الأحد، 20 مايو 2018

نهضة مصر... 90 سنة


نهضة مصر... 90 سنة

20 مايو 1928 – 20 مايو 2018

عماد أبو غازي


 زي النهار ده من تسعين سنة كانت حفلة إزاحة الستارة عن تمثال نهضة مصر في مكانه القديم، ميدان باب الحديد...
 زي النهار ده سنة 1928 وفي حفلة كبيرة في الميدان حضرها الملك فؤاد واتكلم فيها النحاس باشا اترفعت الستارة عن تمثال النهضة بعد سنين من تعطيل الشغل فيه، وبعد شهور من رفض الملك لتحديد ميعاد الاحتفال.
 التمثال له حكاية طويلة بتبتدي من 100 سنة لما قامت الثورة المصرية، ثورة سنة 1919، واللي المفروض نحتفل بمرور 100 سنة عليها بعد كام شهر، حكاية من ساعة ما كان التمثال فكرة في دماغ النحات الشاب محمود مختار أو زي ما كانوا بيسموه وقتها "المثال مختار" لغاية ما قام في مكانه في ميدان المحطة، وبعدين اتنقل سنة 1955 للمكان اللي موجود فيه دلوقتي عند الجامعة.
 لما قامت الثورة سنة 1919 مختار ما كانش كمل 28 سنة، وكان لسه في باريس، وهناك شارك مع الطلبة المصريين في تكوين حركة لدعم الثورة المصرية والدعاية لها، كان اسمها "الجمعية المصرية"، وبعد سفر الوفد المصري لباريس برياسة سعد زغلول إتحولت الحركة لجماعة لمساندة الوفد ومساعدته في الدعاية للقضية المصرية.

 
مختار في مرسمه بباريس
 مختار زيه زي كل المصريين انفعل بالثورة وأحداثها، وقرر إن مساهمته فيها تكون بفنه، فنحت تمثالً عبر بيه عن الثورة اللي اعتبرها نهضة للشعب المصري، وقدم التمثال لمعرض الفنون الجميلة في باريس وأخد عليه شهادة تقدير.


النموذج المصغر لتمثال النهضة الذي عرضه مختار في باريس
  طبعا ده مش الشكل الأخير للتمثال، كمان ده ما كانش الشكل الأول.
  فكرة التمثال لها قصة، مختار في الأول نحت تمثال على شكل رجل بعقال فارد صدره وسيفه في وسطه، لكن الفكرة ما عجبتوش ورجع فيها وكسر التمثال، ما فضلش منه غير صورة فوتوغرافية نشرها الناقد جبرائيل بقطر أول وأخر مرة في الذكرى العاشرة لوفاة مختار سنة 1944.


الفكرة الأولى للتمثال
 وبعدها نحت مختار رمز النهضة اللي بنشوفه دلوقتي في مدخل الطريق اللي بيوصل لجامعة القاهرة، مختار سمى  تمثاله "نهضة مصر" علشان كان شايف إن الثورة كانت التعبير الحي عن روح النهضة الشاملة والبعث الوطني، التمثال على هيئة فلاحة مصرية بتقوم أبو الهول في محاولة من مختار أنه يربط بين نهضتنا المعاصرة وتراثنا المصري القديم.
وكان انجاز مختار للتمثال في نفس وقت سفر الوفد المصري غلشان عرض قضية البلاد في باريس ولندن والدعوة لاستقلال مصر، فتعرف أعضاء الوفد على مختار وشافوا التمثال قبل عرضه على الجمهور، سعد زغلول أعجب بالتمثال وعبر عن إعجابه في رسالة بخط إيده بعتها لمختار أشاد فيها بالعمل وبالمعنى الرمزي اللي فيه يحمله؛ قال سعد في رسالته، اللي شفتها أول مرة في أرشيف دار الهلال وصورتها منشورة في سجل الهلال المصور اللي طلع سنة 1992 بمناسبة مرور 100 سنة على صدور مجلة الهلال:
"حضرة المصور الماهر مختار
شاهدت المثال الذي رمزت به لنهضة مصر فوجدت أبلغ رمز للحقيقة، وانهض حجة على صحتها، فأهنئك على هذا الخيال الواسع وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر، وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها فتشفع مثال النهضة بمثال الاستقلال والسلام
سعد زغلول
باريز 6 مايو سنة 1920”


 أما في مصر فالناس عرفوا التمثال من سلسلة مقالات كتبها مجد الدين حفني ناصف في جريدة الأخبار اللي كان بيصدرها أمين الرافعي، وكان لها عنوان واحد: "النهضة الفنية في مصر".
 بعد المقالات دي الدكتور حافظ عفيفي، وكان من ضمن أعضاء الوفد المصري، بعت رسالة لأمين الرافعي رئيس تحرير الأخبار إقترح فيها إن الأخبار تتبنى الدعوة لاكتتاب عام لإقامة تمثال النهضة في ميدان من ميادين العاصمة، الرافعي تبنى الفكرة، ونشر تاني يوم نداء لاكتتاب قومي عام كان عنوانه: "نهضة مصر دعوة إلى الأمة المصرية".
 وساند فكرة الاكتتاب اتنين من أعضاء الوفد المصري هما ويصا واصف وواصف غالي، فنشر ويصا واصف مقالة عنوانها: "محمود مختار والنهضة الفنية في مصر"، أما واصف غالي فكتب مقالة عنوانها: "واجبنا نحو مختار".
 وبالفعل بدأ الاكتتاب الشعبي، وبعدين الحكومة كملت تكلفة إقامة التمثال اللي اترفعت عنه الستارة في 20 مايو 1928.
 دي ما كانتش المرة الأولى اللي يتعمل فيها اكتتاب شعبي لمشروعات علمية أو فنية، ففي أوائل القرن العشرين بدأت الدعوة للتبرع والاكتتاب علشان تتعمل جامعة مصرية، ونجحت الدعوة رغم مقاومة سلطات الاحتلال البريطاني لها، وتأسست الجامعة المصرية بأموال المصريين، وافتتحها الخديوي عباس حلمي الثاني في ديسمبر 1908، كمان بدأ أعضاء الحزب الوطني حملة للاكتتاب لعمل تمثال لرئيس الحزب ومؤسسه مصطفى كامل بعد وفاته في 10 فبراير 1908، وانضم لحملة الاكتتاب شخصيات من كل الأحزاب والاتجاهات، واتشكلت لجنة لإقامة التمثال ضمت عدد من السياسين والمفكرين، وتم تكليف النحات الفرنساوي سافين بنحت التمثال، وخلصه في أبريل سنة 1910، ووصل التمثال لمصر سنة 1914، لكن الحكومة ما سمحتش بإقامته في ميدان عام، وفضل في مدرسة مصطفى كامل سنين الملك فاروق قرر سنة 1938 السماح بإقامته في ميدان العتبة، وبعدين اتغير المكان لميدان سوارس اللي فيه التمثال لغاية دلوقتي، وأزيحت الستارة عن التمثال في 14 مايو 1940؛ وسنة 1938 هي برضه السنة اللي وافق فيها فاروق على الإفراج عن تماثيل سعد في القاهرة وإسكندرية اللي عملعم مختار.
فكرة الاكتتاب الشعبي كانت موجودة في الخبرة المصرية، لكن الجديد كان حجم المشاركة الشعبية واتساعها.
  ودي شوية جوابات بتوري شعور الناس وقتها بالتمثال وتعبيره عنهم، للأسف ما عنديش صور الجوابات، لكن نصوصهم موجودة في كتاب بدر الدين أبو غازي، المثال مختار، نقدر نعرف من الجوابات الروح اللي كانت موجودة بين الناس ونفهم أزاي قدروا يجمعوا الفلوس بسرعة.
 ده الجواب الأول:
  "إنني رجل فقير جدًا، أشتغل بهندسة السكة الحديد الأميرية بوظيفة فاعل، ويوميتي 70 مليمًا، ومتزوج بيتيمة الأب، وأم زوجتي تبيع ترمسًا، ولي شغف بقراءة الصحف عن عهد النهضة المصرية الأخيرة، بينما كنت جالسًا أقرأ جريدتكم الغراء بكيت بكاء شديدًا، فسألتني زوجتي عن سبب بكائي فأخبرتها عن التبرع لتمثال نهضة مصر، ولم يكن معي نقود أتبرع بها خلاف 200 مليم، فقالت زوجتي: إنها تتبرع بمائة مليم أيضًا، وقالت أمها مثلها، وكذلك فعل أخوها وعمره 15 سنة، أما أختها البالغة من العمر 13 سنة فقالت إنها لا تملك إلا 50 مليمًا فتبرعت بها، ولي طفل عمره سنة ونصف كانت أمه وفرت له 50 مليمًا فأحضرتهم، فأصبح المجموع 600 مليما، فأرجوكم أن تتقبلوا منا هذا المبلغ القليل لتوصيله إلى أمين صندوق تمثال نهضة مصر، وتتوسطوا في قبوله ونكون لكم من الشاكرين، هذا وإني أدعو جميع الفعلة زملائي في الزقازيق وخلافها وأدعو أيضا جميع العمال للتبرع لتمثال نهضة مصر لنتسابق مع أسيادنا الأغنياء زادهم الله من فضله
                                                                                                               الشحات إبراهيم الكيلاني
الفاعل بهندسة السكة الحديد بالزقازيق"
 ملاحظة على الهامش: ظهر اسم الشحات إبراهيم الكيلاني بعد أربع سنين ضمن أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري اللي اعتقلتهم السلطات.
 وده جواب من تلميذ في مدرسة خليل أغا الابتدائية، قال فيه:
 "إن والدي يطلعني على ما كتب بجريدتكم بشأن نابغة مصر، وهو سيدي محمود مختار لأعلم أن النبوغ أكثر ما يكون من الطبقات التي أنا منها فأبذل جهدي لأكون عظيمًا، وإن المدح الذي كنت أسمعه من والدي لهذا النابغة جعلني أحبه حبًا لا مزيد عليه، واليوم علمت دعوتكم إلى الأمة المصرية، لتكتتب بمبلغ يدفع ثمنًا لتمثال نهضة مصر الذي أجاد إتقانه سيدي مختار ويكون ذلك مكافأة لذلك النابغة وبرهانًا على شعور الأمة الحي؛ وبما أني أرجو أن أكون رجلًا حيًّا فقد أردت أن أفتتح حياتي بالاشتراك في هذا الاكتتاب المقدس بنصف ما أملك وهو خمسة وعشرون قرشًا، وأقسم بوطنية مختار، وإنه لقسم كما تعلمون عظيم، إني لو كنت أملك مئات الجنيهات لاكتتبت بنصفها ولكن ما باليد حيلة.
مصطفى كمال التميمي
 ودي رسالة من متبرعة مصرية، قالت:
 "سيدي الفاضل مدير الأخبار
 إن المرأة المصرية التي كانت لها يد تذكر في تشجيع النهضة الوطنية في مصر لا تستطيع أن تحجم عن البذل في سبيل إقامة تذكار يخلد ذكرى هذه النهضة، ولا شك في أن السيدة برهنت في الحركة الأخيرة على مبلغ شعورها بالواجب وإدراكها لمعنى التعاون، لا شك في أنها ستقوم بتأدية ما هو مفروض عليها لتنفيذ هذا المشروع الجليل الذي سيكون شاهدًا على أن المصري والمصرية متكافئان في تقدير الواجب وتشجيع العاملين، وإني أرسل إليكم مع هذا خمسة وعشرين جنيهًا أملة أن يكون ذلك فاتحة اكتتاب كبير تقوم به سيداتنا العاملات حتى تبرهن المرأة المصرية مرة أخرى على أنها لا تتردد في الاشتراك في كل ما يعود على مصر بالنفع والخير.
حرم حسن الشريف"
 والنموذج الأخير رسالة من بعض أهالي كفر معوض بالشرقية، قالوا فيها:
 "نحن المتبرعين بهذا (1 جنيه و650 مليم) فقراء كفر معوض، بندر الزقازيق، نتقدم إلى أغنياء الزقازيق طالبين منهم مشاركتنا في الاكتتاب لتمثال نهضة مصر، حتى نكون قد تساوينا بغيرنا من البلدان الأخرى، ولهم الشكر مقدمًا".
 أشكال الدعاية للتمثال ولحملة الاكتتاب الشعبي لإقامته كانت كتيرة، مش بس الكتابة في الجرايد والمجلات، إنما اخدت أشكال تانية كمان؛ وكان من بين أشكال الدعاية طباعة كروت بوستال عليها صورة النموذج الأول للتمثال لتشجيع الناس على الاكتتاب.



كارت بوستال يحمل صورة تمثال النهضة
 حصيلة الاكتتاب الشعبي وصلت مبلغ 6500 جنيه، وبمقاييس وقتها ده مبلغ كبير، كان كافي للبداية في الشغل رغم إنه ما كانش يكفي العمل كله.
 واتشكلت لجنة لإقامة التمثال برئاسة حسين باشا رشدي وعضوية ويصا واصف وواصف غالي والدكتور حافظ عفيفي ومحمد محمود خليل وعبد الخالق مدكور وفؤاد سلطان وعبد القوي أحمد وأمين الرافعي؛ ووافقت اللجنة على رغبة مختار في نحت التمثال في حجر الجرانيت الوردي بدل ما يشكله بالطين ويصبه بالبرونز، كانت الفكرة جديدة وجريئة، لكن مختار كان عاوز يحيي بيها تقاليد فن النحت المصري القديم.
 وفي 25 يونيو 1921 وافق مجلس الوزراء على طلب اللجنة بالتصريح بتشييد التمثال من الجرانيت في ميدان باب الحديد، مع تولي وزارة الأشغال العمومية الإشراف على إنشاء قاعدة التمثال وإقامته عليها، ورصدت الحكومة مبلغ 3000 جنيه لقطع الأحجار ونقلها من أسوان للقاهرة، ولما خلص المبلغ المخصص نجح ويصا واصف في شهر يوليو سنة 1924 إنه ياخد موافقة البرلمان على تخصيص مبلغ 12000 جنيه لاستكمال التمثال، وكان ده في عهد حكومة الشعب اللي ترأسها سعد زغلول، وفي برلمان كان للوفد المصري فيه أغلبية كاسحة، لكن العمل في التمثال تإعرض في فترات حكومة الانقلاب الدستوري الأول للتعطيل أكتر من مرة بحجج مختلفة، وما اكتملش العمل فيه إلا لما جت حكومة الائتلاف بين الوفد والأحرار الدستوريين.
 والحقيقة إن مش كل الناس كانت بتأييد فكرة التمثال ومعجبة بيه، فيه كتاب زي عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، كانت لهما انتقاداتهما على جوانب فنية في التمثال، انتقادات العقاد كانت على النموذج اللي قدمه مختار في فرنسا علشان فيه ملامح أوروبية، في الوقت اللي أشاد فيه بالتمثال اللي تم تنفيذه بالفعل واللي عالج فيه مختار جوانب الانتقاد اللي وجهها العقاد وغيره للنموذج الأول؛ أم انتقادات المازني فتحولت لمساجلة على صفحات الجرائد بين مختار والمازني، واخذت طابع الحوار الساخر، اللي وجه خلاله المازني انتقادات حادة للعمل من الناحية التشكيلية، ومن الناحية الرمزية، ونشر بدر الدين أبو غازي المساجلة في كتابة الثاني عن مختار، اللي عنوانه "المثال مختار"، واللي صدرت طبعته الأولى سنة 1964.


النموذج النهائي لتمثال النهضة
 مرت 8 سنين بين عرض مختار تمثاله للمرة الأولى في باريس في مايو سنة 1920 وإزاحة الستار عنه في 20 مايو سنة 1928، 8 سنين مليانين معارك طويلة مع البيروقراطية اللي أعاقت العمل في التمثال، ومعارك مع الساسة المؤيدين لاستبداد الملك فؤاد، لإن تمثال النهضة كان تعبيرًا عن ثورة الشعب، وكان في الوقت نفسه ثورة في القيم الفنية.
  مصر تعرفت ماثيل الميادين والجناين من أيام الخديوي إسماعيل، لكن كلها كانت بأيدين نحاتين أوروبيين، وكانت تماثيل لأسرة محمد علي وكبار رجال دولتهم، أو تماثيل الأسود الأربعة اللي زينت كوبري قصر النيل، فكان تمثال النهضة أول تمثال ميدان ينحته مصري في العصر الحديث، يرمز به لثورة الشعب، ويختار الفلاحة المصرية علشان تكون رمز النهضة، وكان الاختيار ده في حد ذاته ثورة على قيم الدولة المصرية الحديثة اللي أسسها محمد علي، وانتزاع لجزء مهم من الفراغ العام لصالح الشعب، وكان اختيار ميدان باب الحديد، اللي يعتبر مدخل القاهرة الرئيسي للي جايين من الوجهة البحري أو الوجه القبلي تحدي للسلطة، وإذا كان رفض تجسيد الفلاحة للنهضة فضل في نفوس الملك والموالين له ما بيعلنهوش بوضوح، لكن محاولة إبعاد التمثال عن مكانه المختار تكررت أكتر من مرة، لكن توازن القوى كان في صالح مختار وتمثاله، وانتهى الأمر برضوخ الملك فؤاد وتحديد ميعاد لإزاحة الستار عن التمثال أثناء تولي مصطفى النحاس رئاسة الحكومة الائتلافية بين الوفد والأحرار الدستوريين، ولما اتغيرت موازين القوة بعد 1952 تم نقل التمثال من مكانه الأصلي للمكان الحالي وحطوا مكانه تمثال رمسيس.



غلاف الكتيب التذكاري لاحتفال إزاحة الستار عن تمثال النهضة
 التمثال كان فيه مجموعة من الإشارات والدلالات المهمة؛ مختار اختار الفلاحة رمز للثورة، اللي اعتبرها نهضة أو بعث لروح الشعب، واستخدام المرأة رمز لثورات الشعوب أمر متكرر، لكن الرمزية دي لها دلالتها اللي تبرتبط بالانتقال للعصر الحديث بثوراته وقيمه اللي بتكون نتيجة لصعود الطبقات الوسطى في المجتمع.
 وفيه 3 عناصر مهمة في حركة الفلاحة؛ أولها حركة الإيد الشمال اللي بتقوم فيها الفلاحة بإزاحة الطرحة عن وشها، ورغم أن الفلاحة المصرية ما كانتش بتحجب وشها، لكن ممكن نربط ده بالتحول في ستات الطبقات العليا في المجتمع اللي تخلصوا من اليشمك في سياق المشاركة في الحراك الثوري. وثانيها نظرة الفلاحة المتطلعة للمستقبل.


تفاصيل من تمثال النهضة
وثالثها حركة الإيد اليمين اللي تبدو كما لو كانت تستنهض "أبو الهول" اللي بيرمز للماضي البعيد.


تفاصيل من تمثال النهضة
 مختار لجأ لفكرة رمزية مشابهة للفكرة اللي استخدمها سافان في تمثال مصطفى كامل، لما خلى مصطفى كامل مسنود على راس تمثال مصري قديم، لكن مختار طور الرمز في تمثال النهضة لما اختار "أبو الهول" بدلالاته، وصوره في حالة توثب للنهوض بفعل حركة الفلاحة اللي بتحفزه للقيام من الرقاد؛ هنا الثورة بتستدعي الماضي اللي عرفت فيه مصر حضارة كبيرة، كان المصريين من فترة قبلها بدأوا يتعرفوا عليها مع فك رموز الهيروغليفية وتوالي الكشوف الأثرية، وإنشاء أول متحف للآثار في سنة 1835، كوان المصريين في أواخر القرن التسعتاشر وبدايات القرن العشرين بيعيدوا صياغة هويتهم، وكان تمثال نهضة مصر لمختار انعكاسً لهوية الجديدة اللي بتتشكل، وفي الوقت نفسه كان واحد من أدوات تشكيلها.
  تمثال نهضة مصر كان ميلاد جديد لمختار، قدمه للمصريين على إنه اللي بيعبر عن ثورتهم وتطلعهم للمستقبل، وسعيهم لتحقيق الحداثة اللي ما بتتحققش، واللي سموها النهضة، فأصبح مختار بمعنى من المعاني زي ما وصفوه
"رمزًا من رموز الوطن، وزعيم من زعماء الأمة".
 كمان كان الالتفاف الشعبي حولين التمثال/الرمز بداية لعلاقة جديدة بين المصريين والفنون التشكيلية، أو زي ما كانوا بيسموها وقتها "الفنون الجميلة"، التمثال حول فن النحت لفن جماهيري بيشغل عموم الناس زيه زي الأغنية.
 مختار ترجم الثورة في منحوتة رمزية، التف حوليها الشعب بكل طوايفه، وبسرعة أصبح التمثال شعار لعدد من الهيئات والشركات والمؤسسات في مصر، ولسه هيئات كتيرة واخداه شعار لها، في صورته الصريحة الكاملة أو في صورة مقطع من التمثال، أو في شكل مجرد، زي: الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ومجموعة شركات نهضة مصر للنشر والبنك الوطني المصري والمجلس القومي للمرأة وحزب المحافظين، كمان صورة التمثال استخدمت صورة على الفلوس، وأصبح اسم "نهضة مصر" اسم تجاري والتمثال علامة تجارية، كمان دخلت صورة التمثال ضمن إعلانات المنتجات الصناعية المصرية الجديدة، وللترويج للمنتجات الأجنبية، كمان ظهر التمثال في الصور الفتوغرافية والأعمال الفنية أحيانا من باب السخرية.





  وظهر في بعض الأعمال الشعبية، فانتشرت نماذج صغيرة من الجبس الملون للتمثال، واستخدموه حلية على الأبواب المعدنية، وحلية لغطيان القلل.

نحت بارز للتمثال كحلية باب الصورة مهداه من الدكتورة كريمة خليل


مجسم التمثال كحلية لغطاء قلة معدني

نموذج مصغر للتمثال من صفحة الصديق الراحل بيير سيوفي
 واتحول موقع العمل في التمثال لملتقى للفنانين والكتاب والساسة.

مختار مع تمثال النهضة في المراحل الأخيرة للعمل


مختار مع أصدقائه في موقع العمل
 لكن أبرز هذه الزيارات كانت تلك التي قام به مجموعة من الساسة على راسهم سعد زغلول وحسين رشدي وويصا واصف لموقع العمل في التمثال، ودي صور الزيارة.

  
سعد مع تمثال نهضة مصر قبل رفعه على قاعدته
 كمان موقع التمثال بقى عنوان بريدي للمراسلات.


مظروف خطاب مواجه إلى مختار على عنوان "دار تمثال نهضة مصر"






الخميس، 17 مايو 2018

حكيمباشي أطفال ليسانس حقوق!!!


حكيمباشي أطفال ليسانس حقوق!!!
عماد أبو غازي

 وأنا بارتب في أوراق العيلة، لقيت كراسة صغيرة عنوانها: "مذكرة بحياة الطفل" علشان الأهل يكتبوا فيها التطورات الصحية والسلوكية لطفلهم، النوع ده من الكتيبات موجود لغاية دلوقتي، أو على الأقل كان موجود لغاية قريب.

 اللي لفت نظري في الكراسة وصف مؤلفها لنفسه، مكتوب تحت العنوان:
وضع
الدكتور عبد العزيز نظمي بك
الاختصاصي لأمراض الأطفال
حكيمباشي مستشفيات وزارة الأوقاف سابقًا
 كله ده عادي بالنسبة لطبيب أطفال؛ لكن اللي مش عادي المؤهلات بتاعته...
المؤهل الوحيد اللي مكتوب:
"ليسانسيه في الحقوق من كلية باريس"
حائز لنيشان المعارف العمومية من حكومة فرنسا
 بعد كده كاتب عضويته في هيئات طبية أوروبية ودولية، زي الجمعية الدولية لأمراض الأطفال بباريس، واللجنة الدولية لرعاية الأطفال ببروكسيل، وجمعية العلوم الطبية والبيولوجية بمونبيلييه.
 أكيد الدكتور عبد العزيز بك نظمي كان حاصل على مؤهل في الطب، لكن المؤهل الوحيد اللي اهتم يسجله كان ليسانس الحقوق!
 الكراسة فيها أماكن للبيانات الأساسية عن الطفل زي اسمه ومكان ميلاده وتاريخ ميلاده وعنوان الأسرة واسم الوالد ووظيفته، واسم الوالدة، واسم المولدة، ومكان للزق صور الطفل في مراحل مختلفة من عمره.
 وبعدين جداول لتسجيل نمو الطفل، وجداول تانية فيها ملاحظات عامة عن الطفل، والأمراض والحوادث اللي اتعرض لها.

 وبعدين التواريخ المهمة زي مثلًا التطعيمات، وظهور أول سن، وتبديل الأسنان، مشي امتى لوحده أول مرة، وأول كلمة قالها، وكانت إمتى؟ وإمتى ابتدى تعليمه.
 وبعدين جدول برأي الوالدين في أخلاق الطفل وميوله الطبيعية ومدى ذكاؤه.
 بعد كده الكراسة فيها نصايح وإرشادات عامة للأمهات، عن التغذية، والنضافة، والهدوم، والنوم، والرياضة واللعب، وإيه السبب في عياط الطفل والأم المفروض تعمل إيه في الحالة دي.
 وفيه كمان معلومات طبية عامة، ومعلومات عن الإسعافات المنزلية اللي ممكن الأهل يعملوها في حالة الإصابات المفاجأة لغاية لما الدكتور يوصل.



وبعدين مجموعة إرشادات مصورة، للحموم والتنشيف، والطرق الغلط في شيل الأطفال.



في أخر صفحة فيه رجاء من الدكتور نظمي، بيقول فيه:


رجاء
  الرجاء من حضرات الأمهات اللائي تقرأن هذه المذكرة وتجتهدن في اتباع ما بها من الإرشادات أن يتفضلن بإبلاغي عن الاقتراحات والملاحظات التي تبدو لهن حتى يتيسر لي تحقيق رغباتهن – بقدر المستطاع – عند إعادة طبع المذكرة في المستقبل القريب إن شاء الله، ولهن مني وافر الشكر سلفًا
 وإني أكون سعيدًا جدًا لو علمت أن هذه المذكرة الوجيزة عاونت الأمهات على العناية بأطفالهن وحفظ حياة فلذات أكبادهن. وفقنا الله جميعًا إلى صالح الأعمال وحقق لنا الآمال.
الدكتور عبد العزيز نظمي بك
بشارع الشيخ ريحان رقم 42 بمصر

ضهر الغلاف الخلفي عليه قايمة بمؤلفات الدكتور عبد العزيز نظمي، اللي منها اتنين بالفرنساوي، كتاب عن الطب عند الفراعنة واخد عليه شهادة شرف من جامعة مونبيلييه، وكان بيتباع ب 25 قرش، وتقرير عن أمراض الأطفال في مصر، عنوانه رعاية الأطفال بمصر، قدمه في مؤتمر برلين سنة 1911.
 باقي مؤلفاته في الطب والتمريض والتربية وواجبات الطبيب كلها بالعربي وعددها تسعة، وتمنها بين قرشين صاغ و15 قرش، ده غير مجلة اسمها الحكمة كان بيطلعها وتمن مجلد السنة الواحدة عشرين قرش، وكان عامل خصم 20% للمدارس ومجالس المديريات والجمعيات والنقابات.
 رقم تليفون العيادة 449 مصر.


 الكلام ده كله سنة كام؟ سنة 1923، ودي كانت الطبعة الأولى للمذكرة.
 المذكرة كانت خاصة بعمتي نجمة محمود أبو غازي، الغريب في الأمر إني لقيت المذكرة النهارده 17 مايو، اللي يبقى يوم ميلادها، هي إتولدت 17 مايو سنة 1922!!! وكان يوافق 15 رمضان سنة 1340. 


ترتيبها كان التالتة بين أخوتها، كان أبويا بدر الدين أكبر منها بسنتين وتلت تيام، لأنه مولود يوم 14 مايو 1920.

أبويا وعمتي نجمة
وقبلهم كان فيه بنت جدي وجدتي سموها نجمة اتوفت وهي طفلة صغيرة، فجدي وجدتي قرروا يسموا المولدة الجديدة نجمة برضه!

نجمة الأولانية أخر صورة 
 من المذكرة بأعرف عنوان بيت من البيوت اللي عيلة أبويا سكنوا فيها، وواضح إن التنقل من سكن لسكن كان سريع، أبويا اتولد سنة 1920 في شارع يعقوب، وعمتي اتولدت سنة 1922 في 19 شارع الأربعين بجنينة ماميش بالسيدة زينب، العيلة عاشت في السيدة فترة، وبعد وفاة جدي سنة 1926 بشوية عزلوا للمنيل لأنه كان أرخص، وفضلوا هناك لغاية لما أخر واحدة من عمتي اتوفت سنة 2005، وفي الأوراق اللي نقلتها من آخر شقة سكنوا فيها في المنيل، واللي عاشوا فيها من سنة 1934 على الأقل لقيت المذكرة دي.


جدي وجدتي 
جدي وجدتي الاتنين كانوا بيسجلوا البيانات في المذكرة، باعرف أفرق بين خطهم بسهولة، خط جدي مدرس الابتدائي الواضح، وخط جدتي اللي كانت بتعرف تقرا كويس قوي، لكن يدوب بتعرف تكتب.





 من المذكرة بيبان الأمراض اللي أصيبت بيها في طفولتها، نزلة شعبية، وإسهال وقيء، وسقوط الشعر، ودفتريا، وحصبة، ولوز. كمان بيبان أسماء الدكاترة اللي تابعوها: الدكتور سامي كمال والدكتور بدرخان والدكتور الإسريجي، ومرة متابعة من الأم من غير دكتور.
 في التواريخ المهمة مكتوب إن أول كلمة واضحة قالتها كانت بابا وعمرها 8 شهور، وأول سنة طلعت لها كان عمرها عشر شهور، وأول خطوة مشيتها كان عمرها 11 شهر، وإنها اتفطمت في 10 سبتمبر 1923 للمرض والحمل، لأن جدتي كانت حامل للمرة الرابعة، وبعدين دخلت روضة أطفال قصر الدوبارة سنة 1927، وخلصت روضة الأطفال سنة 1930.
 في آراء الوالدين في أخلاقها كتبوا وهي عندها سنة كانت تميل... وما كملوش تميل لإيه!!!


جدي وأبويا واتنين من عماتي
 ده نموذج من حياة أسرة مدينية متوسطة من أصول ريفية في العشرينيات من القرن اللي فات.

الأربعاء، 16 مايو 2018

من أوراق بدر الدين أبو غازي (8) معرض الأستاذ حامد عبد الله أول مقال في النقد الفني


من أوراق بدر الدين أبو غازي (8)
معرض الأستاذ حامد عبد الله
أول مقال في النقد الفني

 علاقة بدر الدين أبو غازي بالفن التشكيلي، أو زي ما كانوا بيسموه وقتها الفنون الجميلة ابتدت بدري، وذه بسبب خاله محمود مختار، متابعة نشاط الخال زرع عنده حب الفن، وبعد وفاة مختار سنة 1934 ابتدى بدر اللي كان عمره 14 سنة يجمع كل اللي بيتكتب عن خاله، وبعدها بكام سنة فكر إنه يكتب كتاب عنه، وبالفعل صدرت الطبعة الأولى للكتاب سنة 1949، لكن قبلها بدر كان ابتدى يكتب مقالات في النقد الفني كان بينشرها في مجلة الفصول.
 لكن أول مقال كتبه في النقد التشكيلي كتبه سنة 1942 عن المعرض الأول والثاني لصديقه الفنان حامد عبد الله اللي عملهم سنة 42 في القاهرة وإسكندرية.

من أعمال حامد عبد الله المبكرة
 حامد وبدر كانوا أصدقاء من بداية مرحلة الشباب، كانوا ساكنين في المنيل، وبيجمع بينهم حب الفن، كانوا بيقضوا ساعات على القهوة في المنيل القديم يتناقشوا في المصطلحات الفنية وفي المعارض اللي بيشفوها مع بعض.
أنا مش عارف المقال ده اتنشر فين؟ لكن لقيت الأصل اللي مكتوب بخط إيد بدر الدين أبو غازي.
ده المقال:


معرض الأستاذ حامد عبد الله

 الأستاذ حامد عبد الله فنان مصري جديد أقام معرضه الأول في القاهرة منذ شهر بنادي جماعة أصدقاء الثقافة الفرنسية، واليوم يقيم معرضًا آخر للوحاته في الإسكندرية بنادي جماعة الآتيليه.
 وفي اللوحات المعروضة في المعرضين ما آثار إعجاب رجال الفن والأدب بقدرة الفنان المصري الجديد على التعبير عن صور صادقة من الحياة المصرية بأسلوب فيه شخصيته، وفيه جرأة نادرة في توزيع الألوان، وفي التناسق بين الظل والنور، وفي براعة التكوين وتوزيع الكتل.
 ولكن شيئًا آخر يثير في النفس إعجابًا عميقًا بهذا الفنان الشاب، هو حياته وكفاحه من أجل فنه... فلقد سلك طريق الفن وسط حياة شاقة عابسة.. لم يتلق أصول الفن في ظل معهد يرعاه أو أستاذ يرشد خطاه.. وكانت كل الظروف كفيلة بأن تصرفه عن الفن، ولكنه لم يبال هذه العقبات واستمر سبع سنين ينقب عن أسرار الجمال في ظلال الطبيعة وفي المتاحف والكتب حتى اهتدى إلى نفسه وبدأ يلتمس النور وسط الظلام العابس...
 وعندئذ رحل إلى أسوان وأقام زمنًا في هذا البلد المصري الأصيل الذي لم يغير التطور من روحه القديم.. وهناك صور كثيرًا من مظاهر الحياة المصرية...
 وكانت أسوان بداية الطريق الذي وجه أنظار الناس نحو خطواته في سبيل الفن... وأثارت لوحاته عنها إعجابهم به وتشجيعهم له بعد سنين طويلة من حياة شاقة عابسة.
 فليذكر هؤلاء الذين يتوافدون اليوم على معرضه وهم يتطلعون إلى سر الجمال في لوحاته كفاحه الصادق من أجل فنه.. وهذه الحياة القاسية التي أقبل إلينا منها ليزدادوا إعجابًا بالرجل وتقديرًا للفنان...
1942

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...