، لقد نجحت الحملة في إرغام عشرات الآلاف من الفلسطينيين على ترك أرضهم، وجعلت القوات اليهودية في مركز قوة عند بدء الحرب.
 لقد كانت نتيجة الحرب محسومة قبل أن تبدأ، معطيات الواقع تقول ذلك، لقد كانت الدول العربية "المستقلة" حينذاك سبع دول، أغلبها منقوص الاستقلال، لم يكن للعرب حليف دولي يساندهم فإقامة إسرائيل مشروع للدول الاستعمارية الكبرى، والمعسكر الآخر ممثلًا في الاتحاد السوفيتي تبنى قرار التقسيم، ومواقف الساسة العرب دائمًا في الجانب الخاطئ، مفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني ألقى برهانه على المعسكر الخاسر عندما تقرب من ألمانيا النازية، فاكتسب للقضية عداء القوى الديمقراطية والتقدمية في العالم الغربي أو على الأقل فتورها.
 لقد دخلت الحكومات العربية المعركة دون قدرة عسكرية أو تخطيط سياسي أو حتى قدرة على تخيل العواقب المنتظرة، رئيس الحكومة الأردنية يبلغ قائد جيشه أن الحكومة لن تتحمل أي نفقات مالية للحرب وعلى الجيش أن يدبر أمره في حدود ميزانيته التي لا تكفي أساسًا، ورئيس وزراء مصر لا يتصور أن الحرب ستطول ويتوقع تدخل دولي سريع لوقفها، وأمين عام الجامعة العربية سعيد بسبعمائة متطوع ليبي بدون سلاح ويسعى لتوفير 700 بندقية إيطالي لهم! وساسة عرب يروجون لشعوبهم إننا نحارب عصابات لن تصمد أمامنا.
وبعد ذلك نسأل لماذا هزمنا!
 لم تكن المعركة بين مجموعات متكافئة تتصارع على أرض فلسطين، لقد كانت المعركة صراعًا بين الشرق بتخلفه وارتباكه وعجزه والغرب بتقدمه وقدرته على التخطيط والتفكير العلمي، لقد كنا ـ للأسف ـ مجتمعات غير مؤهلة لهذه المواجهة فكريًا ولا سياسيًا ولا عسكريًا.
  لقد حكمنا منطق كل شيء أو لا شيء، ففقدنا كل شيء، لقد فقدنا في حرب 48 جزء من الأراضي المخصصة للدولة العربية وفقًا لقرار التقسيم، وقامت إسرائيل واعترف بها العالم، فلماذا لم تعلن دولة فلسطين فيما تبقى من أرض لتكون منطلقًا لتحرير كل فلسطين؟
  لقد ظلت الضفة وغزة في أيدي العرب عشرين عامًا أخرى بعد قرار التقسيم دون أن تتحولا إلى دولة فلسطينية، وظل اللاجئون مشردون بين لبنان وسوريا والأردن ومصر وغيرها من بلاد العرب، لتضيع البقية الباقية من فلسطين لأن نفس المنطق ظل يحكمنا.
 بعد كل هذا هل يبقى لسؤال لماذا خسر العرب الحرب معنى؟ أم يطرح سؤال آخر نفسه: هل كان يمكن أن ينتصر العرب في تلك الحرب؟

وكما قال نزار قباني في أعقاب النكسة:
إذا خسرنا الحرب.. لا غرابة
لأننا ندخلها
بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة
لأننا ندخلها..
بمنطق الطبلة والربابة...

عاشق الوطن
فتحي رضوان من كتابته

( 2 )

عماد أبو غازي

جمعية مصر الفتاة والحزب الوطني الجديد
 في عام 1933 شارك فتحي رضوان رفيقه أحمد حسين مرة أخرى في دعوة جديدة عندما أسسا سويًا جمعية مصر الفتاة، التي تحولت سنة 1937 إلى الحزب الذي ترأسه أحمد حسين وكان فتحي رضوان سكرتيرًا عامًا له. وقد نشأت الجمعية في فترة الأزمة الدستورية في مصر متأثرة إلى حد كبير بالتنظيمات القومية المتطرفة في أوروبا، وكانت غاية حزب مصر الفتاة كما حددها برنامجه في سنة 1937 "أن تصبح مصر فوق الجميع إمبراطورية عظيمة تتألف من مصر والسودان، وتحالف الدول العربية، وتتزعم الإسلام."

 ويرى فتحي رضوان أن حركة مصر الفتاة كانت ظاهرة فريدة في الحياة السياسية والوطنية في مصر، وإن انجذاب الشباب إليها والتفافهم حولها كان أمرًا فذًا في اتجاه الأحداث القومية؛ فقد كانت الحركة حزبًا تكون "من شبان صغار مجهولين، أكثرهم ينتمي إلى الطبقة المتوسطة الصغيرة، ثم أن هؤلاء الشبان شقوا طريقًا جديدًا في السياسة، فكان الجانب الاجتماعي ظاهرًا في برنامجهم، والحديث عن ماضي مصر الثقافي بارزًا، واحتفالهم بالفنون والآداب يستوقف النظر".

 لقد كانت تلك الكلمات هي تقييم فتحي رضوان لحركة مصر الفتاة بعد أكثر من خمسة وأربعين عامًا على تأسيسها، وبعد أن أصبحت جزًا من تاريخ مصر السياسي فيما بين 1919 و1952، تلك الحركة التي شارك فتحي رضوان في تأسيسها وصياغة أفكارها وبناء تنظيمها، ورغم أن فتحي رضوان هو أحد آباء حركة مصر الفتاة فإنه انفصل عن الحركة وعن رفيق صباه وشبابه أحمد حسين في مطلع الأربعينيات لينضم مع قسم من شباب مصر الفتاة إلى الحزب الوطني، حزب مصطفى كامل، الذي كانت له دائمًا مكانة عالية متميزة لدى فتحي رضوان، وذلك في محاولة لتجديد شباب الحزب الوطني؛ وبذلك افترق فتحي رضوان سياسيًا عن رفيق صباه أحمد حسين بعد رفقة طريق استمرت قرابة ربع قرن، بدأت بمغامرة سياسية وهما تلميذان في الصف الثالث الابتدائي عندما اشتركا معًا فيما يصفه فتحي رضوان بأنه "أغرب مجازفة وقعت في تاريخ التعليم الابتدائي في تلك الحقبة من الزمن"، عندما قاما بطبع وتوزيع منشور سياسي يدعو إلى تأسيس جمعية باسم "نصر الدين الإسلامي"، لقد كانت هذه هي بداية العمل المشترك بينهما، وكانت نهايته خروج فتحي رضوان من مصر الفتاة ليدخل إلى الحزب الوطني مشكلًا جناحه الجديد، أو الحزب الوطني الجديد.
 ويقول المستشار طارق البشري في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه "الحركة السياسية في مصر 1945 ـ 1953"، عن هذه الواقعة: "إن الحزب الوطني الجديد كونته صفوة من الشباب الوطني، لا للاختصاص بهدف متميز عن الغير، ولكن لأن الجامع بينهم كان التآلف المثالي، وما شاع فيهم من مثاليات سياسية، وإنه في النهاية كان حزبًا يقف من حيث الطبيعة السياسية بين مصر الفتاة التي خرج منها وبين الحزب الوطني القديم الذي دخل فيه واصطحب معه، لا أقول عناصر من مصر الفتاة، ولكن أقول قطعة من نسيج مصر الفتاة ومن شحمها، تمثل ذلك في فتحي رضوان نفسه، وغيره من شباب الثلاثينيات".
 ومارس الحزب دعواه ودعايته من خلال صحيفة اللواء الجديد التي كانت منبرًا طرح من خلاله فتحي رضوان في مقالاته أفكاره الوطنية، وكان الحزب من الأحزاب المصنفة ضمن القوى الوطنية الراديكالية؛ لذلك انتهى الحال بفتحي رضوان بعد حريق القاهرة في يناير 1952 وإعلان الأحكام العرفية إلى المعتقل.
في المعتقل
ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي تقيد فيها حرية فتحي رضوان ويعتقل كذلك لم تكن المرة الأخيرة، إلا أن فتحي رضوان في هذه المرة خرج من المعتقل إلى مقعد الوزارة، فقد تم اختياره في 7 سبتمبر 1952 وزيرًا للدولة في أول وزارة للرئيس محمد نجيب، وقد استمر مشاركًا في الحكم حتى عام 1958؛ كوزير للدولة ووزير للمواصلات، لكن الدور الأهم في تاريخه الوزاري كان توليه لوزارة الإرشاد القومي التي سعى إلى إنشائها وكان أول وزير لها في الفترة من 17 نوفمبر حتى 9 ديسمبر 1952، ثم عاد ليتولاها ثانية في الفترة من 2 نوفمبر 1952 حتى 6 مارس 1958.

 
الثورة العربية الأولى
 لقد تعاون فتحي رضوان مع حركة الضباط الأحرار التي كان يرى في شبابها تلاميذ لحركة مصر الفتاة والحزب الوطني الجديد، وكان تقيمه للحركة كما أورده في مذكراته عن فترة توليه للوزارة والتي نشرت في الثمانينيات "إن ثورة 23 يوليو 1952 كانت الثورة العربية الأولى، التي استهدفت التغيير في الإقليم الذي قامت فيه تغييرًا يتناول الأسس، وقد نجحت في أمرين جد خطيرين: أولهما قيام الثورة ذاته، والثاني في ثباتها واستقرارها".


 
 وعندما رأي فتحي رضوان أنه لم يعد هناك مجال للاستمرار، ترك الوزارة بلا عودة، ودون عداء لأهداف 23 يوليو، ولكنه لم يترك العمل السياسي حتى فارق الحياة، ففي أوائل السبعينيات وقبل الإعلان الرسمي عن "ورقة تطوير الاتحاد الاشتراكي العربي"، تمهيدًا لعودة الحياة الحزبية المقيدة بدأ فتحي رضوان يدعو إلى إعادة تشكيل الحزب الوطني الجديد مرة أخرى، وبالفعل طرح دعوته من خلال كتيبين صغيرين، ضمن الأول نبذة عن تاريخ الحزب الوطني  (حزب مصطفى كامل) وضمن الثاني مشروعًا لبرنامج الحزب الوطني الجديد، لكن مشروع فتحي رضوان لإعادة تشكيل الحزب لم يتحقق.

 
 وقاد إخلاص فتحي رضوان لمبادئ الوطنية الجذرية إلى معارضة السياسات التي انتهجها الرئيس أنور السادات، وتصاعدت هذه المعارضة حتى وصلت بالرجل إلى المعتقل مرة أخرى، فبعد أن احتفل رفاقه وتلاميذه بعيد ميلاده السبعين بأشهر قليلة، تم اعتقال فتحي رضوان مع مئات من المعارضين في سبتمبر 1981، وعندما أفرج عن فتحي رضوان وغيره من المعتقلين بعد اغتيال الرئيس السادات وتولي حسني مبارك بأسابيع قليلة ربما تصور كثيرون أن تجربة الاعتقال لشيخ جاوز السبعين سوف تدفعه إلى اعتزال العمل السياسي، إلا أن فتحي رضوان سرعان ما عاد إلى سابق عهده بالنضال، وخرج وهو في الخامسة والسبعين ليقود مظاهرة للمعارضة من أمام جامعة القاهرة احتجاجًا على موقف الحكومة المصرية الخانع من خطف الطائرات الأمريكية لطائرة مدنية مصرية وعلى ضرب إسرائيل لمقر منظمة التحرير الفلسطينية بتونس سنة 1986، واستمرت مقالاته السياسية في صحف المعارضة خاصة جريدة الشعب حتى مرضه الأخير الذي توفي فيه.

الخميس، 14 مايو 2015

 
سيرة مناضل من أجل الوطن
فتحي رضوان من كتابته
( 1 )
عماد أبو غازي
 
 فتحي رضوان شخصية متعددة الإسهامات في حياة مصر السياسية والثقافية والفكرية في القرن العشرين، فبين 14 مايو 1911 و2 أكتوبر 1988 كانت حياة فتحي رضوان حياة متنوعة الجوانب والأبعاد، حافلة ثرية مليئة بالعطاء للوطن.
فتحي رضوان وثورة 1919
 لقد تفتح إدراك فتحي رضوان على الحياة العامة من حوله مع تفجر الثورة المصرية الكبرى سنة 1919، وتبلور وعيه واكتمل نضجه وتحددت مواقفه السياسية في السنوات التي أعقبتها؛ ولا شك في أن ثورة 19 لعبت الدور الأساسي في تشكيل الوعي السياسي في مصر لسنوات طويلة، لأنصارها وخصومها على حد سواء؛ وكيف لا؟ وتلك الثورة بلغ قدر تأثيرها في وجدان المصريين حدًا لم يبلغه حدث سياسي في تاريخ مصر الحديث من قبل؛ تجسد هذا التأثير في علاقة الأمة بزعيم الثورة سعد زغلول، تلك العلاقة التي وصفها فتحي رضوان في كتابه "الخليج العاشق"، القسم الثاني من سيرته الذاتية، قائلًا عن سعد: "إنه رجل أحبته مصرحبًا كاد يجاوز حبها وافتتانها بأي رجل سواه، فقد نسجت حوله الأساطير، ونسبت إليه المعجزات، ورفعته إلى مراتب القديسين وأولياء الله، ورفعه قوم أخرون إلى مصاف أعلى وأسمى".
 وقد عاشت أسرة فتحي رضوان ـ ابن الثامنة في ذلك الوقت ـ مثل كل أسرة مصرية أحداث الثورة وشاركت فيها مشاركة مباشرة؛ فكانت أخته الوسطى ـ والتي تكبره في السن ـ واحدة من قيادات الطالبات في ثورة 1919. ويصف فتحي رضوان مشاركتها في الثورة فيقول:
 "أما أختي الوسطى فقد كانت رائدة السياسة في عائلتنا؛ فقد كانت تلميذة في المدرسة السنية، وكانت هذه المدرسة في فترة إندلاع ثورة 1919، هي كبرى مدارس البنات الحكومية، وقد كانت أختي أولى بنات فصلها، فلما قامت الثورة، كبر عليها أن يكون دور زعيمة المدارس، دور المتفرج بحجة أنها مدرسة بنات، فوقفت بين زميلاتها، وخطبت فيهن، خطبة، تدعو إلى الجهاد، وكانت تحفظ من شعر حافظ إبراهيم الوطني، ومن الأناشيد، ما ضمنته خطبتها، فإذا بها تبرز بين زميلاتها خطيبة لا يشق لها غبار، ونجحت دعوتها؛ واقتحمت الفتيات وراء زعيمتهن باب المدرسة وأزحن من طريقهن الناظرة الإنجليزية الحازمة "مس كارتر" وانطلقن إلى الطريق العام يهتفن بالعربية والإنجليزية معا، لمصر وللاستقلال التام، وبسقوط الاحتلال والإنجليز.
 كيف فعلت هذه الزعيمة التي لم تر مظاهرة، ولم تر خطيبا ولا خطيبة؟ وكيف أطاعتها جموع تلميذات المدرسة؟ وكيف لم تخش هذه الجموع الناظرة التي كان كلامها قانونا، وصوتها مرهوبا وشخصها مخوفا؟
 إن ذلك كله وحي الفطرة الإنسانية. وحي الفطرة الإنسانية السليمة بلا شك.
 وطردت أختي الزعيمة من المدرسة، فبقيت أياما في المنزل، ننظر إليها وتنظر إليها زميلاتها، وجيراننا، باعتبارها شخصية سياسية، تستحق الإعجاب، وتشبه ـ في محيط الأسرة ـ الزعماء الذين نفوا إلى مالطة في محيط الأمة.
 ولكن الإنجليز، قوم مرنوا على ملاينة الشعوب حين تثور، لا ليعطوا الشعوب ما تطلب، بل ليستديروا حول الحركة الوطنية الثائرة الهائجة بحثا عن نقطة ضعف فيها، فينفذوا إلى صميمها ويضربوا الثوار بعضهم ببعض، وفي أكثر الحركات التي تقوم في البلاد التي طال عهدها بالاحتلال يجرف التيار الوطني العنيف المتدفق في وجهه بعض الذين لا يؤمنون بالحركات الوطنية، ويحسبونها جنونا مدمرا، واندفاعا وخيم العواقب، وهؤلاء يستجيبون لمغريات المحتلين، ولا يلبثون حتى ينقلبوا على الحركة، فتقع في صفوفها الفرقة.
 وجريا على هذا الأسلوب عفت السلطة عن الطلاب والطالبات الثائرين والثائرات وأعادوهم إلى المدارس مقابل وعد شفوي من ولي الأمر ومن التلميذ بألا يشارك في الاضطرابات مرة أخرى، وقد عادت أختي كغيرها، ولكن المظاهرات اجتاحت مصر مرة أخرى ولم تستطع أختي الزعيمة أن ترى أمواج البحر تدعوها، إلى إلقاء نفسها في عبابه، ثم تمنع نفسها من تلبية الدعوة، فما لبثت أن رأت نفسها على رأس تلميذات المدرسة، وإذا بالشعر يتدفق على لسانها، وإذا هي خطيبة تثير الحماسة، ثم تندفع إلى باب المدرسة العتيق الثقيل، فيفتح، وتجري ناظرة المدرسة وراءها وتمسك بثوبها من أعلاه عند ظهرها، وتقول لها بالإنجليزية: "تذكري وعدك" فترد عليها أختي وهي في أعلى درجات الحماسة: "وطني قبل وعدي"، وتتلقف البنات هذه الكلمة وكأنها قول مأثور فيصحن: "وطني قبل وعدي"، وربما أفاءت عليهن اللحظة وحيها فقال: "لا وعد لمن لا عهد له... لا عهد مع أعداء الوطن. وعادت أختي مرة أخرى إلى البيت وقد زاد قدرها كزعيمة".
 بهذه الكلمات سرد فتحي رضوان الشيخ ذكرياته عن صباه الباكر، وقدم صورة لتأثير الحدث السياسي الكبير في حياة أسرته الصغيرة، فماذا عن هذه الأسرة التي نشأ فيها؟
سيرة ذاتية
 فتحي رضوان الولد الوحيد الذي تبقى لوالديه بعد ثلاث بنات يكبرنه وولدين ماتا صغيرين، اجتمعت في عروقه دماء مصرية وتركية وجركسية وحبشية، ينتمي أبوه وأمه إلى الطبقة الوسطى، ويصف فتحي رضوان طبائع والديه في "خط ّالعتبة"، القسم الأول من سيرته الذاتية، فيقول: "... أبي لم يكن يحزن أو يفرح بعمق، تفيض نفسه حنانًا ورحمة، ويتأثر بالصغيرة والكبيرة، فتمتلئ عيناه بالدمع، حتى يشرق بعبراته، ولكن ما أسرع ما يصفو خاطره وكأنه لم يكن يبكي منذ حين.
 أما أميفقد كانت على النقيض منه، لا تستجيب لدواعي الحزن والفرح بسرعة أو خفة، ولكن إذا حزنت امتلأت نفسها همًا، وإذا غضبت فاضت حممًا، وهي في حالات السرور والحزن، والرضا والغضب، لا تفقد اتزانها ولا قدرتها على الإبانة عما تريد في طلاقة ووضوح بعبارة مبينة ولفظة رصينة."
 ويتسأل فتحي رضوان عن تأثير والديه فيه قائلًا: "لقد جئت ثمرة هذين المزاجين المتناقضين، ولم أعرف أيهما أكبر أثرًا في نفسي، وإلى أيهما أنتسب؟ إلى الأم ذات المزاج الدموي، الآمرة المتحدثة شديدة الطموح المحبة للألفاظ الجميلة من الشعر والنثر والزجل، المعجبة ببطولات الرجال والنساء، القارئة تاريخ الملوك والزعماء، الكارهة النقائص، ولاسيما نقيصتي الكذب والجبن، أم إلى أبي الليمفاوي المزاج، الذي تعوزه القدرة على الإبانة... والذي لا يرضى عن شيء، ومن ثم لا يكف عن نقد الناس والأمور، ومع ذلك فهو خفيض الصوت، قليل الصحب والخلان، ضعيف الحيلة في دنيا الشطار الوصوليين، وإن كان مثاليًا إلى حد المبالغة، أمينًا لا يقوى على مسايرة رجل سيء خطوتين اثنتين في الطريق العام، وإذا اعتدي عليه لا يحسن الرد، تنقصه الطاقة الغضبية، والطلاقة اللسانية، والحرارة الدموية، ومع ذلك لا يسلم بأن أحدًا خير منه أو أعلى مقامًا، لشدة اعتداده بفضيلته ونزاهته، وسلامة قصده، وفنائه في العمل الحكومي، ومع هذا الاعتداد فهو بريء من الكبرياء والزهو، لا يباهي ولا يتحدث عن نفسه، إنه لا يطيق أن تقع منه هفوة تلوث شرفه، أو تلقي ظلًا ولو خفيفًا على صفاء صفحته؟"
 
 وقد خط فتحي رضوان بقلمه في سيرته الذاتية بقسميها صورة طفولته وصباه في واحدة من السير الذاتية الرائعة التي تكشف عن صدق إنساني وحس أدبي ولغة راقية، وقدرة عالية على تصوير الحدث العام من خلال الخاص، إن هذه السيرة الذاتية هي كما قيل عنها إطلالة على النفس الإنسانية الرحيبة التي اتخذت من حياة طفل سبيلًا إلى رواية قصة مصر كلها في حقبة مليئة بالحركة والرغبة في التطور والتحرر والانطلاق. لقد رسم فتحي رضوان في سيرته الذاتية صورًا من حياة المجتمع القاهري في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين من خلال رؤية عين نافذة ثاقبة ناقدة.
 
مشروع القرش
 ولنترك حياته الخاصة ونعد مرة أخرى إلى مشاركته في العمل العام؛ فحياة فتحي رضوان ورحلة نضاله هي صورة من حياة مصر خلال ثلاثة أرباع قرن حافلة بالمتغيرات، والمد والجذر؛ فمصر كانت تتفتح منذ مطلع القرن العشرين على تغيرات اجتماعية اقتصادية وسياسية تعيد تشكيل صورة الحياة فيها. فالطبقة الوسطى أخذت في التبلور والظهور اجتماعيًا واقتصاديًا، وبدأت طموحاتها السياسية تبرز في ساحة الصراع من أجل السلطة، كما أخذت تفصح عن مفاهيم جديدة في الفكر والثقافة والفن والحياة، وتفرز مفكريها ومثقفيها ومبدعيها المتأثرين بشكل أساسي بمفاهيم وأفكار الحضارة الغربية الحديثة، مع اختلاف وتفاوت في درجة التأثر، ثم كانت ثورة 1919 وما واكبها من صحوة فنية وثقافية شاملة، وتحدد لأطراف الصراع السياسي في المجتمع.
 
 وفي هذا السياق اشتغل فتحي رضوان بالعمل السياسي وهو شاب صغير، فشارك  زميل دراسته وصباه أحمد حسين في الدعوة لمشروع القرش سنة 1932، ويقول فتحي رضوان في مقال له بمجلة الهلال سنة 1984، بعنوان "كيف فكر أحمد حسين في مشروع القرش؟": "إن فكرة مشروع القرش نبتت في رأس الشاب أحمد حسين سنة 1932، وكان آنذاك طالبًا بالسنة الثانية في كلية الحقوق، أثناء رحلة له في باريس عندما شاهد تمثالًا مشيدًا في حديقة عامة للأطفال وتحته لوحة تذكارية تسجل أن هذا التمثال أقيم من تبرعات الأطفال بقروشهم القليلة". ويسترسل فتحي رضوان قائلًا: "ولما كان أحمد مشغول القلب والنفس دائمًا ببلده، فقد قال على الفور: ولما لا نقيم في بلادنا شيئًا نافعًا بقروش المواطنين؟ والتصقت الفكرة برأسه، فلم يكد يعود من رحلته إلى القاهرة حتى أمسك ورقة وقلمًا وكتب على عجل منه وبسرعة دعوة إلى إقامة مشروع صناعي بقرش صاغ واحد". وبعد محاولات عدة من صاحب المشروع وفتحي رضوان، ومع الإصرار والمثابرة أقيم المشروع بعد أن تبنى الدعوة الدكتور علي باشا إبراهيم مدير الجامعة المصرية في ذلك الوقت، وافتتح مصنع طرابيش مشروع القرش بشارع برج الظفر بالعباسية، ورغم أن مشروع القرش لم يكن له تأثير يذكر على الوضع الاقتصادي في مصر أو على تطور صناعتها الوطنية، فإن المغزى الحقيقي للمشروع ولإقامة المصنع، كما رأه فتحي رضوان بعد أكثر من خمسين عامًا على مشاركته في الدعوة للمشروع: "أن الشباب نجح في أن يحرك الشيوخ الذين جللت هامتهم الأيام بالشعر الأبيض الدال على طول التجربة." وإن الدعوة للمشروع "كانت خطوة نحو تغيير الحياة في مصر التي ماجت بعد ذلك وامتلأت بنشاط الشباب."

أبي... بدر الدين أبو غازي
(14 مايو 1920 ـ 11 سبتمبر 1983)
 زي النهار ده من خمسة وتسعين سنة اتولد ابويا بدر الدين أبو غازي، اتولد يوم 14 مايو سنة 1920... فكرت أسيب له المدونة يتكلم فيها عن طفولته، الكلام اللي منشور هنا، ابتدى يكتبه من 57 سنة وشهرين، كان رسالة أو حوار أو مشروع كتاب مشترك مع أختي الصغيرة نادية...

 


 كتب بدر الدين أبو غازي:
الرحلة
باريس
14 مارس 1977
        إلى نادية...
        عندما قلت لي أود أن نؤلف كتابًا معًا كان لكلمتك في نفسي وقع ورنين، وبدأت أفكر ماذا نكتب معًا؟
وفي الطريق إلى المطار وأنت معي عاودتني الفكرة، وعندما أخذت مكاني في الطائرة كانت تعاودني مشاعر أسف على رحلات تطلعنا هذا العام إلى أن نقطعها معًا.


وكلما أعددنا لرحلة تعثرت حتى جاءت هذه الرحلة المفاجئة أقطعها وحدي.
عندما ترتفع الطائرة وتحلق في السحاب تعاودني سكينة من التأملات لا أحب أن أقطعها بالقراءة أو أشغلها بأمور أخرى تفسدها.
  هذه اللحظات النادرة التي أخلو فيها من مشاغلي وأتطلع إلى السحاب الفضي تبعدني عن كل ما يفصلني عن نفسي في دوامة العمل، وتجمع أطرافًا من الذكريات والتأملات في رحلة العمر التي قطعتها...
لماذا لا يكون كتابنا معا هو هذه الرحلة...
  أقص عليك طرفًا من رحلتي لتشقي أنت رحلتك بنفسك، وتقصين علي طرفًا من رحلتك التي مازالت تتفتح كزهور تشرق عليها الشمس وتلقي عليها الضياء.
  عندي رحلة أيام مضت وحياة تشكلت ولم يعد إلى تغييرها من سبيل، كل ما قد يأتي بعد ذلك قدر محتوم صاغته أيام العمر الماضية.
 وعندك رحلة حياة تتشكل ومازالت أغصانها الخضراء تحلق في النور وتصوغ زهورًا قد يكون للأرض التي نبتت فيها أثر في ألوانها، ولكن إرادة الحياة عندك وعبقرية الربيع في سنك مازالت تستطيع أن تشكل الأغصان وتتحكم في ألوان الزهور.
 في مثل سنك لم أكن قد زرت الإسكندرية، أما أنت فقد قطعت الرحلة وحدك إلى لندن، وذهبت في رحلة رفاق شبابك إلى باريس. جيلكم يختزن تجارب أفضل من جيلنا، ولديه الرغبة في الرؤية والمعرفة والتجوال، ولعل طموحه مع سرعة إيقاع الزمن أكبر من طموحنا.
  إن السنين التي ذهبت من عمري والليالي التي راحت في النسيان، والأمل والتطلع والساعات السعيدة والأيام الشقية، كل شيء يبدو أمامي في هذه اللحظة مضيئًا في حضور غريب، يأخذ على البعد قيمته، والحقيقة كلوحات التصوير التي لا تفضي إليك بأسرارها إلا على مسافة معينة.
 ماذا بقى من هذه الأيام؟ وهل تستطيع الكلمات أن تبلور جوهرها وتعيد إليها ضوئها الحي متألقًا في حقيقته الصادقة بالفرح والحزن، بالخوف أو السكينة، بالصراع أو الاستقرار؟
 إن صورًا كثيرة تفرض الآن حضورها في هذه اللحظات من صفاء الذهن وجلاء الذاكرة.
 

صورة من اللون الوردي تتشكل في بيت من أحياء القاهرة القديمة يلوح فيها أبي وأمي وخالتي وبعض إخوتي، وحولنا جو من المرح والهدوء والاستقرار، وجدتي في البيت تحكي لنا قصصًا غريبة عن أبطال وهميين وملائكة وجان، ومعنا في البيت أقارب من جيلها والجيل الذي تلاها... هكذا كانت بيوتنا في العشرينيات لا تعرف الأسرة المحدودة، وإنما تعرف العائلة بمعناها الواسع فكل شيء ميسر... البيوت فسيحة، والطعام لكل فم، والحياة لا معنى لها في إطار الأسرة الصغيرة المعزولة. لا أذكر بعد ذلك إلا صداقات رقيقة في طفولتنا، ولعب عزيزة علينا أكاد الآن ألمسها بيدي وتستعيدني طفلًا بغير هموم.

 
 
 وتأتى مرحلة المدرسة... سيارة تقدم كل صباح أنزل إليها كارهًا وأحيانا أبكى لأن دورتها الطويلة تعيدني إلى البيت الذي أحببت وقد أوشكت الشمس أن تغيب، ينزل أبي معي كل يوم ليطلب إلى السائق اختصار الرحلة.
 
كنت منطويًا خجولًا، فلم أجد صحبة هذا المجتمع الكبير من الأطفال متعة، قد تكون بعض الكلمات قد أقامت جسورًا بيني وبينهم، ولكني أجاهد في اجتيازها. أجد في بعض مدرساتي روحًا من الحب تربطني بهن؛ كانت إحداهن كأمي، وجدت عندها ظلًا من الرحمة وحنانًا، ولكنها ذات يوم أخبرتنا بأنها ستترك المدرسة، كان هذا هو الشرخ الأول في مشاعري، بكائي عليها مازال يهز نفسي حتى الآن... هل يمكن أن تبعد عنى وتغيب؟ وماذا تعني المدرسة بعدها وماذا تكون؟ طالت هذه المأساة، وعشت أيامًا مع الحزن لا يصرفني عنه شيء إلى أن جاء الحزن الأكبر...

 ذات صباح، وكنا قد انتقلنا إلى بيت جديد، وكم كان اختيار البيوت والتنقل بينها يسيران في تلك الأيام، هذا البيت أوسع، وذاك يجمع بين الشمس والهواء، وهنالك بيت آخر فيه حديقة، وهكذا تعددت صور البيوت في طفولتي... في هذا البيت الجديد، ولون الصباح رمادي في غرفة مغلقة النوافذ تطلعت إلى أمي، سمعتها تنتحب؛ وفي ركن من الغرفة أبي يحتضر، عيناه شبه مسبلتين، ولكن فيهما ابتسامة سكينة وبريق يلمع.      في لحظات تحول البيت إلى صراخ وضجيج، أشخاص يذهبون ويجيئون، وصلت سيارة المدرسة فصرفها من وكلوا إليه أمري من أتباع البيت وأصدقائه، وصحبني إلى محل قريب فاشترى لي قطعة من الشوكولاتة... ظللت معه في الطريق لا أريد العودة إلى البيت، وبعد لحظات وضعت مقاعد كثيرة، وبدأ الناس يتوافدون، وعند الظهيرة خرج من البيت نعش وارتفع بكاء واصطف جمع من تلاميذ مدرسته يشيعونه... لا أدرى كم مشينا، ولكن الطابور الطويل، وجموع المشيعين الغفيرة، وأصوات البكاء والنشيج غمرني في مسيرة طويلة يخيل إلى أنها امتدت من تمثال لاظوغلي حيث كان بيتنا إلى ميدان المحطة فوضع النعش في القطار ووضعنا معه. كم قطعنا هذه الرحلة بصحبته حيًا إلى بلدتنا في إجازات الصيف، كانت هذه رحلته ورحلتنا عرفنا بفضله الريف وعشنا في بيت جدي أيامًا مازال لها حضورها، وتنقلنا بين بيوت أقاربنا، وفي ذاكرتي حتى الآن صور شيخ الكتاب والحلاق والعريف والمأذون وعبيط القرية والمجانين وبنات الفلاحات في رحلة اليوم التقليدية إلى الترعة، رائحة الطعام في البيت تنبعث من الأفران، ومذاق النبات وعبيره في الحقول، وأيام الموالد بشموعها وألوانها، وأغاني جمع القطن، وحصاد القمح في الأجران، والنورج القديم نركبه في دورته التقليدية حول سنابل القمح، وصوت الجاموسة عزيزة، وركوب الحمير من البيت إلى الحقول، ورحلة السيارة تحملنا من القرية إلى المنصورة لنمضي يومًا بين محلاتها ومقاهيها، وعبور النيل في المراكب القديمة بين طلخا والمنصورة، كم لكل هذه الصور الآن من حضور غريب، الشكل واللون والعبير وبعد الزمن يضفي عليها بعدًا ساحرًا...
 كانت هذه هي رحلاتنا السابقة؛ أما هذه الرحلة فقد جللت بالسواد، حملناه إلى جبانة القرية، واختفى من بيوتها العتيدة الغناء وارتفعت أصوات النادبات... كان كل شيء ينوح عليه ويبكيه... ذهب في سن الثانية والثلاثين... كان الهدوء والطيبة والتواضع والمحبة... ظلت القرية تبكيه وتذكره ولا تغيب الدموع عن عيون نسائها ورجالها وشبابها كلما رأونا نأتي لنقوم بواجب الزيارة... وكان الحديث عن كرمه وشهامته وخلقه لا ينقطع على لسان كل من عرفه.

 سكن السواد بيتنا وأحاط كل شيء، الصور والأثاث والملابس، وكل حياتنا يجللها الحداد، وأمي لا تكف عن البكاء.  وعدت إلى المدرسة بعد غياب طويل مرتديًا مريلة سوداء، مازالت صورة هذه البقعة السوداء بين لون المرايل الفاتحة والأشرطة الخضراء تهزني؛ فقد انتبذت بين التلاميذ مكانًا قصيًا، وباعد هذا اللون بيني وبينهم، كأن حزنًا غامضًا عليهم يقتحم بهجتهم... ظل هذا اللون الأسود بقعة طاردة إلى أن رفعت الحداد.
 كانت هذه الرحلة بداية هموم ومتاعب عايشتها وأدركتها طفلًا.
  ما زلت أذكر أسوار القصر الملكي الرمادية ومجموعة من المكاتب أطرقها بصحبة أمي وجدي لنقبض حقنا في مكافأة... لم يكن على الدولة، أو مدارس الخاصة الملكية التي كان يعمل بها التزام سوى أربعين جنيهًا هي كل ثمن حياة ذهبت في سن باكرة ونصيب أسرة تدير بها شئون الحياة، لا أمن في الحياة ولا استقرار، وداعًا إذن لأيام ذهبت وطوت معها السعادة والرخاء. انتقلنا من بيت إلى بيت أصغر، وخيم السواد على كل شيء، صورة هذا البيت الجديد هي صورة الكآبة والخوف؛ وعرفت استمارة مجانية التعليم الرمادية، والالتماسات والتظلمات، أدركت هذه الأشياء في سن لا يعرف فيه الأطفال غير المرح واللعب.

وعاد خالى من باريس وحمل بنبل ودون أن يشعر أحد كل مسئوليتنا، ونقلنا مرة أخرى إلى بيت آخر كبير، كانت هذه السنة هي سنة أزمة نهضة مصر، وظروفه المالية ليست كما ينبغى، ولكنه أخفى عنا كل شيء، وانتهت أزمته، وأزيح الستار عن تمثال النهضة في حفل كبير مازلت أذكر صورًا منه، وخروجنا في الليل في عربة ذات خيول؛ فقد كانت السيارات شيئًا نادرًا في هذه الأيام، نطوف حول ساحة التمثال يلألئها النور وجموع الشعب تتطلع إلى الأثر القومى الذى طال إرتقابهم له، وفي طريق عودتنا لمحناه في سيارة مع صحبة من الأصدقاء.
 وفى هذه الأيام أيضًا قمت بعمل أخرجني من وحدتي وكسر حاجز الحداد الأسود الذي أحاطني؛ فقد أسندت إلى المدرسة دور أبو جميلة في مسرحية الحفل الختامي للمدرسة.

كانت مدرسة روضة أطفال قصر الدوبارة هي المدرسة الأولى للأطفال في مصر، وكان حفلها شيئًا كبيرًا يحضره رجال الدولة وجمع غفير من الناس، مثلت أمام هذا الجمع ونشرت المجلات والصحف صورتي وأنباء الاحتفال فعاودتني الثقة وشغلني هذا النجاح عن أحزان في باطني.
 
وما كاد الصيف يأتى حتى عدنا إلى رحلتنا التقليدية للقرية إلى جوار الغائب عنا، وعدت لأواجه أزمة جديدة، ففي نفسي إلف للأماكن والأشياء والأشخاص؛ فارقت مدرستي موجع القلب، وكم بكيت لفراقها وظللت وثيق الارتباط بها دائم التردد عليها في السنوات الأولى من تعليمي الابتدائي.
***
 قائد الطائرة يعلن اقترابنا من الجبل الأبيض هامات الجبل تجللها الثلوج، ولا يلوح من نافذة الطائرة شيء غيرها، جلال السكينة الرائع يحيطنا لحظات وكأننا نحلق في عالم سحري لو كانت السكينة الأبدية بهذا الجلال لذهب عنا بعض الخوف، رأيت الجبل الأبيض بعد ذلك من الأرض السويسرية وأنا أجتاز طرقات جنيف فلم أر له هذا السحر العظيم، إن رؤية الأشياء تتغير ووقعها يختلف فيتغير عمقها النفسي بتغير البعد والموقع.

***
الرحلة إلى باريس تهزني دائمًا فبيني وبينها وشائج لا تغيب، كانت رحلتي الأولى خارج مصر إليها وقبل هذه الرحلة فى الواقع كان إرتحال بالروح إليها لا ينقطع حتى زرت أحياءها ومتاحفها، وجبت ضفتيها اليمنى واليسرى في مخيلتي، وعايشت فنانيها وأدباءها العظام بين مونمارتر ومونبارناس والحى اللاتينى. فلما طرقتها أقدامى لأول مرة عام 1955 كنت أعرفها برؤيتي الذاتية قبل أن أراها بعيني.
 للأحياء والمدن حياتها وروحها وسرها الخاص، وهذا هو ما يربطني بباريس كارتباطي بصديق له في نفسي إلف ومحبة.
 ذكرت هذه المرة رحلتنا الأولى إليها مع أمك قبل مولدك، وذكرت رحلتنا الثانية حين كنت تجتازين طفولتك، وذكرت رحلاتي إليها منفردًا، لكل رحلة طابع ومذاق ولكن يبقى للرحلة الأولى سحرها الخاص، كانت جلاءً بصريًا لما نعرفه عنها في نفوسنا، وكانت رحلة البساطة والشباب، نعيش في حي الطلبة ونتردد على مطاعمهم، ونقطع الساعات سيرًا ونهتز لكل اكتشاف جديد، وكان كل ما رأينا وحصلنا ركيزة لرحلاتنا التالية.
 

 
 

 في اليوم الرابع من قدومنا لباريس خرجت وحدى متجهًا صوب السين، ولكنك كنت بصحبتي في الطريق إلى اللوفر، على الضفة اليسرى يقوم عمود ملحمي لم أره من قبل على كثرة ترددي على المكان، أنه تمثال آدم ميكيفتش شاعر بولونيا العظيم وبطلها نحته المثال الفرنسي أنطوان بورديل وأحاطه برموز تمثل الملحمة البولونية، على قاعدة العمود كلمات الشاعر العظيم:
         "ولو كنت أسيرًا
تستطيع بالفكر والإيمان أن تحلق"
 " ياروح الحرية إن الشخصيات العظيمة منك "
لقد كافح آدم ميكييفتز من أجل حرية بلاده وعاش مشردًا وأسيرًا، ولكن بورديل كان قبسًا من روح الحرية، فخلد الأحرار والمعذبين، ونحت من نسيج روحه هذا النصب العظيم لشاعر عظيم آدم ميكيفتش.
 عندما تذهبين إلى اللوفر لا تحاولي أن تزوري كل شيء فإنك لن ترى شيئا... وجهى نفسك إلى أعمال بذاتها، وقفي عندها طويلًا، فهنا فيض عطاء النفس الإنسانية عبر العصور، ومن العسير أن نستوعب في ساعات أو أيام كل هذا العطاء. في طريقك إلى القسم اليوناني وأنت تعبرين تمثال فينوس دي ميلو الشهير لا يفوتك أن تلقي النظر إلى أشياء صغيرة لم يكن لها هذا الحظ من الشهرة والذيوع، هنالك ستجدين نبض التمثال الإغريقي القديم وعطاءه الصادق في ثماثيل صغيرة قد تنصرف عنها العين.
"الموناليزا"، هنالك لافتات وإشارات توجه الطريق إليها وأمامها انظار خاشعة وأخرى تشدها الشهرة إلى هذا الركن المغطى بالزجاج تطل منه لوحة أبدع ليوناردو دافنشي أروع منها وأبدع غيره من الفنانين، ولكن لعبة الحظ في الحياة تمتد إلى روائع الفنون فتلقي على عمل ما من الأضواء أكثر مما يستحق وتغمر أعمالًا أخرى تفوقه روعة.
 طالت زيارتك للوفر أو قصرت فأعطي نفسك في اللحظات التي تخصصيها له لما ترين فيها عذابات فنانين من أجل الابداع، وهنا جانب مضيء من حضارة الإنسان، تأمليه فى ورع الصلاة، فإن ساعة واحدة من هذا الورع الروحي خير من ساعات تمضين فيها لاهثة بين أجنحته الشاهقة.
 في اليوم الخامس كنت أصعد سلمًا عاليًا لأصل إلى مسكن صغير يطل على موقع جميل في باريس ويشهد من شرفته قبة الأنفاليد؛ أصبح هذا البيت من مزاراتي التي أحرص عليها في باريس بحثًا عن الزمن الضائع من خلال حديث أو ورقة أو صورة.
 إنها رحلة لا تنقطع في حياتي، ارتبطت بها منذ رحلة بعيدة في الزمان قطعتها في عربة ذات خيول مع جدتي وأمي وخالتي من المنيل إلى المستشفى الفرنسي بالعباسية، ولكنها تبدو لي من أطول رحلات الحياة وأشقها، كان يوم عيد وحملت دقات التليفون نذيرًا فركبنا في هلع ووجوم وقلق نستحث الطريق، نكاد نستنفر الخيل ونضربها لتسرع الخطى، حتى بلغنا مبنى أصفر اللون تحيطه جدران صامتة، قطعنا حديقته عدوًا وصعدنا الدرج قفزًا حتى بلغنا غرفة فيها شبح يحتضر؛ إنه الموت مرة أخرى ولكن لونه هذه المرة باهت البياض ضارب في صفرة.
لم أكن قد رأيت مختار في مرضه، وكانت آخر صورته في نفسي صوت ضخم أخاذ وعيون يشع فيها بريق وجسد مفتول فكدت أنكر صورة هذا الحطام أمامي. كم تعذب!
 وفي هذه المرة ومن هذا المسكن في طريق بيتي بباريس قرأت بقايا أوراق تشير إلى آلام مبرحة وعذاب نفسي وجسدي مرير، ورحلة إلى مصحات سويسرا ينشد عندها العلاج، ووصف حزين لمرضه وحالته وإحساسه بالخطر، أعادتني هذه الصورة إلى تلك اللحظات من غروب حزين حين فارقته آخر أنفاس الحياة، وخرجت مع صديق نطوف حول جدران المستشفى فقد غمره الظلام وفجأة مثل أمامنا إحساس بالضياع.
قال من معي ماذا ستفعلون؟ وكيف ستعيشون؟ وقد كان كل شيء لكم، ومات بعد صراع مرير مع السلطات مدينًا معدمًا.
مرة أخرى لا أمن ولا استقرار ولا مال...

 في هذه اللحظات قدم صديقه عزيز المصري، وكان آخر من شهده قبل أن يذهب في غيبوبة الموت ثم انصرف فترة ليعد لدفنه إعدادًا قوميًا، نظر إلي ثم قال: "لا تجزعوا... أنا أعلم وسأكلم الملك لينهي هذا النزاع السخيف فمن حقكم أن تعيشوا..."
 هذه الرحلات القصيرة عميقة الأثر في نفسي، لعلها حفرت فيها أخاديد من الألم والحزن، اختلط في نفسي الصفو والسكينة بتوقع الخطر، وفي أحسن لحظات الصفو تتولد في داخلي تيارات من القلق تظل تطاردني، تضييق علي الخناق، تفسد بعض سعادتي لا أدري لها منطقًا ولا سببًا، ولكنها صدمات النفس في الطفولة فجرت أوعية لا تنضب من الصراع والألم...
 أسأل الله يا ابنتي أن يجنبك في حياتك هزات المآسي والقلق، فالحياة جميلة ونحن نحياها مرة واحدة، ومن حقها علينا ألا نفسدها، ومن حقنا على الحياة أن نعيشها في أمن وهدوء ومحبة. إن انعدام الأمن يفجر الخوف ويبدد الأمل والحب ويجعل الحياة دوامة من القلق.
ولكن ظل الغائبين دائمًا معنا.
لقد رحل مثل أبي، وفي شبابه، لم يخلف شيئًا، كان يملك عطاء للأهل والأصدقاء هو الذي كان يعيش من فنه لا يستند إلى دخل من منصب أو ثروة، ولكنه عاش حياته عمقًا وعرضًا، أستمتع بلياليها، وسعد بها، واسعد من حوله، رحلاته في أوروبا وحياته في مصر كانت في مستواها وذوقها تقارب حياة أصحاب المال والجاه.
وإذا كان السل قد نخر عظامه وهد كيانه وفجر في جسمه عذاب الألم؛ فإن سنواته قبل ذلك كانت للفن والحب والحياة.
فى إقبال المجد وتطلع الأمل ذهب وبقى ظله يرعانا.
 تماثيله التي كانت عطاؤه لمصر وهبناها له لترضى نفسه، وبين مخلفاته وجدنا مجموعة من الآلات والمعدات من بقايا ما اشتراه لإنهاء أعمال تمثال النهضة، فكانت هذه المخلفات سندنا مع قطعة أرض تركها أبي، موردهما عنا لم ينقطع فإن من يذهب لا يكون عدمًا ولكن حياته تبقى، تتحول إلى أثير، وما تركه على الأرض من أثر لا يختفي.
هكذا يرى الصوفية ويرى أهل العلم، ألم يتنبأ هكسلى بآلة الزمن التي نحركها فتستعيد لنا أيامًا ماضية بكل أحداثها وشخوصها! هنالك إذن أشعة غير منظورة تربطنا بهم هي الروح التي تبقى هائمة ومحلقة.
***
كانت الحياة في أيامنا ليست كالحياة في أيامك. بضعة مئات من الجنيهات يمكن أن تقيم شأن أسرة لعدة سنوات، فمضى كل شيء لم يتغير، تأتي ساعات الشدة وتذهب وقطعنا رحلة الحياة.
 ولكن مالي توقفت طويلًا عند رحلتين كبيري الأثر في نفسي، وأنا أود أن أقص عليك يومياتي!!
 إن الرحلة لم تنته ولنا عودة...
***
متحف جيميه في باريس، مبنى قديم ليس له حظ اللوفر من الشهرة، ولا جاذبية متحف الفن الحديث، ولا ضخامة المركز الذي أقامه بومبيدو مكان الهال القديم فأثار سخطًا لم ينقطع، أقام شيئًا اقتحم به الذوق الباريسي، وفي الهال الباريسي الشهيرة بأسواقها ومقاهيها التي كانت تسهر حتى الصباح.
هكذا حتى المتاحف تتفاوت حظوظها، ولكن هذا المبنى القديم يحتضن عراقة حضارة عظيمة هي الحضارة الأسيوية بكل عطائها في فنون هي من فيض صدقها وعقيدتها.
عندما تكونين فى باريس أعبري جسر "ألما" واتجهي يسارًا إلى هذا البيت القديم يطل عليه برج إيفل غير بعيد واقضي ساعات في رحاب رحلة عظيمة بين الحضارات.

***
 الآن الليلة الأخيرة من رحلتي، في غرفتي بفندق يطل على البحيرة والجبل، الحياة في سويسرا رتيبة نظيفة منظمة ولكن شيئا يغيب عنها هو هذا النبض المتألق وتلك الشرارة التي تفجر الفن والإبداع، الدقة سمتهم والنظام، ومن أجل هذا برعوا في صناعة الساعات والآلات الدقيقة؛ لعل إتصالهم بإيطاليا وفرنسا وألمانيا وإحاطة تلك البلاد بأراضيهم جعلهم يأخذون منها الشكل دون الروح فتخلفت عنهم أشياء وأدركوا أشياء.
 تمضين فى طرقات جنيف فإذا غاب عنك سحر الطبيعة التي تحيط بها ضقت بكآبة راسخة تجسم على الأنفاس.
إن قرب جنيف من فرنسا جعلها تتطلع إلى باريس "الضفة اليسرى" و"الضفة اليمنى" "ريف جوش" و"ريف دروات" مثل ضفتي السين في باريس، والمولان روج تتسمى باسم طاحونة لوتريك العظيمة، ولكن أين هذا الميدان من مونمارتر؟
في متحف التاريخ والفنون قريبًا من المدينة القديمة فى جنيف رأيت مجموعة تماثيل فيها ظل من أعمال أوجست رودان العظيم، ولكن أين هي من وهج عبقرية مثال فرنسا مبدع تمثال المفكر وبرجوازيو كاليه؟
على هذه التماثيل كتب أسم مثال سويسري رودو، طالعت بطاقة التعريف به فإذا هو أوجست دى نيدرهاوزن مثال سويسري عمل مع أوجست رودان خلال السنوات من 1883 حتى 1898 في باريس، ودفعه إعجابه به إلى أن يسمى نفسه "رودو" تقربًا من أسم رودان العظيم.
في هذا النموذج صورة من شخصية جنيف مدينة تحفل بأسماء ومواقع تتشبه بباريس فتأخذ منها شيئًا وتغيب عنها أشياء، ولعلهم بإقامة تماثيل الميادين والحدائق مثل ولع باريس في القرنين الماضيين، في كل نشراتهم إشارة إلى تمثال جان جاك روسو المقام في حديقة مواجهة لجسر الجبل الأبيض قريبًا من البحيرة، على قاعدة التمثال كتبوا جان جاك روسو مواطن من جنيف... عجبًا لهذا النظام والهدوء الجنيفي تنبعث منه شرارة من فكر الثورة الفرنسية...
وعلى حائط تذكاري ضخم مواجه لجامعة جنيف التي أنشأها كالفن عام  1559، كانت أكاديمية وتحولت إلى جامعة، على هذا الحائط حكاية من النحت والكتابة ساهم في إبداعها مجموعة من المعمارين وأثنين من النحاتين الفرنسيين بوشارو ولاندوفسكي إنها حكاية تسجل تاريخ حركة الإصلاح في سويسرا يتوسطها أربعة تماثيل ضخمة لأربعة من قادة حركة الإصلاح، وعلى امتداد الحائط لوحات من النحت البارز تمثل كفاح الشعب السويسري من أجل حقوق الإنسان ومن أجل ضمانات الحرية والتعليم، وصدى حركة الإصلاح في فرنسا والأراضي الواطئة وبروسيا وإنجلترا والولايات المتحدة والمجر.
 إن سويسرا بلد لها روح خاص يتطلب التأمل الوئيد لسبر أغواره، لكن جنيف تختلف كثيرًا عن روح باريس الفنانة المتألقة بالفكر والذوق وبكل ما فيها من سحر عميق.
وددت لوكنتي معي؛ إذن لكانت رحلتي أرق وأجمل، ولأشعتي فيها من ذكاء نفسك ورقتك ما كان كفيلًا بتخفيف وحدة الملل؛ ولكنها خطوات كتبت علينا، كم تطلعنا إلى رحلة معًا منذ شهور، فجاءت هذه الرحلة العجلى بدون ترتيب. إنها رحلة الجواب المتفرد أتاحت لي أن أقترب من أملك في أن نشارك في كتاب معًا فخططت هذه السطور تحمل تذكارات رحلات قديمة ولقطات من رحلة اليوم.
وستأتي بعدها رحلات نقطعها معًا... وعلى البعد والقرب سأظل أقيم من هذه الخطوط بناءً وأقص عليك مزيدًا من أطراف رحلتي.
جنيف 22 مارس 1977.

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...