الجمعة، 4 ديسمبر 2020

في حب إسكندرية

في حب إسكندرية

 وأنا بارتب في أوراقي القديمة لقيت ورقة فيها أفكار كلمة كنت قلتها في احتفال في مكتبة الإسكندرية شاركت فيه لما كنت أمين للمجلس الأعلى للثقافة، والاحتفال كان منظمه زوجين من الأجانب اللي عاشوا عمرهم في اسكندرية وكان عنوان الاحتفال "في حب إسكندرية"، ومعاها لقيت قصاصة ورق فيها كلام عن زيارتي الأول لإسكندرية كنت كتبته في أغسطس 2008 وأنا قاعد في تريانون لما انتبهت يومها إن عدى خمسين سنة على أول زيارة لي لإسكندرية، وكلمتي المرتجلة في الاحتفال كانت من النقط اللي في الورقتين دول، عملت هنا صياغة للكلمة اللي عدى عليها 10 سنين معتمد على اللي باقي من الذاكرة.












في حب الإسكندرية

عماد أبو غازي

 للزيارة الأولى مذاق خاص، تترك بصمات في الذاكرة لا تنمحي، خصوصًا إذا وقعت هذه الزيارة في مرحلة مبكرة من العمر.

 زرت الإسكندرية للمرة الأولى منذ اثنتين وخمسين عامًا، على وجه التحديد في أغسطس عام 1958، كانت المرة الأولى التي أرى فيها "البحر المالح" كما كانت جدتي لأبي ذات الأصول الريفية تطلق عليه.

 البحر الذي يربط جنوب المتوسط بشماله، ويفصل بينهما أيضًا؛ والمدينة التي تعد نافذة لمصر على العالم ونافذة للعالم على مصر.

 وقتها لم يكن وعي الطفل المحدود ومدركاته القاصرة تسمحان لي بفهم هذه المعاني؛ لكنها معاني أخذت تنمو في الوجدان وفي العقل شيئًا فشيئًا مع تكرار الزيارات واتساع المدارك، والاتجاه لدراسة التاريخ.


 ما أتذكره من الزيارة الأولى هذا البحر الذي لا حد لنهايته، التاكسي برتقالي اللون، والترام "أبو دورين"، حدائق أنطونيادس بجمالها الأخاذ، النزهة وحديقة الحيوان، حديقة الشلال يتوسطها تمثال لنوبار باشا، القصور الملكية التي كانت قد تحولت إلى مزارات مفتوحة للشعب، المتحف اليوناني الروماني بمنحوتاته التي كانت في عيني تختلف في غالبيتها العظمى عما اعتدت أن أراه في المتحف المصري بالقاهرة، تمثال الخديوي إسماعيل في موضعه الأصلي، وتمثال محمد علي باشا بميدان المنشية، طابية الإسكندرية ومطعم بترو وفيه ركن توفيق الحكيم، ثم محطة الرمل بمقاهيها ومحالها وسلمها المتحرك، يتوسط ميدانها تمثال الزعيم سعد زغلول بما يحمله من دلالات ومعان خاصة بالنسبة لي.







 كانت هذه هي الإسكندرية التي حفرتها في الذاكرة الزيارة الأولى.



 تدريجيًا بدأت أتعرف على جوانب أخرى للمدينة، وفهمت ما تحمله هذه المدينة من قيم ومعان في جنباتها.

 الإسكندرية هذه المدينة الساحرة التي تحمل تاريخًا وتراثًا تمتد جذوره في الماضي لأكثر من ألفي وثلاثمئة عام؛ منذ شيد الإسكندر الأكبر هذه المدينة المتوسطية التي ارتبطت باسمه أصبح قدرها أن تكون مدينة للتفاعل والحوار بين شمال المتوسط وجنوبه، بين حضارات الشرق القديم "العجوزة" والحضارة الأوروبية التي كانت في صعودها آنذاك، وكذلك أن تكون واجهة للصدام والصراع الدامي.

 ورغم أن المدينة كانت في البداية مدينة مغلقة على الإغريق، وظلت كذلك لفترة من الزمن في عصر البطالمة خلفاء الإسكندر الأكبر مثلها في ذلك مثل كل العواصم التي شيدها الغزاة الفاتحون؛ فكذلك كانت الفسطاط عند إنشائها، ثم كانت القاهرة أيضًا حصنًا للخليفة الفاطمي وأسرته ورجال دولته؛ لكن هذه المدن سرعان ما تفتح أبوابها أمام أبناء الشعب وتصبح مجالًا للاختلاط والتفاعل، هذا التفاعل هو الذي يمنحها مكانتها الثقافية دائمًا.

 لقد أصبحت الإسكندرية على مدى قرون عاصمة للثقافة والفكر في العالم القديم، سواء في الحقبة البطلمية أو الرومانية أو بعد انتشار المسيحية بين المصريين، وكانت قبلة لحملة العلم في العالم القديم ومقصدًا للباحثين عن المعرفة، وأصبحت مكتبة الإسكندرية مركزًا للعلم والثقافة في عالم يموج بحركة الأفكار، وارتبطت بها أسماء مهمة في تاريخ العلم والثقافة والمعرفة الإنسانية؛ وكانت للإسكندرية مدرستها الهلينستية ومدرستها المسيحية، فظهرت في الإسكندرية أسماء مثل إقليدس وهيباتيا وبطليموس الجغرافي ومانيتون السمنودي، ومار مرقس وإثناسيوس الرسولي وغيرهم كثيرين .

 وبعد دخول العرب مصر أصبحت مركزًا من مراكز التصوف المصري، وكانت ملجأً لعدد من أعلام الفكر مثل الشاطبي والمرسي أبو العباس وغيرهما ممن جاءوا إليها لاجئين من الأندلس وشمال أفريقيا فأثروا حياتها الفكرية والثقافية، ورغم تراجع دور الإسكندرية في العصور الوسطى إلا أنها ظلت مركزًا من مراكز التجارة العالمية ومقرًا لقنصليات المدن الأوروبية التي تعاملت تجاريًا مع مصر المملوكية؛ وفي الوقت ذاته كانت عرضه لغارات القراصنة وغزوات الغزاة، فشيد فيها سلاطين المماليك وأمرائهم القلاع لحمايتها، وما زالت قلعة قايتباي تقف شامخة على طرف الميناء الشرقي، وفي مقابلها أطلال قلعة الأمير يشبك من مهدي الدوادار التي اكتشف موضعها وبقايا أساساتها أستاذي الدكتور عبد اللطيف إبراهيم من خلال وثيقة وقف الأمير يشبك قبل أكثر من نصف قرن.





 وفي العصر الحديث عادت الإسكندرية مركزًا ثقافيًا وحضاريًا، ففيها بدأت كثير من الصحف التي صدرت في مصر، وفيها نشأت الجمعيات الثقافية والسياسية في القرن التاسع عشر، وتأسست الفرق المسرحية وبدأت العروض السينمائية؛ ظهر فيها النديم وبيرم التونسي وسيد درويش ومحمود سعيد والأخوين وانلي، وعاش فيها كافافيس؛ وتغنى بها الشعراء.





 وفي عالم اليوم تكتسب الثقافة والمعرفة أهمية كبيرة؛ فالثقافة جسر لتحقيق التواصل بين شعوب الأرض، ومهمتنا أن نجعل من الإسكندرية مدينة للحوار والتفاعل الثقافي؛ كما أن المعرفة أصبحت الثروة الرئيسية ومصدر القوة وعلينا أن نكتسبها.

 وعلى أبواب الألفية الثالثة كان إحياء مكتبة الإسكندرية لتضيف إلى خارطة الثقافة في المدينة منارة إشعاع ولتصبح مركزًا للمعرفة في عصر مجتمع المعرفة، ولتبني جسورًا للتواصل عبر المتوسط ولتكون نافذة لمصر على العالم ونافذة للعالم على مصر مثلما كانت المدينة في ماضيها.

 

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...