الأربعاء، 31 ديسمبر 2014


كل سنة وانتم طيبين النهار ده رأس السنة الميلادية، يا ترى عارفين إن أصلها مصري؟

مرسوم كانوب وقصة اكتشاف التاريخ

عماد أبو غازي

 نبحر اليوم إلى عصر البطالمة، الذي يبدأ في التاريخ المصري بعد وفاة الإسكندر الأكبر، ففي سنة 332 ق.م. ضم الإسكندر مصر إلى إمبراطوريته، وقضى بذلك على الاحتلال الفارسي لمصر، الذي ذاق خلاله المصريون صنوفًا من القهر والاضطهاد، لذلك رحب المصريون بالاسكندر خاصة بعد أن سعى إليهم، وزار معابدهم التي دنسها الفرس، وأعلن نفسه ابنا للإله آمون. ووضع الاسكندر حجر الأساس لمدينة الإسكندرية قبل أن يغادر مصر في سنة 331 ق.م. ليستكمل فتوحاته في الشرق، التي وصل فيها حتى الهند، وفي عام 323 ق.م. مات الاسكندر وهو بعد شاب صغير، وترك خلفه إمبراطورية عظيمة، وبوفاة الإسكندر يبدأ العصر الذي اتفق المؤرخون على تسميته بالعصر الهلينستي، وكانت مدينة الإسكندرية مركزه الحضاري الرئيسي. وقد تميزت هذه الحقبة في عالم البحر المتوسط القديم بامتزاج عناصر الحضارة اليونانية الهلينية بعناصر الحضارات الشرقية القديمة لتشكل ما يعرف اصطلاحًا باسم الحضارة الهلينستية.

 الإسكندر الأكبر
لقد تفككت إمبراطورية الاسكندر وقامت على أنقاضها عدد من الممالك التي تولى كل منها قائد من قواده، وكانت مصر من نصيب بطليموس، الذي أسس أسرة توارثت العرش قرابة ثلاثة قرون، وظلت تحكم مصر حتى سنة 31 ق.م. عندما أحتل الرومان البلاد وأنهوا حكم كليوباترا السابعة آخر البطالمة.
 ورغم أن البطالمة كانوا حكامًا من أصول أجنبية، قامت سياستهم على استنزاف المصريين واستبعادهم من المشاركة في إدارة أمور بلادهم، إلا أن ثورات المصريين المتوالية، ثم احتياج البطالمة لمشاركتهم في الجيش، أدى تدريجيًا إلى تصاعد دورهم السياسي، وفي كل الأحوال ظل الإسهام الثقافي والعلمي والفكري للمصريين قائمًا طوال عصر البطالمة، وإن كان قد امتزج ببعض عناصر الثقافة اليونانية.
 لكن لماذا نعود اليوم إلى عصر البطالمة؟
 نعود لنبحث عن أصل التقويم الذي نستخدمه في حياتنا الآن، ونقيس من خلاله الزمن.
 لقد كان المصريون من أوائل الشعوب التي اكتشفت فكرة الزمن، فأدركوا مغزى تعاقب الأيام والشهور والفصول، وقسموا الزمن إلى سنوات، ففي الوقت الذي كانت فيه جل الشعوب تستخدم التقويم القمري الذي يعتمد على الدورة الشهرية للقمر، خرج المصريون القدماء وبعدهم شعوب أمريكا الجنوبية القديمة عن هذه القاعدة منذ آلاف السنين، لقد عرف المصريون القدماء أول تقويم نجمي شمسي دقيق على وجه الأرض، وكان ذلك منذ أكثر من ستة آلاف سنة، ففي سنة 4241 قبل الميلاد أبتكر سكان وادي النيل تقويمهم الأول. وهذا التقويم هو الأساس الذي استند عليه النظام الشمسي للسنوات الميلادية الذي يستخدمه العالم كله الآن.
 ورغم أن التقويم المصري القديم عمره أكثر من ستة آلاف عام إلا أنه لا يزال مستخدمًا إلى الآن في مصر، في تنظيم مواسم الزراعة، وفي تحديد الأعياد الدينية للأقباط الأرثوذكس.
 لكن ما هي قصة هذا التقويم؟
 لقد لاحظ المصري القديم أن نجم سبدت والذي نعرفه باسم الشعري اليمانية يشرق مرة واحده في العام قبل شروق الشمس، كما لاحظ أن هذا الشروق يقع يوم وصول الفيضان إلى مدينة منف، فقسم المصريون الفترة الممتدة بين كل شروقين للنجم سبدت إلى أثنى عشر شهرًا متساوية، وأضافوا لها خمسة أيام لتكتمل السنة 365 يومًا، وقسم المصريون سنتهم إلى ثلاثة فصول: فصل للفيضان وفصل للزراعة وفصل للحصاد، وجعلوا رأس سنتهم أول شهر توت مع وفاء النيل.
 لكن إذا كان المصري القديم قد توصل إلى تقويمه وابتكار سنته النجمية في الألف الخامسة قبل الميلاد، فما علاقة عصر البطالمة بذلك؟
 مع مرور الزمن تبين للمصريين أن هناك خلالًا ما في تقويمهم، فقد لاحظوا أن طول السنة عندهم أقصر من طول السنة الطبيعية، وقد اشتكى الكاتب المصري إلى الإله آمون أيام الرعامسة في الأسرة التاسعة عشر من أن أيام الأعياد الدينية والمدنية تسير القهقري، واكتشف المصريون أن شروق النجم سبدت يتقدم باستمرار مما يؤدي إلى اختلال المواعيد، وأنه يعود إلى موعده الطبيعي بعد دوره مدتها 1461 سنة، وتم إضافة شهر نسيء الصغير المكون من خمسة أيام في نهاية العام، لكن الخلل استمر بعد ذلك، ولإصلاح هذا الخلل اجتمع الكهنة المصريون من كل أنحاء البلاد في صورة مجمع كهنوتي مقدس بمعبد مدينة كانوب بالقرب من الاسكندرية، وموضعه الآن مدينة أبو قير، وكان ذلك في أيام حكم بطليموس الثالث الذي حكم مصر بين سنتي 247 و222 قبل الميلاد، وتدارس الكهنة الارتباك الذي يحدث في التقويم المصري، وكان الكهنة هم علماء مصر في ذلك العصر وكانت لهم معرفه واسعة بعلوم الفلك والرياضيات، وانتهى الكهنة المصريون إلى أن السنة الطبيعية تتكون من 365 يوما وربع اليوم، وإن هذا هو سبب الخلل الذي يحدث، ومن هنا كان عليهم أن يجدوا حلا لهذه المشكلة.
 ومثلما ابتكر أسلافهم التقويم المصري قبل هذا الاجتماع بأربعة آلاف سنه، ابتكر الكهنة المجتمعون في كانوب نظام السنة الكبيسة التي تأتي مره كل أربع سنوات، وقد أسفر هذا الاجتماع عن صدور الوثيقة الملكية المعروفة باسم مرسوم كانوب، والتي وضع صياغتها الكهنة المصريون، وصدرت في عام 238 قبل الميلاد، وجاء في افتتاح المرسوم:
"السنة التاسعة اليوم السابع من شهر أباليوس في اليوم السابع عشر الشهر الأول من فصل الشتاء. كان سكان مصر تحت حكم جلالة ملك الوجه القبلي والوجه البحري ـ بطليموس محبوب بتاح عاش أبديا ـ ابن الملك بطليموس وأرسنوي الأخوين الإلهين، حينما كان كاهن الاسكندر المرحوم وكاهن الأخوين الإلهين والإلهين المحسنين هو أبولانيدس بن موسكيان، كما كانت مناكراوا ابنة بيلامنا حاملة السلة أمام أرسنوي محبة أخيها.

 في هذا اليوم قرر المشرفون على المعابد والكهنة خدمة الآلهة والكهنة السريون والكهنة مطهرو الإله الذين يلبسون الآلهة ملابسهم وكتبة كتاب الإله، والعلماء والكهنة أباء الآلهة، والكهنة جميعا الذين أتوا من شطري الوادي؛ أي الوجه القبلي والوجه البحري، وقد تجمعوا في بيت الإله الخاص بالإلهين المحسنين في بر- جوتي كانوب......"
 وتتوالى مقررات المجمع المقدس إلى أن يصل لإصلاح التقويم فيقول المرسوم:
 "ولأجل أن تتوالى الفصول بنظام مطلق على حسب نظام العالم الفعلي وألا يحدث أن بعض الأعياد الدينية التي يحتفل بها في الشتاء لا تقع أبدًا في الصيف ـ وذلك بسبب أن النجم يتقدم يوما كل أربعة أعوام ـ وحتى لا يحدث أن بعض الأعياد من بين الأعياد الأخرى التي تقام الآن في الصيف تقام في الشتاء في الأزمان التي ستأتي بعد، كما حدث ذلك فيما مضى، ويحدث الآن كذلك إذا بقيت السنة مؤلفة من ثلاثمائة وستين يومًا والخمسة أيام التي زيدت باسم أيام نسيء الخمسة، فإنه منذ الآن سنضيف يوما مخصصًا لعيد الإلهين المحسنين كل أربع سنوات لخمسة أيام النسئ قبل السنة الجديدة حتى يعلم الكل أن ما كان ناقصًا من قبل في نظام الفصول والسنة، وفي القواعد الموضوعة بخصوص النظام العام للعالم قد أصلحه وتممه الإلهان المحسنان"
 
 
 
بطليموس الثالث
لكن كيف وصلنا نص هذا المرسوم؟
 لقد نقش هذا المرسوم على الحجر الجيري باللغة المصرية القديمة بالخطين الهيروغليفي والديموطيقي وكذلك باللغة اليونانية، ووصلتنا منه أربع نسخ، ثلاثة منها بالمتحف المصري بالقاهرة، والرابعة بمتحف اللوفر بباريس، والنسخ التي وصلتنا من المرسوم تكمل بعضها البعض وهى جميعها متفقة في المعنى، وإن جاءت بها اختلافات طفيفة في النصوص، وقد نشر الترجمة العربية الكاملة لهذا المرسوم عالم الآثار المصرية سليم حسن في كتابه "مصر القديمة"...
 لكن هل يقتصر المرسوم على موضوع إصلاح التقويم؟
 إن مرسوم كانوب نص طويل يتناول عدة موضوعات تدور حول الإشادة ببطليموس الثالث وزوجته، وتعدد أعمالهما، وتتحدث عن وفاة ابنتهما الصغيرة، وعن قرار المجلس بتقديسها، وتحديد يوم للاحتفال بعيدها، لكن يبدو أن الهدف الحقيقي من إصدار المرسوم هى تلك الفقرة التي تنص على إصلاح التقويم المصري القديم.
 إذا ما علاقة التقويم المصري القديم الذي مازلنا إلى الآن نستخدمه في مصر بالتقويم الشمسي الميلادي المستخدم في العالم كله الآن؟

 في سنة 46 قبل الميلاد أراد يوليوس قيصر أن يصلح التقويم الروماني، الذي كان حتى ذلك الوقت تقويمًا قمريًا، فاستدعى الفلكي السكندري سوسيجينس ليقوم بهذه المهمة، فأعاد صياغة التقويم الروماني على نفس النمط الذي كان عليه التقويم المصري القديم بعد إصلاحه في عصر البطالمة، مع اختلاف طفيف وهو توزيع أيام النسئ الخمسة في التقويم المصري على شهور السنة ليصبح شهرًا منها 31 يومصا والشهر التالي 30 يومًا، بينما يكون الشهر الأخير منها وهو شهر فبراير ـ حيث كانت السنة تبدأ في مارس ـ مكونا من 29 يومًا فقط، تصبح ثلاثين يومًا في السنوات الكبيسة التي تأتي مره كل أربع سنوات، وفي عصر الإمبراطور أغسطس أوكتافيوس وبعد إطلاق أسمه على الشهر السادس من شهور السنة أضيف لشهر أغسطس يومًا ليصبح 31 يومًا وخصم هذا اليوم من شهر فبراير.

 أوغسطس أوكتافيوس
وبعد ذلك تحولت بداية التقويم إلى شهر يناير بدلًا من مارس مع احتفاظ الشهور التي تعبر أسمائها عن ترتيبها في السنة القديمة بنفس مسمياتها دون تغيير، وهى شهور سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر وديسمبر، الشهر السابع والثامن والتاسع والعاشر على التوالي.
 وهكذا كان إصلاح التقويم الروماني على يد الفلكي المصري السكندري سوسيجينس، وعلى نفس نمط التقويم المصري القديم، وهو الأساس الذي يقوم عليه تقويمنا العالمي الآن مع التعديلات الطفيفة التي أدخلت عليه في القرن السادس عشر الميلادي على يد البابا جريجوري فيما يعرف باسم الإصلاح الجريجوري للتقويم، والذي أدى إلى الاختلاف بين الأعياد الدينية المسيحية بين الكنيستين الغربية والشرقية، حيث استمرت الأخيرة تحتفل بعيد الميلاد وفقًا للتقويم المصري.
البابا جريجوري الثالث عشر
 فالتقويم المصري هو الأب الحقيقي للتقويم المعاصر...

الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014

اخمدوا الأنفاس هذا جهدكم !!!
 
شاعر القطرين يهاجم الاستبداد
 وأنا بقلب في ملفاتي القديمة لقيت المقال ده، كنت كتبته في مخربشاتي في الدستور من سبع سنين في خريف 2007، حسيت إني عاوز أنشره تاني وأهديها لضحايا قانون التظاهر وضحايا مصادرة حرية الرأي والتعبير... 
عماد أبو غازي

 الشيء بالشيء يذكر كما يقولون، والشيء هنا ثلاثة أشياء، أولها الحديث عن دنشواي الذي قادني إلى لحظة مهمة من تاريخنا الوطني، إلى بدايات القرن الماضي حيث كانت عناصر حلقة جديدة من حلقات النهضة الوطنية والديمقراطية تتشكل في مصر، وثانيها التجليات الأدبية والفنية لتلك الحادثة التي وجهتني إلى عالم الشعر في وقت انغمست فيه في الإعداد لملتقى الشعر العربي الذي ينتظم عقده في نوفمبر القادم تحت عنوان "الشعر في حياتنا"، وثالثها قضايا حرية الصحافة المتأججة اليوم مع أحكام تصدر ضد كتاب وصحفيين في قضايا نشر، وإحالة آخرين إلى المحاكم، وتعديلات في القوانين لا تفي بمطالب نقابة الصحفيين في صون حرية الصحافة، بل ومحاولات لاستصدار قوانين جديدة تفرض مزيد من القيود على حرية الصحافة، ذكرتني هذه الثلاثية بشاعر القطرين خليل مطران ودفاعه نثرًا وشعرًا عن حرية الصحافة في مصر.
 
 

  ففي أعقاب المد الوطني الذي نتج عن حادث دنشواي شهدت مصر حملة حكومية شرسة ضد الحركة الوطنية المتصاعدة، فبقدر ما كان لحادثة دنشواي من آثار إيجابية تمثلت في دفعة كبيرة للحركة الوطنية المصرية تجلت في ظهور الحزب الوطني ككيان سياسي منظم، وفي إجبار اللورد كرومر الحاكم الفعلي لمصر منذ الاحتلال سنة 1882 على الاستقالة من منصبه، كان للحادث كذلك آثاره السلبية، فقد دفع تصاعد الحركة الوطنية بالخديوي عباس حلمي الثاني الحاكم الشرعي لمصر بعيدًا عنها وعن مواقفها، خاصة مع اتجاه الحركة الوطنية نحو التنظيم، والتفاف قطاعات أوسع من الشعب حولها، وربطها بين المطالبة بالجلاء والمطالبة بالدستور، واتجه الخديوي إلى التحالف مع سلطات الاحتلال في مصر ممثلة في السير إلدون جورست، وكانت الساحة الأساسية  للمواجهة ساحة حرية الصحافة.

جاءت المواجهة الأولى في صيف 1908 فيما عرف بقضية الكاملين، والكاملين بلدة في السودان شهدت انتفاضة شعبية في عام 1908، وبعد أن قمعت قوات الجيش الانتفاضة، تمت محاكمة زعماء الحركة أمام المحكمة المدنية الكبرى التي أصدرت أحكامًا بالإعدام والسجن ومصادرة الأملاك على المتهمين ، وتكتمت الحكومة أخبار القضية كي لا تعيد إلى الأذهان ذكرى دنشواي، إلا أن جريدة اللواء لسان حال الحزب الوطني نشرت الخبر مع كثير من المبالغة، فقد رفعت عدد المحكوم عليهم بالإعدام من 12 إلى 70 شخصًا، وعندها اضطرت وزارة الحربية إلى إعلان الحقيقة ونشرت اللواء بيان الحربية مع تعليق يحمل التشكيك فيه، عندها أقامت الحكومة الدعوى ضد الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس تحرير اللواء بتهمة إهانة وزارة الحربية ونشر أخبار مثيرة للخواطر، وقد انتهت القضية إلى براءة الشيخ عبد العزيز جاويش من التهمتين.

 وفي نوفمبر 1908 استقالت حكومة مصطفى باشا فهمي التي استمرت في الحكم 13 عامًا، وتشكلت حكومة جديدة برئاسة بطرس باشا غالي، التي ضمت وجوها جديدة، وقد استقبل رئيس الحزب الوطني محمد فريد الحكومة الجديدة مستبشرًا بها خيرًا بمقال قال فيه: "كل أعضاء هذه الوزارة من رجال العصر المتعلمين، فمنهم أربعة من حائزي الشهادات العالية في العلوم الحقوقية، وواحد من أكبر مهندسي العالم بشهادة الخاص والعام، أما رئيسهم فإنه لم يكن من حائزي الشهادات، إلا أنه ممن يشهد لهم بالنباهة والذكاء والحنكة والدهاء، فالوزارة الحالية في مجموعها من أحسن ما يتمنى لمصر والمصريين، ويرجى منها للبلاد خير عظيم، وكلهم ممن درسوا الحكومات الأوروبية، وعلموا فوائد النظام الدستوري، وأيقنوا أن لا تقدم للبلاد إلا بمنحها النظام النيابي، الذي أجمعت الأمة على طلبه من أميرها..."

 ورغم أن الحكومة قد اتخذت بعض الخطوات الإصلاحية مثل علنية جلسات مجلس شورى القوانين، ومنحه حق سؤال الوزراء، وتعديل قانون مجالس المديريات بزيادة أعضائها ومنحها مزيد من السلطات، لكن أمل محمد فريد سرعان ما خاب ففي 25 مارس 1909 أعاد مجلس الوزراء العمل بقانون المطبوعات الصادر سنة 1881، أثناء الثورة العرابية، وكان العمل بهذا القانون قد توقف منذ عام 1894، وكان هذا القانون يمنح لوزارة الداخلية حق إنذار الصحف وتعطيلها مؤقتًا أو نهائيًا دون حكم قضائي، وعقب ذلك بدأت ملاحقة الصحف وإنذارها، وتقديم الصحفيين والكتاب للمحاكم على مقالاتهم، وحبس بعضهم بسبب هذه المقالات، ومنهم عبد العزيز جاويش ومحمد فريد نفسه، كما وضعت الحكومة قانونًا جديدًا يقضي بإحالة تهم الصحافة إلى محكمة الجنايات بدلًا من الجنح، كما عدلت نصوص قانون العقوبات لمعاقبة من ينشر المرافعات في القضايا الجنائية، واعتبرت مديري الصحف مسئولين بالاشتراك الجنائي عما ينشر في صحفهم، وأكملت الحكومة تقييدها للحريات بوضع لائحة للمسارح تجرم تمثيل الروايات التي تدعو للحرية والاستقلال.

 وقد تصدى دعاة الحرية لتلك التشريعات والقوانين بالقول والفعل، وكان من المدافعين عن الحرية بقلمه شاعر القطرين خليل مطران الذي كتب في المجلة المصرية:

 "في مصر وفي الإستانة العلية خطتان رسمتا للتضييق على الصحافة يراد بهما أن تصدر الجريدة كما يخرج الكلب العقور من بيت صاحبه وفي فكه كمامة، على أنه ليس في العزائم أدل من هذه العزيمة على رسوخ الداء الشرقي القديم في قلوب أولياء الأمور منا، داء الخوف من النقد. وبديهي أن هذا الخوف يكون عادة نتيجة حالتين: الكبرياء وهي أخصهما، وسؤ السيرة أو الطمع في الراتب وهو أعمهما".

 وكتب مطران كذلك أبياتًا من أروع ما كُتب في الدفاع عن حرية الرأي والتعبير، قال فيها:

شردوا أخيارها برًا وبحرًا         واقتلوا أحرارها حرًا فحرًا
إنما الصالح يبقى صالحـــــًـا  آخــــر الدهر ويبقى الشر شرًا
كسروا الأقلام هل تكسيرها     يمنع الأيدي أن تنقش صخرًا
قطعوا الأيدي هل تقطيعها       يمنع الأعين أن تنظر شـذرًا
أطفئوا الأعين هل إطفاؤها      يمنع الأنفاس أن تصعد زفرًا
اخمدوا الأنفاس هذا جهدكم      وبه منجــــــــاتنا منكم فشكرًا

السبت، 27 ديسمبر 2014


رعاية حلمي
عماد أبو غازي

  ٢٤ ديسمبر عيد ميلاد أمي، أول مرة نقضيه وهي مش معانا، وأول مرة أكون بعيد عن القاهرة في اليوم ده من ساعة ما وعيت على الدنيا، حبيت أني اكتب عنها النهار ده، وأخليها تكتب عن نفسها، وكمان أسيب مساحة لواحدة من تلميذاتها تكتب عنها.  
 أرتبط اسمي دائما بأبي كناقد تشكيلي ومثقف شارك في الحياة المصرية منذ مطلع الأربعينات، وارتبط أيضا بخال أبي مختار الذي أوصف دائمًا بأني حفيد له، دومًا كان لدي إحساس بالذنب تجاه أمي التي أعتقد أنها أسهمت في تكويني بشكل كبير، ولا أعرف كيف أقدمها للحياة العامة التي ابتعدت عنها لسنوات طويلة، رغم أنها تستحق أن أُعّرِف بها مثلما أُعّرف بأبي، فأمي نحاته ومصورة متميزة، ليس في تقديري بل في رأي كل من شاهد أعمالها الفنية في منزل الأسرة أو في منزلنا أو على صفحتي على الفيس بوك، ابتعدت عن أضواء المعارض الفنية وركزت جهدها في عملها كمدرسة للتربية الفنية في مدرسة السنية ثم كموجهة بعد ذلك، وكم أسعد عندما ألتقي في الحياة بتلميذاتها فيتحدثن معي عنها، وكانت منهن زميلات لي في العمل السياسي وأخرهن زميلتي في المجلس الأعلى للثقافة نجلاء الكاشف والتي فوجئت بعد سنوات من عملنا معًا أني ابن مدرستها التي أثرت فيها وأحبتها رعاية حلمي.
 

 وهذه كلمات قالتها الدكتورة سوزان فياض واحدة من الطالبات التي كانت أمي تحبهن وتعتز بهن، كتبتها في رثائها بعد أن رحلت يوم 28 أكتوبر الماضي تكشف جوانب من حياتها قد لا تعرفها أسرتها بالضرورة، قالت سوزان على صفحتي:

 "السيدة الفاضلة هي "أبله رعاية" أستاذتي ومربيتي الفاضلة في قسم الدراسات الفنية في مدرسة السنية الثانوية.. وأبله رعاية كانت أيضًا زوجة وزير الثقافة الشهير في أواخر الستينات ـ والد الدكتور عماد ـ ومؤلف العديد من الكتب والحائز على جوائز محلية ودولية رفيعة، ومن بين كتبه كتاب صغير بسيط عن "التذوق الفني" وكان من ضمن المنهج المدرسي في قسم الدراسات ـ السيدة المثقفة واسعة الأفق كانت تعرف جيدًا أن المطلوب من التربية الفنية ليس تخريج طلابًا فنانين.. وإنما تربية حاسة التذوق الفني لدى الطلاب والناس عمومًا.

  التقطت بمهاره شغفي وفضولي للتعرف على الفنون (وكنت قد بدأت القراءة وأحببت التاريخ والأدب) وبالرغم أنني لم تكن لدي أي مهارة في الرسم.. وكان مثلي كثيرون.. إلا أنها راحت تشجعنا على تجربة كل أشكال التعبير الفني مرورًا بالرسم والحفر والطباعة، وصولًا لتنمية المهارات النقدية، فطلبت مني الاطلاع على كتب مصورة عن مختلف المدارس الفنية.. ورحت أقرأ التعريف الصغير المكتوب بالإنجليزية بجوار الصور، وأسأل وأترجم وأكتب انطباعي عن الكتاب والمدرسة الفنية التي يعبر عنها.. وهكذا تعرفت سريعًا على ما يسمى المدارس التجريدية والتأثيرية والتكعيبية وكونت ذوقي الخاص الذي مازال يلازمني عند اختيار الصور بالمنزل..

 مع أبله رعاية تعرفت لأول مره على تاريخ الفن المصري الحديث.. وذلك بمساعدة الكتب التي ألفها الراحل الكبير بدر الدين أبو غازي (ولا أذكر إن كانت مصورة.. ولكني أذكر أنني تعرفت على رسوم لراغب عياد ومحمود سعيد.. كما أهدتني وزميلتي أن ذاك (آمال عبد الهادي) كتابًا ضخمًا يحتوي على صور فاخرة الطباعة لمحمود مختار.. أما زيارات المتاحف والمعارض الفنية الدورية، فقد أصبحت هواية جديدة لي (وأزاحت هوايات أخرى تافهة قديمة).

 حين انتقلنا للجامعة، نقلت أنا وصديقتي آمال إلى زملائنا كل ما تعلمناه.. فرحنا نطعم مجلات الحائط بالمعلومات والصور الفنية.. (إلى أن قطع الطريق علينا أولاد الحرام بتوع السياسة وانخرطنا لسنوات في مجال جديد.. أجاهر بالرغم من أنني لازلت أمارسه بشكل أو بأخر أنني لم أحبه!

 أحببت هذه السيدة الهادئة البسيطة بدرجة لا توصف.. فأطررت أن أكون مؤدبة مثلها وأن أتعلم أدب الحوار (جزئيًا!) لأني كنت مندفعة وتلقائية (أكثر من الآن).. لدى آمال وعدد أخر من الصديقات خبرات شبيهة.. باختصار هي سيدة من ذلك النوع من الناس التي تترك تأثيرًا إيجابيًا كبيرًا في كل ما حولها..

 حزنت كثيرًا لأني لم أزورها في مرضها.. ولم أعرف بالجنازة إلا اليوم.. عزاؤنا الوحيد أن ذكراها تعيش في قلوب الكثيرين.. بقدر ما ربت وأضافت وعلمت... رحمها الله.. وقلبي مع عماد وكل أفراد أسرتها".

 لقد كنت منذ طفولتي أشعر بفخر داخلي وزهو بأن أمي إمرأة عاملة، وربما جاءت الفرصة لي لأعلن هذا الزهو على الملأ، أمي رعاية الله حلمي كانت دائمًا مصدر فخر لي، كنت سعيد جداً أن أمي تعمل، وكان عملها يشعرني بأني متميز، لأن أمهات زميلاتي وزملائي في المدرسة الابتدائية أغلبهن من غير العاملات، أغلب الأطفال كانت أمهاتهم يحضروا للسؤال عنهم في المدرسة، أما أنا فلا، لم يكن هذا يضايقني على العكس كان يعطيني شعور بالاختلاف والفخر بها، خاصة وهي مدرسة مثل أولئك المدرسات اللاتي يقمن بتعليمنا.

 لم يؤثر عملها أبدًا على اهتمامها بنا، مختار وأنا ونادية، بقدر ما كانت المرأة العاملة المتفانية في عملها المخلصة له، كانت الأم الحنونة المعطاءة، حضورها في الأسرة دائم، ولمساتها في المنزل واضحة، تعلمنا وتوجهنا بشكل غير مباشر، ترعى اهتماماتنا الصغيرة والكبيرة، كانت رعاية الله بحق، اسم على مسمى.




 





 

 تحببنا في الفن وتهتم بما نرسمه وتشجعنا دومًا، كان يوم عيد بالنسبة لنا عندما تعطينا علبة ألوانها الفلوماستر العريضة التي أتت بها من فرنسا لنرسم بها، فلم يكن هذا النوع من الألوان موجود في مصر وقتها، وكنا نسميها "الألوان السحرية".
 في بعض الأحيان تجمع "لوحاتنا" وتنظم لنا بها معرضًا على جدران غرفة من غرف المنزل، وتضع شريطًا على بابها، ثم تدعو أبانا لافتتاح المعرض، وربما يمنحا بعض "اللوحات" جوائز، أو يقرروا اقتنائها، مثلما تقتني الدولة أعمال كبار الفنانين.

 عندما كانت تسافر مع أبي مرة كل عامين لحضور بينالي الإسكندرية لفنون البحر المتوسط، ويتركانا في بيت جدي لأمي القريب من بيتنا، ينظما لنا مسابقة في القراءة الحرة، يقرأ كل منا نحن الثلاثة ما يشاء من كتب، ويكتب عنها، وبالطبع كانت الجوائز من نصيب ثلاثتنا، يختاروا عرضًا واحدًا من عروض الكتب التي قدمنها، عرض واحد لكل منا ويمنحوه جائزة عليه.
 عندما كبرنا بعض الشيء كانت إجازة الصيف بالنسبة لي ولنادية فرصة لنشاركها المطبخ، نطهو معها الكيك ونتعلم الطبخ، تعلمت منها كثير من الطبخات وبرعت فيها، لكني نسيت كيف يصنع الكيك، أما نادية فمازالت ماهرة في صناعته.
 عندما صرت أكبر أدركت ما ضحت به من أجلنا، فنها، إبداعها في مجال النحت والتصوير المائي والزيتي، توقفت تقريبًا منذ عام 1955، لم تكن قادرة أن تترك عملها الذي تحبه في التدريس، ورأت أن عليها أن تختار بين اثنين من ثلاثة: الأبناء والتدريس والفن، فاختارتنا واختارت التدريس.

 رغم قسوة تجربة فقد الابن التي مرت بها بعد وفاة أخي الأكبر في حادث سيارة، فقد حاولت رغم حزنها على رحيل مختار أن تتماسك من أجلنا، أبي ونادية وأنا، واصلت الحياة، بعد أشهر استقالت من عملها، لكنها حاولت أن نعيش حياة طبيعية بقدر طاقتها، وبعد أن فقدنا أبي حاولت أن تتماسك مرة أخرى من أجلنا أيضًا، رغم المرارة التي تركها فقد الابن ثم الزوج شريك الحياة في أقل من أربع سنوات، كانت تحاول أن تبدو طبيعية، لكنها نادرًا ما كانت تفصح عما بداخلها، عن إحساسها بأنها فقدت جزء منها بعد وفاة مختار، وفقدت كل شيء بعد وفاة بدر.

 ربما أعطها الأحفاد مريم وسلمى وسامح دفعة جديدة للحياة، تابعتهم يكبرون ويشقون طريقهم ويختارون مستقبلهم، كانوا مصدر سعادة لها، تتجدد بهم طاقتها، تبث فيهم القيم الجميلة، وتفخر بما يحققوه.



 

 والآن أترك مساحة هنا لأمي تتحدث عن نفسها وعن شقيقتها الأصغر الفنانة منحة حلمي، هذا النص الذي أملته عليّ منذ عدة سنوات ليتصدر كتالوج معرض منحة حلمي الذي أقيم في قاعة أفق بعد وفاتها، وكنت قد نشرت هذه الكلمة من قبل ضمن عمودي الأسبوعي بجريدة الدستور، تحت عنوان "مخربشات شخصية"، ورأيت أن الكلمة رغم أنها شخصية لكنها تعكس تفكير جيل أعطى كثير لهذا البلد، وبالنسبة لي فإن الكلمة تحمل معاني كثيرة فبتقديمها كنت أتصور أنني أسد قليلًا من دين كبير لأمي.

 


رعاية حلمي في مرحلة الدراسة
منحة حلمي ... صورة عن قرب

رعاية حلمي

"جمعني بمنحة مصير واحد وعلاقة مركبة، لم تكن مجرد شقيقتي التي تصغرني مباشرة، كنا في الوسط بين تسعة أشقاء، ولدان وسبع بنات، كان تقارب السن بيني وبينها وسط أسرة كبيرة العدد دافعًا إلى توطد علاقتنا، ثم كان تقارب الميول والاتجاه نحو دراسة الفنون نتيجة لتلك العلاقة الحميمة وسببًا ـ في نفس الوقت ـ لمزيد من تعميق العلاقة، كان اختيارنا للفنون مجالًا لدراستنا العليا في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي نتاج نشأتنا في بيئة أسرية تحترم الفكر والثقافة، كان الأب حريصًا على تعليمنا جميعًا التعليم الذي نرغب فيه ويتوافق مع ميولنا، اهتم بتعليم البنات بنفس قدر اهتمامه بتعليم الأولاد، في فترة كان التحاق الفتيات بالتعليم الجامعي في مصر في بداياته الأولى، وكانت الأم تعمل دائمًا على توفير الأجواء الملائمة لنا لنحقق ذواتنا ونتقدم في حياتنا.

 كنا دائما ـ منحة وأنا ـ مع بعضنا متلاصقتان، ينادوننا دومًا: منحة ورعاية أو رعاية ومنحة، لم نكن نفترق أبدًا، معًا في اللهو في مرحلة الصبا، معًا في الدراسة وفي استلام شهادات التفوق الدراسي حتى المرحلة الثانوية، ثم في المعهد حيث اتجهت منحة لدراسة فن التصوير، واتجهت أنا لدراسة فن النحت.

 
 وبعد بعثتها إلى إنجلترا تخصصت في فن الحفر وتميزت فيه دون أن تترك أساسها الأول كمصورة بارعة، استمرت تبدع أعمالها الفنية حتى السنوات الأخيرة من حياتها عندما توقفت عن ممارسة فن الحفر بسبب الحساسية التي أصابتها من التعامل مع الأحماض والمواد الكيميائية التي يتطلبها الإبداع في هذا الفن، وإن واصلت عملها كأستاذة بكلية التربية الفنية تخرج أجيالًا وراء أجيال.

 وفي مرحلة الدراسة تعلمنا على يد مجموعة من الأساتذة المتميزين الذين ساهموا في تكوين فنانات جيلنا، كان ممن درسّن لنا: مارجريت نخلة ومدام عياد ومدام راينر وكوكب يوسف.

 على مر الأيام جمعت بيننا جولتنا المشتركة في المعارض والندوات الثقافية والفنية، التي كانت تذخر بها الحياة المصرية في الأربعينات، حتى عندما تزوجنا، كان اختيارنا لشخصين متشابهين في كثير من الصفات، اخترت أنا بدر الدين أبو غازي ناقدًا تشكيليًا شابًا دارسًا للقانون، واختارت هي عبد الغفار خلاف طبيبًا شابًا وهب حياته لخدمة الفقراء والدفاع عن قضاياهم، كانا متشابهين في الطموح الشديد كل في تخصصه ومجاله الوظيفي، إلى جانب اهتمام بالثقافة والفن والأدب، ومشاركة فاعلة في العمل العام، وتميزًا إنسانيًا باحترام شديد للحياة الأسرية وللزوجة ولعملها، وعرفنا معهما مساندة دائمة لنا.

 كانت حوارتنا حول المعارض التي نزورها وحول الفن وقضاياه، وبعد رحيلها أشعر في ابنتها الكبرى نهال امتدادًا لها وهي تتناقش معي حول الفنانين وأعمالهم التي تقتنيها وحول المعارض التي تزورها.
 تميزت منحة حلمي دائمًا بالاتزان والهدوء والاعتماد على النفس، كانت شخصية دءوبة في عملها متقنة له لا تعرف اليأس ولديها إصرار على إتمام العمل الذي تبدأه، حرصت حتى اليوم الأخير في حياتها على الاستمرار في عملها بكلية التربية الفنية، وغادرتنا فجأة وبهدوء كعادتها وطبعها الدائم في ألا ترهق أحدًا معها."

  بكلماتك أختم هذه السطور...
 

السبت، 13 ديسمبر 2014


مشاهد من ثورات المصريين  زمن الحملة الفرنسية

عماد أبو غازي

بونابرت في مصر
  عندما جاء بونابرت ليحتل مصر سنة 1798 في حملته الشهيرة المعروفة باسم الحملة الفرنسية، كان يتصور أن رحلته سهلة يسيرة داخل البلاد، وكان يعتقد أن العقبة الرئيسية التي تقف أمامه هي الأساطيل البريطانية التي حاول أن يراوغها ويدخل مصر دون أن ترصده، لكنه فشل في النهاية ودُمر أسطوله في خليج أبي قير.
 
 

 أما الحامية العثمانية وفرسان المماليك الجراكسة فقد كان الفرنسيون يعلمون أنهم أضعف من أن يصمدوا وحدهم في مواجهة قوات الحملة الفرنسية المنظمة وفق أحدث القواعد العسكرية في تلك الفترة.

 كان بونابرت يتصور أن المصريين سيرحبون بحملته بسبب ضيقهم الشديد بالحكم العثماني وبعسف أمراء المماليك الجراكسة وظلمهم الذي عانوا منه لقرون عدة، وفي أسواء الأحوال كان بونابرت يعتقد أن المصريين إن لم يرحبوا به فعلى الأقل لن يقاوموه باعتباره جاء ليخلصهم من حكم الجراكسة؛ وكان هذا واضحًا في المنشور الذي صاغه بونابرت ووجهه للمصريين، وقد حرره في يوم 27 يونيو سنة 1798 من على ظهر البارجة الفرنسية أوريان قبل أن يرسو الأسطول الفرنسي في الإسكندرية بأيام قليلة، وقد صاغ المنشور في قالبه العربي جماعة من المستشرقين والتراجمة الذين أحضرهم بونابرت معه، وقد طبع المنشور بالمطبعة العربية التي أحضرتها الحملة معها، وبدأت طباعته على ظهر البارجة أوريان ثم استكملت الطباعة في الإسكندرية، وقد طبع المنشور بتاريخ 2 يوليو سنة 1798 ووزعت منه آلاف النسخ على المصريين في محاولة لاكتسابهم إلى جانب الحملة، وركز منشور بونابرت على الفساد والخراب الذي حاق بمصر بسبب مظالم المماليك الجراكسة، وقد حاول من صاغوا المنشور أن يستخدموا ألفاظا وعبارات دينية إسلامية في محاولة من بونابرت للتقرب إلى المصريين بهذا الأسلوب حيث تصور أنه بذلك سوف يكون مقبولًا لديهم، وقد جاء في هذا المنشور الذي صيغ بلغة عربية ركيكة:
 "بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد ولا شريك له في ملكه
 من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية، السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابرت يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد السناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدى، فحضر الآن ساعة عقوبتهم... من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأبازة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها، فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم...
 يا أيها المصريون قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه وقولوا للمغترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم."
 
 ويستمر المنشور بعد ذلك في محاولة استمالة المصريين من خلال تقديم الوعود لهم بالمشاركة في حكم البلاد وإدارة أمورها بعد إزاحة المماليك الجراكسة فيستطرد قائلًا على لسان قائد الجيوش الفرنسية بونابرت:
  "إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء حسن فيها، من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة، فإن كانت الأرض المصرية التزامًا للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رؤوف عادل ورحيم حليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدًا لا ييأس أحد من أهالي مصر من الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها. وسابقًا كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك... طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم وتعلى مراتبهم، طوبى أيضًا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد الفريقين المتحاربين، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا فلا يجدون بعد ذلك طريقًا إلى الخلاص ولا يبقى منهم أثر."
 ورغم تحذيرات بونابرت للمصريين من مقاومة حملته، ورغم معاناة المصريين الحقيقية من الحكم العثماني وعسف المماليك، إلا أنهم لم ينخدعوا بدعاوى الفرنسيين. لقد قاوم المصريون منذ اللحظة الأولى الحملة الفرنسية بشتى أشكال المقاومة الإيجابية والسلبية، وكاد بونابرت يفقد حياته في الإسكندرية عندما أطلق رجل وأمرأة النار عليه من شباك منزلهما في سياق أعمال المقاومة بالمدينة، والتي انتهت بإعدام حاكمها محمد كُرّيم، وظهرت المقاومة في المدن الكبرى مثلما ظهرت في القرى الصغيرة في الريف، لكن القوة العسكرية للحملة الفرنسية كانت أكبر من طاقات المقاومة لشعب حرم من حقه في الدفاع عن وطنه وفي حمل السلاح لقرون طويلة منذ نهاية عصر البطالمة.
 نجحت الحملة في السيطرة على الدلتا كلها وعلى القاهرة عاصمة البلاد، واستمرت الحروب بين الفرنسيين والمماليك بقيادة مراد بك ومماليكه في صعيد مصر.


مراد بك
****
  وهذه بعض مشاهد من مقاومة المصريين للحملة ومن ثورتهم على حكم الفرنسيين:

( 1 )

فلاحو الدلتا يقاومون الاحتلال (المنوفية والغربية)

 منذ اللحظة التي وطئت فيها جيوش بونابرت أرض مصر اشتعلت نار المقاومة ضد الغزاة ولم تخمد طوال السنوات الثلاث التي قضتها الحملة الفرنسية في مصر.
 كانت قوات الحامية العثمانية قد انهزمت وغادرت البلاد، كذلك فشل أمراء المماليك بقيادة مراد بك وإبراهيم بك في التصدي للحملة؛ فانتقل عبء المقاومة إلى الشعب المصري الذي حُرّم عليه حمل السلاح لقرون. لقد انسحب إبراهيم بك بقواته إلى الشرقية ومنها إلى الشام، وتراجع مراد بك إلى الصعيد ليحتمي به ويناوش الفرنسيين منه، وأصبحت القاهرة والدلتا خالية من أية قوات نظامية يمكنها التصدي لحملة بونابرت، وقد تصور القائد الفرنسي المظفر أن انتصاره على العثمانيين والمماليك سيكفل له استقرار الأمور في مصر، أو على الأقل في القسم الأكبر منها.

 وكان المنشور الذي أصدره بونابرت باللغة العربية ووجهه إلى أهالي مصر يدعوهم فيه للتعاون مع الفرنسيين ويحذرهم من مغبة معارضتهم يسبق قواته في كل مكان تتوجه إليه، وقد جاء في هذا المنشور الذي سجل نصه المؤرخ المعاصر للأحداث عبد الرحمن الجبرتي: "جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات عن المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية، فواجب عليها أن ترسل للسر عسكر من عندها وكلاء كيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا، وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وكحلي وأحمر. وكل قرية تقوم على الفرنساوية تحرق بالنار، وكل قرية تطيع العسكر الفرنساوي أيضًا تنصب صنجق السلطان العثماني محبنا دام بقاؤه".
 بعد هذا التحذير وبعد هزيمة القوات النظامية في مصر بدأ بونابرت يخطط لنشر قواته في أنحاء الدلتا المختلفة، فعين لكل منطقة قائدًا، وأوفد هؤلاء القادة على رأس قوات عسكرية من الخيالة والمشاة للسيطرة على أنحاء البلاد المختلفة. كانت المشكلة الأساسية التي تواجه قوات بونابرت هي نقص الجياد اللازمة لفرق الخيالة، فاتجه إلى جمعها من قرى الدلتا، وكان أسوأ ما توقعته قيادة الحملة امتناع الفلاحين المصريين عن إمداد القوات بالخيول التي تحتاج إليها، لكنهم لم يتوقعوا أبدًا أن تلقى هذه القوات مقاومة مسلحة من المصريين؛ وقد وجه بونابرت رسالة إلى قواده المتوجهين إلى الدلتا تضمنت تعليماته بخصوص أسلوب التعامل مع المصريين، جاء فيها:

 "اصدروا أوامركم بأن تقدم لكم كل قرية جوادين من خير الجياد، وأيما قرية لم تفعل ومضت خمسة أيام من إعلانها بالأمر ضربت عليها غرامة ألف ريال، وإن هذه هي الطريقة الفعالة للحصول على خمسمائة من الجياد تسد من حاجتكم، وعليكم عند طلب الخيل أن تطلبوا كذلك عدتها من الركاب واللجام لتتوافر لكم في الحال فرقة من الخيالة، فإنها الوسيلة الوحيدة لإخضاع هذه البلاد."
 لكن واقع الحال كان غير ما توقع بونابرت، ففي مساء الخامس من أغسطس سنة 1798 تحرك الجنرال فوجيير متوجها إلى الغربية التي عينه بونابرت قومندانًا عليها، وتوجهت القوات الفرنسية إلى منوف أولًا، واستقرت فيها حتى الثالث عشر من أغسطس، حيث خرجت منها إلى الغربية، وإلى الشمال من منوف وبعد مسير ساعة واحدة اصطدمت القوات الفرنسية بأول حركة للمقاومة الشعبية في الدلتا عند قريتي غمرين وتتا؛ فقد ثار أهالي القريتين وحملوا السلاح وأغلقوا الطريق في وجه القوات الفرنسية، وبدأوا في الاشتباك معها، ولما عجز الجنرال فوجيير عن مواجهة الأهالي بقواته أرسل يطلب العون والمدد من زميله الجنرال زايونشك قومندان المنوفية الذي كان قد استقر بقواته في منوف. ووصلت الإمدادات من منوف، وحاولت القوات الفرنسية تطويق القريتين وإخضاعهما، لكن الأهالي قاوموا مقاومة شديدة، خاصة أهالي قرية غمرين، وبعد ساعات من القتال غير المتكافئ بين جيش عصري حديث مسلح بالمدافع والبنادق، وفلاحين يحملون العصي والفؤس وقليلًا من الأسلحة النارية، نجحت القوات الغازية في اقتحام القريتين، لكن الأهالي ظلوا يقاومون الغزاة في طرقات قرية غمرين ويدافعون عن بلدتهم حتى غطت جثث القتلى شوارع القرية. ويصف الكابتن فيروس أحد ضباط القوة الفرنسية معركة غمرين في رسالة بعث بها إلى الجنرال كافاريللي قائلًا: "جاءنا المدد وتعاونت الكتيبتان على مهاجمة قرية غمرين؛ فأخذنها عنوة بعد قتال ساعتين، وقتلنا من الأعداء من أربعمائة إلى خمسمائة بينهم عدد من النساء كن يهاجمن جنودنا بكل بسالة وإقدام".
 لقد انتهت المعركة غير المتكافئة باستشهاد مئات من الفلاحين والفلاحات من أبناء قريتي غمرين وتتا، وفي المقابل قُتل وجُرح عدد قليل من قوات جيش الاحتلال، لكن دلالة المعركة كانت أهم من نتائجها بكثير، فقد كانت المرة الأولى منذ سنوات طوال التي يخرج فيها الفلاح المصري حاملًا فأسه ليشق به رأس المعتيى المحتل بدلًا من أن يشق به أرضه ليزرعها. كما كانت المرة الأولى منذ مئات السنين التي تعود فيها الفلاحة المصرية إلى ساحة المقاومة المسلحة جنبًا إلى جنب وكتفًا بكتف مع الفلاح المصري. كانت المعركة درسًا للغزاة الفرنسيين عرفوا منها أن حملتهم على مصر ليست نزهة سهلة يتحقق النصر فيها بمجرد هزيمة العثمانيين والمماليك، بل إن هناك شعبًا يقاوم ويحارب حتى ولو كان سلاحه العصي والفؤوس.
 وهذه شهادة ضابط فرنسي على المقاومة في الدلتا:  "كان الجنود يعملون على إخماد الثورة بإطلاق الرصاص على الفلاحين وفرض الغرامات على البلاد، لكن الثورة كانت كحية ذات مئة رأس، كلما أخمدها السيف والنار من ناحية ظهرت من ناحية أخرى أقوى وأشد مما كانت، فكأنها كانت تعظم ويتسع مداها كلما ارتحلت من بلد إلى آخر."

 لقد كان انتقام الفرنسيين من أهالي قريتي غمرين وتتا شديدًا، فلم يكتف الغزاة بقتل خمسمائة من رجال ونساء القريتين، بل قاموا بإحراقهما، لقد كان هدف الفرنسيين من إحراق القريتين عقاب أهلهما على مقاومتهم للحملة من ناحية، وترويع المصريين من ناحية أخرى حتى لا يحذوا حذو أهل القريتين في المقاومة.

 لكن هل نجح الفرنسيون في إخماد جذوة الثورة؟
 لم ينجح أسلوب القمع والإرهاب في القضاء على المقاومة المصرية في الدلتا، لقد كانت الحملة الفرنسية هي التي استنفرت شعورًا كامنًا لدى الفلاح المصري ظل مكبوتًا لسنوات وسنوات فجره مجيء الحملة، وظلت المقاومة مشتعلة طوال السنوات الثلاث التي عاشتها الحملة في مصر، ولم تؤد الإجراءات الانتقامية في غمرين وتتا إلى إخماد المقاومة بل على العكس زادتها اشتعالًا، فبعد أسابيع قليلة ثارت مدينة طنطا أثناء الاحتفال بمولد السيد البدوي، وكاد الثوار يفتكون بالقوات الفرنسية، لكن قوة النيران الفرنسية كانت عادة ما تحسم المعركة لصالحهم.
 وفي هذه المرة حاول بونابرت أن يجرب أسلوبًا آخر في التعامل مع الثوار، حيث خشي من تطبيق أسلوب العقاب الجماعي والانتقام بإحراق المدن مع مدينة مثل طنطا تحوي مزارًا روحيًا مهمًا لدى المصريين، أعني مقام السيد أحمد البدوي القطب الصوفي الكبير.
 ويقول بونابرت في رسالة موجهة إلى قائد قواته في الغربية عقب إخماد ثورة طنطا في أكتوبر سنة 1798:
 "لقد علمت بمزيد الأسف ما حدث في طنطا، على إني راغب في احترام هذه المدينة، وأعتبر تخريب هذا المكان المقدس في نظر الشرق كارثة كبرى، على أني أكتب إلى أهالي طنطا، وسأطلب من الديوان العام أن يكتب إليهم، وإني راغب في أن تنتهي الحادثة بالمفاوضة على صلح ووئام".
 لكن مثلما فشل حرق القرى والعقاب الجماعي، فشل أيضا أسلوب المهادنة في إخماد ثورات المصريين ضد الحملة الفرنسية.

*****

 


 

( 2 )

فلاحو الدلتا يقاومون الاحتلال (الدقهلية ودمياط)

 وتتواصل رحلة المقاومة الشعبية في الدلتا مع توغل قوات الحملة الفرنسية فيها، تلك المقاومة التي لعب الفلاح المصري الدور الأساسي والفاعل فيها. ونتوقف عن مشهد من أهم مشاهد المقاومة، وقائع ما حدث للفرنسيين في محافظتي الدقهلية ودمياط، وللمحافظتين تاريخ عريق في مقاومة الفرنسيين منذ حملة لويس التاسع في القرن الثالث عشر والتي هزمت عند مدينة المنصورة.
 في أوائل أغسطس سنة 1798 عين بونابرت أحد قادة حملته الجنرال فايل قومندانًا لمديريتي المنصورة ودمياط، فتوجه القائد الفرنسي بقواته إلى الإقليم الذين عين حاكمًا له. وفي الأسبوع الأول من أغسطس وصل فيال إلى المنصورة، وتصور أن المدينة خضعت له، فترك بها حامية مكونة من مائة وخمسين رجلًا، واتجه إلى دمياط؛ فاحتل المدينة واحتل عزبة البرج، وجعل من مدينة دمياط مقرًا للقسم الأكبر من فرقته، لكن تصورات فيال كان بعيدة تمامًا عن الواقع؛ ففي يوم 10 أغسطس، وكان اليوم يومًا لسوق مدينة المنصورة، وفد على المدينة مئات من سكان البلدان المجاورة تحت ستار السوق الأسبوعي، وما هي إلا ساعات قليلة حتى أعلنت المدينة بكاملها الثورة على الحامية الفرنسية، وخرج الرجال والنساء لحصار معسكر القوات الفرنسية وأشعلوا فيه النيران، وأمام قوة الهجوم قرر جنود الحامية الفرنسية الفرار إلى دمياط واللحاق بقائدهم هناك عبر النيل، لكن الأهالي حاصروا القوات الفرنسية وقضوا عليها عن أخرها باستثناء جنديين وقعا في الأسر وثالث فر إلى دمياط.
 وشجعت أحداث العاشر من أغسطس في المنصورة أهالي الدقهلية على الثورة ضد الاحتلال الفرنسي، لكن بونابرت كان قد عين الجنرال دوجا أحد قادته الكبار قومندانًا للمنصورة ووجهه بقوة كبيرة إلى هناك، وكان دوجا حكيما في تصرفه، فلم يلجأ إلى العقاب الجماعي لأهالي المنصورة حتى لا يزيد نار الثورة اشتعالًا، بعد أن ثبت لقادة الحملة أن إعدام الأهالي وإحراق المدن والقرى لا يؤدي إلا إلى مزيد من المقاومة. لقد حاول دوجا أن يتتبع قادة المقاومة الشعبية وزعماءها داخل المنصورة وخارجها؛ فقبض على اثنين من أهالي المنصورة وأعدمهما، وأمر بتتبع اثنين آخرين من قادة الثوار للقبض عليهما. وقد أقر بونابرت دوجا في خطته في التعامل مع الثورة الشعبية في الدقهلية، وهي خطة تعتمد على الموائمة بين أسلوبي اللين والبطش، الوعد بالعفو والوعيد بالانتقام. ومع ذلك لقي الفرنسيون صعابًا جمة في إخضاع الدقهلية لسيطرتهم، وكان جباة الضرائب كلما ذهبوا إلى قرية لجمع الأموال أو مصادرة أملاك المماليك واجههم الأهالي بالرصاص والعصي. وعلى مدى شهرين توالت انتفاضات الفلاحين والعرب في قرى ومدن الدقهلية، وتمتلأ التقارير العسكرية للحملة بأخبار المقاومة في ميت غمر وسنباط والمنزلة وغيرها من البلاد، وأصبح انتظام الملاحة النهرية في فرع دمياط مهددًا بفضل أعمال المقاومة الشعبية المستمرة التي أثارت قلق الفرنسيين وخوفهم.

 وخلال أحداث المقاومة الشعبية في الدقهلية ودمياط برزت أسماء زعماء شعبيين، من هذه الأسماء علي العديسي والأمير مصطفى اللذان أثبتت تحقيقيات الجنرال دوجا أنهما كانا وراء ثورة المنصورة في العاشر من أغسطس سنة 1798، وقد استمر الرجلان في قيادة المقاومة بعد فرارهما من المنصورة في قرى منطقة البحر الصغير والمنزلة، وكان القبض عليهما أحياء أو التخلص منهما هدفًا رئيسيًا للجنرال دوجا وقواته. وفي منتصف سبتمبر سنة 1798 وجه دوجا حملة عسكرية إلى منطقة البحر الصغير، وحدد لمعاونيه أسلوب التعامل مع الثوار في هذه المنطقة تكشف عن التحول السريع في أسلوبه من الملاينة إلى الشدة، وقد جاء في هذه التعليمات:
 "منية محلة دمنة والقباب الكبرى، هاتان القريتان واقعتان تحت تأثير رجلين يجب أسرهما، وهما علي العديسي من المنية والأمير مصطفى من القباب، وقد وصلتني رسالة من الجنرال فيال قومندان مديرية دمياط ينسب إليهما الاتصال بالشيخ حسن طوبار شيخ بلد المنزلة وانتظارهما النجدة منه، فيجب أن لا يترك له الوقت لإمدادهما، ومن ثم يجب مهاجمة المنية والقباب أسرع ما تمكن السرعة، ثم احتلال موقع عسكري بين القباب ودموه السباخ يحول بين الرجلين وكل مدد يأتيهما، وإذا قاوم الأهالي وجب سحقهم وسحق قراهم، وإذا سلموا بدون إطلاق النار فيجب عليهم أن يسلموا في الحال عشرين رهينة منهم، وأن يسلموا كذلك جميع أسلحتهم وعشرين جوادًا وثلاثين من الماشية، ويُغرّموا ثلاثة أمثال الضريبة المفروضة عليهم، وإذا رأيتم بعض القرى تتخذ السلاح لمؤازرة المنية والقباب فاضربوا في أهلها وخذوهم أخذ الأعداء للأعداء".

 لقد كان قادة الحملة الفرنسية في شرق الدلتا يشعرون بخطر الزعامات الشعبية، ويدركون صعوبة الأرض التي يحاربون عليها، لذلك كان دوجا يسعى إلى توجيه ضربات سريعة إلى الثوار ويحاول القبض على قادتهم. تحرك الجنرال دماس والجنرال دستنج على رأس القوات الفرنسية من المنصورة يوم 16 سبتمبر 1798 بالسفن في البحر الصغير في اتجاه منية محلة دمنة والقباب الكبرى، واتخذ الأهالي أسلوبًا دفاعيًا جديدًا حتى يصلهم المدد من المنزلة، فأخلوا القريتين تمامًا من السكان، ففشلت بذلك محاولات الفرنسيين في القبض على الأمير مصطفى وعلي العديسي.

 أما المعركة الكبرى فوقعت عند الجمالية وهي من البلاد التابعة لمركز دكرنس، وتقع على البحر الصغير، كانت السفن الفرنسية قد توقفت بسبب الأوحال هناك بسبب قلة المياة، فهاجم الأهالي القوات الفرنسية، واشترك في الهجوم أهالي الجمالية، وأطلقوا النار على السفن، كما أمطروها بالحجارة من أعلى أسوار بلدتهم، وبعد معركة استمرت لأكثر من أربع ساعات اضطر الجنرال داماس إلى الانسحاب، وقبل أن تنسحب الحملة عائدة إلى المنصورة أشعلت النيران في الجمالية، كما أحرقت في طريق عودتها قرية ميت سلسيل؛ وقد وصف الضابط جازلاس المعركة في تقريره عنها قائلًا: "لما وصلنا بحرًا تجاه الجمالية، وهي قرية كبيرة قوية على الشاطئ الغربي من بحر أشمون، فوجئت السفن التي كانت تقل الجنود بعاصفة من الأحجار والرصاص انهالت من أسوار البلدة وبيوتها، وفي الوقت نفسه رأينا جموعًا كثيرة من العرب والمماليك والفلاحين مسلحين بالبنادق والسيوف والعصي تهرع من الجهات المجاورة مسرعة إلى مهاجمتنا، وكان بعضهم راكبين الخيل وأكثرهم مشاة، فدهشنا من هذه الهجمة العنيفة، لكننا لم نؤخذ على غرة، ونزلت الجنود حاملة سلاحها إلى البر الشرقي المقابل للقرية وتأهبوا للقتال منتظرين قدوم الأعداء، فرأينا أكثرهم شجاعة يغامرون بأنفسهم ويهجمون إلى أن يصبحوا في وسط جنودنا، وقد رأيت بنفسي جماعة من الفلاحين ليس بيدهم سلاح سوى العصي يهاجموننا بحماسة فيسقطون بين أسنة رماحنا."

 ويمضي جازلاس قائلًا: "وصدر لي الأمر بإطلاق النار على الأعداء المهاجمين، فأطلقنا النار عليهم، وفرقنا هذه الجموع بعد أن تركت الميدان مغطى بجثث القتلى، ولقد تمكن بعضهم من أن يعبروا الترعة ثانية ويمتنعوا في الجمالية، وهي قرية محاطة بالأسوار تحميها ترعة أشمون من جهة والمستنقعات التي تغمرها المياه من جهة أخرى، فأمرني الجنرال داماس أن أخذ القوة الكافية واستولى عنوة على القرية، فعبرنا الترعة بجسر أقمناه على عجل، ووزعت جنودي؛ فعهدت إلى جزء منهم رد الهجمات الآتية من خارج القرية، وهجمت بقوتي على القرية، واقتحمنا الباب الكبير رغم مقاومة أهلها الذين دافعوا عنها دفاعًا قويًا، فاستولينا على جزء من القرية، لكن الأهالي ظلوا يدافعون عن الجزء الآخر ممتنعين في البيوت والشوارع، وهجم الثوار على القوة التي دخلت القرية، لكن صدتهم البنادق والحراب، وحُصر جزء منهم في القرية وتمكن جماعة آخرون أن يتسللوا منها، فتلقتهم القوة المرابطة حولها ونجا منهم من ألقوا بأنفسهم في المستنقعات وذهبوا سباحة يحملون أسلحتهم."
 ورغم سقوط ما يقرب من خمسمائة شهيد من أهالي الجمالية والقرى المحيطة بها، ورغم إحراق القرية إلا أن المعركة في مجملها تعتبر معركة خاسرة بالنسبة للفرنسيين من الناحية العسكرية.
 لقد كانت أهداف الحملة العسكرية على البحر الصغير هي قمع حركات المقاومة الشعبية والقبض على زعماء الثورة، فهل تحققت هذه الأهداف؟

 لقد كانت الحملة العسكرية الفرنسية على البحر الصغير فاشلة بكل المعايير، فمن ناحية استمرت المقاومة في إقليمي الدقهلية ودمياط وازدادت اشتعالًا، ومن ناحية أخرى فشل الفرنسيون في القبض على زعماء الثوار أو حتى أخذ رهائن من أبناء القرى التي يحتمي فيها الثوار، فقد اتبع المصريون أسلوب هجر القرى واستفادوا من فترة فيضان النيل لحماية أنفسهم خلف مياهه المرتفعة وفي وسط المستنقعات التي يشكلها في مناطق شمال وشرق الدلتا، ورغم سقوط مئات المصريين والمصريات في هذه المعارك، مقابل مقتل خمسة جنود وجرح خمسة وعشرين من قوات الحملة الفرنسية، إلا أن هذا العدد من قتلى الجيش الفرنسي رغم قلته كان مؤثرًا أشد التأثير في معنويات حملة معزولة عن بلدها تواجه شعبًا ثائرًا، وأهم ما في الأمر أن أكبر زعماء المقاومة في الدقهلية وهو الشيخ حسن طوبار شيخ الصيادين ظل طليقًا يقاوم الفرنسيين لعدة أشهر أخرى، وعندما ضيقوا عليه الخناق في جزر بحيرة المنزلة هرب مع مجموعة من رجالة إلى غزة، وهناك بدء في إعداد العدة للعودة إلى مصر مرة أخرى، لكنه لم ينجح في ذلك. وبعد فشل حملة بونابرت على سوريا سُمح لطوبار بالعودة إلى المنزلة على ألا يغادرها، وتوفي بعد فترة قليلة في 28 يوليو 1800، ومن يومها وأهالي المنزلة يحتفلون بذكراه كل سنة ويقيمون به مولدًا من أشهر موالد المنطقة.

*****
( 3 )
ثورة القاهرة الأولى

 لقد تصور بونابرت أنه أحكم قبضته على البلاد وأن أمرها بات في يده، وإن المصريين قد خضعوا له وقبلوا بحكمه خاصة في القاهرة حيث وطد سلطته ووضع يده على كل شيء، لكن شعب مصر لم يكن راضيًا عن الاحتلال الفرنسي أو مستسلما له، ولم تغير مشاركة بونابرت في الاحتفالات الدينية والشعبية للمصريين في القاهرة من الأمر شيئا.
 لقد ظلت الثورة كامنة في نفوس الشعب المصري في القاهرة، لكن الصمت لم يطل فسرعان ما انفجر بركان الغضب أسرع مما كان يتوقع بونابرت ورجاله؛ ففي 21 أكتوبر سنة 1798 أي بعد أقل من أربعة أشهر على بداية الحملة هب أهالي القاهرة في ثورة قوية ضد الاحتلال الفرنسي، عُرفت فيما بعد بثورة القاهرة الأولى. وقد كانت الأسباب المباشرة لهذه الثورة هي الضرائب الفادحة التي أخذت الحملة تفرضها على المصريين، ثم قرار قيادة الحملة بمصادرة بعض الأملاك وهدم المباني وإزالة أبواب الحارات، بالإضافة إلى أسلوب القمع الذي اتبعته الحملة مع المصريين في الأقاليم المختلفة ووصلت أخباره إلى القاهرة مع طلاب الأزهر.
 وكان للثورة لجنة تديرها وتنشر دعوتها وتنظم صفوف المصريين فيها، وكان مقرها في الأزهر، وانتخب لقيادتها الشيخ السادات، وأخذ دعاة الثورة يحرضون الناس على التمرد على الفرنسيين وشرعوا في الوقت نفسه يثيرون الشكوك حول موقف كبار المشايخ المتعاونين مع الحملة ويتهمونهم بموالاة  الفرنسيين حتى لا يستمع الجمهور لنصائحهم بالتهدئة.

الشيخ السادات
 وقد انضم المصريون من كل الطبقات والفئات إلى صفوف الثورة، فشارك فيها شيوخ الأزهر وطلابه، كما شارك فيها التجار والحرفيون بالإضافة إلى بعض الفلاحين من ضواحي القاهرة؛ ولنرى ما رواه شاهد عيان من ضباط الحملة الفرنسية في وصف الساعات الأولى من الثورة؛ قال: "21 أكتوبر سنة 1798 الساعة السادسة صباحًا احتشدت الجموع في عدة أحياء من القاهرة، وعلت أصوات السخط والاستياء، وأخذ الناقمون يعددوا أسباب سخطهم، وصاح المؤذنون على مآذنهم ينادون نداءات مثيرة للخواطر، وانثال الناس مسلحين بالبنادق والعصي يقصدون الاجتماع في صعيد واحد، ثم أقفلت الدكاكين. وفي نحو الساعة الثامنة صباحًا علم الجنود الفرنسية بهذا الشيء فتأهبوا للقتال، وكان القائد العام مطمئنًا لموقفه فركب جواده وصحبه من القواد كافاريللي ودومارتان وكنت معهم، وذهبنا نتفقد استحكامات مصر القديمة وجزيرة الروضة، وفي نحو الساعة العاشرة جاءه الخبر أن القتال قد بدء في المدينة، وإن أناسًا قتلوا من الفريقين، وإن الجنرال ديبوي قومندان القاهرة ضمن القتلى، صرعه الثائرون برمية سهم نفذت إلى صدره، وكان في كتيبة من الفرسان ذهب القتل بكثير منهم."

 وإذا كانت مدافع الفرنسيين قد نجحت في قمع الثورة بعد أيام قليلة من اشتعالها، فإن روح المقاومة ظلت كامنة في نفوس المصريين تتفجر بين الحين والآخر إلى أن رحلت الحملة عن مصر في عام 1801 بعد ثلاث سنوات قضتها في البلاد.

*****

( 4 )

ثورة القاهرة الثانية

 إذا كانت القاهرة قد ثارت بقيادة صغار المشايخ وطلاب الأزهر في أكتوبر سنة 1798، فإن المدينة عادت إلى الثورة ثانية في شهري مارس وإبريل سنة 1800 رغم القمع الذي واجه به الفرنسيون ثورة القاهرة الأولى. لقد انفجرت ثورة القاهرة الثانية من حي بولاق ولم تخرج من الأزهر كما حدث في الثورة الأولى، وتصدى لقيادتها التجار والحرفيون وأصحاب الوكالات، وكان على رأس قادة تلك الثورة الحاج مصطفى البشتيلي أحد أعيان حي بولاق، وينتسب أصلًا إلى قرية بشتيل من قرى الجيزة.
 لكن كيف بدأت الثورة؟

  بدأت ثورة القاهرة الثانية يوم 20 مارس 1800 أثناء المعارك التي دارت على مشارف المدينة في منطقة عين شمس بين قوات الحملة الفرنسية وفرق من الجيش العثماني، كان كليبر القائد الثاني للحملة بعد رحيل بونابرت يسعى إلى الصلح مع العثمانيين والجلاء عن مصر خاصة بعد أن وصلت جيوشهم إلى العريش في 30 ديسمبر سنة 1799، وانتهت جهود كليبر إلى توقيع معاهدة العريش في 24 يناير 1800، والتي حددت جدولًا زمنيا لجلاء الفرنسيين وتسليم البلاد مرة أخرى للدولة العثمانية، لكن إنجلترا بذلت كل جهودها لإفشال هذه المعاهدة، الأمر الذي حدث بالفعل بعد أقل من شهرين على توقيعها، وكان من نتائج المعاهدة دخول فرق من الجيش التركي إلى مشارف القاهرة، واشتبكت هذه الفرق مع الفرنسيين مما حفز أهالي القاهرة على الثورة.
 كان من زعماء هذه الثورة السيد عمر مكرم نقيب الأشراف العائد من الشام، والسيد أحمد المحروقي كبير التجار، والشيخ الجوهري، لكن أبرز القادة الميدانيين للثورة كان الحاج مصطفى البشتيلي الذي سبق أن اعتقله الفرنسيون في أغسطس سنة 1799 واستمر حبيسًا لعدة أشهر. وكان سبب اعتقال الحاج مصطفى البشتيلي وشاية من بعض عملاء الفرنسيين بأن الرجل يخفى في وكالته ببولاق قدورًا عبء بها بارودًا.

السيد عمر مكرم
 ويذكر عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه أن الفرنسيين عندما فتشوا وكالة البشتيلي وجدوا بها بالفعل قدورًا مملؤة بالبارود، ويبدو أنه كان يُعد العدة للثورة بالفعل قبل شهور من وقوعها. ويسجل عبد الرحمن الجبرتي وقائع اشتعال الثورة قائلًا: "أما بولاق فإنها قامت على ساق واحدة، وتحزم الحاج مصطفى البشتيلي وأمثاله وهيجوا العامة وهيئوا عصيهم وأسلحتهم، ورمّحوا وصفّحوا، وأول ما بدأوا به إنهم ذهبوا إلى وطاق الفرنسيس الذي تركوه بساحل البحر، وعنده حرس منهم، فقتلوا من أدركوه منهم ونهبوا جميع ما به من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا إلى البلد وفتحوا مخازن الغلال والودائع التي للفرنساوية، وأخذوا ما أحبوا منها، وعملوا كرانك حوالي البلد ومتاريس."
 ثار أهالي بولاق وحملوا ما وصلت إليه أيديهم من السيوف والبنادق والرماح والعصي، واتجهوا بجموعهم صوب قلعة قنطرة الليمون لاقتحامها، لكن حامية القلعة ردت هجومهم بنيران المدافع، فأعاد الثوار تنظيم صفوفهم واستأنفوا الهجوم، وقُتل في هذه المعركة ثلاثمائة من الثوار.

 وأدت هذه المعركة إلى امتداد نار الثورة في باقي أحياء المدينة، وزاد من اشتعالها فرار عناصر من الجيش العثماني والمملوكي من معركة عين شمس ودخولهم إلى المدينة بسلاحهم. وتضاعف عدد الثوار في ساعات قليلة وتوجهت حشودهم إلى معسكر القيادة العامة للجيش الفرنسي بالأزبكية وحاصروه، واحتلوا المنازل المجاورة له، وأخذوا يُطلقون منها نيرانهم على الفرنسيين.

 ولم يقف ضعف الإمكانيات العسكرية والسلاح الناري عائقًا أمام ثورة المصريين، فقد استخدموا كل ما تقع عليه أيديهم من معادن لتصنيع القنابل، كما شيدوا مصنعًا للبارود، ويروي المسيو مارتان أحد مهندسي الحملة قصة هذه الجهود: "لقد قام سكان القاهرة بما لم يستطع أحد أن يقوم به من قبل، فقد صنعوا البارود، وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصناع، وفعلوا ما يصعب تصديقه ـ وليس من رأى كمن سمع ـ ذلك أنهم صنعوا المدافع".
  الأمر الذي يؤكده الجنرال كليبر في يومياته عندما قال: "استخرج الأعداء مدافع كانت مطمورة في الأرض وأنشأوا معامل للبارود ومصانع لصب المدافع وعمل القنابل، وأبدوا في كل ناحية من النشاط ما أوحت به الحماسة والعصبية، هذه هي بوجه عام حالة القاهرة عند قدومي إليها، وإني لم أكن أتصورها في هذه الدرجة من الخطورة."

 وخلال أيام قليلة امتدت الثورة إلى بعض مدن وقرى الوجه البحري، ورغم العنف الذي واجه به كليبر وجنرالاته الثورة إلا أنها استمرت ثلاثة وثلاثين يوما. وبدء تراجع الثورة مع الهجوم الفرنسي المضاد على مواقع الثوار والذي بدأ في الثامن عشر من إبريل 1800، عندما هاجم الفرنسيون القاهرة من الشمال والشرق والجنوب، ومثلما بدأت الثورة من بولاق كانت النهاية هناك، فبعد معارك ضارية نجح الفرنسيون في احتلال الحي الذي أشعل الثورة.

 ويصف عبد الرحمن الجبرتي ما حدث لبولاق وأهلها بعد هجوم 18 أبريل الكاسح قائلا: "هجموا على بولاق من ناحية البحر، ومن ناحية بوابة أبي العلا، وقاتل أهل بولاق جهدهم، ورموا بأنفسهم في النيران حتى غلب الفرنسيون عليهم وحاصروهم من كل جهة، وقتلوا منهم بالحرق والقتل وتلوا بالنهب والسلب، وملكوا بولاق وفعلوا بأهلها ما تشيب له النواصي، وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور، وخصوصا البيوت والرباع المطلة على البحر، وكذلك الأطراف، وهرب كثير من الناس عندما أيقنوا بالغلبة فنجوا بأنفسهم إلى الجهة القبلية، ثم أحاط الفرنسيس بالبلد، ومنعوا من يخرج منها واستولوا على الخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخواندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأباريز والأرز والأدهان والأصناف العطرية، وما لا تسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور، والذي وجدوه منعكفًا في داره أو طبقته ولم يجدوا عنده سلاحًا نهبوا متاعه، وعروه من ثيابه ومضوا وتركوه حيًا، وأصبح من بقى من ضعفاء أهل بولاق وأهلها وأعيانها الذين لم يقاتلوا فقراء لا يملكون ما يستر عوراتهم".
 وبعد قتال استمر قرابة أسبوع ارتكب خلاله الفرنسيون فظائع فاقت ما ارتكبوه في قمع ثورة القاهرة الأولى انتهت وقائع الثورة، وغادر المدينة من دخلها من العثمانيين والمماليك ورحل معهم نقيب الأشراف السيد عمر مكرم وكبير التجار السيد أحمد المحروقي، أما الحاج مصطفى البشتيلي قائد الثورة في بولاق فقد قبض عليه الفرنسيون وأرغموا اتباعه وصبيانه على أن يقتلوه ضربًا بالعصي حتى مات.

*****

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...