السبت، 20 فبراير 2016


صانع التاريخ مؤرخًا

عماد أبو غازي

 قديمًا كانت صفة المؤرخ تطلق على من يدون الأحداث التي يعاصرها ويعايشها، مثلما كان هيردوت أبو التاريخ كما نسميه يفعل؛ كان المؤرخ بمفهوم ذلك الزمن البعيد أقرب إلى الرحالة أو المدون المتابع للأحداث اليومية، كان أقرب إلى شاهد العيان، وفي زمن تالٍ كان المؤرخ يعود إلى الماضي مسجلًا حوادثه، هكذا كان مؤرخو العصور الوسطى من أمثال ابن قتيبة وأبو جرير الطبري وابن الأثير، كان هؤلاء موثقين مسجلين لما يعيشونه من أحداث، وفي نفس الوقت جامعين منقبين عن ما وقع في ماضيهم القريب أو البعيد، لكن معظم هؤلاء المؤرخين لم يعتمدوا على منهج علمي في جمعهم للحوادث، ولم يلجأ أغلبهم إلى نقد ما يتجمع لديهم من حكايات ومرويات، إلى أن جاء القرن الخامس عشر الميلادي وفيه بزغ نجم اثنان من أبرز مؤرخينا، عبد الرحمن بن خلدون وتقي الدين المقريزي، حيث وضع الأول إطارا منهجيا لكتابة التاريخ، ونجح الثاني في أن يطبق هذا الإطار المنهجي باقتدار، بل ويضيف إليه، وفي ذلك العصر الذي ازدهرت فيه الكتابة التاريخية، عرفنا فئة من المؤرخين كانوا في ذات الوقت من صناع التاريخ، أي أنهم بحكم قربهم من الحكام أو مشاركتهم في دوائر الحكم كانوا مساهمين في صنع التاريخ، وفي الوقت نفسه كانوا ممن يسجلون التاريخ، تاريخ زمنهم، وحوادث الماضي.

 ولاشك في أن محمد حسنين هيكل يعد أحد صناع التاريخ المصري الحديث والمعاصر، فقد كان فاعلا أساسيًا في كثير من الأحداث المهمة، فضلا عن كونه شاهدًا على تاريخ مصر والمنطقة العربية، على الأقل طوال سبعين عامًا؛ فقد بدأ هيكل عمله الصحفي عام 1942 قبل أن يكمل عامه العشرين، وتنقل بين الإيجيبشيان جازيت وآخر ساعة وأخبار اليوم ثم الأهرام التي ارتبط اسمه بها منذ تولى رئاسة تحريرها منذ أغسطس 1957 حتى فبراير 1974 وارتبط اسمه بها كما ارتبطت الأهرام الجريدة والمؤسسة به، ولا زلت أذكر نداء بائع الصحف في الستينات كل يوم جمعة "أهرام هيكل".

 طوال سنوات عمله الصحفي لم يكن هيكل مجرد مخبر صحفي أو مراسل أو محرر أو كاتب أو صانع صحافة، كان أكثر من ذلك بكثير، ليس على المستوى الصحفي المهني الذي نبغ قيه وتفوق، بل على مستوى علاقته بالأحداث المهمة والفاصلة في تاريخ مصر والمنطقة العربية بل وفي تاريخ منطقة شرق المتوسط وجنوب أوروبا، فقد اختار اختراق الحواجز والصعاب، فكانت أول جائزة صحفية يحصل عليها على تغطية صحفية متميزة لوباء الكوليرا الذي ضرب محافظة الشرقية في أواخر الأربعينات، ثم دفعت به تغطيته لحرب البلقان ثم حرب فلسطين سنة 1948 إلى قلب الأحداث السياسية الكبرى، وفي حرب فلسطين كان اللقاء الأول بجمال عبد الناصر أثناء حصار القوات المصرية في الفالوجا، هذا اللقاء الذي تكرر إلى أن أصبح علاقة تاريخية قوية بين قائد تنظيم الضباط الأحرار ورئيس الجمهورية الثاني لمصر وبين الكاتب الصحفي والمفكر محمد حسنين هيكل، جعلت هذه العلاقة التي توطدت قبل أن يتولى عبد الناصر قيادة البلاد عقب انتصاره في أزمة مارس 1954 من هيكل قريبًا من مركز اتخاذ القرار في مصر لسنوات، بل مشاركًا في القرار في كثير من الأحيان، ورغم أن علاقة هيكل بالرئاسة تراجعت في زمن الرئيس السادات حتى وصلت إلى اعتقال هيكل في سبتمبر 1981، الذي أسماه هيكل "خريف الغضب"، إلا أن قامة هيكل وقيمته كصاحب رؤية سياسية لما يدور على أرض الوطن وفي المنطقة العربية وعلى ساحة الصراع الدولي لم تتراجع، بل يمكن القول بحق أن الأزمات أضافت لهيكل ولم تنتقص منه.


 وقد أتاح اقتراب هيكل من السلطة أن يحصل على كثير من صور لوثائق ومستندات وصلت إليه بحكم صلته بالرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات، لقد اقترب الرجل من مواقع السلطة في مرحلة حاسمة في تاريخنا وكان فاعلا فيها بدرجة كبيرة دون أن يتطابق معها، كل هذا أهل محمد حسنين هيكل لأن يكون إلى جانب صفته الأصيلة كصحفي، ودوره كسياسي ومشارك في صنع الحدث، شاهدا على التاريخ وللتاريخ، ومؤرخًا لعصرنا.


 وإذا كانت شهادة هيكل على العصر تعد وثيقة حية عن مرحلة غابت وثائقها عن أرشيفنا القومي، فإن هيكل في كتاباته المتعددة يعتبر بحق مؤرخ ممتلك لمنهج تحليلي نقدي يتعامل مع الوثائق كمصدر رئيسي للتأريخ، إلى جانب اعتماده على ذاكرته الحية كمشارك في الأحداث أو شاهد عليها.

 ورغم أن كتابات محمد حسنين هيكل وأحاديثه في مجملها تعد مصدرًا تاريخيًا، إلا أن من بينها ما يمكن أن نعتبره دراسة تاريخية منهجية بحق فضلا عن كونها كتابة سياسية تحليلية، فقد كتب هيكل العديد من الكتب التي تناول فيها تاريخنا بعين المحلل السياسي والمشارك في الأحداث في آن واحد، ولعل من أهمها ثلاثيته "ملفات السويس" و"سنوات الغليان" و"الانفجار"، تلك الثلاثية التي تناولت حرب الثلاثين عاما من أجل السيطرة على المنطقة العربية، والتي أكتمل صدورها في عام 1990، ومن هذه الأعمال كذلك "أكتوبر 73 السلاح والسياسة"، ثم كتابه عن حرب فلسطين سنة 1948 "العروش والجيوش" بجزئية.


 ورغم أن هيكل يقول في مقدمة 1967 الانفجار أن العمل يتضمن "قراءة التاريخ وليست كتابته، وتنشيط الذاكرة وليس إصدار الأحكام"، وإذا كان هيكل يرى: "إن الصحفي ليس في مقدوره أن يكتب التاريخ، فتلك مهمة أكبر من طاقته، وأوسع من أي تحقيق يقوم به في حدث بذاته، ولعلها أبعد من عمر أي إنسان فرد ، ثم إنها أعقد من أن تحتويها دفتا كتاب واحد. وإنه حتى وإن كان أحد شهود الحدث الذي يكتب عنه يستطيع أن يقدم شهادة تاريخية لكن الشهادة التاريخية ليست تاريخا وإنما هي إن صدقت تصلح لأن تكون مادة تاريخية أي عنصرا من العناصر وزاوية من زوايا النظر حين يكتب التاريخ." إلا أن ثلاثية "حرب الثلاثين سنة"، وغيرها من كتبه التي تناول فيها مراحل الصراع العربي الإسرائيلي، هي كتابة للتاريخ بجداره، يطبق في هيكل بمهارة وحرفية منهج البحث التاريخي الذي يقوم على التحليل والتركيب، إنها كتابة تاريخية تعتمد على الوثائق تحللها وتستنطقها، وتعيد ترتيب المادة المستخلصة منها لتشكل بها بناءً تاريخيًا مكتملا، فإن ما قدمه في هذه المجموعة من الأعمال المتوالية لم يكن تحقيقا صحفيا، ولم يكن مجرد شهادة تاريخية، بل عملا في التأريخ للصراع في المنطقة ـ منطقة الشرق الأوسط ـ وعليها، كما كان مشروعه في البداية في عام 1985، عندما اقترح عليه ناشره البريطاني أن يستبدل بفكرة هذا الكتاب عن الشرق الأوسط كتابا عن حرب السويس في ذكراها الثلاثين.

  ورغم أنه حقق رغبة ناشره بالتأليف عن حرب السويس بعد ثلاثين عامًا من وقوعها، إلا أنه ربطها تاريخيًا بما قبلها وما بعدها؛ فقد كان يرى أن: "السويس كانت قمة صراع بدأ قبلها بسنوات طويلة ثم استمر بعدها وتصاعد حتى قمة 1967، ولم يتوقف تصاعده حتى جاءت سنة 1973، وبعدها بسنوات بدا أن مرحلة بكاملها في الشرق الأوسط قد وصلت إلى نهايتها، وأوشك الستار أن ينزل عليها ليرتفع إلى مرحلة جديدة لا أحد يعرف متى وأين وكيف بدايتها؟"، وأن "السويس وحدها لا تقول القصة كاملة للصراع على الشرق الأوسط وفيه، والصراع كله يستحق أن يعالج، وليس السويس وحدها وإلا فإن الموضوع مبتور وناقص!"

 وهذا ما حققه العمل بالفعل، لم يأت في صورة سرد صحفي، بل تحليل سياسي تاريخي، وضع هيكل في مكانة بارزة بين طائفة المؤرخين، إلى جانب مكانته بين الصحفيين والمحللين السياسيين.

 ما يميز هذه الأعمال لمحمد حسنين هيكل أنه كتبها بعد الحدث بسنوات، وإنها اعتمدت على الوثائق بدرجة كبيرة، ورغم أنه كما يقول تباعد مرات عن الحديث وترك الوثائق وحدها تحكي ما عندها، إلا أن صوته يظهر محللًا وقارئًا للوثائق الأصلية، فاكتسبت بذلك خصائص الكتابة التاريخية.

 يبقى السؤال، هل كان هيكل منحازًا في كتابته، لقد أشار بوضوح في مقدمته لملفات السويس إلى أن: "الذين يعيشون الحوادث هم في أغلب الأحيان آخر من يصلح لتأريخها، ذلك لأن معايشتهم للحوادث تعطيهم على الرغم منهم دورا، والدور لا يقوم إلا على موقف، والموقف بطبيعته اقتناع، والاقتناع بالضرورة رأي، والرأي في جوهره اختيار، والاختيار بدوره انحياز، والانحياز تناقض مع الحياد وهو المطلوب الأول في الحكم التاريخي."

 لكن هل هناك مؤرخ محايد، أو باحث في التاريخ بلا انحياز، أشك في ذلك، فكل العاملين في حقل الإنسانيات والدراسات الاجتماعية لهم انحيازاتهم، وهذا الانحياز لا يعيب بحثهم ولا ينتقص منه، طالما أن هذا الانحياز لا يؤثر على الموضوعية، ولا يدفع بهم إلى إخفاء وثيقة أو اختلاق واقعة.

 وأتذكر هنا ما أكد عليه الأستاذ محمد حسنين هيكل في أحاديثه بقناة الجزيرة منذ عدة سنوات عندما قال: "سئلت كثيرا جدا عما إذا كنت أنا منحازا أو غير منحاز، وأنا بأقول بوضوح كده، نعم أنا منحاز، ولكن مسألة الانحياز لا بد أن توصف، أخجل من انحيازي إذا كان انحيازا لنظام أو انحيازا لرجل لكني لا أخجل من انحيازي إذا كان انحيازا لوطن ولأمة، وأنا أتصور برضه ويشفع لي تجربة طويلة يعني هو أني واحد بلا مطامع، أن أقول إنه حتى هذه اللحظة أنا أقدر أتكلم في هذا الموضوع وأقول والله أنا منحاز ومنحاز لوطن وأمة وليس لرجل وشخص"، كما أكد أيضا على أن ما يقدمه محاولة للتحليل والفهم عندما قال: "بترجى أنه لا أحد يتصور أنه في أحد يملك حقيقة ولا في أحد يملك حكمة ولكن كلنا بنحاول".

  إن كتابات هيكل حول الصراع في المنطقة وعليها محاولة ناجحة في التأريخ جعلت من صانع التاريخ مؤرخًا.

الجمعة، 19 فبراير 2016


إسماعيل الخشاب

 شاهد على زمن الحملة الفرنسية في مصر

عماد أبو غازي
http://www.al-ain.net/article/71681

  إسماعيل بن سعد الخشاب أحد أبرز الأدباء والمؤرخين الذين عاشوا في مصر في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وكان الخشاب ثالث ثلاثة من أعلام التأريخ والأدب في ذلك العصر ممن تركوا بصمة واضحة في تاريخ مصر، فقد كان الرجل معاصرًا للمؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي كما كان صديقًا مقربًا له، أما ثالث علماء ذلك العصر الذين برزوا في مجال الأدب والتأريخ فهو الشيخ حسن العطار والذي أصبح شيخًا للجامع الأزهر في عصر محمد علي، وهو الذي رشح رفاعة الطهطاوي رائد التنوير المصري ليكون إمامًا لطلاب بعثة محمد علي باشا إلى فرنسا، وكان الطهطاوي تلميذًا للشيخ العطار، وقد ترجم الجبرتي للخشاب والعطار فقال عنهما: "كانا فريدا وقتيهما ووحيدا مصرهما لم يعززا في ذلك الوقت بثالث، فقد برعا في كل فن من الفنون الأدبية والتواريخ والمحاضرات..."


 وقد ولد الخشاب في القرن الثاني عشر الهجري الثامن عشر الميلادي، وإن كان تاريخ ميلاده على وجه التحديد مجهولًا، وتوفى في الثاني من ذي الحجة سنة 1230 هجرية الموافقة لسنة 1815 ميلادية، والخشاب هو إسماعيل بن سعد الوهبي الحسيني الشافعي وقد عرف بالخشاب لأن أباه كان نجارًا ففتح له مخزنًا لبيع الخشب تجاه تكية الجلشني بالقرب من باب زويلة، ويذكر الجبرتي أن الخشاب قد حفظ القرآن في صباه، وتتلمذ على بعض فقهاء عصره، وبرع في فقه الأمام الشافعي، واشتغل بالشهادة في المحاكم.


 لكن العمل لم يحل بين الخشاب وبين اهتماماته بالأدب والكتابة؛ فواظب على مطالعة الكتب الأدبية وكتب التصوف والتاريخ، وحفظ كثيرًا من الأشعار والطرائف وقصص الصوفية، وقد أصبح الخشاب من أبرع المحاضرين والمحاورين في عصره فجالس العلماء والكتاب والأدباء والأمراء، كما كان شاعرًا وكاتبًا وأديبًا، وله ديوان يحوي أشعاره جمعه صديقه الشيخ حسن العطار في حياته، وطبع بعد وفاته.

 كان الخشاب مثل زميليه الجبرتي والعطار رجلًا ناضجًا عندما وصلت الحملة الفرنسية لاحتلال مصر في صيف سنة 1798، وكانت لكل واحد من الأصدقاء الثلاثة قصته مع الحملة الفرنسية ورجالها، فما هي حكاية إسماعيل الخشاب مع الحملة؟

 عندما استقرت الأمور للحملة الفرنسية في معظم أنحاء البلاد باستثناء الصعيد، بدأت في التعرف عن قرب على أوضاع مصر، لقد كان اهتمام الفرنسيين بمصر وأحوالها سابق على حملة بونابرت، كما كان التحضير للحملة يحتاج إلى تقصي الكثير من أخبار البلاد وأحوالها؛ لكن بونابرت اصطحب معه مجموعة من العلماء لدراسة أوضاع مصر، وقد أسفرت جهودهم  عن عمل علمي ضخم صدر بعد رحيل الحملة عن مصر بعدة سنوات: كتاب "وصف مصر"، وقد استعان علماء الحملة الفرنسية في تأليفهم لكتاب وصف مصر بعدد من المصريين تعرفوا من خلالهم على بعض التفاصيل الدقيقة للحياة في مصر؛ حيث اتبع الفرنسيون أسلوب توجيه أسئلة محددة إلى بعض العلماء المصريين وبعض كبار الموظفين ليتحصلوا من خلال إجاباتهم عن تلك الأسئلة على ما يحتاجون إليه من بيانات لتأليف كتاب وصف مصر، وكانت الإجابات عن هذه الأسئلة تقدم كتابة باللغة العربية لعلماء الحملة، ليقوموا بترجمتها وتحليل ما تحويه من بيانات.


 وقد حفظت المكتبات المصرية والفرنسية ثلاث مخطوطات تحمل إجابات مصرية على أسئلة فرنسية، كانت هذه المخطوطات تأخذ عادة شكل الأسئلة والأجوبة، ومنها مخطوطة بعنوان "ترتيب الديار المصرية في عهد الدولة العثمانية" عبارة عن مجموعة من الإجابات قدمها حسين أفندي الروزنامجي أحد أفندية الروزنامة، وهي الإدارة المالية في الدولة، ردًا على أسئلة وجهها له استيف المسؤل المالي في الحملة الفرنسية، وتتضمن إجابة حسين أفندي الروزنامجي تفاصيل النظام المالي والإداري الذي كان سائدًا في مصر في العصر العثماني، وقد نشر هذا المخطوطة المؤرخ المصري الكبير الأستاذ شفيق غربال في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي في مجلة كلية الآداب بالجامعة المصرية، أم المخطوطة الثانية للشيخ أحمد العريشي قاض قضاة مصر زمن الحملة الفرنسية، وهو أول من يتولى هذا المنصب من المصريين منذ الاحتلال العثماني لمصر، وتتضمن ردوده عن الأسئلة التي وجهها له علماء الحملة حول النظام القضائي في مصر العثمانية، وتحمل عنوان "دفتر علم وبيان طرق القضاة وأسماؤهم بمصر المحروسة وأقاليمها" وقد نشره الأستاذ الدكتور محمد نور فرحات كملحق لدراسة له عن القضاء في مصر العثمانية، أما المخطوطة الثالثة فكتاب "أخبار أهل القرن الثاني عشر الهجري" للمؤرخ والأديب والشاعر إسماعيل الخشاب.

 وإذا كان علماء الحملة وقادتها قد توجهوا بأسئلتهم حول النظم الإدارية والمالية لمن عينوه رئيسًا للجهاز المالي والإداري، وتوجهوا بأسئلتهم حول نظام القضاء لقاضي قضاة مصر الذي نصبوه في هذا الموقع؛ فقد لجأوا في التعرف على تاريخ مصر القريب للشيخ إسماعيل الخشاب الذي توطدت علاقته بالحملة من خلال عمله كاتبًا للديوان الذي أسسه بونابرت وجمع فيه بين قادة الحملة وممثلين عن طوائف المصريين؛ فقد توجهوا إليه ليستعينوا به في التعرف على تاريخ مصر في القرن السابق على مقدم الحملة، فكانت إجابته عليهم من خلال مخطوط أخبار أهل القرن الثاني عشر الهجري، الذي استهله بعبارة افتتاحية تؤكد أن ما كتبه كان إجابة على سؤال موجه إليه حيث يقول:

"بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي، والحمد لله الذي دلت مصنوعاته على قدرته، وهدى من شاء بما أبدع من حكمته إلى شهود وحدانيته، والصلاة والسلام على أشرف خلقه ونوابه، وعلى آله وأصحابه، وبعد، فقد سألتني أرشدك الله من العمل إلى صوابه، وفتح لك باب الخير، وسلك بك ما يوصلك إلى بابه، أن أجمع لك جزءًا يشتمل على بعض أخبار القرن الثاني عشر، مما شاهدته عيني، أو نقلته عن من غير ذي جبت، إلى ذلك مستمدًا من فيض الملك الوهاب سلوك الصواب، إنه ولى ذلك وبه الإعانة على جميع ما هو مالك."

 هذا وقد استفاد علماء الحملة بالفعل من هذا العمل، فقد اعتمد عليه لابورت مؤلف القسم الخاص بتاريخ مصر في العصر العثماني ضمن كتاب وصف مصر اعتمادًا كبيرًا، ومخطوط أخبار أهل القرن الثاني عشر الهجري كما يتضح من عبارته الافتتاحية إجابة عن سؤال حول تاريخ مصر في السنوات السابقة على الحملة الفرنسية، وقد راعى فيه مؤلفه الشيخ إسماعيل الخشاب الإيجاز والاختصار مركزًا على الحوادث الأساسية للقرن الثاني عشر الهجري فصاغها وقدمها في سرد موضوعي يساعد على متابعة الحوادث والوقائع.


 ورغم وقوع الخشاب في بعض الأخطاء فيما يتعلق بتحديد تواريخ بعض الحوادث، خاصة تلك التي لم يعاصرها بنفسه، فإن المخطوط يكشف كثيرًا من جوانب تاريخ مصر في القرن الثاني عشر الهجري، ويرصد الخشاب في كتابه ملامح التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيه، فيكشف المخطوط عن الصراع العنيف بين أوجاقات الحامية العثمانية في مصر، وبينهم وبين بكوات المماليك، ومن الأمور التي يلقي عليها الخشاب الضوء تعاظم دور العلماء ورجال الأزهر في الصراعات السياسية، وتصديهم المستمر لبطش المماليك بالشعب، ويرصد كذلك في بعض المواضع موقف عامة المصريين من تلك الحوادث، كما لم يغفل الخشاب رصد بعض الحركات المهمة مثل حركة علي بك الكبير والتي كانت تهدف إلى استقلال مصر عن الحكم العثماني، وحركة الهمامية في الصعيد، كما أشار إلى علاقة علي بك الكبير بضاهر العمر في فلسطين والتحالف الذي قام بينهما، وسجل كذلك بشيئ من التفصيل وصول إبراهيم بك ومراد بك إلى الصدارة، ثم الثورة التي انتهت بإرغامهما على توقيع حجة تفرض عليهما قدرًا من رقابة العلماء ورجال الأزهر عليهما عند فرض الضرائب والرسوم.

 هذا وقد اعتنى الخشاب رغم الإيجاز الشديد، في مؤلفه بذكر تفاصيل دقيقة لم ترد عند المؤرخين المعاصرين له، خاصة بعض التفاصيل المتعلقة بالصراعات بين أمراء المماليك وربما يرجع ذلك إلى اختلاطه بهؤلاء الأمراء، وقد تأثر الخشاب في تدوينه للحوادث التاريخية بثقافته الأدبية الواسعة وإلمامه بالطرف والنوادر، فزود مؤلفه ببعض النوادر والأشعار، ورغم أن النص الذي قدمه الخشاب موجز لا تتجاوز صفحاته الخمسين صفحة من القطع الصغير، إلا إنه مثل إسهامًا مصريًا مهمًا في إعداد الجزء التاريخي من كتاب وصف مصر.

 وللخشاب كتاب آخر طبع محققًا مع ترجمة إلي الإنجليزية عام 1992، بعنوان: "خلاصة ما يراد من أخبار الأمير مراد"، سجل فيه سيرة هذا الأمير المملوكي الذي لعب دورًا مهمًا في تاريخ مصر قبيل مجيئ الحملة الفرنسية على مصر، ثم قاومها في الصعيد بعد مجيئها.


 هذا وقد وفر عمل الخشاب كاتبًا في الديوان الذي أنشأه الفرنسيون الفرصة له لتسجيل وقائع الديوان؛ ويذكر الجبرتي أن الخشاب جمع في أثناء عمله بالديوان عدة كراريس دون فيها حوادث الديوان، استعان الجبرتي بمذكرات الخشاب تلك في تأليفه لتاريخه المعروف بكتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، ويرى بعض الباحثين الذين أرخوا للصحافة العربية أن الخشاب يعتبر أول محرر لصحيفة عربية، صدرت عن الديوان في زمن الحملة الفرنسية، وكانت تحمل الأوامر والقرارات الصادرة عن قيادة الحملة أو عن الديوان، ولهذه الكراسات حكاية أخرى لا يتسع لها المجال هنا.

 لقد عاش الخشاب فترة من أهم فترات التحول في تاريخ مصر الحديث؛ فقد شهد النصف الثاني من القرن الثامن عشر تحولات ثقافية واجتماعية مهمة مهدت لما حدث بعد ذلك في عصر محمد على، وكان الخشاب شاهدًا على تلك التحولات ومعاصرًا لها، كما عاش فترة الحملة الفرنسية بكل ما تركته من أثر على الفكر المصري، بل شارك في أحداثها عن قرب وكان فاعلًا فيها، وربما دفعت به هذه المشاركة إلي اعتزال الحياة العامة عقب خروج الحملة من مصر سنة 1801، في الفترة التي شهدت حالة من الاضطراب السياسي استمر حتى عام   1805، عندما نجح المصريون في إرغام السلطان العثماني على تولية محمد على باشا حاكمًا على البلاد، فكانت المرة الأولي التي يستطيعون فيها اختيار حاكمهم.

الاثنين، 15 فبراير 2016


قلة نهضة مصر

عماد أبو غازي

  دي مقالة قديمة كنت نشرتها في عمودي الأسبوعي بالدستور من عشر سنين تذكرته بمناسبة الصورة دي:

 الصورة بعتتها لي الصديقة كريمة خليل من أسابيع قليلة. فدورت على المقالة وبعيد نشرها النهارده مع الصور المرة دي.
ده المقال:

  أثناء قيامي بإخلاء شقة جدتي عثرت على صندوق كبير فوق دولاب خشبي متهالك، الصندوق كان مغلقًا بإحكام وعناية، ولأن منزل جدتي الذي كانت تسكن فيه منذ 1935 ممتلئ بأشياء غريبة وطريفة فقد توقعت أن أعثر في هذا الصندوق على "كنز"، والكنز الذي أتوقعه وأنتظره ليس كنزًا من المال فهي لم تكن تملك منه الكثير، لكن "كنزها" الكنز الذي يهمني ويعنيني كباحث في التاريخ والوثائق، كنز الأوراق القديمة والصور الفوتوغرافية والتذكارات، خصوصًا أن سكان هذا المنزل جدتي وبناتها وشقيقتها ووالدتهما، هم أسرة المثال مختار، وقد عشن فيه سبعين عامًا، كما عاش فيه أبي منذ صباه قبل أن يتزوج ويغادر المنزل متوجه جنوبًا إلى حي المعادي عام 1950، وقد قضيت سنوات طفولتي وشبابي مترددًا على هذا المنزل، فكثيرًا ما كنت أقضي أيامًا من الإجازات المدرسية في هذا المنزل؛ الآن المنزل بالنسبة لي صندوقًا للذكريات والأسرار جاءت الفرصة لفتحه وأنا أخلي الشقة بعد رحيل جميع ساكنيها.


 صورتي مع جدتي
  نرجع مرة أخرى للصندوق، لم أستطع الانتظار حتى أنزل بالصندوق من فوق الدولاب، فتحته وأنا نصف معلق في الهواء، كان أول ما اكتشفته شجرة للعائلة تتضمن نسب الذكور أبناء الذكور فقط، رسمها أحد أفراد العائلة وأهداها إلى أبي باعتباره ابن شقيقة مختار، ويرجع تاريخها إلى عام 1946، فقدرت بالخبرة المهنية كمتخصص في الأشياء القديمة، أن الصندوق أغلق في ذلك العام، عام 46 وليس قبل ذلك، ومع مزيد من الحفريات في أعماق الصندوق اكتشفت مجموعة من الصور الفوتوغرافية ترجع إلى بدايات القرن الماضي وخطابات وشهادات وأوراق قديمة أخرى، كان من أطرفها بالنسبة لي "شهادة تحقيق شخصية للخدامين" صادرة عن نظارة الداخلية في 10 فبراير 1917، والشهادة باسم مرسيلة عبد الله المولودة بالسودان والمقيمة بالداودية بالدرب الأحمر، سنها 50 سنة وتعمل طباخة، وتحمل الشهادة المدونة بالعربية والإنجليزية صورة الست مرسيلة.



ومن النظرة الأولى يتضح أن الصورة لصاحبة تمثال لمختار، البورترية المعروف باسم رأس زنجية، والذي نحته في مرحلة الدراسة بمدرسة الفنون الجميلة بدرب الجماميز بالقاهرة، ومرسيلة هذه أو كما كانت تسميها جدتي داده مارسينا طباخة تعيش مع الأسرة، وهي طفلة سودانية خطفها تجار الرقيق وباعوها في مصر قبل إلغاء الرق، واشترها جد جدتي لأمها البدراوي أحمد عمدة قرية نشا في أوائل سبعينات القرن التاسع عشر، وتحررت مثل غيرها لكنها ظلت مرتبطة بالأسرة التي تربت في كنفها، وعندما كان مختار طالبًا في مدرسة الفنون كان وجه مرسيلة أول وجه نسائي خلده في تمثال.

عثرت أيضًا على علبة صغيرة مستطيلة من القطيفة الخضراء، عندما فتحتها وجدت بداخلها إيصال تلغراف وكارتين من الكارتون.

يحمل الكارت الأول صورة للزعيم مصطفى كامل محاطة بإطار مذهب وعليه عبارة "فلتحي ذكرى مصطفى كامل باشا"، وعلى الكارت الثاني وضعت صورة لقداسة الأنبا كيرلس الخامس محل صورة مصطفى كامل ودونت عبارة مماثلة لتلك المدونة على الكارت الأول، ثم طمس اسم مصطفى كامل بنقوش مذهبة، وكتب بالخط المذهب على جانبي الصورة: حضرة قداسة الأقدس المفخم أنبا كيرلس الخامس، وعلى ظهر الكارتين عبارة: "المصور المصري حسن راسم حجازي بحارة أحمد طاهر بطنطا".




خمنت أن صاحب العلبة القطيفة والكارتين لابد وأن يكون جدي محمود أفندي أبو غازي، فقد عمل لفترة قصيرة مدرسًا للتاريخ في إحدى المدارس الابتدائية بطنطا، وانتقلت الأسرة لتعيش معه هناك، ولابد أن تاريخ العلبة ومحتوياتها يعود لأواخر عام 1925 لأن بالعلبة إيصال تلغراف مرسل في شهر أكتوبر من ذلك العام أو لبدايات عام 1926 العام  الذي توفي فيه جدي.
  


 وعندما وصلت إلى القاع اكتشفت ما اعتبرته أهم كشف "أُسري"، غطاء قلة نهضة مصر، أخيرًا عثرت على هذا التراث العائلي الذي كانت جدتنا تحكي لنا عنه وكنت أظنه أسطورة من الأساطير، كانت جدتي تحكي لنا دائمًا عن أن أحد مظاهر الاحتفاء الشعبي بتمثال نهضة مصر تمثل في صنع أغطية للقلل تحمل نموذجًا مصغرًا لتمثال النهضة، وكنت قد عاصرت وأنا صغير إنتهاء عصر القلة في بيوت الأسرة القديمة ومنها بيت جدتي، وكانت للقلل في زمننا أغطية من البلاستيك الملون، وكانت هناك بقايا قليلة من الأغطية النحاسية القديمة، وكان السؤال الذي يشغل ذهني وأنا صغير إذا كانت أغطية القلل التي تحمل تمثال النهضة حقيقة وليست خيالًا فلماذا لا تستخدمها جدتي؟ أخيرًا وجدتني أمام الإجابة أمام "القارة المفقودة" أو القلة المفقودة، ثلاثة لفافات قُمعية الشكل مغلفة بإتقان بورق أزرق داخل كل لفافة غطاء قلة من المعدن الفضي اللامع فوقه نموذج مذهب لتمثال نهضة مصر، أصغر نموذج شاهدته في حياتي للتمثال، كنت قد شاهدت عند الصديق بيير سويفي نماذج صغيرة غير متقنة من الجبس الملون لتمثال النهضة اقتناها من بعض أسواق الأشياء القديمة، ارتفاعها حوالي 25 سم، لكن تمثال غطاء القلة لا يتجاوز ارتفاعه 2 سم فقط.



 إن غطاء القلة هذا يعكس كيف تحول عمل فني تشكيلي إلى جزء من وجدان الأمة بكل طبقاتها، كان تمثال النهضة رمزًا للثورة المصرية جسد من خلاله مختار طموح الثورة المصرية لاستعادة الروح الوطنية، فلقي التأييد من كل المصريين فأشاد به الزعيم سعد زغلول في رسالة بعث بها إلى مختار بعد أن شاهد النموذج المصغر الذي عرضه مختار في معرض باريس،  ودعا مجموعة من الساسة والمثقفين لإقامة التمثال في ميدان من ميادين القاهرة، وتبنت جريدة الأخبار حملة لجمع التبرعات للتمثال، وقد شارك بالتبرع  أغنياء مصر كما شارك الفقراء من كافة الطبقات بملاليم قليلة تجمعت لتصبح ثلاثة آلاف جنيه وهذا مبلغ كبير جدًا بمقاييس وقتها، وقد نشر بدر الدين أبو غازي في كتابه عن المثال مختار قوائم التبرعات ونماذج من الخطابات التي أرسلها بسطاء المصريين طلاب وعمال وربات بيوت وباعة جائلين وباعة ترمس مع تبرعاتهم، لقد أصبح إحساس الناس عن حق أن التمثال ملكهم جميعا، وتكونت علاقة بين التمثال والناس لم تحدث من قبل في تاريخ الفن، فاتخذته الشركات الصناعية وشركات السينما وشركات النقل ودور النشر والمراكز البحثية والبنوك شعارًا لها، لكن أجمل ما رأيته هذا التجسيد الشعبي البسيط للتمثال الرمز، غطاء القلة.


الثلاثاء، 9 فبراير 2016


مخربشات

من أهل الديوان إلى حضرة ساري العسكر بونابارته

عماد أبو غازي

الشيخ عبد الله الشرقاوي

 في 2 أكتوبر سنة 1800 قرر مينو ثالث قادة الحملة الفرنسية على مصر إعادة تشكيل الديوان الذي كان بونابرت قد شكله عقب احتلاله لمصر، وكان يضم ممثلين للمصريين إلى جانب بعض رجال الحملة، وقد تشكل ديوان مينو من تسعة من مشايخ الأزهر الكبار برئاسة الشيخ عبد الله الشرقاوي وأمانة سر الشيخ محمد المهدي وكان من بين أعضائه المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي والحاج علي الرشيدي صهر مينو، وشغل إسماعيل الخشاب منصب كاتب الديوان، ومن خلال وظيفته تلك قدم لنا ملخصا لجلسات ووقائع اجتماعات الديوان.


 مينو
وقد لفت انتباهي وأنا أقراء ووقائع تلك الجلسات ما ورد في جلسة الديوان الرابعة، التي انعقدت يوم الأربعاء 24 جماد آخر سنة 1215، الموافق 21 برومير سنة 9 وفقا لتقويم الثورة الفرنسية، ففي تلك الجلسة وضع الشيخ محمد المهدي لنفسه كرسيا بوسط الديوان وجلس عليه ليقرأ على الأعضاء نص الخطاب الذي صاغه بناء على تكليفهم ليرسلوه باسمهم وباسم شعب مصر إلى "حضرة عزيز المقام المشهور بين الخاص والعام عضيم العظماء والكبراء ... الحناب المهاب الأعظم، والمخصوص بالرأي التام بين الأمم، أمير الجيوش الفرنساوية على الإطلاق، والمنظور إليه في جميع الأقطار الآفاق، حضرة الجنلار (يقصد الجنرال) بونابارته"، بالمناسبة هذا قليل من كثير من أوصاف التفخيم والتعظيم التي وصف بها مشايخ الديوان "ممثلو" شعب مصر القائد الذي احتل بلادهم، أما مناسبة الرسالة فهي تهنئة بونابرت بانتصاراته المتلاحقة في أوروبا والتي أطلعهم عليها وأخبرهم بها خليفة خليفته في حكم مصر الجنرال عبد الله جاك مينو.

الشيخ محمد المهدي

 بعد الديباجة الطويلة التي تحوي ألفاظ التفخيم والتعظيم والدعاء لبونابرت بالنصر وبلوغ الآمال، يبدأ نص الرسالة الذي يتشوق فيه مشايخ الديوان لرؤية طلعة بونابرت البهية في مصر مرة أخرى فتقول الرسالة: "وبعد مزيد الأشواق برؤياكم وتمني التلاقي بمحاسنكم ومزاياكم، فإن جنابكم أيها الأمير الجزيل شرفا، الجميل لطفه وظرفه، أوعدتمونا مرارا عديدة وفرحتونا بأقوالكم السديدة وألفاظكم السعيدة، بأن عينيك دائما ملاحظان لهذه البلاد، ونحن نتحقق وفاء وعدكم، إن الله لا يخلف الميعاد، خصوصا وأن الله سبحانه وتعالى أراد تمام كلما تقولونه على الإجمال".

 وينتقل مشايخنا الأجلاء لمخاطبة بونابرت باسم الشعب المصر كله: "كل سكان القطر المصري من أمراء وأعيان ومن سائر أحبابنا الذين يعز علينا نجاحهم ونحبهم من الإخوان، وأهل أنواع التجارة، وأرباب الصنائع في جميع مدائنهم والبنادر، أصحاب الفضائل والعلوم، وأرباب المحامد والمفاخر، والمشتغلين بالفلاحة والزراعة، وسائر النساء التي صان الله عرضهن على يديكم الشهيرة بالفروسية والشجاعة، وكامل الفقراء والمساكين، وجميع الشباب والشيوخ من الأغنياء والمقترين هم باتفاق واحد بنا إليكم متوسلين، وعلينا في مخاطبتكم معولين وبنا مستعينين، لكونهم يفهمون خطابنا ونفهم خطابهم، وجعلتونا حين كنتم عندنا واسطة بينكم وبينهم ونحن وإياهم جميعا مبتهلون، وإلى الله راغبون طالبين من فضل رب العالمين أن تكونوا دائما على أعدائكم منتصرين ظافرين ولفعل الخيرات متعطفين محبا وعضدا للفقراء والمساكين، موقرا مكرما ومعضدا لديننا الأمجد الأجل، من حيث أنك قدمت فأعطيت لسانا أكمل للوقار والاعتبار لحريمنا، إذ أنه أمر مهم من بعد الدين لا يوجد عندنا أعز منه..... قد عاملتنا وقت افتتاحك مصر وانتصارك معاملة أناس كأنهم اختاروك عليهم مع قوتك واقتدارك .... فنشكرك ونحمد الله حيث أنك تصدرت لمنع كامل الأضرار والأوصاب التي كان يمكن حدوثها علينا، وعاقبت فاعليها في أوقات الاضطراب، والفرنسيس طبعهم لا يميل، ولم يسرعوا وراء المظالم ".

 ويؤكد رجال الديوان مرة أخرى على رغبتهم في عودة بونابرت إلى مصر: "وأنتم سترجعون للقطر المصري، إنشاء الله أمنين، وأنت ظهرت عندنا لمحة نظير برق لامع من قبل الله الحق، وغبت عنا بغتة كأسرع ما يكون البرق، إذ أخبرتنا بأن موضوعا آخر يدعوك إليه، وأنت تتوجه إلى حيث ما تكون رشيدا مفيدا منصورا مؤيدا بعون الله، معتمدا عليه، وقد بلغنا الفرنساوية أحبابنا الذين سرورنا يسرهم وسرورهم يسرنا، فرّحونا بأنكم توجهتم وقصدتم الحصول على نصرة عظيمة جدا ... وها قد غلبتم فحمدنا الله على نصرتكم ونجاح مقصدكم ... والآن نخبركم من خالص الطوية تصديقا لمقالنا بأن الطائفتين المصرية والفرنساوية لا يعدان الآن سوى رعية واحدة، مع وفور المحبة وصدق النية، ولا زال هذا الاتحاد يشتد يوما فيوما في سائر الأوقات وذلك باعتناء محبنا وعزيزنا عبد الله مينو الجزيل إكرامه بين المخلوقات ... فنحمد الله على أنه اشتاقكم لأن تحكموه وتقرروه وتختاروه على أن يسوسنا ويلاحظنا ويحفظنا ويرعانا ويقوم بحقوقنا وحقوق فقرائنا، ويجعلنا عباد الله إخوانا."
صفحة من مخطوطة التاريخ المسلسل التي تسجل وقائع الديوان

 ويختم المشايخ رسالتهم ـ التي لا نعرف للأسف كيف كان تلقي بونابرت لها ـ بقولهم: "ونؤمل بأنكم لا تنسونا كون القطر المصري بلدتكم العظيمة ... وإن كامل سكانها يحبونكك ويعزونك، ثم هم مشتاقون إليك يترجونك وينتظرونك، وديننا الذي أنت محب له يدعوك ويراك بالقلب والعين لأنك وعدته، والوعد عند الحر دين، وذلك اليوم الذي به اتحاد الطائفتين، قد تعين بين العباد فلا بد عن كمال هذا الاتحاد، لأن الله هكذا شاء وإذا أراد قضى المراد والسلام"

هكذا تحدث مشايخ الأمة وممثلوها... لكن الأمة نفسها كان لها رأي آخر!

السبت، 6 فبراير 2016

رابط مقالي الجديد في موقع العين
http://www.al-ain.net/article/61771


الشريف الإدريسي وكرته الفضية
عماد أبو غازي
  الشريف الإدريسي من العلماء الذين أسهموا في تطور المعارف الإنسانية في مجال الجغرافيا وعلم الخرائط في أواخر العصور الوسطى، فنجح في الانتقال بهما من مجال الطرائف والحكايات إلى مجال المعرفة العلمية.
 ولد أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحمودي الحسني المعروف باسم الإدريسي في سبتة بمراكش سنة 493هـ المقابلة لسنة 1100م، واشتهر باسم الشريف الإدريسي لأن عائلته تنتسب إلى الأشراف الحسنيين، وجده الأعلى إدريس الأول مؤسس دولة الأدارسة بمراكش سنة 172 هجرية، وجده السادس حمود بن ميمون الذي نسبه ابن خلدون إليه هو مؤسس الدولة الحمودية في جنوبي الأندلس سنة 407 هجرية، وقد انتقل الإدريسي في صباه إلى قرطبة في الأندلس حيث درس هناك، وتنوعت اهتماماته بين الأدب والعلم، فكان شاعرًا وطبيبًا، إلا أن انجازه الأكبر كان في مجال الجغرافيا والرحلات، من خلال الكرة السماوية التي صنعها من الفضة، والخريطة المدورة التي رسمها للعالم المعروف في وقته، والتي نقل فيها الجغرافية من محصلة للروايات الخيالية إلى مجال معرفي يخضع لمنهج علمي يقوم على الملاحظة والرصد، في حدود إمكانيات عصره، كذلك فإن كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" يعد من الأعمال الجغرافية المهمة في التراث الجغرافي العربي، وتوفي الشريف الإدريسي سنة 560هـ أو 561 هـ، على الأرجح.
 يقول عنه العالم العراقي الدكتور أحمد سوسة الذي ألف أحد أهم الكتب العربية عن الإدريسي في سبعينيات القرن الماضي: "بعد فتور خيم على الجغرافيا في المشرق في آواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس الهجري برزت جغرافيا الإدريسي في منتصف القرن السادس الهجري، وهي تعد نقطة تحول في النشاط الجغرافي والكارتوغرافي في العالم، إذ انتقلت حركة الدراسات الجغرافية والكارتوغرافية من المشرق العربي إلى المغرب العربي على ساحل البحر المتوسط، ذلك ما جعل بعض الباحثين أن يطلقوا على فترة الانتقال هذه بـ "عصر الإدريسي" باعتباره يمثل جغرافيي المغرب... عصر الإدريسي يُمَثّل اللبنة الأولى في التقاء الغرب بالشرق من حيث تطور العلم الجغرافي والكارتوغرافي في العالم، كما أنه يمثل نقطة تحول مهمة في تاريخ هذا العلم" كما أنه "طور أطلس الإسلام إلى أطلس العالم، فهو أول جغرافي عربي يسمو إلى مفهوم عالمي للعلم الجغرافي، إذ جمع معلومات جغرافية مهمة عن مناطق أوروبا المسيحية".
 لقد جمع الإدريسي بين المعرفة بتراث السابقين عليه من الجغرافيين من ناحية وجمع الروايات من معاصريه، والخبرة العملية من خلال الترحال والمشاهدة، وخرج من هذا الخليط بإسهامه الجغرافي المهم.
 فقد اتصل الإدريسي بالإنتاج الفكري للمدارس الجغرافية الأربع التي سادت في ظل الحضارة العربية الإسلامية؛ مدرسة العصر العباسي الأول المتأثره بالمدرستين الفارسية والهندية، والمدرسة العربية التي يعد الخوارزمي مؤسسها، والمدرسة الإقليمية الوصفية التي انتشرت بين الجغرافيين المسلمين في القرن الرابع الهجري، والمدرسة الأندلسية المغربية، كما تأثر الإدريسي بجغرافيا بطليموس التي كانت تشكل مرجعية مهمة لمعظم جغرافي العالم في ذلك الزمان.
 وفي الوقت نفسه قام الإدريسي بعدد من الرحلات الكشفية ليلبي ولعه بالمعرفة الجغرافية، بدأ رحلاته وهو بعد في السادسة عشر من عمره، فتجول في شبه الجزيرة الأيبيرية، وزار سواحل فرنسا وإنجلترا على المحيط الأطلسي، واتجه غربًا إلى جزر الكناري وجزيرة ماديرا، لكن صعوبة الترحال عبر المحيط أوقفته عند هذا الحد فاتجه جنوبًا وشرقًا حيث ارتحل في الشمال الأفريقي حتى مصر، ثم اتجه إلى بلاد الشام ووصل إلى آسيا الصغرى، وزار القسطنطينية عاصمة البيزنطيين، وتجول في بلاد اليونان.

 وقد زار الإدريسي صقلية مرتين والتقى بملكها النورماندي روجر الثاني الذي أقنعه بالإقامة بمملكته، وهناك من يرى أن شهرة الإدريسي كرحالة وجغرافي نابغ في عصره دفعت الملك روجر الثاني الذي كان له ولع بالعلم إلى دعوته ليلتحق ببلاطه في بالرموا، لكن الرأي الراجح أن اللقاء جاء مصادفة خلال زيارات الإدريسي لصقلية التي كان بها بقايا لفرع من الأسرة الحمودية، أي كانت الرواية الحقيقية، فقد توطدت العلاقة بين الرجلين، وطلب روجر الثاني من الإدريسي أن يضع له كتابًا في الجغرافيا.
 وتحدث الإدريسي عن أسباب المهمة التي كلفه بها روجر الثاني في كتابه الأشهر "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، وهي المهمة التي قضى 18 عامًا كاملة في تنفيذها؛ فقال: "لما اتسعت أعمال مملكته، وتزايدت همم أهل دولته وأطاعته البلاد الرومية، ودخل أهلها تحت طاعته وسلطانه، أحب أن يعرف كيفية بلاده حقيقة، ويقتلها يقينا وخبرة، ويعلم حدودها وممالكها برًا وبحرًا"
 وقد مر عمل الإدريسي بثلاثة مراحل؛ المرحلة الأولى إعداد لوح الترسيم الذي اتخذه الإدريسي أساسًا لتثبيت المواضع عليه وفقًا لخطوط الطول والعرض، وقد ابتكر "لوح الترسيم" لكي يتحري أكبر قدر من الدقة. واللوح عبارة عن مسطح معدني ضخم قسمه إلى سبعة أقاليم تضم كل الأماكن المأهولة في العالم، وكلما كشف عن جزء، أضاف تفاصيله إلي هذا اللوح.
 وفي المرحلة الثانية صنع كرة فضية للعالم، حيث حول لوح الترسيم إلى خريطة موقعه على شكل كروي على الأرجح، ثم صنع الشريف الإدريسي كرته السماوية التي حدد عليها مواقع الأفلاك، وكانت خريطة هذه دقيقة خاصة في أطوال البلاد وعرضها، ومراعاة الأبعاد الفلكية للكوكب حسب معارف ذلك العصر، لكن لم يصل إلينا منها إلا الحكايات عنها؛ فقد تحطمت حين اقتحم بعض الثوار قصر روجر الثاني" أثناء عهد خليفته وليام الأول. 
 وعلى أساس لوح الترسيم وخريطته المدورة بدأ الإدريسي المرحلة الثالثة من عمله بتأليف كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، الذي جمع فيه كل ما وصل إليه من معارف جغرافية، وكل ذلك براعية من الملك روجر الثاني، لدرجة أن الكتاب عرف في الغرب باسم "كتاب روجر"، أو "الكتاب الروجري"، وقد شاعت مخطوطة الإدريسي في أوروبا سنة 1592، وترجمت بعد ذلك عدة مرات إلى لغات أوروبية مختلفة في ترجمات غير كاملة.


 وكان الإدريسي يميز في كتابته بين ما يسمعه من غيره وبين ما يراه عيانًا؛ فهو يصف مدن الأندلس ومصر وغيرها من بلاد رآها في ترحاله ومغامراته، وينقل عن الآخرين وصف ما لم يره من البلاد البعيدة التي لم يزرها، وتميزت كتابته بأسلوب أدبي رفيع نجح من خلاله في أن يقدم نصًا علميًا وممتعًا في الوقت ذاته.
 ومن الطرائف التي ترتبط بما كتبه الإدريسي والتي ما زالت محل جدال لمئات السنين، عبارة كتبها الإدريسي، يقول فيها "ومن مدينة لشبونة كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه وإلي أين انتهاؤه... إلى أن لاحت لهم جزيرة، فنظروا فيها إلي عمارة وحرث، فقصدوا إليها ليروا ما فيها... رأوا رجالًا شقرًا زعرًا شعور رءوسهم، وهم طوال القدود ولنسائهم جمال عجيب"، وبحر الظلمات هو الاسم القديم للمحيط الأطلنطي، وهم مجموعة من العرب يتحدث عنهم الإدريسي أنهم قد حاولوا عبور المحيط الأطلسي ليصلوا إلي أرض عجيبة، فهل يكون ذلك إشارة إلي اكتشاف المسلمين القارة الأمريكية قبل كريستوفر كولمبوس؟  ومن وصف الإدريسي للسكان يمكن أن نتصور أن هذه الرحلة ربما تكون قد وصلت إلى أيسلندة أو جزيرة من جزر بحر الشمال.
 وعندما توفي روجر الثاني سنة 1154م / 549هـ، لم يغادر الشريف الإدريسي بالرموا فورًا، بل حاول أن يستمر في رعاية ويليام الأول الذي حكم صقلية بعد وفاة أبيه، وألف الإدريسي كتابًا ثانيًا أهداه للملك ويليام الأول يحمل عنوان: "روض الأنس ونزهة النفس"، لكن سرعان ما سادت الاضرابات في مملكة صقلية، وانتهت هذه الاضرابات بمذابح للمسلمين في صقلية، وهنا يختلف المؤرخون حول مصير الإدريسي فالبعض يرى أنه لقي حتفه في هذه المذبحة، بينما يعتقد آخرون أنه عاد إلى سبته ومات فيها، فالروايات عن حياته مضطربه وقليلة، وربما تكون حياة الإدريسي في بلاط روجر الثاني وابنه ويليام الأول في بالرموا في زمن الحروب الصليبية والصراع بين العالمين الإسلامي والمسيحي هي التي جعلت كتاب السير في العالم الإسلامي يغفلوا ذكره رغم عظم مكانته وإسهامه الفذ في الجغرافية والخرائط، إلى جانب جهوده الإخرى في مجالات العلوم المختلفة فقد ألف  "الأدوية المفردة" في الصيدلة، كما كتب سفره الهام "الجامع لصفات أشتات النبات".



 لقد كان الإدريسي صاحب اسهام مهم في نقل المعرفة بين الشرق والغرب، وفي تطور الجغرافية وتحولها من حكايات للطرائف والعجائب والأساطير إلى علم يقوم على أسس منهجية، ويلخص المؤرخ الكبير الدكتور حسين مؤنس إسهام الإدريسي فيقول: "وربما لم يكن فيما أتى به الإدريسي شيئ جديد لا نجده فيما تقدمه من الكتب، ولكن الجديد حقًا هنا هي النظرية السليمة إلى الجغرافيا كعلم قائم بذاته لا يختلط بالتاريخ ولا تمتزج مادته بالأساطير ولا تتعلق حقائقه بمسائل الفلك، والإدريسي هنا جغرافي موضوعي يذكر الحقائق كما تصورها واضحة مجردة ويضعها في أسلوب بسيط منطقي لا تكلف فيه ولا تظاهر بالعلم."

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...