السبت، 30 يناير 2016



رسائل المقريزي الصغيرة

مشروع للإصلاح الاقتصادي في عصر المماليك

عماد أبو غازي
رابط مقالي في موقع العين
   ألف شيخنا تقي الدين أحمد بن علي المقريزي عددًا من الكتب الصغيرة أو الرسائل التي تناول في كل واحد منها موضوعًا أو قضية متتبعًا لأصولها التاريخية ومحللًا لها، ومن بين هذه المؤلفات الصغيرة نقف أمام عملين مهمين بينهما قرابة عشر سنوات يكملان بعضهما، ويقدمان معًا مشروعًا لعلاج الأزمة الاقتصادية والنقدية في مصر في مطلع القرن التاسع الهجري.
 منذ أقدم العصور عرف البشر الأزمات الاقتصادية، لكن هذه الأزمات قبل العصر الرأسمالي كانت تأخذ طابعًا مختلفًا عن أزمات عصرنا الحاضر، كانت تتركز في نقص السلع والمنتجات الناجم عادة عن كوارث طبيعية وبيئية.
 وقد قام المؤرخون قديمًا برصد الأزمات وتقديم تفسيرات لها، كانت تلك التفسيرات لا تخرج عادة عن الغضب الإلهي على البشر بسبب خطاياهم، وكان أسلوب معالجة الحكام للأزمات في أغلب الأحيان لا يخرج عن هذا المفهوم، حيث يتركز في اتخاذ إجراءات صارمة في مواجهة كل خروج عن النواهي والمحرمات الدينية.
 لكن مطلع القرن الخامس عشر الميلادي التاسع الهجري، ذلك الزمن الذي عرف واحدة من أخطر الأزمات الاقتصادية في تاريخ مصر في العصر الوسيط، شهد مؤرخًا من نوع مختلف ذهب لتحليل الأزمة في محاولة للتوصل إلى أسبابها وتقديم حلول لها من خلال دراسة الواقع المعاش؛ إنه تقي الدين المقريزي، كتب الرجل رسالة صغيرة تحمل عنوان: "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، ناقش فيها الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أمسكت بخناق المجتمع المصري في عصره، وبدأت في عام 796 هجرية واستمرت حتى الزمن الذي ألف فيه كتابه أوائل سنة 808 هجرية، وهذه الرسالة الصغيرة من الكتب العربية القليلة التي اهتمت بالناحيتين الاقتصادية والاجتماعية في التاريخ، وربطت بينهما بشكل علمي دقيق.
 وفى هذا الكتاب يؤرخ المقريزي لغلو الأسعار والمجاعات التي أصابت مصر منذ أقدم العصور حتى 808 هجرية، وإذا كان الرجل قد اعتمد في سرد مجاعات العصور القديمة على روايات تغلفها الأساطير، فإنه عندما تحدث عن المجاعات والغلوات في مصر منذ عصر الولاة اعتمد على روايات المؤرخين المعاصرين لتلك المجاعات أو القريبين من عصرها، فجاء حديثه دقيقًا إلى حد كبير، وبعد أن يستعرض تاريخ المجاعات يحاول تشخيص أسباب الأزمة الطاحنة التي كانت مصر تعيش في ظلها في أوائل القرن التاسع الهجري ويقترح الحلول العملية لها.
 يشير المقريزي في مفتتح كتابه إلى سبب تأليفه لهذا الكتاب فيقول: "فإنه لما طال أمد هذا البلاء المبين، وحل فيه بالخلق أنواع البلاء المهين، ظن كثير من الناس أن هذه المحن لم يكن فيما مضى مثلها ولا مر زمن شبهها، وتجاوزوا الحد فقالوا لا يمكن زوالها، ولا يكون أبدًا عن الخلق انفصالها، وذلك أنهم لا يفقهون، وبأسباب الحوادث جاهلون، ومع العوائد واقفون، ومن روح الله آيسون، ومن تأمل هذا الحادث من بدايته إلى نهايته، وعرفه من أوله إلى غايته، علم أن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام، وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد، لا أنه كما مر من الغلوات، وانقضى من السنوات المهلكات."
 ثم يستطرد شارحًا منهجه في التأليف، قائلًا: "فعزمت على ذكر الأسباب التي نشأ منها هذا الأمر الفظيع، وكيف تمادى بالبلاد والعباد هذا المصاب الشنيع، وأختم القول بذكر ما يزيل هذا الداء، ويرفع البلاء، مع الإلماع بطرف من أسعار هذا الزمن، وإيراد نبذ مما غبر من الغلاء والمحن، راجيا من الله سبحانه أن يوفق من أسند إليه أمور عباده، وملكه مقاليد أرضه وبلاده، إلى ما فيه سداد الأمور، وصلاح الجمهور، إذ الأمور كلها، قلها وجلها، إذا عرفت أسبابها سهل على الخبير صلاحها."
 وفى محاولته لتشخيص سبب الأزمة الاقتصادية ربط المقريزي بين الفساد السياسي من ناحية، والاستغلال الاقتصادي المتمثل في المبالغة في الضرائب على الأطيان الزراعية من ناحية ثانية، وانهيار النظام النقدي من ناحية ثالثة؛ حيث يقول المقريزي:
"وسبب ذلك كله ثلاثة أشياء لا رابع لها:
 السبب الأول وهو أصل هذا الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة كالوزارة والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال بحيث لا يمكن التوصل إلى شئ منها إلا بالمال الجزيل، فتخطى لأجل ذلك كل جاهل ومفسد وظالم وباغ إلى ما لم يكن يؤمله من العمال الجليلة والولايات العظيمة، لتوصله بأحد حواشي السلطان ووعده بمال للسلطان على ما يريده من الأعمال.
 السبب الثاني غلاء الأطيان وذلك أن قومًا ترقوا في خدم الأمراء يتولفو إليهم بما جبوا من الأموال إلى أن استولوا على أحوالهم فأحبوا مزيد القربة منهم، ولا وسيلة أقرب إليهم من المال، فتعدوا إلى الأراضي الجارية في أقطاعات الأمراء، واحضروا مستأجريها من الفلاحين وزادوا في مقادير الأجر. فثقلت لذلك متحصلات مواليهم من الأمراء، فاتخذوا ذلك يدا يمنون بها إليهم، ونعمة يعدونها إذا شاءوا عليهم؛ فجعلوا الزيادة دينهم كل عام حتى بلغ الفدان لهذا العهد نحوا من عشرة أمثاله قبل هذه الحوادث.
السبب الثالث رواج الفلوس النحاس فانه لم تزل سنة الله في خلقه وعادته المستمرة منذ كانت الخليقة إلى أن حدثت هذه الحوادث، وارتكبت هذه العظائم أن النقود التي تكون أثمانا للمبيعات وقيما للأعمال إنما هي الذهب والفضة فقط لا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم ولا طائفة من طوائف البشر أنهم اتخذوا أبدا في قديم الزمان ولا حديثه نقدا غيرهما، فأصبح للناس ثلاثة نقود أكثرها الفلوس وهو النقد الرابح الغالب والثاني الذهب وهو أقل وجدانًا من الفلوس، وأما الفضة فقلت حتى بطل التعامل بها لعزتها، وعظم رواج الفلوس وكثرت كثرة بالغة حتى صارت المبيعات وقيم الأعمال كلها تنسب إلى الفلوس خاصة".
وقد كان المقريزي في هذه الرسالة الصغيرة سابقًا لعلماء الاقتصاد الأوروبيين بمائة سنة في عرض وشرح النظرية القائلة بأن "النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق"، وقد توصل المقريزي في هذه الرسالة أيضا إلى نظرية دورية الأزمات الاقتصادية، كما أدرك معنى التضخم وقدم شرحًا وافيًا له ولأثره على مختلف طبقات المجتمع، التي تناولها بشرح وافي، ويختتم المقريزي رسالته بمشروع للإصلاح النقدي رأى فيه مخرجًا من الأزمة الاقتصادية.
 وقد نشر هذا الكتاب محققًا كاملًا للمرة الأولى في عام 1940 اثنان من الأكاديميين المتميزين، هما الدكتور محمد مصطفى زيادة الذي يعد من أبرز محققي المقريزي، وزميله ومجايله الدكتور جمال الدين الشيال، وقدما لتحقيقهما بدراسة مهمة عن المخطوطة وعرفا بقيمتها وأهميتها في سياقها التاريخي، وفضل مؤلفها في تطور المعرفة في ذلك العصر.
 وبعد سنوات قليلة يعود المقريزي للتأليف في النظام النقدي وإصلاحه؛ فمن المؤلفات الصغيرة للمؤرخ تقي الدين المقريزي رسالة من بين رسائله تحمل عنوان "شذور العقود في ذكر النقود"، وهي رسالة كتبها بناء على طلب مسئول كبير في الدولة كما يذكر في مقدمته للرسالة: "... وبعد فقد برز الأمر المطاع زاده الله علوًا وتمكينا بتحرير نبذة لطيفة في أمور النقود الإسلامية فبادرت إلى امتثال ما خرج الأمر العالي أعلاه الله به من ذلك والله أسأل التوفيق منه".
 وقد وضع هذه الرسالة التي تأخذ شكل التقرير في زمن السلطان المؤيد شيخ، بين شهر صفر سنة 818 وشهر ربيع الأول سنة 819 هجرية؛ والهدف من الرسالة التأريخ للسكة أو النقود الإسلامية، ليخرج من هذه الدراسة بمقترحات لحل الأزمة النقدية التي كانت تعيش مصر في ظلها لسنوات طويلة منذ سقوط الدولة الفاطمية، تلك الأزمة التي يرصدها المقريزي بقوله: "فلما زالت الدولة الفاطمية بدخول الغز من الشام إلى مصر على يد السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة سبع وستين وخمسمائة، قررت السكة بالقاهرة باسم أمير المؤمنين المستضيئ بأمر الله، وباسم السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، صاحب بلاد الشام، فنقش اسم كل منهما في وجه، وفيها عمت البلوى والضائقة بأهل مصر، لأن الذهب والفضة خرجا منها، وما رجعا، وعدما فلم يوجدا، ولهج الناس بما عمهم من ذلك، فصار إذا قيل دينار أحمر فكأنما ذكرت حرمة الغيور له، وإن حصل في يده فكأنما جاءت بشارة الجنة له".
 وقد تطورت الأمور بعد ذلك وجرت عدة محاولات للإصلاح النقدي لم يقدر لأي منها أن تستمر طويلًا، فعندما تولى صلاح الدين السلطنة سعى لإجراء إصلاح نقدي بضرب دنانير ودراهم خالصة، لكن الملك الكامل الأيوبي ضرب دنانير ثلثيها من الفضة وثلثها من النحاس أوقف التعامل بالدراهم الناصرية، وقد ضرب الظاهر بيبرس دراهم جديدة زاد فيها نسبة الفضة إلى 70% في محاولة منه لإصلاح النقد، لكن الأمور صارت إلى الفساد مرة أخرى سنة 781 هـ في أواخر زمن دولة المماليك البحرية، وعندما تولى برقوق السلطنة وأسس دولة المماليك الجراكسة، قام الأمير محمود بن علي الأستادار بإبطال ضرب الدراهم الفضية وأكثر من ضرب الفلوس النحاسية حتى سادت وأصبحت النقد الرسمي للبلاد، وعندما تولى السلطان المؤيد شيخ السلطنة قام بمحاولته الإصلاحية الجديدة التي أخرجت البلاد من أزمتها النقدية، وهي المحاولة التي طورها فيما بعد السلطان الأشرف برسباي.
 وقد عرض المقريزي في دراسته لتطور النظام النقدي في مصر آراءه التي سبق أن قدمها في رسالته المهمة "إغاثة الأمة بكشف الغمة"؛ فأكد المقريزي في "شذور العقود بذكر النقود" ما انتهى إليه من قبل في إغاثة الأمة من خطأ وخطر الاعتماد على العملات النحاسية أو الفلوس بمصطلح ذلك العصر في النظام النقدي، وانتهى إلى ضرورة العودة إلى اعتماد النقود المضروبة من الذهب أو الفضة كنقود لها قوة الإبراء، ووجه خطابه إلى السلطان المؤيد شيخ مقترحًا عليه مشروعًا لإصلاح النظام النقدي يقوم على اعتبار الدراهم المؤيدية التي ضربها السلطان العملة الشرعية الوحيدة التي تقاس عليها المعاملات، فيقول: "اللهم ألهم مولانا السلطان بحسن السفارة الكريمة، أن يأنف من أن يكون نقده مضافا إلى غيره، وأن يجعل نقده تضاف إليه النقود، كما جعل الله اسمه الشريف يضاف إليه اسم كل من رعيته، بل كل ملك من مجاوري ملكه، والأمر في ذلك سهل إن شاء الله، وذلك أن يبرز المرسوم الشريف لموالينا قضاة القضاة، أعز الله بهم الدين أن يلزموا شهود الحوانيت، بأن لا يكتب سجل أرض ولا إجارة دار ولا صدق إمرأة ولا مسطور بدين، ألا ويكون المبلغ من الدراهم المؤيدية، ويبرز أيضا للناظر في الحسبة الشريفة، أن يلزم الدلالين بسائر الأسواق، ألا ينادوا على شبئ من المبيعات سواء قل أو جل إلا بالدراهم المؤيدية، ويبرز أيضا إلى الدواوين السلطانية ودواوين الأمراءوالأوقاف ألا يكتبوا في دفاتر حسابتهم متحصلًا ولا مصروفًا إلا من الدراهم المؤيدية، فتصير الدراهم المؤيدية ينسب إليها ويضاف لها ما عداها من النقود كما جعل الله مولانا السلطان عز نصره يضاف إليه ويتشرف به كل من انتسب أو انتمى إليه".
 وقد نشر هذا النص المهم الذي ألفه تقي الدين المقريزي عدة مرات منذ عام 1797م، لكن الطبعة التي صدرت بتحقيق الدكتور محمد عبد الستار عثمان سنة 1990، هي الأهم والأكمل من بين كل طبعات الكتاب، ذلك لأنه رجع فيها إلى نسخة مخطوطة لم يعتمد عليها من سبقوه في التحقيق وهي نسخة نسخت وتم تصحيحها على يد المؤلف نفسه، تقي الدين المقريزي ويرجع تاريخها إلى شهر رمضان سنة إحدى وأربعين وثماني مائة. أي قبل وفاته بأربع سنوات، ولا تقتصر أهمية طبعة الدكتور محمد عبد الستار عثمان على اعتماده على نسخة معتمدة من المؤلف بذل جهدًا واضحًا في مضاهاة النسخ المخطوطة التي توافرت تحت يده ومراجعة تحقيقه على تحقيقات من سبقوه، فضلًا عن أنه قدم للتحقيق بدراسة وافية للنص ولما حول النص، وأضاف للتحقيق ملحقًا شارحًا للمصطلحات الواردة في النص، فوضع بين أيدينا عملًا علميًا فريدًا ومتميزًا.
 لقد كان المقريزي مؤرخًا لعصر وكان في نفس الوقت علامة على عصر ومن خلال رسالتيه الصغيرتين نتعرف على لحظة فارقة في تاريخ مصر، من خلال عناصر الأزمة نكتشف ملامح مخاض لم يكتمل لانتقال مصر من عصر اقتصادي إلى عصر جديد، كما نتبين مشروعًا للإصلاح في تقريرين أولهما لمحاربة الفساد، والثاني للإصلاح النقدي.

الخميس، 28 يناير 2016


حامد عبد الله

قهوة المنيل ما زالت في مكانها

عماد أبو غازي

 "ما زالت قهوة المنيل في مكانها بين الحي العتيق والحي الجديد، وإن كانت قوائمها الخشبية قد وهنت مع مضي السنين، وما زال رواد المقهى يتبادلوننفس الأحاديث القديمة ويقرأون الكتب الصفراء ويرددون الشعر القديم، ولم يتغير حتى الآن نداء عم زينهم القهوجي الذي يظل يتردد في المكان موصيًا للزبائن بالطلبات، ولكن فتى من رواد المكان قد غاب عنه منذ سنين، غاب بعد أن خلف على كل موائد القهوة آثارًا من رسومه، وفي أذهان الرواد صدى من أحاديثه عن الفن".
قهوة المنيل 1939

 بهذه الكلمات قدم بدر الدين أبو غازي منذ قرابة خمسين عامًا الفنان الشاب حامد عبد الله وهو يستعد لرحلته الأولى لعرض أعماله الفنية في باريس، وجاء هذا التقديم ضمن مقال للناقد الراحل في مجلة الفصول التي كان يصدرها الأستاذ محمد زكي عبد القادر في أواخر الأربعينيات، وفتح صفحاتها أمام شباب الكتاب والنقاد والمبدعين الذين أصبحوا أعلامًا للفكر والفن في مصر بعدها بسنوات؛ مثل: نعمان عاشور ويوسف الشاروني وأحمد عباس صالح وبدر الديب ومحمود أمين العالم ومصطفى سويف وعادل ثابت وصقر خفاجة وأحمد بهاء الدين وعبد الرحمن الشرقاوي وفتحي غانم وغيرهم.
مؤنس حامد عبد الله مع بدر الدين أبو غازي وجمال العطيفي في افتتاح معرض حامد عبد الله بجمعية محبي الفنون الجميلة 1976

 وقد اقتبست هذه الكلمات لافتتح بها مخربشات اليوم بمناسبة مرور ثمانين عامًا على ميلاد الفنان حامد عبد الله الذي ولد في العاشر من أغسطس سنة 1917 ورحل عنل في اليوم الأخير من عام 1985، وطوال رحلة حامد عبد الله الفنية التي استمرت قرابة نصف قرن كان دائمًا فنانًا صاحب أسلوب متميز وطابع مصري خالص، سواء في موضوعاته أو أسلوبه الفني، وكانت البيئة المصرية الشعبية ثم التراث بعد ذلك مصادر إلهامه الأساسية.





 وحامد عبد الله من أصول صعيدية هاجرت أسرته إلى القاهرة لتشتغل بالزراعة في حي المنيل عندما كان قسم منه لا يزال مزارع وحقولًا، ودرس بإحدى المدارس الفنية الصناعية في أوائل الثلاثينيات، وكان دائم التمرد على أساليب تعليم الرسم في ذلك العصر؛ والتي كانت تهتم بقواعد المنظور والنقل الحرفي للأشكال ولا تهتم إطلاقًا بتفجير الطاقات الإبداعية لدى الدارسين، فأسس الشاب حامد عبد الله مرسمًا لتعليم الفن وفقًا لرؤيته المتجاوزة للتقليدية.


 عرض حامد عبد الله أعماله للمرة الأولى في صالون القاهرة عام 1938 وهو بعد لم يجاوز الحادية والعشرين من عمره، ولاقت لوحته التي صور فيها مقهى المنيل القديم إعجابًا من النقاد في حينها، وتوالى إشتراك حامد عبد الله في المعارض العامة كما أقام أول معرض خاص له في عام 1941 في القاهرة.


 وفي أواخر الأربعينيات بدأ حامد عبد الله يتطلع إلى الجانب الآخر من المتوسط، إلى باريس عاصمة الفن؛ فذهب إليها بأعماله للمرة الأولى في عام 1949، وخلال رحلة استمرت عدة شهور نجح حامد عبد الله في أن يعرض لوحاته في قاعة برينهم جين التي أقام فيها مختار في سنة 1930 معرضه الشامل، وقد استقبلت الأوساط الفنية في باريس معرض حامد عبد الله بالتقدير والإعجاب، فيكتب عنه فالدمار جورج، أحد كبار النقاد الفرنسيين، قائلًا:

 "إن أعمال حامد عبد الله تحدد نقطة البدء لمدرسة مصرية جديدة رنت إلى ينابيع الغرب اللاتيني، ولكنها مع ذلك تحتفظ بجوهر شخصيتها، وتحمل رسالة فنية أصيلة، وكل الدلائل تنبئ بذلك وتدعو إلى اعتقاده".


واستمر حامد عبد الله بعد عودته من باريس في تطوير إبداعه الفني والسعي إلى اختراق مجالات جديدة في فن التصوير وإلى تعميق الطابع المصري في إبداعه.

 وفي الخمسينيات ومع أفول الديمقراطية الليبرالية في مصر لم تتحمل روح الفنان الحرة قيود الحكم الاستبدادي المطلق، فانطلق إلى أوروبا ليستقر هناك سنوات طويلة لم تغب خلالها مصر أبدًا عن خاطره، ولا ابتعد في إبداعه الفني عن شرقيته، بل على العكس من ذلك ازداد التصاقًا بها من خلال اتجاهه إلى الحرف العربي كموضوع لأعماله، حتى أصبح يعتبر أبًا للحروفيين العرب.




كما كان شديد الحرص طوال سنوات غربته على زرع حب الوطن في أبنائه مؤنس وسمير وأنيسة، وأصر دائما على أن يحتفظوا بجنسيتهم المصرية ولا يحملوا غيرها إلى جانبها، رغم ما كانوا يتعرضون له من احتمالات الإبعاد عن فرنسا بعد أن أصبحوا في سن الشباب بسبب نشاطهم السياسي المناصر للقضايا العربية.
الصورة العليا مع الصديق زين العابدين فؤاد سمير حامد عبد الله والصورة الثانية مع أنيسة حامد عبد الله 


وخلال السبعينيات والثمانينيات تردد حامد عبد الله على مصر أكثر من مرة، وفي كل مرة كانت إقامته بها تطول حتى كان الاستقرار الأخير في ترابها عندما عاد إليها جثمانًا مسجى.
السيدة كريستن عبد الله أرملة الفنان حامد عبد الله


 # مخربشاتي في صفحة "تراث الأمة"، الدستور القاهرية، الإصدار الأول، 3 سبتمبر 1997. أعيد نشرها بمناسبة معرض الفنان حامد عبد الله المقام حاليًا بقاعة أفق بمتحف محمد محمود خليل بالجيزة، واللي هيستمر لغاية 8 فبراير 2016.

الأحد، 24 يناير 2016

رابط مقالي الأول ببوابة العين الإخبارية
http://www.al-ain.net/article/51396


تقي الدين المقريزي

شيخ مؤرخي العصر الوسيط

عماد أبو غازي

  نقف اليوم عند عصر المماليك وعلى وجه التحديد في أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجريين القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، تلك الفترة التي تعد قلب العصر الذهبى للكتابة التاريخية في مصر والشام في العصور الوسطى، حيث نبغ خلالها مجموعة من أبرز المؤرخين الذين عرفتهم الحضارة الإسلامية، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا: إن بعض هؤلاء المؤرخين تركوا بصماتهم واضحة على تطور التأريخ على المستوى العالمي؛ فقد شهد ذلك العصر تنوعًا واسعًا في المؤلفات التاريخية ما بين الحوليات، وكتب خطط المدن وتواريخها، والسير والتراجم، فضلًا عن المؤلفات الموسوعية الضخمة والرسائل التاريخية الصغيرة، لقد عاش في ذلك العصر من أعلام مؤرخي الحضارة الإسلامية في مصر: القلقشندى وابن خلدون والعيني وجمال الدين أبو المحاسن والصيرفي والمقريزي.
 وحديثنا عن أبرز مؤرخي ذلك العصر وأكثرهم نبوغًا تقي الدين أحمد بن على المقريزي، الذي جمع ما بين أنواع التأليف التاريخي المختلفة، والذي يكاد المتخصصون في تاريخ العصور الوسطى العربية يجمعون على أنه شيخ مؤرخي مصر وكبيرهم، وإن أعماله تمثل قمة النضج لمدرسة التأريخ عند العرب والمسلمين.
 لكن قبل أن نتعرف على مؤرخنا، فلنلق نظرة على مصر في ذلك العصر، لقد كانت مصر في تلك الحقبة تعيش لحظات تحول وانتقال في تاريخها؛ فقد خرجت من محنة الفناء الكبير أو الموت الأسود الذي خرب العالم القديم كله من مشرقه إلى مغربه في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، وكانت البلاد تحاول أن تستعيد قواها مرة أخرى بعد أن أنهكها الوباء القاتل واستنزفها عندما حصد أرواح مئات الآلاف من البشر، ومن ناحية أخرى كانت الصراعات السياسية تعصف بكيان الدولة، دولة المماليك البحرية التي ظهرت إلى الوجود على أنقاض الدولة الأيوبية عقب معركة المنصورة التي انتصر فيها مماليك الصالح نجم الدين أيوب على لويس التاسع، وكان هذا الانتصار هو شهادة الميلاد للدولة الجديدة التي حملت أعباء القضاء على الوجود الصليبي في المشرق العربي، وبمجرد نجاح تلك الدولة في مهمتها التاريخية في عصر خليل بن قلاوون بدأت تفقد مبرر وجودها التاريخي، وبدأ الضعف يدب في كيانها، ونجح بالفعل أحد الأمراء الكبار وهو برقوق بن انص في الاستيلاء على السلطنة وإقامة دولة جديدة هي دولة المماليك الجراكسة التي تأسست في سنة 784 هجرية، ورغم أن السنوات الأولى لهذه الدولة قد شهدت دفعة قوية للبلاد على يد السلطان الجديد الظاهر برقوق، إلا أن الأمور سرعان ما عادت إلى التدهور المتسارع في عصر خلفائه ودخلت مصر في أزمة تاريخية خانقة لم تستطع منها فكاكًا رغم كل المحاولات الإصلاحية التي قام بها سلاطين من أمثال برسباي وقايتباي خلال القرن التاسع الهجري، وانتهى الأمر بسقوط مصر في براثن الاحتلال العثماني سنة 923 هجرية الموافقة لسنة 1517 ميلادية.
 في هذا الإطار التاريخي ظهر المقريزي؛ فمن هو؟ إنه تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي"، وهو مصري من أب من "أصل لبناني"، بلغة اليوم، وأم قاهرية، ولد في حارة برجوان ـ بقسم الجمالية الآن ـ في القاهرة القديمة والتي تنسب إلى أحد رجال الدولة الفاطمية في عصر الخليفة الحاكم بأمر الله، وكان مولد المقريزي في سنة 766هـجرية الموافقة لسنة 1364 ميلادية، وفي هذه الحارة نشأ وتربى وتعلم، وكان المقريزي يعتز بانتسابه إلى حارته، فيقول في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار": "وما برحنا ونحن شباب نفاخر بحارة برجوان سكان جميع حارات القاهرة"، ولا أعرف شخصيًا سبب هذه المفاخرة، ورغم حب المقريزي لمصر التي قال عنها: "كانت مصر هي مسقط رأسي وملعب أترابي ومجمع ناسي ومغنى عشيرتي وحاميتي وموطن خاصتي وعامتي وجوي الذي ربي جناحي في وكره وعش مأربي"، ورغم المناصب التي تقلدها في مصر فقد عاش قسمًا من حياته متنقلًا بين القاهرة ودمشق ومكة هربًا من الاضطراب السياسي أحيانًا وجريًا وراء سبل العيش أو جمع المعارف أحيانًا أخرى.

 وترجع أصول المقريزي وأسرته إلى مدينة بعلبك اللبنانية وتنسب أسرته إلى حارة المقارزة بها، وقد استقرت أسرته في مصر قبل مولده بسنوات قليلة، وينتمي المقريزي إلى أسرة اشتهرت بالاشتغال بالعلم في دمشق وبعلبك والقاهرة، وقد انتقل والده من مدينة بعلبك بلبنان إلى القاهرة حيث عمل بديوان الإنشاء، والذي  كان يعتبر من أهم دواوين الدولة في ذلك العصر؛ فقد كان الديوان المختص بمتابعة العلاقات الخارجية للدولة، كما كان يشرف على حماية أمنها الخارجي بتتبع جواسيس الدول الأجنبية في البلاد وملاحقتهم، وإرسال الجواسيس في نفس الوقت لنقل الأخبار إلى سلطنة المماليك، هذا فضلًا عن الوظيفة الأصلية لذلك الديوان، أعني تحرير الوثائق الرسمية للدولة والاحتفاظ بنسخ منها، ومن هذه الوظيفة اكتسب الديوان اسمه باعتباره يختص بإنشاء الوثائق.
 وقد كانت دراسة أحمد بن على المقريزي دراسة دينية مثل أهل العلم في عصره،وبعد أن درس المقريزي علوم الدين أصبح شافعي المذهب، بعد أن تنقل بين مذهبي جديه لأبيه وأمه، فقد كان جده لأبيه حنبليًا وجده لأمه حنفيًا وتتلمذ هو على يدي أبرز فقهاء المالكية في عصره عبد الرحمن ابن خلدون، لكنه في النهاية اختار الشافعية مذهبًا له وتفقه فيه باعتبارها المذهب السائد بين أهل مصر.
 وقد تولى الرجل مناصب التدريس والحسبة والقضاء والخطابة وكتابة الوثائق الرسمية للدولة، لكن دوره كمؤرخ كان الأهم والسبب وراء شهرته التي عبرت الزمان والمكان، فقد التحق كوالده بالعمل في ديوان الإنشاء كأحد الكتاب به، فأتصل من خلال عمله بكبار رجال الدولة، لكن المقريزي لم يستمر في وظيفة الكتابة بديوان الإنشاء طويلًا حيث انتقل للعمل في سلك القضاء فأصبح نائبًا من نواب قاضى القضاة الشافعي، كما تولى وظيفة محتسب القاهرة والوجه البحري في زمن السلطان الظاهر برقوق، وتنقل المقريزي ما بين القاهرة ودمشق ومكة، واشتغل بتدريس الحديث النبوي في المدرسة المؤيدية بالقاهرة والمدرستين الإقبالية والأشرفية بدمشق، كما تولى إقامة جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي بالقاهرة.

 والمقريزي أبرز تلاميذ مدرسة عبد الرحمن بن خلدون المؤرخ ومؤسس علم العمران، علم الاجتماع بلغتنا المعاصرة، وكان المقريزي التلميذ الذي فاق أستاذه وتفوق عليه، لقد عاش الرجل في عصر وصلت فيه الكتابة التاريخية العربية في مصر والشام إلى قمتها، واتجه إلى الاشتغال بالكتابة التاريخية فئات متنوعة من المصريين، فنجد المؤرخين العساكر مثل الأمير بيبرس الدوادار، وهم مقاتلين من المماليك اتجهوا إلى تدوين التواريخ، ونجد المؤرخين "أولاد الناس" وهو المصطلح الذي كان يطلق على أبناء الأمراء المماليك، ومن أشهرهم ابن تغري بردي تلميذ المقريزي وابن إياس المصري الذي عاصر وقائع الاحتلال العثماني لمصر، وهناك كذلك المؤرخين الموظفين من رجال الإدارة الذين اتجهوا إلى التأليف التاريخي، ثم المؤرخين المشايخ أو الفقهاء وهم الأكثر غلبة وظهورًا في الكتابة التاريخية العربية منذ الطبري في العصر العباسي الثاني حتى الجبرتي الذي عاصر الحملة الفرنسية وعصر محمد علي، وأخيرا المؤرخين الشعبيين ومثلهم الحاضر في ذهني ابن زنبل الرمال قارئ الطالع في الرمل الذي أرخ في نص أدبي بديع لاحتلال سليم لمصر ومقاومة طومان باي آخر سلاطين المماليك له.

 وتوفى المقريزي بالقاهرة في حارة برجوان التي ولد بها، سنة 845 هجرية الموافقة لسنة 1442 ميلادية، وقد قارب على الثمانين من عمره الذي أفناه في الدرس والتأليف فيقول عنه أحد المؤرخين الذين عاشوا بعده وهو شمس الدين السخاوي:
"واشتغل كثيرًا وطاف على الشيوخ ولقي الكبار، وجالس الأئمة فأخذ عنهم....ونظر في عدة فنون، وشارك في الفضائل، وخط بخطه الكثير، وانتهى، وانتقى، وقال الشعر والنثر وأفاد... وبلغت مجلداته نحو المائة، وقد قرأت بخطه أن تصانيفه زادت على مائتي مجلد كبار، وأن شيخوخة بلغت ستمائة نفس. وكان حسن المذاكرة بالتاريخ... وكانت له معرفة قليلة بالفقه والحديث والنحو، واطلاع على أقوال السلف، وإلمام بمذاهب أهل الكتاب حتى كان يتردد إليه أفاضلهم للاستفادة منه، مع حسن الخلق وكرم العهد وكثرة التواضع، وعلو الهمة لمن يقصد...كل ذلك مع تبجيل الأكابر له،  إما مداراة له خوفًا من قلمه، أو لحسن مذاكرته"...
لقد تتلمذ تقي الدين المقريزي على يد المؤرخ العلامة عبد الرحمن بن خلدون، وتأثر بأفكاره ونظرياته في التاريخ والعمران البشرى، لكنه تفوق على أستاذه في تطبيق تلك النظريات على أحداث التاريخ، لقد ظهر نبوغ المقريزي كمؤرخ في مؤلفاته المتعددة والتي تراوحت بين الكتب الضخمة التي تتألف من عدة مجلدات، والرسائل الصغيرة التي لا تتجاوز بضع صفحات.
 وأول مؤلفاته التي تنتمي إلى الكتب الطويلة كتاب "إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع"، كتاب في السيرة النبوية أعتمد فيه على الاقتباس من كتب السيرة التي وضعها سابقوه، وقد نسخه في مكة وفقًا لرواية تلميذه جمال الدين أبو المحاسن، وعلى الأر جح أنه ألف في هذه المرحلة أيضًا إحدى رسائله الصغيرة التي حاول أن يطبق فيها نظرية أستاذه ابن خلدون عن العصبية القبلية على التاريخ العربي والإسلامي، وتعرف هذه الرسالة باسم كتاب "النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم"، وأثناء إقامته في مكة وضع المقريزي عدة مؤلفات صغيرة منها: "ضوء الساري في معرفة تميم الداري" و "التبر المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك"، و"وصف حضرموت العجيبة"، و"الإعلام بمن في أرض الحبشة من ملوك الإسلام".
 أما مؤلفاته الكبيرة فأهمها على الإطلاق كتاب "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" وكتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك"؛ والكتاب الأول والذي اشتهر باسم خطط المقريزي قام فيه بدراسة مدينة القاهرة وضواحيها، بكل ما فيها من شوارع وحارات ودروب وأزقة ومنشآت دينية وتعليمية وتجارية، وقد تخللت الكتاب معلومات مهمة عن النظم السياسية والإدارية في مصر، مع تراجم موجزة لبعض الأعلام.
أما كتاب السلوك والذي وضعه في أربعة أجزاء ضخمة صدر كل منها في ثلاثة مجلدات، فيعتبر الكتاب العمدة في التأريخ لدولتي الأيوبيين والمماليك منذ نشأة الدولة الأيوبية في منتصف القرن السادس الهجري حتى وفاة المقريزي في منتصف القرن التاسع الهجري، وقد ختم به مؤلفاته الكبرى عن تاريخ مصر في العصر الإسلامي؛ فقد سبقه عملان كبيران: أحدهما مفقود "عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط"، وقد تناول فيه تاريخ مصر في عصر الولاة، والثاني "اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الخلفا" والذي يؤرخ فيه للدولة الفاطمية في مصر.
أما رسائل المقريزي الصغيرة خاصة تلك التي ألفها في السنوات الأخيرة من حياته فهي متنوعة في موضوعاتها مابين الكتابة في التاريخ والاقتصاد والفنون وعلم الحيوان والمعادن، حتى النحل والعسل الأبيض كتب عنه مؤلفًا صغيرًا بعنوان "نحل عبر النحل"، ومن بين تلك الرسائل رسالة صغيرة تعرف بكتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، ويعد من الكتب العربية القليلة التي اهتمت بالناحيتين الاقتصادية والاجتماعية في التاريخ، وربطت بينهما بشكل علمي دقيق؛ وفى هذا الكتاب يؤرخ المقريزي لغلو الأسعار والمجاعات التي أصابت مصر منذ أقدم العصور حتى 808 هجرية، ثم يحاول تشخيص أسباب الأزمة الطاحنة التي كانت مصر تعيش في ظلها في أوائل القرن التاسع الهجري ويقترح الحلول العملية لها. ويحتاج هذا المؤلف الصغير في عدد صفحاته الكبير في قيمته إلى وقفه أخرى معه.
 كانت حياة المقريزي في زمن مضطرب، شهد انتقال السلطة من سلاطين دولة المماليك البحرية من أسرة قلاوون إلى السلاطين الجراكسة، وعاش الأزمة الاقتصادية الكبرى في مطلع القرن التاسع الهجري، وتنقل في أرجاء دولة المماليك بين مصر والشام والحجاز، وخالط العلماء، وأنتج عشرات من المؤلفات، ضاع أغلبها للأسف، لكن ما وصلنا يضعه بلا جدال في مصاف المبرزين من صناع الحضارة العربية الإسلامية.

الثلاثاء، 5 يناير 2016




طه حسين وحرية البحث العلمي
(مقال تاني لسه صالح لإعادة النشر)

عماد أبو غازي




 كانت مشكلة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق سنة 1925  أول اختبار لليبرالية المصرية الناشئة، فيما يتعلق بقدرتها على تقبل مبدأً أساسيًا من مبادئ الفكر الحر، أعني حرية الفكر والاعتقاد والتعبير، ولم يكد يمضي عام حتى تفجرت أزمة جديدة كان بطلها هذه المرة المفكر الشاب والأستاذ الجامعي اللامع الدكتور طه حسين، وكان موضوعها ـ مثل الأزمة الأولى ـ كتاب صغير في حجمه تقل صفحاته عن مائتي صفحة، لكنه كبير في قيمته وسبقه بما حواه من مغامرة فكرية جريئة، كتاب رغم صغره هز الثوابت التي ظل الناس يجترونها جيلًا وراء جيل، إنه كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي صدر عن مطبعة دار الكتب في مارس سنة 1926، ورغم أن الكتاب يتناول قضية بحثية في تاريخ الأدب العربي ليس لها طابع سياسي كقضية الخلافة الإسلامية، إلا أن الضجة التي أعقبت صدور كتاب "في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين فاقت تلك التي صاحبت صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، ووصلت بصاحب الكتاب إلى المثول أمام النيابة العامة متهما، وظهرت الأبعاد السياسية للصراع حول الكتاب سريعًا مثلما ظهرت في قضية الإسلام وأصول الحكم، بالطبع كان هناك أمرًا مشتركًا آخر على المستوى السياسي بين القضيتين، فالبطل في كل منهما كان ينتمي إلى التيار الليبرالي الأصيل في الحركة الوطنية المصرية، تيار الأحرار الدستوريين.

 فما الذي جاء به طه حسين في كتابه من أفكار ساقته إلى النيابة العامة؟ وهل يمكن في أي مجتمع حر أن يؤدي بحث في تاريخ الأدب بصاحبه إلى النيابة ليحاسب على آرائه العلمية محاسبة قضائية بدلًا من أن يرد عليه المختلفون معه ردًا علميًا؟

الكتاب ببساطة يتناول الشعر الذي ينسب إلى عصر ما قبل الإسلام في جزيرة العرب، العصر الذي نسميه عادة العصر الجاهلي، ويشكك في صحة انتساب الكثير من هذا الشعر إلى ذلك العصر.

 ويتكون كتاب "في الشعر الجاهلي" من ثلاثة أقسام، وعبر هذه الأقسام الثلاثة سعى طه حسين إلى أثبات فكرته هذه، فبدأ في القسم الأول بتقديم منهجه في البحث الذي يقوم على الشك، الشك الذي يقود إلى الوصول ليقين علمي، ويؤكد في هذا القسم من الكتاب أنه يرفض التسليم بما قاله القدماء في قضايا الشعر والأدب دون مناقشة وتحليل ونقد، وينتهي إلى إعلان رأيه الذي توصل إليه والذي يتلخص في أن غالبية الشعر المنسوب إلى العصر الجاهلي يعود إلى عصر ما بعد الإسلام، وفي القسم الثاني من الكتاب يحدد أسباب انتحال الشعر من وجهة نظره ويقسمها إلى أسباب دينية وسياسية وأدبية، أما القسم الثالث فيتناول فيه بعض الشعراء المنسوبين إلى العصر الجاهلي مثل أمرؤ القيس وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد وغيرهم محاولًا التثبت من كونهم شخصيات تاريخية، أو تحديد التاريخي والأسطوري في سيرهم، وما الذي من أشعارهم فعلًا إذا كانت لهم أشعار أصلًا، وما المنتحل والمنسوب إليهم.

 ويؤكد طه حسين في كتابه أن الأخذ برأي الأغلبية يصلح في السياسة لكنه لا يصح في العلم، ويدلل بمثال بسيط واضح، فقد كانت الكثرة من العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها، وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة، وإن باحث هنا وباحث هناك امتلكوا الجرأة على الشك والبحث فوصلوا إلى الحقيقة وهدموا الوهم والأسطورة.

 لقد أكد طه حسين في التمهيد الذي بدأ به كتابه من أن الكتاب يبحث في تاريخ الشعر العربي بمنهج جديد لم يألفه الناس عندنا، وكان واثقًا من أن فريقًا من الناس سيلقون هذا الكتاب ساخطين، وفريق آخر سيزورّون عنه ازورارًا، وقال: "أنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوما وشق على آخرين، فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد"، لكنه لم يتوقع أن يصل الأمر بالساخطين والمزورّين إلى حد الدفع به إلى النيابة العامة.

 وإذا كانت أزمة الإسلام وأصول الحكم قد انتهت بعزل الشيخ علي عبد الرازق من القضاء الشرعي واستقالة وزراء حزب الأحرار من الحكومة، فإن أزمة "في الشعر الجاهلي" انتهت بحفظ التحقيق الذي أجرته النيابة العامة وصدور طبعة معدلة من الكتاب تحمل عنوان "في الأدب الجاهلي"، حذف منها طه حسين بعض العبارات التي استفزت التيارات المحافظة، لكنه تمسك فيها بمنهجه في التعامل مع الشعر الجاهلي

 وقد كشفت تلك الأزمات المبكرة في الحقبة الليبرالية في مصر عن عدة جوانب مهمة، أولها ضيق المجتمع بالجديد والجريء من الأفكار، وثانيها التأثير السلبي للصراعات السياسية على حرية الفكر والتعبير، واستغلال القوى السياسية الرجعية للمزاج المحافظ للشارع المصري في صراعاتها، وخضوع القوى التي ينتظر منها الدفاع عن حرية الرأي لابتزاز صندوق الانتخابات، فحزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية والذي يفترض فيه الدفاع عن قضايا حرية الرأي والتعبير، تخاذل في مواقفه خوفًا من تأثير أي موقف إيجابي يتخذه على نتائجه في الانتخابات، أما ثالث هذه الجوانب التي كشفت عنها قضية كتاب "في الشعر الجاهلي" فكانت مدى هشاشة حرية البحث العلمي في الجامعة المصرية الوليدة، وسهولة مصادرة هذه الحرية بتحريض من الرأي العام المحافظ، وهي أعراض مازلنا نعاني منها إلى يومنا هذا.
مخربشات 20 يوليو 2005 

الاثنين، 4 يناير 2016


الإسلام وأصول الحكم بعد ثمانين عاما

مقال قديم صالح لإعادة النشر

عماد أبو غازي

 في هذا العام تمر الذكرى الثمانين لواحدة من أهم المعارك الفكرية السياسية التي شهدتها مصر في القرن العشرين، معركة "الإسلام وأصول الحكم" التي فجرها صدور كتاب الشيخ علي عبد الرازق الذي يحمل هذا العنوان، والذي أصدره في أبريل عام 1925،  ليناقش فيه فكرة الخلافة الإسلامية وتطورها عبر التاريخ.

الشيخ علي عبد الرازق  
والشيخ علي عبد الرازق أزهري من أسرة مصرية عريقة، تنتمي إلى محافظة المنيا، لعبت أسرته دورًا مهما في الحركة الوطنية المصرية من خلال حزب الأحرار الدستوريين، الذي حمل اللواء الفكري لليبرالية المصرية بعد ثورة 1919 وكان امتدادًا لأفكار حزب الأمة الذي أسسه أحمد لطفي السيد.

 كان علي عبد الرازق في الثلاثينيات من عمره عندما نشر كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، والكتاب عبارة عن مقدمة وثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان "الخلافة في الإسلام" تناول فيه طبيعة الخلافة، وحكم الخلافة، والخلافة من الوجهة الاجتماعية، أما القسم الثاني فيدور حول "الحكومة والإسلام" وقد تناول فيه الشيخ علي عبد الرازق نظام الحكم في عصر النبوة، مميزًا بين الرسالة والحكم، طارحًا فيه فكرته عن الإسلام باعتباره "رسالة لا حكم ودين لا دولة"، أما القسم الثالث فيتتبع فيه "الخلافة والحكومة في التاريخ".

 والكتاب محاولة جريئة لمناقشة فكرة الخلافة، نشأتها وتطورها بمنهج علمي تاريخي، وقد قدم الشيخ في كتابه عددًا من الأفكار أهمها: إن الخلافة هي نظام دنيوي للحكم مثلها مثل أي نظام آخر، وإن الدين الإسلامي لم ينص عليها، بل ترك للمسلمين حرية اختيار النظام الذي يلائمهم، وناقش القائلين بالنص على الخلافة في الكتاب والسنة وفند آراءهم بالأدلة التاريخية والشرعية، وذهب إلى إننا لا نجد فيما وصل إلينا من أخبار من عصر البعثة النبوية شيئًا واضحًا يمكن أن يوصف بأنه نظام للحكومة النبوية، وينتهي إلى أن الخلافة تاريخيًا ارتبطت بالاستبداد في الحكم، وإن أمرها عبر التاريخ لم يحسم إلا بقوة السيف، كما رفض الفكرة القائلة بأن إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يتوقفان على وجود خليفة للمسلمين، وهو قول كان شائعًا بشدة في ذلك الحين بعد إلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة سنة 1924، واعتبر علي عبد الرازق أن تحديد الحكومة الصالحة للمسلمين بأنها الخلافة دون سواها وبمفهوم محدد للخلافة يجاوز الواقع والعقل والتاريخ، كما رفض تحويل الرابطة الإسلامية الدينية التي تربط المسلمين ببعضهم إلى رابطة سياسية ينتظم تحتها المسلمون في كيان سياسي واحد، ولم يوافق الشيخ كذلك على الفكرة القائلة بأن الإسلام جعل من العرب وحدة سياسية واحدة، كما اعتبر أن جزءًا كبيرًا من حروب الردة لم يدر إلا لحماية الدولة الجديدة الناشئة والملك الذي تولاه أبو بكر الصديق، وإنها كانت في كثير منها حربًا سياسية حسبها العامة دينية، ويخلص الرجل من دراسته إلى أن السلاطين هم المسئولون عن ترويج الفكرة الشائعة القائلة بأن الخلافة مقام ديني بهدف الحفاظ على عروشهم، وقد توصل علي عبد الرازق إلى هذه النتائج من خلال استعراض لوجهات النظر المختلفة حول الخلافة عبر العصور، ومن خلال البحث التاريخي في الأحداث والوقائع.

 لقد كانت أفكار الشيخ علي عبد الرازق جريئة لكنها مستندة إلى أدلة تاريخية وفقهية من وجهة نظره، وكان من الطبيعي أن تثير نقاشًا واسعًا على الساحتين الدينية والسياسية، لقد تصدى لهذه الأفكار عدد من المشايخ والكتاب بالفكر والبرهان مقابل الفكر والبرهان، وإزاء إصرار الرجل على موقفه وتمسكه برأيه، أطلت على الساحة قوى الظلام ممن لا يملكون الحجة ولا القدرة على النقاش أو الرغبة فيه، ممن ينصبون من أنفسهم أوصياء على عقول الناس، كانت لهؤلاء الغلبة في النهاية، فأصدر مشايخ الأزهر حكمهم بطرد الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء، الأمر الذي ترتب عليه فصله من عمله في القضاء الشرعي، وتبع ذلك انهيار الائتلاف الحاكم المكون من حزبي الاتحاد الموالي للملك والأحرار الدستوريين ذي التوجه الليبرالي، حيث رفض وزراء حزب الأحرار قرار رئيس الوزراء بعزل الشيخ علي عبد الرازق من منصبه واستقالوا جميعا من الحكومة احتجاجًا على الاعتداء الصارخ على حرية الفكر والاعتقاد.

 

زيور باشا
ولا شك أن الظروف السياسية التي صاحبت صدور الكتاب كان لها أثرها في اتساع ساحة المعركة واتخاذها تلك الأبعاد السياسية التي انتهت بسقوط الحكومة، فقد صدر هذا الكتاب في العام التالي لإلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة الإسلامية في تركيا، في ظل شعور إسلامي عام بالغضب، وبأن الإسلام قد فقد ركنًا من أركانه، رغم أن الخلافة الفعلية كانت قد زالت بالفعل منذ مئات السنين، وفي وقت كان ملوك العرب يتطلعون، بل يتنافسون على منصب الخلافة، ومنهم فؤاد الأول الذي كان يحظى بدعم الإنجليز للحصول على هذا المنصب، فأصدر الأزهري الشاب علي عبد الرازق كتابه ملقيًا به حجرًا في مياه راكدة متعفنة، ومدمرًا حلم فؤاد بالحصول على لقب خليفة المسلمين، ومقدمًا رؤية جريئة لا زلنا في حاجة إليها إلى يومنا هذا.

مخربشات 13/7/2005

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...