رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 13 )
عندما ألغى الملك دستور
الأمة
عماد أبو غازي
جاء في مذكرة وزير الحقانية التي أعلنت مع
الدستور في 19 أبريل سنة 1923:
"متى صدر
الدستور الجديد فإن الحالة تتغير تغيرًا تامًا؛ إذ إصدار الدستور والاعتراف بمبدأ
كون الأمة هي مصدر جميع السلطات يجعلان سحب الدستور بعد منحه أمرًا غير
مستطاع".
لكن الملك المستبد وحكومته غير الشرعية بتواطؤ
من سلطة الاحتلال البريطاني سحبوا الدستور، بعد أن اعتبرت انجلترا أن التعدي على
الدستور شأنًا من شؤون مصر الداخلية لا علاقة لحكومة صاحب الجلالة به، فأعطت بذلك
الضوء الأخضر للملك ورئيس وزرائه إسماعيل باشا صدقي للإطاحة بدستور الأمة وتعديل
قوانين الانتخابات العامة والتعدي على الحريات والحقوق الأساسية للمواطنين.
كان فؤاد قد ضاق منذ اللحظة الأولى بالدستور
الذي قيد سلطاته، وأقر مبدأ رقابة الأمة من خلال ممثليها المنتخبين على سلوك
الحكومة وممارساتها، ومنح الشعب سلطة التشريع من خلال نوابه، وصان الحريات العامة
للمواطنين وحافظ على حرمة حياتهم الخاصة، وأرسى مبدأ الفصل بين السلطات.
وخلال السنوات التي تلت صدور الدستور قاد فؤاد
انقلابين دستوريين كما رأينا، أولها في مارس 1925، عندما عطل الحياة النيابية لمدة
عام وشهرين تقريبا، ثم عطلها مرة ثانية من يوليو 1928 إلى أكتوبر 1929، إلا أن ثالث
تلك الانقلابات الدستورية وأخرها في عهد فؤاد كان الأخطر والأطول والأشد تأثيرًا،
وقد وقع ذلك الانقلاب الدستوري بعد أقل من عام من عودة الحياة البرلمانية في
أكتوبر 1929، وكان النحاس باشا قد شكل الوزارة في الأول من يناير سنة 1930، فشلت
الحكومة في انتزاع معاهدة مع انجلترا تحقق آمال الشعب، واصدمت الحكومة بالملك حول
حقوق الأمة، عندئذ قدم النحاس استقالة حكومته في 17 يونيو 1930، فقبلها فؤاد رغم
رفض البرلمان لها، وكلف إسماعيل باشا صدقي بتشكيل الوزارة في 20 يونيو 1930.
لم يُضع المستبدون وقتًا، أصدر صدقي مرسومًا بتأجيل
اجتماع البرلمان شهرًا، اعتبارا من يوم 21 يونيو، أي اليوم التالي لتأليفه
الوزارة، فهو يعلم أن مجلس النواب كان قد جدد الثقة بحكومة النحاس باشا المستقيلة،
وإنه لن يمنح حكومته الثقة، ولكن رئيسي مجلسي البرلمان ويصا واصف وعدلي يكن أصرا
على حق المجلسين في الانعقاد في الموعد المحدد من قبل ليُتلا مرسوم التأجيل على
النواب كما تقضي بذلك الأعراف الدستورية، وبدأت الأزمة تتصاعد عندما وجه صدقي
خطابًا إلى ويصا واصف يبلغه فيه بأنه غير مسموح لأي عضو من أعضاء مجلس النواب
بالحديث بعد تلاوة مرسوم تشكيل الحكومة ومرسوم تأجيل انعقاد البرلمان، وينذره فيه
باتخاذ الوسائل الكفيلة بضمان ذلك.
لكن ويصا واصف الذي كان يعتبر نفسه ممثلًا
للأمة يستمد منها سلطته، رد على الإنذار ردًا حاسمًا، جاء فيه:
"إنه ليس من حق الحكومة أن توجه إلى رئيس
مجلس النواب مثل هذا الخطاب لما فيه من تدخل السلطة التنفيذية في إدارة جلسات
المجلس".
وجاء رد صدقي بمحاصرة البرلمان وإغلاق أبوابه
بالسلاسل الحديدية يوم 23 يونيو 1930، ومع ذلك فقد اتجه النواب والشيوخ إلى مبنى
البرلمان في الموعد المحدد وأصدر ويصا واصف أوامره إلى حرس البرلمان بتحطيم
السلاسل الحديدية بالبلط.، ودخل النواب إلى مجلسهم وعقدوا الجلسة، ووجه عدلي باشا
يكن رسالة احتجاج شديدة اللهجة إلى رئيس الحكومة.
وبعدها بثلاثة أيام أي في يوم 26 يونيو عقد
أغلبية أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب وعدد من أعضاء مجالس المديريات اجتماعًا بمقر
النادي السعدي ـ النادي السياسي للوفد ـ وأصدروا بيانًا أقسموا فيه على الدفاع عن
الدستور ومقاومة كل اعتداء يقع عليه، واتفقوا على عدم التعاون مع الحكومة، وفي
الأسابيع التالية تصاعدت موجات الاحتجاج في مختلف مدن مصر، وتصدى النظام لها
بالقوة المسلحة مستعينًا بالجيش إلى جانب الشرطة، فسقط عشرات الشهداء دفاعًا عن
الدستور.
وفي يوم 12 يوليو استصدرت الحكومة من الملك
مرسومًا بفض الدورة البرلمانية بالمخالفة للدستور، فالبرلمان لم يكن قد أقر
الميزانية بعد ولم يكن قد أمضى في دورته 6 أشهر كما ينص على ذلك دستور 23، وعاودت
الحكومة إغلاق مبنى البرلمان واحتلاله بالقوة المسلحة.
رد النواب بتقديم عريضة إلى الملك يطلبون منه
دعوة البرلمان إلى اجتماع غير عادي يوم السبت 26 يوليو سنة 1930 لاستجواب الوزارة
والاقتراع على الثقة بها، لكن الملك لم يستجب بالطبع، فعقد النواب اجتماعهم للمرة
الثانية في النادي السعدي.
وفي يوم 21 سبتمبر 1930 قدم النواب عريضة ثانية
إلى الملك يطالبونه فيها بدعوة البرلمان للانعقاد في اجتماع غير عادي في أقرب وقت
للنظر فيما عرضته الوزارة من تعديل قانون الانتخاب، واتخاذ القرار الذي يراه
المجلسان في ذلك، وذكروا في عريضتهم أن النواب في اجتماعهم السابق يوم 26 يوليو
1930 كانوا قد أصدروا قرارًا بعدم الثقة بالوزارة، الأمر الذي يوجب استقالتها.
ولم تأبه الحكومة برأي الأمة، ولا بمعارضة
النواب من الوفد حزب الأغلبية، ولا حتى برأي أصدقائها القدامى الأحرار الدستوريين
الذين أصدروا بيانًا يطالبون فيه بألا يمس التعديل لقوانين الانتخاب الأسس
الدستورية.
وأخبر صدقي الجميع في صورة إنذار نهائي بأنه
اتفق مع الملك على إصدار دستوره الجديد، ومضى صدقي إلى نهاية الشوط فأعلن إلغاء
دستور الأمة واستبدال به دستور الملك، وصدر بذلك المرسوم الملكي بتاريخ 22 أكتوبر
سنة 1930. كما صدر في اليوم نفسه قانون الانتخاب الجديد. وصدر الأمر بحل مجلسي
النواب والشيوخ القائمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق