الأحد، 30 أغسطس 2015


نجيب محفوظ موثقًا للثورة

عماد أبو غازي

 


  إن ما حدث في مصر في ثورة 1919 كان يكشف عن روح جديدة أخذت تسري في الشعب، عبر عنها الإبداع الأدبي لسنوات طويلة بعدها، وكان نجيب محفوظ من أهم من وثقوا لهذه الروح إبداعًا أدبيًا.
 منذ 13 نوفمبر 1918 كانت مصر تتغير، و لم يشعر الإنجليز ورجالهم في مصر وأعوانهم من المصريين بهذه التغيير، فتمادوا في غيهم، وزادوا في تعنتهم، وفي المقابل كانت روح المقاومة تسري بسرعة، وقيادة الوفد بزعامة سعد زغلول تزداد إصرارًا على المواجهة وتصعد من مواقفها طوال شهر فبراير سنة 1919، وحسين رشدي باشا رئيس الوزراء يقدم خطاب استقالة للمرة الثانية إلى السلطان فؤاد في 10 فبراير سنة 1919، عقب الاستقالة قبلت الحكومة البريطانية دعوة رشدي وعدلي يكن وحدهما إلى لندن، إلا أنهما رفضا السفر قبل السماح لأي مصري يرغب في السفر بممارسة حقه الطبيعي، فأضطر السلطان فؤاد إلى قبول استقالة الحكومة في أول مارس سنة 1919، وفي اليوم التالي وجه الوفد المصري خطابًا شديد اللهجة إلى السلطان فؤاد.
 وفي 4 مارس أرسل الوفد خطاب احتجاج إلى معتمدي الدول الأجنبية في مصر يفضحون فيه السياسة البريطانية في البلاد، وبعدها بيومين استدعى الميجر جنرال وطسن قائد القوات البريطانية في مصر بالنيابة رئيس الوفد وأعضاءه إلى فندق سافوي بميدان سليمان باشا، حيث مقر القيادة وتلى عليهم إنذارًا بريطانيًا رسميًا بتطبيق الأحكام العرفية عليهم في حال استمرارهم في معارضة السياسة البريطانية.
 كان رد الوفد واضحًا في اليوم نفسه بإرسال برقية احتجاج إلى لويد ﭼورﭺ رئيس وزراء بريطانيا، قبل أن تمضي 48 ساعة، وفي يوم 8 مارس سنة 1919، كانت السلطات البريطانية قد ألقت القبض على سعد زغلول ومحمد محمود باشا وإسماعيل صدقي باشا وحمد الباسل باشا وأودعتهم ثكنات قصر النيل، وفي اليوم التالي تم ترحيلهم إلى بور سعيد ومنها إلى مالطة منفيين بعيدًا عن الوطن، شاع الخبر بسرعة في العاصمة ومنها إلى الأقاليم، ما هي إلا ساعات قليلة وبدأت الثورة صباح الأحد 9 مارس سنة 1919، وكانت البداية من طلبة مدرسة الحقوق، واشتعلت نار الثورة في مصر من أقصاها إلى أقصاها.
 
 

 وفي رواية "بين القصرين" أول أجزاء ثلاثية نجيب محفوظ تدور الأحداث في ظلال ثورة 1919، يتطور الحدث الروائي مواكبًا للثورة ومتفاعلًا معها... يرصد محفوظ التغير في المجتمع المصري مع حدث الثورة من خلال التغير في عائلة السيد أحمد عبد الجواد ومحيطها، ودون أن تفقد الرواية جانبها الإبداعي تتحول بمعنى ما إلى تأريخ أدبي للثورة، بل في بعض صفحات الرواية يتحول نجيب محفوظ إلى موثق للثورة يضمن السرد الروائي وثائق الثورة بنصوصها الكاملة، في تجربة من تجارب محفوظ في الشكل الروائي...
 
 
 السطور التالية من الرواية تقدم نموذجًا لهذا السرد التوثيقي:
 

 "أعلنت إنجلترا حمايتها من تلقاء نفسها دون أن تطلبها أو تقبلها الأمة المصرية، فهي حماية باطلة لا وجود لها قانونا بل هي ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها".
 كان فهمي يملي الكلمات، كلمة كلمة، في أناة وبصوت واضح النبرات والأم وياسين وزينب يتابعون باهتمام درس الإملاء الجديد الذي انكب كمال على كتابته، مركزًا وعيه في ألفاظه من دون أن يفقه معنى كلمة مما كتب صوابًا أو خطأً، لم يكن غريبًا أن يلقي فهمي على شقيقه الصغير درسًا في الأملاء أو غيرها في جلسة القهوة، ولكن موضوع الإملاء بدا جديدًا حتى للأم وزينب، أما ياسين فنظر إلى أخيه مبتسمًا:
ـ أرى هذه المعاني قد ملكت عليك نفسك، فلم يفتح الله عليك بإملاء لهذا الغلام المسكين إلا خطبة سياسية وطنية ينفتح لها المغلق من أبواب السجون.
فبادر فهمي إلى تصحيح رأي أخيه قائلًا:
ـ هي من خطبة سعد أمام سلاطين الاحتلال في جمعية الاقتصاد والتشريع.
فتسأل ياسين باهتمام ودهشة:
ـ وكيف كان ردهم عليه؟
فقال فهمي بانفعال:
ـ لم يجئ ردهم بعد، والكل يتساءل عنه في حيرة وقلق، إنها غضبة مزمجرة في وجه أسد لم يؤثر عنه الحلم والعدل.
ثم وهو يتنهد مغيظًا محنقًا:
ـ كان لابد من غضبة بعد أن منع الوفد من السفر، وبعد أن استقال رشدي باشا من الوزارة فخيب السلطان المأمول بقبول استقالته.
ثم مضى إلى حجرته مسرعًا، وعاد وهو يبسط ورقة مطوية وقدمها إلى أخيه وهو يقول:
ـ ليست الخطبة كل ما عندي، اقرأ هذا المنشور الذي يوزع سرًا متضمنًا رسالة الوفد إلى السلطان.
فتناول ياسين المنشور وراح يقرأ:
ـ "يا صاحب العظمة...
 يتشرف الموقعون على هذا أعضاء الوفد المصري أن يرفعوا إلى عظمتكم بالنيابة عن الأمة ما يلي:
 لما اتفق المحاربون على أن يجعلوا مبادئ الحرية والعدل أساسًا للصلح وأعلنوا أن الشعوب التي غيرت الحرب مركزها يؤخذ رأيها في حكم نفسها أخذنا على عاتقنا السعي في استقلال بلادنا والدفاع عن قضيتها أمام مؤتمر السلام ما دام أن الحق الأقوى قد زال من ميدان السياسة، وما دامت بلادنا قد أصبحت بزوال السيادة التركية حرة من كل حق عليها لأن الحماية التي أعلنها الإنجليز بلا اتفاق بينهم وبين الأمة المصرية باطلة، ولم تكن في الواقع إلا ضرورة حربية تزول بزوال الحرب، اعتمادًا على هذه الظروف وعلى أن مصر غرمت كل ما قدرت عليه من المغارم في صف القائلين بحق حرية الأمم الصغرى، لا يكون لدى مؤتمر السلام ما يمنع من الاعتراف بحريتنا السياسية جريًا على المبادئ التي أسس عليها. عرضنا رغبتنا في السفر على رئيس وزرائكم صاحب الدولة حسين رشدي باشا، فوعد بمساعدتنا على السفر وثوقا منه بأننا إنما نعبر عن رأي الأمة كافة؛ فلما لم يسمح لنا بالسفر وحبسنا داخل حدود بلادنا بقوة الاستبداد لا بقوة القانون، وحيل بيننا وبين الدفاع عن قضية هذه الأمة الأسيفة، ولما لم يستطع دولته أن يحتمل مسئولية البقاء في منصبه في حين أن الشعب يصادر في مشيئته، استقال هو وزميله صاحب المعالي عدلي يكن باشا استقالة نهائية قوبلت من الشعب بتكريم شخصيهما والاعتراف بصدق وطنيتهما.
ولقد كان الناس يظنون أنه كان لهما في وقفتهما الشريفة دفاعًا عن الحرية عضد قوي من نفحات عظمتكم، لذلك لم يكن ليتوقع أحد في مصر أن يكون آخر حل لمسألة سفر الوفد قبول استقالة الوزيرين، لأن في ذلك متابعة للطامعين في إذلالنا وتمكينا للعقبة التي ألقيت في سبيل الإدلاء بحجة الأمة إلى المؤتمر، وإيذانًا بالرضى بحكم الأجنبي علينا إلى الأبد.
قد نعلم أن عظمتكم ربما كنتم مضطرين لاعتبارات عائلية أن تقبلوا عرش أبيكم العظيم الذي خلا بانتقال أخيكم المغفور له السلطان حسين، ولكن الأمة من جهة أخرى كانت تعتقد أن قبولكم لهذا العرش في زمن الحماية الوقتية الباطلة رعاية لتلك الظروف العائلية ليس من شأنه أن يصرفكم عن العمل لاستقلال بلادكم، غير أن حل المسألة بقبول استقالة الوزيرين اللذين أظهرا احترامهما لإرادة الأمة لا يمكن أن يتفق مع ما جبلتم عليه حب الخير لبلادكم، والاعتداد بمشيئة شعبكم، لذلك عجب الناس من مستشاريكم كيف أنهم لم يلتفتوا إلى الأمة في هذا الظرف العصيب وهي إنما تطلب منكم – يا أرشد أبناء محررها الكبير محمد علي – أن تكونوا لها العون الأول على نيل استقلالها، مهما كلفكم ذلك، فإن همتكم أرفع من أن تحددها الظروف. كيف فات مستشاريكم أن عبارة استقالة رشدي باشا لا تسمح لرجل مصري ذي كرامة وطنية أن يخلفه في مركزه؟! كيف فاتهم أن وزارة تؤلف على برنامج مضاد لمشيئة الشعب مقضى عليها بالفشل؟!
عفوًا مولانا قد لا تكون مداخلتنا في هذا الأمر وفي غير هذا الظرف غير لائقة؛ ولكن الأمر قد جل الآن عن أن يراعى فيه أي اعتبار غير منفعة الوطن الذي أنت خادمه الأمين. إن لمولانا أكبر مقام في البلاد فعليه أكبر مسئولية عنها، وفيه أكبر رجاء لها، وإننا لا نكذبه النصيحة إذا تضرعنا إليه أن يتعرف رأي أمته قبل أن يتخذ قرارًا نهائيًا في أمر الأزمة الحالية، فإننا نؤكد لسدته العلية أنه لم يبق أحد في رعاياه من أقصى البلاد إلا وهو يطلب الاستقلال، فالحيلولة بين الأمة وبين طلبتها مسئولية لم يتحر مستشارو مولانا أمرها بالدقة الواجبة، لذلك دفعنا واجب خدمة بلادنا وإخلاصنا لمولانا أن نرفع لسدته شعور أمته التي هي الآن أشد ما تكون رجاء في استقلالها وأخوف ما تكون من أن تلعب به أيدي حزب الاستعمار، والتي تطلب إليه بحقها عليه أن يغضب لغضبها ويقف في صفها فتنال بذلك غرضها، وأنه على ذلك قدير".
رفع ياسين رأسه عن المنشور وفي عينه ذهول وفي قلبه نبض جديد من التأثير، بيد أنه هز رأسه قائلًا:
-         يا له من خطاب! لا أحسبني أستطيع أن أوجه مثله إلى ناظر مدرستي دون أن ينالني العقاب الرادع!
فرفع فهمي منكبيه استهانة وقال:
-         الأمر قد جل الآن عن أن يراعى فيه أي اعتبار غير منفعة الوطن!
ردد العبارة عن ظهر قلب كما وردت في المنشور، فلم يتمالك ياسين أن يقول ضاحكًا:
-          أحفظت المنشور! ولكني لا أعجب لهذا، كأنك كنت تترصد طول حياتك لمثل هذه الحركة كي تلقى إليها بكل قلبك، ولعلي لا أخلو من مثل شعورك وآمالك، ولكني لا أقرك على الاحتفاظ بهذا المنشور، خصوصًا بعد استقالة الوزارة وتحرش الأحكام العرفية!
فقال فهمي في فخار:
-         إني لا احتفظ بهذا فحسب ولكني أقوم بتوزيعها ما سمح الجهد."

الأحد، 23 أغسطس 2015


 اليوم الذكرى 88 لرحيل سعد زغلول...
 
 
وزارة سعد الأولى والأخيرة

عماد أبو غازي

 
 تولى سعد زغلول باشا رئاسة الوزارة مرة واحدة في الفترة من 28 يناير سنة 1924 إلى 24 نوفمبر سنة 1924، كانت تلك الوزارة الأولى والأخيرة له، وجاء تولي سعد لرئاسة الوزارة بعد أول انتخابات برلمانية جرت على أساس دستور 1923، وفاز فيها حزب الوفد بأغلبية كاسحة، وربما كانت تلك الانتخابات من أنزه الانتخابات التي شهدتها مصر طوال تاريخها البرلماني، وقد أجرت تلك الانتخابات وزارة يحيى باشا إبراهيم الذي تولى رئاسة الوزارة في مصر في فترة حرجة من تاريخ البلاد، ما بين 15 مارس 1923 إلى 27 يناير 1924، وفي عهد وزارة يحيى إبراهيم صدر دستور 23 وقانون الانتخاب، كما رفعت الأحكام العرفية، ونجحت الحكومة في عبور عملية إحلال موظفين مصريين محل الموظفين الأجانب بسلاسة، وقد أشار يحيي باشا إبراهيم إلى كل هذه الإنجازات في خطاب استقالته الذي رفعه إلى الملك عقب الانتخابات بناء على رغبة غالبية أعضاء مجلس النواب، لكن تبقى نزاهة الانتخابات وحياد الحكومة فيها أهم ما يذكره التاريخ ليحيى باشا إبراهيم وحكومته.
 

وعقب استقالة الحكومة أصدر الملك أحمد فؤاد الأول الأمر الملكي رقم 14 لسنة 1924، بتكليف سعد زغلول رئيس حزب الأغلبية بتأليف الوزارة، وجاء في هذا الأمر:
 "عزيزي سعد زغلول باشا
لما كانت آمالنا ورغائبنا متجهة دائمًا نحو سعادة شعبنا العزيز ورفاهيته، وبما أن بلادنا تستقبل الآن عهدًا جديدًا من أسمى أمانينا أن تبلغ فيه ما نرجوه لها من رفعة الشأن وسمو المكانة، ولما أنتم عليه من الصدق والولاء، وما تحققناه فيكم من عظيم الخبرة والحكمة وسداد الرأي في تصريف الأمور، وبما لنا فيكم من الثقة التامة قد اقتضت إرادتنا توجيه مسند رياسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرياسة الجليلة لعهدتكم.
وأصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف هيئة الوزارة، وعرض مشروع هذا التأليف علينا لصدور مرسومنا العالي به.
ونسأل الله جلت قدرته أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا بالخير والسعادة إنه سميع مجيب."

 

 وجاء جواب سعد زغلول على التكليف قطعة من الأدب السياسي الرفيع أكد فيها على الولاء للشعب الذي اختاره واختار حزبه، ويكرر فيها تمسكه بالمبادئ الوطنية والديمقراطية التي بلورتها ثورة 1919، قال سعد في رده على الملك:
 "مولاي صاحب الجلالة
  إن الرعاية السامية التي قابلت بها جلالتكم ثقة الأمة ونوابها بشخصي الضعيف توجب علىّ والبلاد داخلة في نظام نيابي يقضى باحترام إرادتها، وارتكاز حكومتها على ثقة وكلائها ألا أتنحى عن مسئولية الحكم التي طالما تهيبتها في ظروف أخرى، وأن أشكل الوزارة التي شاءت جلالتكم بتشكيلها من غير أن يعتبر قبولي لتحمل أعبائها اعترافا بأية حالة أو حق استنكره الوفد المصري الذى لا أزال متشرفًا برياسته.
  إن الانتخابات لأعضاء مجلس النواب أظهرت بكل جلاء إجماع الأمة على تمسكها بمبادئ الوفد التي ترمي إلى ضرورة تمتع البلاد بحقها الطبيعي في الاستقلال الحقيقي لمصر والسودان، مع احترام المصالح الأجنبية التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال، كما أظهرت شدة ميلها للعفو عن المحكوم عليهم سياسيًا، ونفورها من كثير من التعهدات والقوانين التي صدرت بعد إيقاف الجمعية التشريعية ونقصت من حقوق البلاد وحدت من حرية أفرادها، وشكواها من سوء التصرفات المالية والإدارية، ومن عدم الاهتمام بتعميم التعليم وحفظ الأمن وتحسين الأحوال الصحية والاقتصادية وغير ذلك من وسائل التقدم والعمران، فكان حقًا على الوزارة التي هي وليدة تلك الانتخابات وعهدًا مسئولاً منها أن توجه عنايتها إلى هذه المسائل الأهم فالمهم منها وتحصر أكبر همها في البحث عن أحكم الطرق وأقربها إلى تحقيق رغبات الأمة فيها وإزالة أسباب الشكوى منها، وتلافى ما هناك من الأضرار مع تحديد المسئوليات عنها وتعيين المسئولين فيها، وكل ذلك لا يتم على الوجه المرغوب إلا بمساعدة البرلمان، ولهذا يكون من أول واجبات هذه الوزارة الاهتمام بإعداد ما يلزم لانعقاده في القريب العاجل، وتحضير ما يحتاج الأمر إليه من المواد والمعلومات لتمكينه من القيام بمهمته خطيرة الشأن.
ولقد لبثت الأمة زمانًا طويلا وهى تنظر إلى الحكومة نظر الطير للصائد لا الجيش للقائد، وترى فيها خصما قديرًا يدبر الكيد لها لا وكيلا أمينًا يسعى لخيرها، وتولد عن هذا الشعور سوء تفاهم اثر تأثيرًا سيئًا في إدارة البلاد وعاق كثيرًا من تقدمها، فكان على الوزارة الجديدة أن تعمل على استبدال سوء هذا الظن بحسن الثقة في الحكومة، وعلى إقناع الكافة بأنها ليست إلا قسما من الأمة تخصص لقيادتها والدفاع عنها وتدبير شئونها بحسب ما يقتضيه صالحها العام، ولذلك يلزمها أن تعمل ما في وسعها لتقليل أسباب النزاع بين الأفراد وبين العائلات، وإحلال الوئام محل الخصام بين جميع السكان على اختلاف أجناسهم وأديانهم، كما يلزمها أن تبث الروح الدستورية في جميع المصالح، وتعود الكل على احترام الدستور والخضوع لأحكامه، وذلك إنما يكون بالقدوة الحسنة وعدم السماح لأي كان بالاستخفاف بها، أو الإخلال بما تقتضيه.
هذا هو بروجرام  وزارتي وضعته طبقًا لما أراه وتريده الأمة، شاعرًا كل الشعور بأن القيام بتنفيذه ليس من الهنات الهينات، خصوصًا مع ضعف قوتي واعتلال صحتي، ودخول البلاد تحت نظام حرمت منه زمانًا طويلاً، ولكنى أعتمد في نجاحه على عناية الله وعطف وتأييد البرلمان ومعاونة الموظفين وجميع أهالي البلاد ونزلائها.
فأرجو إذا صادف استحسان جلالتكم أن يصدر المرسوم السامي بتشكيل الوزارة على الوجه الآتي، مع تقليدي وزارة الداخلية.
-     محمد سعيد باشا               لوزارة المعارف العمومية
-     محمد توفيق نسيم باشا       لوزارة المالية
-     أحمد مظلوم باشا                لوزارة الأوقاف
-     حسن حسيب باشا             لوزارة الحربية والبحرية
-     محمد فتح الله بركات باشا     لوزارة الزراعة
-     مرقص حنا بك           لوزارة الشغال العمومية
-     مصطفى النحاس بك            لوزارة المواصلات
-     واصف بطرس غالي أفندي     لوزارة الخارجية
-     محمد نجيب الغرابلي أفندي  لوزارة الحقانية
وأدعو الله أن يطيل في أيامكم ويمد في ظلالكم حتى تنال البلاد في عهدكم كل ما تتمناه من التقدم والارتقاء.
وإني على الدوام شاكر نعمتكم وخادم سدتكم.
تحريرًا في 22 جمادى الثانية سنة 1342 (24 يناير سنة 1924)
سـعد زغلول"
 
 لكن حكومة الشعب التي قادها سعد زغلول وحاول خلالها أن يحقق آمال الأمة، لم يقدر لها أن تكمل في الحكم عشرة أشهر، واضطر سعد لتقديم استقالته بعد حادث اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش، فأهدر عمل متهور تصور من يقوموا به أنهم يخدمون الوطن آمال الأمة في أن تجني ثمار تضحياتها في ثورة 1919.

النحاس في ذكراه
النهار ده 23 أغسطس بتمر خمسين سنة على رحيل الزعيم مصطفى النحاس، وكمان بتمر 88 سنة على رحيل قائد ثورة 1919 سعد زغلول، بالمناسبة دي أنشر صفحات قليلة من مذكرات مصطفى النحاس، أتمنى إني أنتهي من تحقيقها قبل نهاية السنة...
 
 
 وده رابط الصفحة اللي نشرتها في جريدة الشروق النهار ده...
 
صفحات من مذكرات الزعيم مصطفى
النحاس

عماد أبو غازي
 يوم 23 أغسطس تمر ذكرى رحيل الزعيمين الكبيرين سعد زغلول ومصطفى النحاس، هذا العام يصادف الذكرى الخمسين لرحيل مصطفى النحاس. ومصطفى النحاس زعيم وطني يستحق أن نحتفي به تخليدًا للقيم التي عاش وكافح من أجلها، واعتذارًا لهذا الرجل الذي تم تشويه تاريخه وحجب اسمه لسنوات؛ ينتمي مصطفى النحاس إلى الرعيل الأول من مؤسسي الوفد المصري الذين انضموا إلى سعد زغلول، وأصبح بسرعة من أقرب المقربين إليه، ونفي معه، ثم أصبح سكرتيرًا عامًا للوفد المصري.
 

 
 لقد لعب مصطفى النحاس دورًا مهمًا في السياسة المصرية على مدى نصف قرن، بداية من انتمائه لتيار الحزب الوطني في مطلع القرن العشرين، ثم انضمامه إلى الوفد المصري إلى جانب سعد زغلول، فتوليه زعامته بعد وفاته سنة 1927، وانتهى هذا الدور بعد يوليو 1952 بشهور قليلة مع حل الأحزاب السياسية، وظل النحاس معزولًا سياسيًا حتى وفاته في 23 أغسطس 1965. قدم النحاس الكثير لوطنه ولم يلق بعد الاحتفاء الذي يقابل ما أعطاه لمصر، كان مصطفى النحاس واحدًا من أبرز الزعماء التاريخيين لحركات الاستقلال الوطني ذات التوجه الديمقراطي التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، يقف اسمه بجداره إلى جانب أسماء عظيمة لعبت دورًا في تاريخ الإنسانية مثل: غاندي ونهرو في الهند وديفاليرا في أيرلندا وسعد زغلول في مصر، كان خليفة لسعد في نضاله مثلما كان نهرو خليفة لغاندي، وطول تاريخه السياسي قدم نموذجًا للتمسك بالمبادئ، والصمود في وجه العواصف العاتية.
 
 شارك مصطفى النحاس في أول حكومة وفدية تشكلت بناء على نتيجة أول انتخابات برلمانية أجريت على أساس دستور 1923، وقد تشكلت هذه الحكومة في 28 يناير 1924 برئاسة سعد زغلول، وتولى مصطفى النحاس فيها وزارة المواصلات، لكن تلك الوزارة لم تكمل العام واستقالت في نوفمبر 1924 احتجاجًا على العقوبات التي فرضتها بريطانيا على مصر بعد اغتيال السردار لي ستاك. وبعد وفاة سعد زغلول في 23 أغسطس 1927 انتخب الوفد مصطفى النحاس رئيسًا له في 23 سبتمبر وأقر الانتخاب رسميًا في اجتماع الهيئة البرلمانية الوفدية في 26 سبتمبر، وحل محله في سكرتارية الوفد مكرم عبيد، ومن يومها حمل مصطفى النحاس راية النضال الوطني والديمقراطي زعيمًا لحزب الأغلبية في ظروف حصار مستمر للحياة النيابية على يد الملك المستبد والسفارة البريطانية. وخلال الفترة من مارس 1928 إلى يناير 1952 تولى مصطفى النحاس رئاسة الوزارة سبع مرات، لكن مجموع ما قضاه النحاس في الحكم لا يتجاوز سبع سنوات وعدة أسابيع قليلة، فعادة ما كان حكمه ينتهي بانقلاب دستوري يدبره الملك بمباركة الإنجليز، وفي الوزارة الأخيرة التي أقالها فاروق في 27 يناير 1952، كانت مؤامرة حريق القاهرة المبرر لإقالة الوزارة.

لقد كان مصطفى النحاس تاريخًا من النضال من أجل مصر، دستورها واستقلالها ودولتها المدنية التي لا تعرف خلط الدين بالسياسة. وكان الاستفتاء الشعبي الحقيقي على مصطفى  النحاس يوم جنازته في أغسطس 1965، فرغم أنه كان بعيدًا عن السلطة والسلطان، ورغم ما تعرض له من عزل سياسي لسنوات قاربت الثلاثة عشر عامًا، ورغم أن اسمه لم يذكر منذ نهاية أزمة الديمقراطية في عام 1954، في وسائل الإعلام الرسمية ـ والتي لم يكن هناك غيرها ـ إلا مصحوبًا باللعنات وبالأكاذيب والمبالغات حول سيرته السياسية والشخصية، فإن الشعب كان له رأي آخر، حقا لقد أعقب الجنازة حملة اعتقالات قضى بعض ضحاياها شهورًا في المعتقلات، لكن الوداع الأخير للرجل كان كلمة الفصل في تقييم الشعب لزعيم أخلص لوطنه ولقضاياه.

 واليوم في ظلال الذكرى الخمسين لرحيل مصطفى النحاس أقدم صفحات من مذكرات الزعيم مصطفى النحاس التي تغطي فترة نفيه مع الزعيم سعد زغلول وبعض قادة الوفد إلى سيشل في ديسمبر 1921 لفترة قاربت العامين. وقد حصلت على هذه المذكرات التي سماها صاحبها "مذكرات النفي" من القطب الوفدي الكبير الأستاذ فؤاد بدراوي، وكانت هذه المذكرات ضمن الأوراق التي انتقلت إلى فؤاد باشا سراج الدين بعد وفاة السيدة زينب الوكيل وتسليم منزل النحاس باشا في جاردن سيتي إلى المالك، وقد عثر عليها الأستاذ فؤاد بدراوي منذ عدة شهور ودفع بها إليّ لتحقيقها، والمذكرات عبارة عن ثلاث كراسات متفاوتة في حجمها، الكراسة الأولى من 22 صفحة، والثانية وهي مسودة من 300 صفحة، أما الكراسة الأخيرة فتبلغ صفحاتها 85 صفحة. وتغطي المذكرات الفترة من 19 ديسمبر 1921 حتى 12 مارس 1923، وهناك بعض الفجوات في المذكرات، لكنها تقدم صورة واضحة ومفصلة عن فترة نفي سعد ورفاقه، رؤيتهم السياسية وتفاصيل حياتهم اليومية في المنفى، وعلاقتهم بالوطن، وقدرات عناصر الوفد في مصر على التواصل معهم وإمدادهم بالأخبار رغم قيود الرقابة. سأقدم هنا خمسة أيام متفرقة من "مذكرات النفي" التي كتبها الزعيم مصطفى النحاس بخط يده، هي مجرد نموذج لما تحويه هذه المذكرات من وقائع مهمة.

 


  اليوم الأول 19 ديسمبر 1921... بداية الأحداث

عهد العنف والشدة والإرهاب

كانت النتيجة الحتمية لتأليف بعثة رسمية للمفاوضة ضد إرادة الأمة وسفرها إلى لندرا على الرغم من الأمة، واستعمال وسائل القهر والخداع ضد الأمة لاختلاس ثقتها بالبعثة الرسمية، كانت نتيجة كل ذلك أطماع الإنجليز في حكم مصر بالقوة؛ لذلك زادوا مطامعهم إلى أبعد من مدى ظاهر مشروع وأعلنوا بكل قوة بكل جرأة أن مصر لازمة له، وإنهم باقون فيها إلى الأبد، وتهددوها بإخضاعها بالقوة إن لم ترضخ لهم بالسلم، ودفعوا مشروع كرزون إلى عدلي رئيس البعثة الرسمية، فلم يسعه الإجابة عليه إلا بأنه لا يمكن أن يؤدي إلى اتفاق تقبله الأمة، فتخطوا البعثة ورجعوا إلى السلطان، فرفعوا إليه بواسطة مندوبهم السامي مشروع كرزون ورد عدلي عليه ومذكرة من اللورد أللنبي معلنة نية الإنجليز نحو مصر وما عولوا عليه في الحاضر والمستقبل، مهددين باستعمال الشدة لقمع ما أسموه بالتهييج المبني على التعصب.
 عادت البعثة الرسمية إلى مصر وقوبلت أسوأ مقابلة، وقدمت تقريرًا للسلطان لينًا رخوًا، دل على أن البعثة لم تعمل شيئًا ولم تناضل عن حقوق مصر. وقدم عدلي استقالة الوزارة لأنه كما يقول لم يوفق إلى تحقيق برنامجه الذي أعلنه للأمة. لم تعلن الاستقالة وحصلت مساع لتأليف وزارة أخرى قبل إعلان الوزارة المستقيلة، وكانت المساعي متوجهة إلى إسناد الوزارة إلى بعض أعضاء الوزارة المستقيلة. وقد استمروا جميعًا في تأدية أعمالهم حتى تقبل الاستقالة. قامت احتجاجات من مختلف الطبقات ضد تشكيل أية وزارة ما دامت مذكرة أللنبي موجودة لأن قبول الوزارة في هذه الحالة معناه قبول السياسة الواردة في هذه المذكرة والعمل على معاونة الأجنبي على تمكين حكمه في البلاد.
 
 ودعا سعد باشا زغلول وكيل الأمة الأمين ورئيس الوفد المصري وجهاء القوم من مختلف الطبقات لاجتماع عام يعقد في ليلة الجمعة 23 ديسمبر في نادي "سيرو" بالقاهرة للنظر في الأحوال الحاضرة.
 فأصدر اللورد أللنبي في 19 ديسمبر أمرًا عسكريًا بإلغاء هذا الاجتماع بحجة المحافظة على الأمن العام، فاحتج سعد باشا على هذا المنع، وتوالت الاحتجاجات كذلك من جميع أنحاء القطر.


 وفي 19 ديسمبر وصل الأستاذ مكرم إلى الإسكندرية قادمًا من لندرا بعد جهاده العظيم الذي أظهر به للرأي العام الإنجليزي حقيقة موقف البعثة الرسمية من الأمة المصرية، وأدى ذلك إلى فشل البعثة الرسمية في مهمتها وعودتها خائبة. وقد استقبلته أنا وفخري بك عبد النور منتدبين من قبل الوفد، وتخلف عنا فتح الله باشا بركات ـ الذي كان منتدبًا معنا ـ لانحراف صحته. وأقام له الطلبة حفلة شاي في فندق ماجستيك تبودلت فيها الخطب الحماسية. وكذلك أقام له أعيان الإسكندرية وليمة عشاء في فندق كلاردج تبودلت فيه أيضا الخطب السياسية الحماسية. وكانت روح الخطب مقاطعة الإنجليز إلى النهاية، وعدنا معه إلى القاهرة ظهر اليوم التالي، وكان استقباله في جميع المحطات بالغًا منهاه، وكان الهتاف لمصر ولسعد وزملائه ومكرم وللاستقلال والإضراب والمقاطعة للنهاية. وكان الاستقبال في القاهرة يفوق الوصف، وكان في انتظارنا بالمحطة أعضاء الوفد وفي مقدمتهم الرئيس الجليل، وكان الركب شائعًا والاستقبال فخمًا على طول الطريق إلى بيت الأمة فكان هذا إعلانًا حيًا لقوة الروح المعنوية في الأمة وتمسكها ... والتفافها حول رمز أمانيها ومن يلذون به من زملائه المخلصين.
 كان مكرم قد وعد في خطبه السابقة بإذاعة أخبار المفاوضات بعد تقديم تقريره بها إلى الرئيس. وما كان للإنجليز ـ وقد قرروا استعمال الشدة ـ أن يمكنوه من ذلك. ففي نحو الساعة 11 صباح يوم الخميس 22 ديسمبر اتصل بعلم الرئيس أنه سيبلغ إليه اليوم أمر موجود الآن في قلم المطبوعات بأن يبرح هو وأعضاء الوفد القاهرة إلى محال إقامتهم بالريف. فتذاكرنا في الخطة التي يجب علينا اتخاذها عند وصول هذا الأمر إلينا وهي عدم إجابة هذا الأمر طوعًا.
 وقرب الظهر حضر إلى بيت الأمة المستر "تيل" وكيل الحكمدار، ومعه خطابات لكل من الرئيس وسينوت ومكرم وأنا من أعضاء الوفد، ولكل من فتح الله باشا بركات وعاطف بك بركات وصادق بك حنين وأمين أفندي عز العرب وجعفر بك فخري من غير أعضاء الوفد؛ فاستلم كل من الحاضرين وقتئذ خطابه، وعاد وكيل الحكمدار بخطابات الباقين الذين لم يكونوا حاضرين، وهم: الأستاذ مكرم وصادق حنين وجعفر فخري. وهذه الخطابات جميعها صادرة من الجنرال كلينتون مستشار وزارة الداخلية.

 وهذه ترجمة خطاب الرئيس:
 صاحب المعالي
 أتشرف بأن أخبركم أنه بناءً على تعليمات المارشال القائد العام أبلغ معاليكم الأمر الآتي:
 سعد باشا زغلول ممنوع بهذا تحت الأحكام العرفية من إلقاء (ص 5) الخطب، ومن حضور اجتماعات عامة، ومن استقبال وفود، ومن الكتابة إلى الجرائد، ومن الاشتراك في الشئون السياسية، وعليه أن يغادر القاهرة بلا توان، وأن يقيم في مسكنه بالريف تحت مراقبة مدير المديرية.
   الإمضاء أللنبي        الوكالة البريطانية
   القاهرة في 21 ديسمبر سنة 1921

              ولي الشرف أن أكون لمعاليكم الخادم المطيع

                                     الإمضاء
                                       كليتون بريجادر جنرال
                                       مستشار وزارة الداخلية

  وهذه ترجمة الخطاب لكل من الباقين:
   سيدي
 بناءً على تعليمات الفيلد مارشال القائد العام، أخبركم أنكم مأمورون بهذا تحت الأحكام العرفية أن تذهبوا بلا توان إلى محل إقامتكم بالريف، وأن تتجنبوا كل عمل سياسي، كما أخبركم أنكم ستوضعون تحت مراقبة مدير المديرية التي ستقيمون فيها.

 ولي الشرف يا سيدي أن أكون خادمكم المطيع.

                                     الإمضاء

                                       كليتون بريجادر  جنرال

                                       مستشار وزارة الداخلية

 اليوم الثاني الأحد 25 سبتمبر سنة 1921... في الطريق إلى المنفى...

 قابلنا الرئيس في الصباح، وكان سرورونا عظيمًا ومتبادلًا، وقصصنا عليه حكايتنا، وقص علينا حكايته، ومن ضروب القسوة التي استعملها معه الإنجليز، إنهم أخذوه من منزلة صباح يوم الجمعة 23 ديسمبر دون أن يعلموه بالجهة التي يأخذونه إليها، ودون أن يأخذ معه حوائجه ولا غذاء. ومع ذلك فإنهم قادوه مباشرة في الأتوموبيل إلى الصحراء في طريق السويس، ولم يرتبوا هم غذاء لع أثناء الطريق، ولا غطاء يدفئه ضد البرد، حتى استعان بكوفية الضابط المرافق له عن أذى البرد نوعًا ما. واستمروا في الطريق سبع ساعات إلى أن وصلوا إلى معسكر السويس، وقد احتمل هذه المتاعب بصبر وجلد جديرين بالرجل العظيم، وألقى الله على قلبه الهدوء والسكينة، ووقاه شر الأذى. وبات ليلته في خيمته ولم يكن عنده ملابس نوم، فبقى طول الليل مرتديًا ملابسه التي كان مرتديًا بها نهارًا. ولم تصل له أمتعته وعبد الله سائق أتوموبيله الذي تطوع لخدمته إلا في اليوم التالي بالقطار الذي وصل السويس في المساء. وكان الذي عينوه لخدمته عسكريًا لا يعرف شيئًا من الفرنسية ولا العربية، وكان التفاهم معه مستحيلًا إلا بالإشارة، فلما جاءه عبد الله وهو يعرف الإنجليزية فرّج عنه. تفسحنا معًا في الفناء المحيط بالخيام، وجلس الرئيس على مرتفع من الطين وجلسنا حوله، ومر بنا بعض الهنود الذين هم في هذا المعسكر، لإنه خاص بالهنود، واسمه المعسكر الهندي، أظهر واحد منهم عطفًا علينا، وميلًا إلينا، وقدم السجائر لنا، وجاء غيره، وكنا نحن نتحاشى الاسترسال معهم، وإذا بالصاغ أمبروز (القائم بأعمال القيادة العامة للمعسكر) قد حضر وطلب إلينا أن لا نبتعد عن الخيام.

اليوم الثالث... الأربعاء 5 يولية 1922... بعد ستة أشهر في المنفى...

 وصلت الجرائد لغاية 12 يونية، وبعض الخطابات لغاية الأسبوع الأول من يونية، وأخر خطابات وصلتني لغاية 3 يونية، مما سرني فيها تحسن صحة والدتي، التي أمكنها أن تمشي في البيت كيف شاءت.
  تصفحنا الجرائد على عجل، وأهم ما فيها تقرير لجنة الدستور الفرعية، تعليقًا على مشروع الدستور الذي قدمته اللجنة الكاملة، ومن أعظم المصائب أن هذه اللجنة صرفت كل همها في انتقاص حقوق الأمة وإعطائها للسلطة التنفيذية، حتى أنها قلبت مسئولية الوزارة إلى مسئولية البرلمان، فالمجلس الذي يبدي عدم ثقته بالوزارة يكون عرضه لأن يحله الملك، ولا يحدد القانون ميعادًا لانتخاب غيره فيه... إلخ إلخ. ولكن الأمة منتبهة؛ فقد حصل اجتماع حافل بالمنصورة تقرر فيه إبداء التعديلات الواجب إدخالها على القانون، واجتمع جميع أعضاء مجلس مديرية البحيرة ووقعوا على قرار بهذا المعنى، واحتجوا فيه على عدم تمكين المدير لهم من الاجتماع رسميًا رغم طلبهم القانوني.
 على أن الوزارة لا تزال تضرب بيد من حديد على المعارضة؛ حتى إنها صادرت نقدًا على مشروع لجنة الدستور بقلم عبد القادر حمزة بعد إعداده للطبع. وحتى أنها حظرت على الجرائد ذكر اسم زملاء سعد في المنفى وأعضاء الوفد بمصر، والتنويه إلى شيء من أعمالهم. بقطع النظر عن القضاء على حرية الاجتماع، ولكنها كلما زادت شدة كلما انفض أنصارها من حولها، واتحدت كلمة الأمة التي تطلب استقلالًا صحيحًا، لا عبودية مشروعة.
 وكتب مكرم تلغرافًا لوالده يبدي فيه قلقه من عدم استلامه خطابات منه، ويسأل عن صحة العائلة، وسلمه لفتح الله لتوصيله صباح الغد.
   اليوم الرابع... الجمعة أول ديسمبر سنة 1922... أخبار من لندن...
 ورد في تلغرفات روتر من لندن بتاريخ 29 نوفمبر الساعة 2:55 بعد الظهر من القاهرة أن وزارة ثروت باشا استقالت بناءً على عداء المعارضة، التي ترغب في تكوين وزارة جديدة لنهو مسائل مثل إلغاء الأحكام العرفية ومثل السيادة المصرية على السودان.
 فلم يبق في الأمر شك من أن الوزارة استقالت تحت ضغط الرأي العام، وإن السياسة العامة نحو مصر ستأخذ مجرى آخر.
 وقد قرأنا في جريدة الديلي هرالد الصادرة بتاريخ 26 أكتوبر البرنامج الرسمي لحزب العمال الذي أعلنوه للأمة إبان الانتخابات العامة [بيانًا] لسياستهم التي يجرون عليها بعد الانتخابات، وفي عن السياسة الخارجية: الاعتراف باستقلال مصر الحقيقي، والحكومة الذاتية للهند، والتصديق على معاهدة أيرلندا. وقد كانت نتيجة الانتخابات أن صار حزب العمال المعارضة الرسمي، وإن نوابهم يمثلون 4,356,000 منتخب، فيكون هذا العدد العظيم في إنجلترا من صفنا في الاعتراف باستقلالنا الحقيقي، لا الاستقلال الوهمي الذي كان نتيجة لخداع الثروتيين العدليين. وقد قضي على سياستهم الآن بسقوط وزارة ثروت التي كانت في الواقع استمرارًا لوزارة عدلي. نرجو الله أن يمدنا بعونه ويلحظنا برعايته حتى ننال حقوقنا كاملة، وتتعهدها الأمة بما يصونها من كل عبث ويأتي بثمرتها الطيبة إن شاء الله.
 اليوم الخامس... الخميس 15 فبراير 1923... تلغراف يبعث على التفاؤل...
 ورد التلغراف الآتي: القاهرة في 14 فبراير الساعة 2:40 مساءً
 بركات باشا بماهي سيشيل
 إن اجتماع الأمس المؤلف من مندوبي جميع المديريات والطبقات بمناسبة استقالة وزارة نسيم على أثر التهديدات البريطانية بخصوص حذف مواد السودان من الدستور قرر ما يأتي:
 أولًا: إن السودان ومصر كل لا يتجزأ، ويجب النص على ذلك في الدستور.
 ثانيًا: إن الأمة تعارض في تأليف أية وزارة تحت الحكم العرفي أو قبل عودة المنفيين وإطلاق سراح المسجونين من الزعماء المصريين.
 ثالثًا: الاحتجاج بشدة على التهديدات البريطانية الموجهة إلى العرش والوزارة بخصوص السودان، وعلى حكم الإرهاب الذي تستمر بريطانيا في فرضه على مصر.
 رابعًا: إبداء الإجلال والولاء لزغلول العظيم وزملائه النبلاء.

                                                                                             عن الوفد
المصري السعدي

 كشف لنا هذا التلغراف عن المعمى بخصوص الحالة في مصر، ودل على أن استقالة نسيم كانت استقالة شريفة لمصلحة البلاد؛ فلم يجار اللنبي في مطامعه على السودان، وأراد بالنص في الدستور على حقوق مصر عليه المحافظة فعلًا على حقوق مصر، فلم يرق ذلك في نظر السياسة الجشعة البريطانية، وكان ما كان من تهديد الوزارة والعرش؛ فاستقال نسيم، ولابد تكون الحالة الآن حرجة في مصر، ونحن في انتظار التطورات عن بعد بقدر ما يسمح به الرقيب بتوصيله إلينا.
  رعى الله مصر كنانته في أرضه بعين عنايته ونجاها من هذه الأزمات فائزة منصورة.
 
 أرسل مكرم تلغرافًا بتاريخ الغد لخطيبته بما يأتي: "خطاباك الرقيقان حركا قلبي فرحًا ومحبة، وكان لهما في نفس مصطفى حسن الأثر. محبة منا جميعًا للوالد وللعائلة وإني أقبلك.

مكرم"
 
 وأرسل سينوت تلغرافًا لوالدته بما يأتي: "إني سعيد بصحتكم جميعًا، محبة للجميع وأقبلك." وأرسل لأخيه راغب أيضًا التلغراف الآتي: "لم يصلني منك خطابات منذ مدة، أفدني تلغرافيًا بالصحة، محبة للجميع". ورد لمكرم خطاب من فرلوز بأنه وصله إخطار البنك الهندي ببنمباي باستلام خمسين جنيهًا لاسمه، وأن المبلغ أودع في الخزينة، ويصرف إليه بواقع خمسماية روبية كل شهر.

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...