الجمعة، 25 أكتوبر 2019

اليونانيون في مصر تاريخ ومستقبل



اليونانيون في مصر

تاريخ ومستقبل

عماد أبو غازي


 لقد كانت ساعدتي كبيرة لدعوتي للمشاركة في ندوة اليوم "اليونانيون في مصر خلال القرن العشرين"؛ فقناعتي الراسخة أن العلاقة بين شعبينا واحدة من أقوى العلاقات وأكثرها امتدادًا عبر التاريخ، كما أنها تحمل آفاقًا مهمة للتطور لصالح شعبينا وبلدينا، أما عن اليونانيين في مصر في القرنين الأخيرين، فقد ساهموا بقوة في صياغة مصر الحديثة، وكانوا جزءًا من نسيج المجتمع المصري.


 منذ مئة عام وخمسة عشر عامًا في عام 1904 تأسست الجمعية اليونانية بالقاهرة؛ التي تعد واحدة من الجمعيات ذات النشاط الثقافي والاجتماعي المتميز في مصر، وأتذكر أنه في عام 2006 نظمت الجالية اليونانية في مصر احتفالًا بمئوية الجمعية وسط مشاركة ثقافية مصرية كبيرة، وقد شمل الاحتفال الختامي عرضًا شعريًا موسيقيًا غنائيًا على مسرح هضبة الأهرام، باسم "أنشودة إلى الإسكندر الأكبر" شارك فيه أوركسترا القاهرة السيمفوني وكورال أوبرا القاهرة وفرقة الطبول المصرية مع مجموعة من كبار الفنانين اليونانيين، جاء تعبيرًا عن عمق العلاقة بين الشعبين، كما عُقدت ندوة علمية حول اليونانيين في مصر الحديثة بمشاركة من باحثين من مصر واليونان، كان لي شرف المشاركة فيها، فهذه ليست المرة الأولى التي أشارك فيها بالحديث عن العلاقات التاريخية بين الشعبين المصري واليوناني.


 تاريخ طويل ممتد
 لم تكن الجمعية اليونانية نقطة البداية لتكوين الجالية اليونانية في مصر الحديثة، فمنذ بدايات القرن التاسع عشر زادت أعداد اليونانيين في مصر؛ لكن الوجود اليوناني في مصر أقدم من ذلك بكثير؛ فربما كانت العلاقة بين مصر واليونان، وبين شعبي البلدين أقدم علاقة بين بلدين وشعبين على وجه الأرض، إنها علاقة تمتد إلى الوراء لبضع آلاف من السنين، علاقة وإن شابها بعض لحظات التوتر والصدام إلا أنها تعد من أكثر العلاقات إيجابية ومن أطولها تاريخيًا، لم تشوبها إلا فترات توتر قصيرة في تاريخ مشترك طويل، ربما كانت أبرز النماذج لهذا التوتر في عصر البطالمة الأوائل الذي شهد تميزًا ضد المصريين، وعشرينيات القرن التاسع عشر عند مشاركة جيش محمد علي في حرب المورة لقمع ثورة الشعب اليوناني من أجل التخلص من الحكم العثماني.
 إننا أمام علاقة تاريخية ممتدة منذ عصر الحضارة المصرية القديمة؛ فعلاقة اليونانيين بمصر ووجودهم فيها يرجع تاريخيًا إلى عصور قديمة في تاريخ الشعب اليوناني، تسبق بكثير غزوات الإسكندر الأكبر للشرق القديم، إنها ترجع إلى تلك العصور التي كانت أونو أو عين شمس أو هليوبوليس كما أسمها الإغريق القدماء مدينة الفكر والعلم في مصر والعالم القديم كله، وإليها يتجه الباحثون عن الحقيقة من كل صوب، فكان الطلاب يأتون إلى معابدها من اليونان ليدرسوا على كهنتها، وتتجه كثير من الدراسات الحديثة اليوم إلى البحث عن الجذور المصرية القديمة للفلسفة والفكر اليوناني.
 ومع تطور الحضارة في اليونان جاء تجار وبحارة يونانيون إلى مصر، وفي العصور المتأخرة للحضارة المصرية جاء اليونانيون مقاتلون في صفوف الجيش المصري أثناء مواجهاته للغزاة الآشوريين والفرس القادمين من الشرق، فكانوا ساعدًا للمصريين في تحرير بلدهم لأكثر من مرة، واحتل اليونانيون مكانة مهمة في مصر في عصر الملك المحرر بسماتيك الأول.
 ومن اللافت للنظر أن أشهر المقولات التي ترتبط بمصر عبر التاريخ أطلقها مؤرخ يوناني فمقولة "مصر هبة النيل" تنسب إلى هيرودوت اليوناني أبو التاريخ، وبغض النظر عن صحة المقولة، وعن صحة فهمنا لما قصده هيرودوت أصلًا إلا أنها أصبحت لصيقة بمصر.


الإسكندر الأكبر
 إنه تاريخ مشترك سبق بكثير عصر البطالمة خلفاء الإسكندر الذين حكموا مصر قرابة ثلاثة قرون من الإسكندرية، مدينة الإسكندر الأكبر التي لم يرها مكتملة، والتي وضع حجر أساسها بعد غزوه لمصر، مصر التي تلقى فيها النبوءة في معبد الوحي بسيوة بأنه ابن آمون، النبوءة التي جعلته يصور نفسه بقرني الكبش الرمز الحيواني لآمون، ومن هنا سمي "الإسكندر ذو القرنين"، وقد حكم البطالمة مصر بعد الإسكندر، وكانوا بالطبع حكامًا أجانب بالنسبة للمصريين، قام الشعب بعدد من الثورات ضدهم، سعيًا لاستعادة حكم البلاد لأبنائها، وكانت موقعة رفح سنة 217 ق.م. والتي شارك فيه لأول مرة فيلق مصري في الجيش البطلمي نقطة تحول إيجابية في العلاقة بين المصريين وحكامهم البطالمة، وحتى يثبّت البطالمة حكمهم تمصروا في كثير من مظاهر سلوكهم وخلطوا عقائدهم الدينية بعقائد المصريين، وفي المقابل اختار المصريون الحرف اليوناني ليكتبوا به لغتهم في مرحلة من أهم مراحل تطورها أعني المرحلة القبطية، وعندما جاء الرومان لاحتلال مصر سنة 30 قبل الميلاد، كان البطالمة بمعنى ما قد أصبحوا الأسرة المصرية الحادية والثلاثين.



كليوباترا السابعة
 ومن الجدير بالذكر أن الملاحظ من قراءة التاريخ المصري وجود فارق دومًا بين احتلال أجنبي يحكم مصر من خارجها مثلما كان الحال في عصور الرومان والبيزنطيين والعرب في عصر الولاة والعثمانيين، وحاكم أجنبي يحكم مصر من داخلها مثلما كان حال البطالمة والفاطميين والمماليك وأسرة محمد علي.
كان لدي قناعة دائمة بأن مصير الشعبين والبلدين يسير في مسار مشترك صنعته الجغرافيا ورسمه التاريخ؛ فمثلما كانت مصر البوابة الشمالية الشرقية لقارتها أفريقيا ونقطة الاحتكاك بينها وبين العالم الآسيوي، كانت اليونان البوابة الجنوبية الشرقية لقارتها أوروبا ونقطة الاحتكاك بينها وبين العالم الآسيوي أيضًا، ومن هذا العالم الآسيوي كانت معظم الأخطار الوافدة التي تصدى لها البلدان.
 كلاهما كان مواجهًا للعالم خارج قارته، اتجهت مصر للشرق والشمال واتجهت اليونان للشرق والجنوب، وربط بينهما عالم البحر المتوسط، الذي تحول بفضل الحضارتين ومعهما الحضارة الفينيقية إلى عامل وصل بين شعوبه لا حاجز فصل بينها.
 والغريب أن الشعبين المصري واليوناني جمع بينهما دومًا أعداء مشتركين، الفرس الإخمينيون والرومان في العصور القديمة والأتراك العثمانيين الذين أدوا إلى تأخر الشعبين لثلاثة قرون مع نهاية العصور الوسطى ومطلع العصر الحديث.
 هذا ولم ينقطع الوجود اليوناني في مصر عبر تاريخها الطويل فقد استمرت مكتبة الإسكندرية منارة للفكر في العالم القديم وقبلة للعلماء من اليونان بعد الاحتلال الروماني، كما ظل الوجود اليوناني قائمًا وكان لكنائس طائفة الروم الأرثوذوكس وأديرتهم وجودها المستمر عبر العصور، وفي العصر المملوكي وصل إلى عرش مصر سلطانًا مملوكيًا من أصل يوناني هو الظاهر خشقدم الرومي، وحتى محمد علي باشا الذي يلقب بمؤسس مصر الحديثة جاء من مدينة قولة في شرق اليونان، وفي عصره وعصور خلفائه تزايدت أعداد الجالية اليونانية في مصر بشكل واضح.
 رؤى مصرية من عصر النهضة
 ومن اللافت للنظر أن رجال عصر النهضة الوطنية التي أعقبت ثورة 1919 قد انتبهوا للعلاقة الخاصة بين الحضارتين، فقد كان المشروع الأخير للمثال مختار قبل رحيله عام 1934 تمثالًا ضخمًا للإسكندر الأكبر رمزًا للتواصل بين الشرق والغرب بمدخل مدينة الإسكندرية، لم يبق منه إلا تخطيطاته الأولية؛ يقول الناقد بدر الدين أبو غازي في كتابه مختار حياته وفنه الصادر عام 1949 عن مختار وهذا المشروع الحلم: "ويعاوده حلم آخر يدل على تطور فكره وفنه... فقد خلد في الميدان العام ملحمة الكفاح القومي، واليوم يريد أن يقيم شيئًا آخر أبعد وأعمق من هذا الكفاح يريد أن يقيم على شاطئ البحر الأبيض رمزًا تلتقي فيه حضارة الشعوب التي تقوم على ضفافه؛ وليس غير الإسكندر الأكبر رمزًا لهذه الحضارة... الإسكندر أروع صور التاريخ البشري هذا الذي جاب تلك الشعوب وغزاها، وقدم إلى مصر حاملًا شعلة الإغريق وهيأ للقاء أروع حضارتين قامتا على شاطئ هذا البحر؛ حضارة مصر وحضارة يونان."
مختار
 ويستطرد قائلًا: "إن "مختار" يتحفز لهذه الفكرة الجديدة عن إيمان بحضارة هذا البحر العظيم "بحرنا" كما كان يتحدث عنه في زهو مع الأصدقاء وهو يرى وجوب اجتماع شعوبه حول مشاعل واحدة من الفن والأدب، مشاعل تستمد زيتها من هاتين الحضارتين، والآن يرسم خطط مشروعه ويفكر في إقامة تمثاله بمدخل الإسكندرية محاطًا بآلهة الإغريق وحوله تقام المدرجات والملاعب والقاعات، وهنا تلتقي في كل عام شعوب هذا البحر، وتقام الاحتفالات وتلقى المحاضرات، وتتهيأ مصر أم الحضارة لدور ثقافي جديد."


 ربما يكون هذا نموذج تمثال الإسكندر!
بينما يتساءل طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر الصادر عام 1938 عن الهوية الثقافية للعقل المصري، وهل هو شرقي أم غربي؟
 وفي مناقشة طويلة للموضوع يقول:
 "من إضاعة الوقت وإنفاق الجهد في غير طائل أن نُفصّل ما كان من العلاقات بين مصر وبين الحضارة اليونانية في عصورها الاولى، ثم ما كان من العلاقات بين مصر والحضارة اليونانية في مرحلة ازدهائها وازدهارها منذ القرن السادس قبل المسيح الى ايّام الاسكندر؛ والتلاميذ يتعلمون في المدارس أن مصر عرفت اليونان منذ عهد بعيد جدًا، وأن المستعمرات اليونانية قد أقرها الفراعنة في مصر قبل الألف الأول قبل المسيح؛ والتلاميذ يتعلمون في المدارس أيضًا أن أمة شرقية بعيدة عن مصر بعض الشيء قد أغارت عليها وأزالت سلطانها في أخر القرن السادس قبل المسيح، وهي الأمة الفارسية؛ فلم تذعن مصر لهذا السلطان الشرقي الأجنبي إلا كارهةً، وظلت تقاومه أشد مقاومة وأعنفها مستعينة على ذلك بمتطوعة اليونان حينًا وبمحالفة المدن اليونانية حينًا آخر حتى كان عصر الاسكندر."
طه حسين
 وينتهي إلى أن "معنى هذا كله واضح جدًا وهو أن العقل المصري لم يتصل بعقل الشرق الأقصى اتصالًا ذا خطر، ولم يعش عيشة سلم وتعاون مع العقل الفارسي وإنما عاش معه عيشة حرب وخصام؛ ومعنى ذلك أيضًا أن العقل المصري قد اتصل من جهة بأقطار الشرق القريب اتصالًا منظمًا مؤثرًا في حياته متأثرًا بها، واتصل من جهة أخرى بالعقل اليوناني منذ عصوره الأولى اتصال تعاون وتوافق وتبادل مستمر منظم للمنافع في الفن والسياسة والاقتصاد؛ أن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط."
 كما أصر طه حسين عندما كان عميدًا لكلية الآداب بالجامعة المصرية على أن يكون من بين أقسام الكلية قسمًا للدراسات اليونانية واللاتينية، كذلك اقترح في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر أن تدرّس اللغتين اليونانية واللاتينية في المدارس الثانوية.
 اليونانيون في مصر الحديثة والحركة العمالية المصرية
 لقد أصبحت الجالية اليونانية في العصر الحديث جزءًا منسجمًا في نسيج المجتمع المصري، فلم يكن اليونانيون في مصر كيانًا واحدًا يشكل قسمًا من الطبقات العليا في المجتمع، بل كانوا متداخلين مع أغلب طبقات المجتمع، خاصة الطبقات حديثة التكوين، فكان منهم رأسماليين كبار يعملون في الصناعات الجديدة ورجال مال وتجار كبار، وموظفون من مختلف الدرجات؛ كما كان منهم تجارًا كبارًا ومتوسطين وصغار، وبينهم حرفيين وعمال صناعيين وعاملين في مجال الخدمات، كذلك تنوعت مستوياتهم الثقافية واتجاهاتهم السياسية؛ وانتشر أبناء الجالية اليونانية انتشارًا واسعًا في المدن الكبرى والمدن الصغرى، في الريف والحضر، في الدلتا والصعيد.
 وقد لعب العمال والمثقفون اليونانيون في مصر أدورًا مهمة في تجديد الفكر السياسي في البلاد، وفي نشر الفكر الاشتراكي باتجاهاته المختلفة في مصر؛ فقد أسهمت الصالونات الثقافية والمراكز الأدبية والمكتبات الشعبية (دار الكتب الشعبية) التي أسسها اليونانيون المصريون في التعريف بالفكر الاشتراكي في أوساط المثقفين المصريين، وركزت هذه التجمعات على تقديم الأدب الروسي والعريف بالثورة الروسية بمراحلها المختلفة، وتنظيم حلقات قراءة كتابات كارل ماركس وفردريك إنجلز.
 كذلك اهتم المثقفون اليونانيون في مصر، خاصة ذوي الميول اليسارية منهم بقضايا الطبقات الشعبية؛ ومن مظاهر هذا الاهتمام التي انعكست على الإبداع الأدبي رواية "المشتغلون بالقطن" لجورجيوس فيليبوس؛ ويشير المناضل العمالي عطية الصيرفي الذي اهتم بقضايا عمال التراحيل والقضايا الفلاحية عمومًا في كتابه تاريخ "عمال الزراعة والتراحيل في مصر والعالم" إلى ندرة الكتابات عن تاريخ عمال الزراعة وعن الريف المصري عمومًا، ويضع رواية جورجيوس فيليبوس ضمن الأعمال الأساسية التي تطرقت لهذا الموضوع إلى جانب كتابات النديم عن السخرة، وكتاب الأب عيروط "الفلاحون".
 كذلك ظهرت الأفكار الاشتراكية بين اليونانيين في مصر؛ ويرجع تاريخ انتشار الفكر الاشتراكي بين العمال الأجانب في مصر إلى تسعينيات القرن التاسع عشر؛ وربما كانت البداية بالأفكار الأناركية، حيث تتحدث الصحف المصرية عن واقعة ضبط أحد اليونانيين في 18 مارس 1894 وهو يوزع "منشورا فوضويا " يحض فيه العمال على الاحتفال بتذكار نهضة الكومون (كومون باريس) عام 1871 ؛ في هذه الفترة المبكرة كانت هناك بعض كتابات قليلة عن الأناركية في مجلات مثل الهلال ثم بعد ذلك في المقتطف والموسوعات في إطار عرض الأفكار السياسية في أوروبا؛ وكانت الترجمة الشائعة في هذا الوقت لكلمة أناركية أو لا سلطوية.
 ووفقًا لما ذكره الدكتور رفعت السعيد في تأريخه للحركة الشيوعية المصرية فإن المنظمة الشيوعية اليونانية كانت أول منظمة مارست النشاط الشيوعي في مصر؛ وقد شارك اليونانيون في مصر في تأسيس التنظيمات الاشتراكية والشيوعية، لكن بعض منظماتهم احتفظت باستقلالها وظلت تمارس نشاطها حتى 1961.
 وتشير الأخبار الصحفية التي نشرت عن تأسيس الحزب الاشتراكي المصري في مطلع العشرينيات إلى مساهمة بعض الاشتراكيين اليونانيين في مناقشات تأسيس الحزب دون الانضمام له.
 وعندما وقع الانقسام في الحزب وتشكل الحزب الشيوعي المصري الذي لعب دورًا مهمًا في قيادة الإضرابات العمالية في عامي 1923 و1924، ووجهت الحكومات المتوالية ضربات بوليسية له في عامي 1924 و1925 ظهر اليونانيين بين أعضاء الحزب، وبين المعتقلين منهم، ولم تمنع الامتيازات التي يتمتع بها الأجانب من القبض عليهم ومحاكمتهم وإصدار أحكام بحق بعضهم.
 إذًا فقد كانت هناك مشاركة يونانية في تأسيس الحركة الشيوعية الأولى في مصر، مثلما كانت لهم مساهمة في مشاورات تأسيس الحركة الاشتراكية الديمقراطية، ومحاولة لنشر الأفكار الأناركية في مصر.
 ومع النهوض الثاني للحركة الشيوعية في مصر في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن الماضي ظهر دور الشيوعيين اليونانيين في مصر في تأسيس هذه الحركة من خلال دورهم في التنظيمات الأولى كاتحاد أنصار السلام، والاتحاد الديمقراطي، والتي كان جزءًا كبيرًا من جهدها موجهًا لمحاربة الأفكار الفاشية والنازية، كما شاركوا في تأسيس التنظيمات السرية للحركة الشيوعية وفي مقدمتها الحركة المصرية للتحرر الوطني (ح. م.).
 هناك كذلك دور الطبقة العاملة اليونانية في تطوير النضال العمالي في مصر؛ فقد شهد عام 1894 إضراب العمال اليونانيين في شركة قناة السويس الذي يعد واحدًا من أول الإضرابات العمالية في مصر، وقد كانت خبرة الإضرابات العمالية من الخبرات النضالية المهمة التي ساهم اليونانيون في نقلها إلى زملائهم من العمال المصريين؛ كما تم إنشاء نقابة عمال الأحذية التي تعد من أول النقابات العمالية في مصر بجهود العمال اليونانيين.
 معًا في النضال من أجل استقلال الإرادة الوطنية
  اختتم هذه المداخلة بالإشارة الموجزة إلى ثلاثة مواقف للجالية اليونانية في لحظات حاسمة من تاريخ مصر تجسد تلاحم أبنائها مع قضايا مصر التي أصبحت وطنًا ثانيًا لهم، ووقفوهم في خندق واحد مع أبناء الشعب المصري في طموحه نحو تحقيق استقلاله وامتلاك مقدراته.
 الموقف الأول؛ المشاركات في النضال الوطني في مصر في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن التاسع عشر؛ فقد شارك يونانيون في تأسيس جمعية مصر الفتاة التي تعتبر أحد أقدم تنظيمين حزبيين في مصر، كما وقف بعضهم إلى جانب الثورة العرابية، وتطوع بعضهم إلى جانب قوات عرابي أثناء حربه مع الإنجليز، وفي أحد خطابات أحمد عرابي عن أحداث الإسكندرية في يونيو 1882 التي تسبب فيها قتل رجل ملطي لحمّار مصري، والتي كانت حجة لبدء عملية احتلال مصر، يشير عرابي إلى أن جماعة من اليونانيين حاولوا الدفاع عن الرجل المصري فتكاثر عليهم المالطية وبعض الأوروبيين وضربت عليهم النيران من الشبابيك، وعظم الخطب.
 والموقف الثاني؛ موقف اليونانيين في ثورة 1919، وأرجع هنا إلى رواية أوردها المؤرخ المصري الرائد محمد صبري الشهير بالسوربوني، نسبة إلى جامعة السوربون بباريس التي حصل منها على درجة الدكتورة، وكان من أوائل المصريين الذين حصلوا منها على هذه الدرجة في التاريخ الحديث؛ لقد ألف السوربوني كتابًا توثيقيًا من جزئين لأحداث الثورة كتبه باللغة الفرنسية كنوع من الدعاية في أوروبا للقضية المصرية، وصدر جزؤه الأول عام 1920 في باريس.
 يشير السوربوني في كتابه إلى مشاركة بعض الجاليات الأجنبية المقيمة في مصر في الثورة، تضامنًا مع مطالب الشعب المصري، خاصة اليونانيين الذين سقط منهم شهداء في الثورة؛ ويقول: "ولكي يبدي اليونانيون تعاطفهم مع مصر، اجتمعوا بميدان الأوبرا وساروا بعدئذ في شوارع القاهرة يهتفون لمصر والمصريين؛ وأكثر من ذلك، فعندما استقبل القنصل اليوناني وفدًا من الأعيان المصريين الذين كانوا يودون الإعراب له عن تعازيهم في موت رعايا يونانيين اشتركوا في المظاهرات، قام بإلقاء خطبة استمرت ساعةً ونصفًا، حيث قال: "إننا نقدم هؤلاء الموتى تضحية على مذبح حريتكم".

 كما تشير الوثائق البريطانية إلى انضمام الموظفين اليونانيين إلى زملائهم المصريين في إضراباتهم، كما شاركت صحفهم في نشر أخبار الثورة والترويج لها والتي وصفتها التقارير البريطانية بأنها "تفرح بنشر أخبار حقيرة ومقتطفات من كتابات المتطرفين المصريين."
 أما الموقف الثالث فموقفهم في عام 1956؛ بدءً بموقف المرشدين اليونانيين في الأزمة التي أعقبت إعلان الرئيس جمال عبد الناصر قرار تأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956؛ فقد دعت الشركة العالمية لقناة السويس المرشدين الأجانب إلى الانسحاب في سبتمبر 1956 واصل المرشدين اليونانيين عملهم إلى جانب زملائهم المصريين لتستمر القناة في عملها.
 ثم انضمام اليونانيون والقبارصة في مصر رجالًا ونساءً إلى صفوف المقاومة الشعبية عندما بدأ العدوان الثلاثي في 29 أكتوبر 1956، وسقط شهداء يونانيين في أرض المعركة في أعمال المقاومة الشعبية في بورسعيد.
 وبعد...
 كان إلغاء الامتيازات الأجنبية باتفاقية مونترو سنة 1937 ثم اكتمال تنفيذها سنة 1949؛ وبعدها حركة التمصير والتأميم من 1956 إلى 1962 دافعًا للخروج الكبير لليونانيين من مصر؛ فانخفضت الجالية من عشرات الآلاف إلى بضعة آلاف قليلة.
 وإذا كان كثير من اليونانيين قد غادروا مصر في الخمسينيات مع سيطرة النظام الشمولي على البلاد، تركوها رغم موقفهم المساند لنا في تأميم قناة السويس، فإن التجربة المشتركة تدعونا إلى التأمل في العودة للتقاليد المصرية العريقة في قبول الآخر والتعايش بين الشعوب والأجناس والأديان المختلفة، وفي أهمية إعادة بناء الجسر المصري اليوناني جسرًا بين جنوب المتوسط وشماله؛ إن أمامنا آفاق لمستقبل من التعاون المبني على تاريخ طويل ممتد ومصالح مشتركة تسمح بتعميق العلاقة بين شعبينا وتحولها إلى تحالف استراتيجي بين البلدين، ومعنا شريك ثالث قبرص.
***

مداخلتي في ندوة "اليونانيون في مصر خلال القرن العشرين" 16 أكتوبر 2019
مراجع:
·         إبراهيم نصحي: دراسات في تاريخ مصر في عهد البطالمة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1959.
·         إبراهيم نصحي: تاريخ مصر في عصر البطالمة، 4 أجزاء، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1998.
·         بدر الدين أبو غازي: مختار حياته وفنه، مطبعة مصر، القاهرة، 1949.
·         رفعت السعيد: تاريخ الحركة الشيوعية المصرية من 1900 إلى 1940، كتب عربية، القاهرة، 1986.
·         سيد عشماوي: اليونانيون في مصر 1805 – 1956، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، 1997.
·         طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر، مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر، القاهرة، 1938.
·         عبد المنعم الجميعي: الثورة العرابية في ضوء الوثائق المصرية في: مصر للمصريين – مائة عام على الثورة العرابية، مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام، القاهرة، 1981.
·         عبد الوهاب بكر: أضواء على النشاط الشيوعي في مصر 1921 – 1950، دار المعارف، القاهرة، 1983.
·         عطية الصيرفي: تاريخ عمال الزراعة والتراحيل في مصر والعالم من عهد السخرة حتى سنة 1969، مكتبة جزيرة الورد، المنصورة، 2018.
·         محمد صبري: الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور التقطت أثناء الثورة، ترجمة: مجدي عبد الحافظ وعلي كورخان، ج. 1، ط. 2، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2019.
·         هيرودوت: هيرودوت يتحدث عن مصر، ترجمة: محمد صقر خفاجة، دار القلم، القاهرة، 1966.


هناك تعليق واحد:

  1. Great work for collecting documenting and archiving such important event in the Egyptian history about the Egyptian Revolution 1919 sharing in most of the GREEK were living in Egypt at that time.

    This is One of the best Document to be gifted to the new generations.

    ردحذف

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...