الأربعاء، 24 يوليو 2019

مشاهد من وقائع الديوان



مشاهد من وقائع الديوان
عماد أبو غازي
 في السادس من يوليو سنة 1801 عقد ديوان القاهرة أخر جلساته قبيل رحيل الحملة الفرنسية عن مصر بعدة أسابيع... فما هي حكاية هذا الديوان؛ وكيف بدأ؟ وكيف انتهى؟ وماذا فعل؟
 تبدأ الحكاية عندما احتلت الحملة الفرنسية بقيادة بونابرت مصر في شهر يوليو أيضًا من عام 1798؛ ففي الأول من يوليو وصل الفرنسيون إلى الإسكندرية، وفي 21 منه انتصروا في موقعة إمبابة؛ وبدا أن الأمر سيستتب لهم؛ فوضعت الحملة نظامًا جديدًا لحكم البلاد بديلًا عن الحكم العثماني المملوكي الذي كان قائمًا.

 وبدأ بونابرت قائد الحملة ومعاونيه فورًا في وضع قواعد هذا النظام لتسهيل مهمتهم في إدارة مصر، ولما كان الرجل يتصور أن المصريين سيرحبون بحملته بسبب ضيقهم الشديد بالحكم العثماني وبعسف أمراء المماليك الجراكسة الذي عانوا منه لقرون عدة؛ فقد حرص على أن يُشرك في "المؤسسات" الجديدة التي قام عليها نظامه مجموعة من ممثلي النخبة المصرية؛ فشكل مجلسًا تولى ما يمكن أن نسميه في النظم الحديثة السلطة التنفيذية، وفي نفس السياق شكل بونابرت مجلسًا ثانيًا به درجة من درجات التمثيل لطوائف المصريين، وسماه الديوان. 
 وقد اعتبر بعض من درسوا تاريخ هذه الحقبة أن الديوان كان بمثابة البرلمان الأول في تاريخ مصر، وارتبط بهذا "البرلمان" وثيقة تعرف بفرمان الشروط، اعتبرها الدكتور لويس عوض الدستور الأول لمصر، وقد استند في ذلك إلى أمرين: 
 الأول: تسميتها "فرمان الشروط"؛ الأمر الذي فسره بأنه مستمد من كلمة شارت أو كارتا في اللغات الأوروبية بمعني الميثاق أو الدستور أو العهد، وأكد لديه هذا الفهم التعريب الذي استخدمه الطهطاوي لكلمة دستور بعدها بسنوات؛ حيث استخدم مصطلح الشَرطة للدلالة علي الدستور الفرنسي؛ والحقيقة أن كلمة شرط وشروط في العربية مستخدمة منذ زمن مبكر للدلالة علي باب من أبواب الفقه الإسلامي عرف بعلم الشروط يبحث في قواعد صياغة وثائق المعاملات، والمعنى المباشر في العربية لكلمة شرط لا يبعد كثيرًا عن هذا، وقد استخدم الجبرتي كلمة مشروطية في الإشارة إلى الشروط التي وضعها قادة ثورة 1805 لمحمد علي مقابل توليه باشوية مصر. 
 والثاني: محتوي الوثيقة وما نصت عليه؛ فقد قضى فرمان الشروط الذي أصدره بونابرت بتعيين اثنين من رجال الحملة وعلمائها هما مونج وبرتوليه قوميسرين في الديوان العام، وتكليفهما بحضور الجلسات وعرض خطط الحكومة مشروعاتها علي الأعضاء، وحدد بعض آليات عمل الديوان، والأمور المطلوب من أعضاء الديوان القيام بها، الأمر الذي جعل لويس عوض يصنف هذا النص باعتباره دستورًا للبلاد.
فماذا قالت هذه الوثيقة؟
 "إن الغرض من عقد الديوان العام تعويد الأعيان المصريين نظم المجالس الشورية والحكم، فقولوا لهم إني دعوتهم لاستشارتهم وتلقي آرائهم فيما يعود على الشعب بالسعادة والرفاهية، وما يفكرون في عمله إذا كان لهم حق الفتح الذي حزناه في ميدان القتال.
 اطلبوا من الديوان أن يبدي رأيه في المسائل الآتية:
 أولًا: ما أصلح نظام لتأليف مجالس الديوان في المديريات، وما المرتب الذي يجب تحديده للأعضاء.
 ثانيًا: ما النظام الذي يجب وضعه للقضاء المدني والجنائي.
 ثالثًا: ما التشريع الذي يكفل ضبط المواريث ومحو أنواع الشكاوى والإجحاف الموجودة في النظام الحالي.
 رابعًا: ما الإصلاحات والاقترحات التي يراها الديوان لإثبات ملكية العقارات وفرض الضرائب.
 ويجب أن تُفهموا الأعضاء بأننا لا نقصد إلا توفير السعادة والرفاهية للبلاد التي تشكو من سوء نظام الضرائب الحالي كما تشكو من طريقة تحصيلها، وعليكم أن تضعوا للديوان نظامه الداخلي كما يأتي:
 أن ينتخب الأعضاء رئيسًا له، ونائب رئيس، وسكرتيرين مترجمين أثنين، وثلاثة مراقبين، وأن يكون ذلك بطريق الاقتراع وبكل مظاهر الانتخاب.
 وعليكم أن تتابعوا المناقشات وتدونوا أسماء الأعضاء الذين يمتازون عن زملائهم في الديوان سواء بنفوذهم أو بكفايتهم".
 والسؤال هنا، هل يمكن أن نعتبر هذه الوثيقة دستورًا؟
 أتصور أن هذه الوثيقة لا تتعدى أن تكون قرارًا من بونابرت بمجموعة من الإجراءات التنظيمية لعمل الديوان، وتوجيهات لمعاونية للكيفية التي ينبغي أن يديروا بها الديوان، بالإضافة إلى مجموعة من الأسئلة الموجهة للأعضاء يطلب منهم الإجابة عليها، وهي لا ترقى بحال من الأحوال لأن تكون شكلًا من أشكال التعاقد بين الحاكم والمحكومين، كما أنها لا تضع أي التزام على الحاكم أو قيدًا عليه، فضلًا عن أن واقع ممارسة الديوان تؤكد أنه كان في أفضل الأحوال هيئة تتولى رفع مظالم الناس لقادة الحملة وتقديم الرجاء لهم لحلها، بمعنى أنه لم يكن برلمانًا بالمفهوم المعروف للبرلمانات في هذا الوقت المبكر؛ ربما تكون الخبرة الوحيدة التي قدمتها تجربة الديوان للمصريين تتمثل في التعرف على نظام الانتخاب في شغل المناصب العامة؛ لكن الأمر المؤكد أن مواجهة المصريين للحملة الفرنسية ومقاومتهم لها من ناحية، واحتكاك قطاع من النخبة بقيادة الحملة من ناحية أخرى، أسهما في تطور وعي المصريين بحقوقهم ومطالبتهم بها...
الشيخ الشرقاوي
 لقد انعقد الديوان الأول في 25 يوليو سنة 1798،  لكنه توقف أكثر من مرة خلال سنوات الحملة الثلاث، فلم تكن توقعات بونابرت بترحيب المصريين بالحملة وتعاونهم معها سليمة، لقد قاوم المصريون منذ اللحظة الأولى الحملة الفرنسية بشتى أشكال المقاومة الإيجابية والسلبية، وكاد بونابرت يفقد حياته في الإسكندرية عندما أطلق رجل وأمرأة النار عليه من شباك منزلهما في سياق أعمال المقاومة بالمدينة، والتي انتهت بإعدام حاكمها محمد كُرّيم، وظهرت المقاومة في المدن الكبرى مثلما ظهرت في القرى الصغيرة في ريف الدلتا، ورغم أن القوة العسكرية للحملة الفرنسية كانت أكبر من طاقات المقاومة لشعب حرم من حقه في الدفاع عن وطنه ومن حقه في حمل السلاح لقرون طويلة منذ نهاية عصر البطالمة، ورغم أن الحملة نجحت في السيطرة على الدلتا كلها وعلى القاهرة عاصمة البلاد، مع استمرار الحروب بين الفرنسيين والمماليك بقيادة مراد بك ومماليكة في صعيد مصر؛ الأمر الذي تصور معه بونابرت أنه أحكم قبضته على البلاد وأن أمرها بات في يده، وإن المصريين قد خضعوا له وقبلوا بحكمه خاصة في القاهرة حيث وطد سلطته ووضع يده على كل شيء، إلا أن شعب مصر لم يكن راضيًا عن الاحتلال الفرنسي أو مستسلما له، ولم تغير مشاركة بونابرت في الاحتفالات الدينية والشعبية للمصريين في القاهرة من الأمر شيئا؛ فاستمرت المقاومة تشتعل في أرجاء مصر، تخمد في منطقة لتبدأ في أخرى، وظلت الثورات تتفجر بين حين وحين، الأمر الذي انعكس على استمرارية عمل الديوان.
ثورة القاهرة الأولى
 وفي القاهرة ظلت الثورة كامنة في نفوس الناس، ولم يطل الصمت؛ فسرعان ما انفجر بركان الغضب أسرع مما كان يتوقع بونابرت ورجاله؛ ففي 21 أكتوبر سنة 1798 أي بعد أقل من أربعة أشهر على بداية الحملة هب أهالي القاهرة في ثورة قوية ضد الاحتلال الفرنسي، عُرفت فيما بعد بثورة القاهرة الأولى؛ وكان من نتائج ثورة القاهرة الأولي، أن توقفت أعمال الديوان، لكنه عاد بعد ذلك للعمل مرة أخرى؛ ثم توقفت أعماله مرة ثانية بسبب مقتل كليبر القائد الثاني للحملة في يونيو 1800 في أعقاب ثورة القاهرة الثانية.
 وفي 2 أكتوبر سنة 1800 قرر مينو ثالث قادة الحملة الفرنسية على مصر إعادة تشكيل الديوان مرة ثالثة، فبعد شهور من توليه قيادة الحملة في مصر، ومع اتجاهه إلي استمرار الاحتلال الفرنسي للبلاد، قرر إعادة إنشاء الديوان ليلعب دورًا أساسيًا في مشروعه السياسي، وكان هذا الديوان يضم تسعة أعضاء وأربعة عشر عضوًا شرفيًا، وقد تولي الشيخ عبد الله الشرقاوي رئاسة هذا الديوان، وقام الشيخ محمد المهدي بعمل السكرتير أو كاتم السر كما تسميه الوثائق الرسمية العربية للديوان، وكان من بين أعضاء هذا الديوان المؤرخ المصري الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، والحاج علي الرشيدي صهر مينو، كما كان للديوان وكيلًا فرنسيًا وهيكلًا إداريًا يضم كُتابًا ومترجمين، وكان الديوان يجتمع بشكل دوري منتظم، بمعدل ثلاث مرات كل عشرة أيام؛ وشغل الشيخ إسماعيل الخشاب الشاعر والمؤرخ وزميل دراسة الجبرتي وصديقه منصب كاتب الديوان؛ وعقب قرار مينو بإعادة تشكيل الديوان بشهر واحد بدأ الديوان أعماله، فعقدت جلسته الأولى في الثالث من نوفمبر، واستمرت جلساته بانتظام حتى السادس من يوليو سنة 1801، قبيل رحيل الحملة عن مصر بعدة أسابيع.

مينو
 لقد وصلت إلينا تفاصيل ثرية عن عمل الديوان ونشاطه من مصدرين أساسيين، بخلاف ما ورد في كتابات عبد الرحمن الجبرتي مؤرخ العصر وعضو الديوان، وما ورد في كتابات بعض رجال الحملة:
 المصدر الأول منهما، مجموعات وثائق الحملة الفرنسية المحفوظة في المكتبة المركزية لجامعة القاهرة،والتي تضم بعضًا من الوثائق التي كان يرفعها الديوان إلى قيادة الحملة الفرنسية، وجلها تتعلق بشكاوى من مظالم ومشكلات يتعرض لها الأهالي تقدموا بها للديوان، وتلك الوثائق مدونة باللغة العربية وعليها ترجمة فرنسية؛ وقد نشر بعضها لأول مرة الدكتور مصطفى أبو شعيشع أستاذ الوثائق بجامعة القاهرة منذ أكثر من ثلاثين عامًا؛ ومن بين ما نشره إلتماسًا رفعه الديوان موقع من رئيسه الشيخ عبد الله الشرقاوي وأمين سره الشيخ محمد المهدي إلى الجنرال دوجا قائم مقام قائد الحملة يطلبون فيه العفو عن اثنين من التجار كانا معتقلين بالقلعة لمخالفتهم تعليمات قيادة الحملة بعدم السفر من الصعيد إلى القاهرة دون تصريح؛ تقول الوثيقة:
 "من محفل الديوان الخصوصي بمصر خطابًا إلى حضرة صاري عسكر دجا وكيل
 وفقه الله تعالى للخير
 أما بعد الدعا لكم بخير فإنها حضرت مركب من ناحية منفلوط فيها جماعة تجار وخلافهم، من جملتهم اثنين تجار لهم شركا في خان الخليلي، وهما محمد قرا جوز وأحمد لاظ، كانوا توجهوا الحجاز من طريق السويس في البحر من مدة ستة أشهر، وأقاموا بناحية منفلوط المدة المذكورة فبعد إقامتهم بمنفلوط خضروا إلى مصر ببضايعهم وتجارتهم وجوارهم، ومن جهلهم وعدم معرفتهم بأوامركم، حضروا إلى مصر بغير فرمان من حاكم الصعيد؛ فبسبب ذلك حبسوهم في القلعة مع اثني عشر نفس غشيم أتراك كانوا بصحبتهم في المركب، اجتمعوا مع بعضهم في مركب واحدة خوفًا من البدوان قطاع الطريق، ولم يكون في يدهم سلاح يدافعوا به عن أنفسهم البدوان.
 هذه قصتهم شهدوا بها أعيان التجار بمصر من شركاهم وخلافهم، واعترفوا عندنا بالديوان بأنهم ليسوا من أهل الشبه، وإنهم ناس تجار، ودمتم بخير، والمقصود تفرجوا عنهم رعاية لجناب الله.
 في 24 الحجة سنة 1213              الفقير                                   الفقير
                                        محمد المهدي                             عبد الله الشرقاوي
                                        كاتم سر الديوان                             رئيس الديوان"

والمصدر الثاني الذي يقدم لنا تفاصيل عن نظام عمل الديوان تلك الكراسات التي دونها الشيخ إسماعيل الخشاب كاتب الديوان، والتي قدم فيها لنا من خلال وظيفته ككاتب للديوان ملخصًا لجلسات ووقائع اجتماعات الديوان؛ وقد نشر هذه الكراسات البروفسيور أندريه ريمون المؤرخ الفرنسي الكبير والدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة، منذ عدة سنوات، وتحمل هذه الكراسات عنوان " التاريخ المسلسل في حوادث الزمان ووقايع الديوان"، وقد صدر النص المحقق عن المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، في كتاب يضم نصين منفصلين، لكنهما نصان مترابطان كل منهما يكمل الآخر، وهما عبارة عن مخطوطتين، الأولي كانت معروفة منذ فترة طويلة، وتتكون من 44 ورقة، وهي من مقتنيات المكتبة الوطنية الفرنسية، وتحتوى وقائع ديوان مينو في شهره الأخير، وهي وقائع الجلسات التي تغطي الفترة من 6 يونيو إلي 6 يوليو سنة 1801، وتحمل الأرقام من 21 إلي 31 من دواوين الوكيل الثاني ـ جيرار ـ الذي تولي هذا المنصب في 10 إبريل سنة 1801، أي أن المخطوطة تغطي وقائع الجلسات الإحدى عشرة الأخيرة للديوان؛ أما المخطوطة الثانية، فقد اكتشفت في عام 1998 ضمن بعض الأوراق القديمة في مخزن بأحد المنازل القديمة في بار لو دوك، في منطقة ميز بفرنسا، وقد استقرت هي الأخرى ـ الآن ـ بالمكتبة الوطنية بباريس، وهي عبارة عن 265 صفحة تضم الجلسات العشرين الأولي للديوان، والتي تغطي الفترة من 3 نوفمبر إلي 30 ديسمبر سنة 1800؛ ومن هنا، فإن المخطوطتين جزءان من عمل واحد: وقائع جلسات الديوان في مرحلته الأخيرة، والنصان منسوبان إلي إسماعيل الخشاب.

 يبدأ هذا النص الفريد بعد الافتتاح التقليدي بالإشارة إلى تشكيل الديوان وتحديد أعضائه، ثم يذكر الخشاب وقائع جلسات الديوان بداية من الجلسة الأولى التي تم فيها اختيار الشيخ الشرقاوي رئيسًا للديوان والشيخ محمد المهدي كاتمًا للسر، وهي الجلسة التي تم فيها كذلك الاتفاق على دورية انعقاد الجلسات ونظام العمل فيه، ويؤرخ الخشاب جلسات الديوان بالتقويم الهجري والتقويم الجمهوري الفرنسي معًا، ويسمي كل جلسة من الجلسات ديوانًا، ويسرد في كل ديوان ملخصًا لما جرى من مناقشات حول الموضوعات المطروحة على الأعضاء، وما صدر عنه من توصيات وقرارات.
 وجلسات الديوان تقدم تفاصيل دقيقة لجوانب متنوعة من حياة المصريين، خاصة القاهريين منهم في الأشهر الأخيرة للحملة الفرنسية في مصر، وهي جوانب تغفلها المصادر التاريخية التقليدية عادة، وتدور كثير من القضايا التي يناقشها الديوان حول شكاوى الناس الذين يلجئون إلى الديوان كوسيط بينهم وبين سلطة الاحتلال لرفع الظلم الواقع عليهم، وكان الديوان يبادر برفع الشكاوى إلى قائد الحملة (صارى عسكر) أو وكيله، مثلما كشفت عنه وثائق جامعة القاهرة.
 وهذه بعض مشاهد مما  كان يدور في جلسات الديوان:
المشهد الأول: جلسة إجراءات
 يذكر الخشاب في عرضه لوقائع الجلسة الأولى من جلسات الديوان كيف تم اختيار رئيس الديوان وكاتم سره بالانتخاب الذي يسميه القرعة، فيقول: "وبدأ بذلك في اليوم المبارك الموافق لاثني عشر شهر برومير الثاني من أشهر السنة التاسعة من المشيخة الفرنساوية، الموافق لخامس عشر شهر جماد الثاني سنة خمس عشر ومائتين وألف، وانعقد الاجماع في ذلك المجلس المنيف وحفل الديوان الشريف على أن يكون العلامة الشيخ عبد الله الشرقاوي رئيس الديوان، والعلامة الشيخ محمد المهدي كاتم سر الديوان، وأن يكون الشيخ الفاضل عبد العال جاويشًا للديوان المرقوم، كل ذلك بالقرعة على جاري العادة في ذلك، بحضرة الوكيل واحتماع كلمة مدبرين الديوان بالقرعة على ذلك، ولما تم الحال على هذا المنوال، إلتمس حضرة الكمساري وكيل الديوان من رؤساء الديوان وأهله أن يكتبوا بذلك عرضًا إلى حضرة ساري العسكر يعلموه بذلك، ووقع التوافق في ذلك المجلس على أن يكون الديوان في كل ثلاثة أيام مبدأها يوم تاريخه، وأن يكون الحضور قبل الظهر بثلاث ساعات، وأن تكون مدة الجلوس بحسب الداعي، وطلب منهم أن يكتبوا كذلك إلى حضرة الجنلار ـ يقصد الجنرال ـ الكبير والهمام الذي ليس في همته وشجاعته نظير، ساري العسكر بونابارته، ذو الهمة العالية، ومدبر جمهور العساكر الفرنساوية، يهنوه فيه بالنصر على سائر القرانات، ويهدون إليه فيه صالح الدعوات، فأجابوه إلى ذلك".

المشهد الثاني: رسالة أهل الديوان إلى ساري عسكر بونابارته
  تأجل تحرير رسالة الديوان إلى بونابرت حتى الجلسة الرابعة التي انعقدت يوم الأربعاء 24 جماد آخر سنة 1215، الموافق 21 برومير سنة 9 وفقًا لتقويم الثورة الفرنسية، ففي تلك الجلسة وضع الشيخ محمد المهدي لنفسه كرسيًا بوسط الديوان وجلس عليه ليقرأ على الأعضاء نص الخطاب الذي صاغه بناء على تكليفهم ليرسلوه باسمهم وباسم شعب مصر إلى "حضرة عزيز المقام المشهور بين الخاص والعام عظيم العظماء والكبراء ... الجناب المهاب الأعظم، والمخصوص بالرأي التام بين الأمم، أمير الجيوش الفرنساوية على الإطلاق، والمنظور إليه في جميع الأقطار الآفاق، حضرة الجنلار بونابارته"، وبعد الديباجة الطويلة التي تحوي ألفاظ التفخيم والتعظيم والدعاء لبونابرت بالنصر وبلوغ الآمال، يبدأ نص الرسالة الذي يتشوق فيه مشايخ الديوان لرؤية طلعة بونابرت البهية في مصر مرة أخرى فتقول الرسالة: "وبعد مزيد الأشواق برؤياكم وتمني التلاقي بمحاسنكم ومزاياكم، فإن جنابكم أيها الأمير الجزيل شرفًا، الجميل لطفه وظرفه، أوعدتمونا مرارًا عديدة وفرحتونا بأقوالكم السديدة وألفاظكم السعيدة، بأن عينيك دائمًا ملاحظان لهذه البلاد، ونحن نتحقق وفاء وعدكم، إن الله لا يخلف الميعاد، خصوصا وأن الله سبحانه وتعالى أراد تمام كلما تقولونه على الإجمال".
الشيخ المهدي
 وينتقل مشايخنا الأجلاء لمخاطبة بونابرت باسم الشعب المصري كله: "كل سكان القطر المصري من أمراء وأعيان ومن سائر أحبابنا الذين يعز علينا نجاحهم ونحبهم من الإخوان، وأهل أنواع التجارة، وأرباب الصنائع في جميع مدائنهم والبنادر، أصحاب الفضائل والعلوم، وأرباب المحامد والمفاخر، والمشتغلين بالفلاحة والزراعة، وسائر النساء التي صان الله عرضهن على يديكم الشهيرة بالفروسية والشجاعة، وكامل الفقراء والمساكين، وجميع الشباب والشيوخ من الأغنياء والمقترين هم باتفاق واحد بنا إليكم متوسلين، وعلينا في مخاطبتكم معولين وبنا مستعينين، لكونهم يفهمون خطابنا ونفهم خطابهم، وجعلتونا حين كنتم عندنا واسطة بينكم وبينهم ونحن وإياهم جميعًا مبتهلون، وإلى الله راغبون طالبين من فضل رب العالمين أن تكونوا دائمًا على أعدائكم منتصرين ظافرين ولفعل الخيرات متعطفين محبًا وعضدًا للفقراء والمساكين، موقرًا مكرمًا ومعضدًا لديننا الأمجد الأجل، من حيث أنك قدمت فأعطيت لسانًا أكمل للوقار والاعتبار لحريمنا، إذ أنه أمر مهم من بعد الدين لا يوجد عندنا أعز منه..... قد عاملتنا وقت افتتاحك مصر وانتصارك معاملة أناس كأنهم اختاروك عليهم مع قوتك واقتدارك .... فنشكرك ونحمد الله حيث أنك تصدرت لمنع كامل الأضرار والأوصاب التي كان يمكن حدوثها علينا، وعاقبت فاعليها في أوقات الاضطراب، والفرنسيس طبعهم لا يميل، ولم يسرعوا وراء المظالم ".
 ويؤكد رجال الديوان مرة أخرى على رغبتهم في عودة بونابرت إلى مصر: "وأنتم سترجعون للقطر المصري، إنشاء الله أمنين، وأنت ظهرت عندنا لمحة نظير برق لامع من قبل الله الحق، وغبت عنا بغتة كأسرع ما يكون البرق، إذ أخبرتنا بأن موضوعًا آخر يدعوك إليه، وأنت تتوجه إلى حيث ما تكون رشيدًا مفيدًا منصورًا مؤيدًا بعون الله، معتمدًا عليه، وقد بلغنا الفرنساوية أحبابنا الذين سرورنا يسرهم وسرورهم يسرنا، فرّحونا بأنكم توجهتم وقصدتم الحصول على نصرة عظيمة جدًا ... وها قد غلبتم فحمدنا الله على نصرتكم ونجاح مقصدكم ... والآن نخبركم من خالص الطوية تصديقًا لمقالنا بأن الطائفتين المصرية والفرنساوية لا يعدان الآن سوى رعية واحدة، مع وفور المحبة وصدق النية، ولا زال هذا الاتحاد يشتد يومًا فيومًا في سائر الأوقات وذلك باعتناء محبنا وعزيزنا عبد الله مينو الجزيل إكرامه بين المخلوقات... فنحمد الله على أنه اشتاقكم لأن تحكموه وتقرروه وتختاروه على أن يسوسنا ويلاحظنا ويحفظنا ويرعانا ويقوم بحقوقنا وحقوق فقرائنا، ويجعلنا عباد الله إخوانا."
 هكذا تحدث مشايخ الأمة وممثلوها... لكن الأمة نفسها كان لها رأي آخر!
المشهد الثالث: وحانت ساعة الرحيل
 لم تمض إلا  شهور قليلة وكان قد تم توقيع الاتفاق بين الإنجليز والأتراك والفرنسيين على رحيل الحملة من مصر، وعقد الديوان جلسته الأخيرة وهي "الديوان الحادي والثلاثون"، وقد انعقدت تلك الجلسة يوم الاثنين أربعة وعشرون صفر سنة ألف ومائتين وستة عشر الموافق لسابع عشر مسيدور من السنة التاسعة من المشيخة الفرنسية، وبدأت الجلسة في الثانية، وقد دعي لحضور الجلسة جمع غفير من مشايخ أروقة الأزهر الشريف وحسين أفندي الروزنامجي المشرف على الإدارة المالية وعدد من معاونية، وبعض رجال الأوجاقات، وطائفة من التجار المصريين، وغيرهم من أهل البلد، فقد كان مقررًا أن تشهد الجلسة حدثًا جلالًا؛ الإعلان عن خروج الجيوش الفرنسية من مصر وعودة العثمانيين مرة أخرى، وفي هذه الجلسة حضر من الجانب الفرنسي ستيف المسؤل المالي للحملة والذي كان المصريون يسمونه خازندار عام، كما حضر وكيل الديوان والتراجمة كالعادة.
 جاء وكيل الديوان الفرنسي حاملًا معه رسالة من مينو قائد الحملة إلى أعضاء الديوان، فسلمها للشيخ الشرقاوي رئيس الديوان، وطلب منه أن يفتحها ليقرأها الترجمان على الحاضرين، وللأسف يذكر الخشاب مختصرًا للرسالة، جاء فيه: "نخبركم أنا علمنا بكثرة الانبساط أنكم تهدؤا بكثرة الحكمة والإنصاف في الوضع، والتنظيم لأهالي البلد بالهدي والطاعة الموجبة لحكومة الفرنساوي، وأخبرنا المقدام الجسور بونابارته عن كل ما فعلتم حكمًا نافعًا، بوصاية لأجلكم سارة واستراحة لتلك الفعال الجيدة، وعرفني عن قرب يرسل لكم جواب إلى جميع مكاتيبكم."
 ثم يوصي مينو رجال الديوان على ولده وزوجته زبيدة الرشيدية، ويحمل الديوان تعازيه للست نفيسة في وفاة زوجها مراد بيك، وينهي الرسالة بأمره للمشايخ بملازمة وظائفهم.
 وخلال تلك الجلسة يتحدث جيرار وكيل الديوان الفرنسي طويلًا عن حب بونابرت للمصريين، ويؤكد ثانية على أن رده على رسالة الديوان سيصل خلال أيام، ثم يلتفت إلى الشيخ الشرقاوي، ويسأله: "تشهد بما أقول أن حضرة سر العسكر بونابارته عزم على أن يتوجه معك إلى البيمارستان لينظر في مصالح الضعفاء؟ فرد الشيخ الشرقاوي قائلًا: وكان أخبرنا أنه يريد يبني مسجد. فقال: لم يعقه عن هذا إلا توجهه إلى الشام."
 وألقى القس رفاييل كبير التراجمة كلمة تحية لأعضاء الديوان أشاد فيها بجهودهم وتعاونهم مع الفرنسيين، ويختم كلمته بقوله: "نحن نشترك معكم إن كان في السعودات أو في النحوسات، ونسأله نجاح الرعايا وخصوصًا رعية مصر ذات العذوبة والحلاوة، التي يستحق أن تكون مساسة بحكام ذوي حكمة، من حيث أننا عشنا معهم بالسوية مدة مديدة كأننا عائلة واحدة."
 أما ستيف فقد ختم الجلسة بكلمة طويلة تحدث فيها عن ما قامت به الحملة في مصر، وختمها بقوله: "فلم نحتاج نعرفكم الذي تعرفوه، ويكفينا أننا نحقق لكم من عند حضرة القنصل الأول، ومن سر عسكر مينو المحبة والشفقة الصادقة، وهذه المحبة والعشم لم تنقطع بسبب سفر جانب من الجيش، وهلبت أن يصادف يوم إننا نرجع إلى عندكم لأجل تمام الخير الذي يصدر من حكم الفرنساوي، والذي لم أمكننا نتمه، فلم تتوهوا يا مشايخ وعلماء لأن فراقنا لم يقع إلا عن مدة، وذلك محقق عندي، ولابد أن دولتينا يربطوا ثانيًا في مدة قريبة المحبة القديمة التي كانت بينهم، وهلبت أن دولة العثمنلي لما تصير على الجرف الخالي الذي عملة الإنجليز، يروا أن الفرنساوية في طلبة الديار المصرية لم له إلا يربط بزيادة في المحبة صحبتهم لأجل كسر نفس الإنجليز، الذي مراده نهب جميع البحور ومتاجر الدنيا".
 وانصرف المشايخ والحاضرون وكان هذا آخر دواوين الجمهور الفرنساوي وفق ما ذكره الشيخ إسماعيل الخشاب.
مقالي المنشور بمجلة ديوان عدد يوليو 2019

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...