الأربعاء، 15 يونيو 2022

ثلاثة رِجالٍ وكتاب

 

ثلاثة رِجالٍ وكتاب

عماد أبو غازي

 هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والمُعَنوَن "التعليم المصري في نصف قرن- أفكار وآراء ومقترحات مدرس تعليم أَوَّليٍّ" يقف وراءه ثلاثة رجال؛ أولهم: الشيخ أحمد محمد إسماعيل الأمير (1877- 1962)، أحد رُوَّاد التعليم الحديث في أسيوط، بل وفي صعيد مصر، صاحب النصوص التي تجمعها دفَّتَا هذا الكتاب. وثانيهما: الأستاذ عثمان الأمير، وهو ابن الشيخ أحمد الأمير؛ الذي حافظ على تراث والده حتى وصل إلى أيدينا بفضل ثالث الثلاثة: الصديق سعد عبد الرحمن، الذي سَعِدتُ بزَمالَتِه في وزارة الثقافة لسنوات، وكان من خير من خرَجتُ بهم أصدقاء من عَمَلي بالوزارة بين عامَيْ 1999 و2011؛ فمنذ التقينا في أثناء عملي بالمجلس الأعلى للثقافة وعمله بهيئة قصور الثقافة توطَّدَت العلاقة بيننا، وعرفت فيه الشَّاعِرَ المُبدِع، والمُثقَّف المهموم بقضايا الوطن، والمُحرِّك الثقافي المتميز؛ وعرفت فيه -فضلًا عن ذلك- العاشق للتُّراث، الذي يرجع إلى الماضي البعيد، أو ذلك الذي يرجع إلى سنوات قريبة من ماضينا، ودَفَعَه عشقُه هذا إلى البحث دومًا عن النَّوادر من الكتب القديمة والمجهول منها، واقتنائها. وعندما كان في موقع المسؤولية حرص على تعميم الفائدة ممَّا يقع تحت يده من هذه النوادر، بإعادة نشرها، مُقدِّمًا للأجيال تراثًا تَوارَى عن أعيُنِنا؛ في هذه المرة بذل الرجل جهدًا اضافيًا؛ إنه هنا لا يقوم بنشر كتابٍ نشرًا جديدًا، بل قام بجهد علميٍّ مميَّز، كان فيه صاحب أدوار عِدَّة؛ فقد قام بدَوْر الجامع والمُحقِّق والدارس لنصوصٍ قادَتْه الأقدارُ وشَغَفُه بالتَّنقيب في تُراثِنا: قريبه وبعيده إليه.

 

 لقد قدَّم سعد عبد الرحمن للكتاب بدراسةٍ وافية، لا يمكن فَهمُ الكتاب وسياقه بدونها؛ فالمقدِّمة في حَدِّ ذاتها دراسةٌ مُهمَّة عن الشيخ الأمير وإسهامه، كما قدَّم تحقيقًا علميًّا للنصوص، فأضاف إليها بشرحه وتعليقاته، وقام بتحليل مقالات الشيخ التي كان قد جَمَعَها بنفسه، وحَفظَها ابنُه من الضياع لسنوات طويلة.

وتضمُّ الموضوعات التي حفظها الشيخ مائتي موضوع وأربعة؛ من بينها مائة موضوع وثلاثة تتعلَّق بالتعليم وقضاياه تلك التي يضمُّها هذا الكتاب؛ أما باقي الموضوعات فتتناول قضايا أخرى، ننتظر أن ينشرها سعد عبد الرحمن قريبًا بدراسة تحليلية وافية مثل تلك التي قدَّم بها لهذا الكتاب، كما وعد بذلك.

وقد أضاف المُحقِّق إلى الكتاب سِتَّةَ ملاحق إلى جانب الملاحق الثلاثة التي كتبها الشيخ الأمير بنفسه، فَحَوَى الكتابُ بذلك تسعة ملاحق تساعد القارئ كما تساعد الباحث في تاريخ التعليم على فهم سياقات كتابة هذه المقالات؛ وتشكِّل الملاحق الستة المضافة إلى ملاحق الشيخ الأمير إضافة مهمَّةً.

ونتبيَّن من الدراسة التي تتضمَّنُها مقدِّمة الكتاب أن الشيخ الأمير نشر مقالاته في سبع عشرة جريدة، وثلاث مجلَّات، ومن استعراض أسمائها يتبيَّن مدى اختلاف الاتجاهات السياسية والفكريَّة لتلك الصحف والمجلَّات، فقد نشر في صحفٍ حزبيَّة، وأخرى غير حزبية؛ فنشر في صُحُف: الحزب الوطني، وحزب الأُمَّة، وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، والوفد المصري، وحزب الأحرار الدستوريين، وجماعة الإخوان المسلمين، ونشر في صحف وطنية معارضة للاحتلال وسياسته، كما نشر في صُحُفٍ كانت مُوالِيَةً للاحتلال البريطاني، وأخرى محايدة؛ فنشر في: اللواء، والبلاغ، والجريدة، كما نشر في الأهرام، وفي المقطم والمقتطف؛ ويبدو أنه كان يسعى إلى نشر أفكاره ورؤيته في القضايا التي يهتمُّ بها، دون أن يضع في اعتباره تَحزُّبًا سياسيًّا؛ كذلك نجد من بين الصحف التي نشر فيها -بكثافةٍ- جريدةً محلِّيَّةً في أسيوط، هي جريدة "المنتظر"، التي كانت الأكثرَ نشرًا له؛ ربما بسبب اهتمامه ببيئته المحلية التي نشأ وعاش في وسطها.

لقد عاش الشيخ أحمد الأمير في فترة انتقال مُهمَّة في تاريخ مصر؛ فقد وُلِدَ الرَّجُل سنة 1877، وتُوفِّي سنة 1962؛ إذن عاش الرجل سنوات الاحتلال البريطاني لمصر كامِلَةً؛ وعاصر تحوُّلَ مصر سياسيًّا بين أربعة نُظُم؛ فقد وُلِدَ في ظِلِّ الخديوية، وعاش السَّلطَنَة، والمَلَكيَّة، والتحوُّل إلى النظام الجمهوري؛ وعاصر حربَيْن عالميَّتَيْن، وحربَيْن خاضتهما مصر في 1948 و1956.

وإذا كان قد عايَشَ أحداث الثورة العرابية وبداية الاحتلال البريطاني لمصر طفلًا صغيرًا، لا نعرف إن كان وَعيُه قد أدرك بعضًا من حوادثها أم لا؛ فلا شكَّ أنه كان واعيًا مدركًا للصَّحوَة الوطنية في بدايات القرن العشرين، ثم ثورة 1919 وما أعقبها من نهضة في مناحي الحياة كافَّة؛ وإعلان استقلال مصر بالتحفُّظات الأربعة في فبراير 1922، وصدور دستور 1923، ثم الانقلابات الدستورية التي قادها الملك أحمد فؤاد ليقضي على المكاسب الدستورية للثورة، كما عاصر النِّضالَ الشعبي لحماية الدستور والحياة الديمقراطية بين 1930 و1935، وعودة الدستور وتوقيع معاهدة 1936 وإنهاء الامتيازات الأجنبية، ثم الانتفاضة الشعبية في 1946، والكفاح المُسلَّح في منطقة القناة ضدَّ الوجود البريطاني، ووصول الضُّبَّاط الأحرار إلى السُّلطَة وقضائهم على النظام المَلَكيِّ وإنهاء حُكم أسرة محمد علي في يونيو 1953 وتحوُّل مصر إلى جمهورية، وتوقيع اتفاقية الجلاء سنة 1954.

عاش تحوُّلاتٍ اجتماعيَّةً واقتصادية وسياسية مُهمَّة في سنواته الأخيرة، بدءًا بأول قوانين الإصلاح الزراعي في سبتمبر 1952، ثم تأميم الرئيس جمال عبد الناصر لقناة السويس وما أعقبه من عدوان على مصر، وشهد تمصير الاقتصاد ثم ما سُمِّي بالقرارات الاشتراكية، عاصر الوحدة المصرية السورية وإعلان الجمهورية العربية المتحدة في فبراير 1958، كما حضر انتهاء التجربة بالانفصال في سبتمبر 1961.

خُلاصَةُ القول: إن الرجل عاش عصرًا غنيًّا بالتحوُّلات على مختلف أصعدة الحياة المصرية، بل والإقليمية والعالمية؛ كان عصر انتصاراتٍ ونجاحاتٍ، مثلما كان عصرَ هزائِم وإخفاقات، ولا شكَّ في أن رَجُلًا بمثل ثقافته ووعيه واهتماماته قد تأثَّر بكل ما مَرَّ به المجتمع المصري خلال سنوات عمره التي جاوَزَت الثمانين، والتي يبدو من استمراره في الكتابة أنه كان واعيًا بها، مُدرِكًا لها، مُتفاعِلًا معها حتى اقتراب النهاية.

يضمُّ الكتابُ مقالات الشيخ أحمد الأمير حول التعليم، وتمتدُّ كتابات الشيخ بين 1901 و1960، ستون عامًا، كَتَبَ فيها مائة موضوع وثلاثة في التعليم، ما بين خَبَرٍ، ومقالٍ، وكلماتِ تلاميذه في المناسبات العامَّة التي كان هو كاتبها على الأرجح؛ بعض المقالات تندرج في مجال فلسفة التعليم وسياسات إصلاح منظومته في مصر، وبعضها يندرج تحت القضايا النقابية للمعلِّمين وشيوخ الكتاتيب وعَرِّيفيها، والبعض الثالث مجرَّد أخبار.

نُشِرَت هذه المقالات في فترةٍ شَهِدَت تطوُّرات مُهمَّة في تطوُّر منظومة التعليم في مصر، سواء على مستوى الإصلاحات المهمة التي حَدَثَت في اتجاه النهوض بالتعليم في مصر وما صَحِبَها من معارك سياسية وفكرية، أو على مستوى وعي المجتمع بأهمية التعليم وضرورته لتطوُّر البلاد ونهضتها، أو على مستوى المؤلَّفات التي تتناول التكوين المعرفي للإنسان المصري أو السياسات التعليمية.

لقد شَهِدَت السنواتُ الأخيرة من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين دعواتٍ جادَّةً لإصلاح منظومة التعليم وتطويرها في مصر لتُواكِبَ نظيرتها في دول العالم، ولتستأنف المشروع الذي بدأ في مطلع القرن التاسع عشر، وتتلافى جوانب القصور فيه، وتُصلِح من عيوبه؛ وقد اصطدمت هذه الدعوات برؤية سُلُطات الاحتلال البريطاني ومُمثِّلها في مجال التعليم المستشار البريطاني لنِظارة المعارف دوجلاس دنلوب؛ وكان تَوَلِّي سعد زغلول منصب ناظر المعارف العمومية في عام 1906 نُقطَةً فارِقَةً في هذا المسار، حيث بدأ في تَبَنِّي سياساتٍ للإصلاح التدريجي في مجال التعليم العام.

وخلال مسيرة حياة الشيخ الأمير شَهِدَت أحوال التعليم العام والجامعي في مصر تطوُّرات مُهِمَّة، فقد تبنَّى دستور 1923 مبدأ إلزامية التعليم في مراحله الأولى، وأدخل نجيب الهلالي باشا ومحمد حسين هيكل باشا إصلاحاتٍ مُهِمَّةً على منظومة التعليم في أثناء توليهما وزارة المعارف العمومية خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وتمَّ إقرارُ مجَّانيَّة التعليم العام على مراحِلَ، اكتَمَلَت على يد طه حسين عندما أصبح وزيرًا للمعارف في حكومة الوفد الأخيرة عام 1950، ثم امتدَّت المجَّانِيَّة لتشمل التعليم الجامعي في مطلع الستينيات في سياق ما سُمِّي بقرارات يوليو الاشتراكية.

وتميَّزَت تلك السنوات كذلك بوعيٍ مجتمعيٍّ كبير وإدراكٍ عالٍ لأهميَّة التعليم وضرورة النهوض به باعتباره مَدخَلًا لتحقيق نهضة الأمَّة واستقلال البلاد.

لقد وجَّه كثيرٌ من رجال الطبقات العليا في المجتمع ونسائها هَمَّهم إلى تشييد المؤسَّسات التعليمية من كتاتيب ومدارس وإنشاء الأوقاف للإنفاق عليها؛ ولقد كان الشيخ أحمد الأمير نفسه من العاملين في واحد من هذه المنشآت التعليمية التي قامت بالجهود الأهلية؛ فقد قضى معظم سنوات عمره العملي يدير كُتَّابًا أسَّسه سيد باشا خشبة في عِزبَتِه بمركز القوصيَّة لتعليم أبناء البلدة وما جاورها.

وعلى صعيد الوعي المجتمعي أيضًا شهدت تلك السنوات الدعوة لتأسيس جامعة مصرية، ظهرت لأول مرة في كتابات يعقوب أرتين عام 1894 من خلال تقريرٍ كَتَبَه، رأى فيه أن المدارس المهنيَّة العليا القائمة في ذلك الوقت لم تَعُد كافِيَةً، وإن البلاد في حاجة إلى كلية جامعة، وعندما استشعر مُعارَضَة سلطات الاحتلال البريطاني -وعلى رأسها اللورد كرومر- للفكرة توقَّفَ عن تجديد الدعوة إليها؛ لكن الدَّعوة تَجدَّدَت مرَّةً أخرى على يد جورجي زيدان، صاحب مجلة الهلال، خلال عامَيْ 1899 و1900، ثم تكرَّرَت الدعوة مرَّةً أخرى في أكتوبر من عام 1904 في جريدة "اللواء"، التي كان يُصدِرها مصطفى كامل، مع اقتراب الاحتفال بالذِّكرى المِئويَّة لتولَّي محمد علي باشا لحكم مصر، حيث دعت اللواء إلى إنشاء كلية مصرية، وأوصت بتسميتها "كلية محمد علي"، ومنذ ذلك الحين تحرَّكَت الدعوة للاكتتاب الشعبي من أجل إنشاء جامعة مصرية، وانضمَّ إلى الداعين للمشروع عديدٌ من المُفكِّرين والساسة، على رأسهم: الشيخ محمد عبده، وقاسم أمين، وأحمد فتحي زغلول، وسعد زغلول، كما تحمَّس للفكرة بعضُ أُمَراء الأسرة العلوية الحاكمة، وفي مُقدِّمَتِهم: الأمير أحمد فؤاد، الذي أصبح مَلِكًا فيما بعد، وأخته الأميرة فاطمة إسماعيل، وساند الدعوة عَدَدٌ من الأعيان وكبار المُلَّاك، على رأسهم: أحمد المنشاوي باشا من الغربية، ومصطفى كامل الغمراوي بك من بني سويف. وبالفعل أصبحت الجامعة واقعًا في ديسمبر من عام 1908؛ بتَبَرُّعات المصريين وجهودهم الأهلية. كما أنشأ الأمير يوسف كمال -على نَفَقَته- "مدرسة الفنون الجميلة"، وأَسَّسَت المُبِرَّة أمينة هانم إلهامي "المدرسة الإلهاميَّة للصناعات والفنون الزُّخرفيَّة التراثية" وتولَّت رعايتها والإنفاقَ عليها طوال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين. وقد تحوَّلَت الجامعة ومدارس الفنون إلى جامعات ومعاهِدَ وكليات حكومية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

أمَّا عن الكتابات حول التعليم؛ فقبل ميلاد الشيخ الأمير بعامَيْن صدرت الطبعة الأولى من كتاب "المرشد الأمين للبنات والبنين" لشيخٍ أزهري آخر من أبناء الصعيد، هو رفاعة رافع الطهطاوي، أحد روَّاد النهضة في مصر الحديثة، والكتاب عَمَلٌ رائدٌ في مجال وضع تصوُّرٍ لِمَا ينبغي أن يقوم عليه التكوين المعرفيُّ والفكري والأخلاقي للإنسان المصري، وفي عام 1894 صدر بالفرنسية كتاب يعقوب بك أرتين وكيل نظارة المعارف المُعَنوَن "القول التام في التعليم العام"، الذي وضع فيه تصوُّرًا للسياسة التعليمية في مصر آنذاك، وقد ترجَمَه إلى العربية بعد صدوره علي بك بهجت، عالِم الآثار الإسلامية الذي كان يعمل وقتَها بقلم الترجمة بالمعارف، ثم تأتي كتابات الإمام محمد عبده المتعدِّدة في تصوُّراته حول التربية وإصلاح التعليم في البلاد كمدخل للنهضة؛ وفي عام 1938 أصدر الدكتور طه حسين كتابه المُهِمَّ "مستقبل الثقافة في مصر"، الذي بَلْوَرَ فيه رؤية متكامِلَةً لإصلاح التعليم وللعمل الثقافي في مصر؛ هذا بالإضافة إلى مئات المقالات حول أحوال التعليم في مصر، في الصحف والمجلَّات المصرية، أو الدراسات الأكاديمية حول التعليم.

من هذه الصورة للعصر الذي عاش فيه الشيخ أحمد الأمير وكتب فيه مقالاته التي تجتمع بين دفَّتَيْ هذا الكتاب يتَّضِح أنه كان عصرَ اهتمامٍ بالتعليم وقضاياه لدى قادة الرأي والسياسيين في مصر، عصرًا للتطوُّر التدريجي في المنظومة التعليمية للبلاد؛ إذًا ما الذي يُميِّز هذه المقالات؟

في تصوُّري أن أهم ما يُميِّز هذه المقالات أنها جاءت من قلب التجربة ومن أرض الواقع، تُميِّزها شخصيَّةُ كاتبها وتجربَتِه الحَيَّة مع التعليم في أعماق المجتمع المصري، وفي المدى الزمني الطويل الذي تغطِّيه هذه المقالات، وفي تنوُّع الموضوعات والقضايا التي طرحها فيها، وتنوُّع الصحف التي نشرت له، كذلك في تحقُّق بعض مقترحاته التي طرحها في هذه المقالات، وإن كُنَّا لا نستطيع أن نجزم بأن ما تَحقَّق كان نِتاجَ كتاباته، لكن المؤكَّد أن رؤيته كانت صائِبَةً، وأنها كانت قابِلَةً للتَّحقُّق على أرض الواقع. لقد كان الرجل صاحِبَ حُلمٍ كبير، لكنه حُلمٌ جذورُه في الأرض؛ فالأحلام القابِلَةُ للتَّحقُّق هي الأكثر نفعًا للناس، قد تكون الأحلام المستحيلة نبيلة، لكنها تظلُّ أحلامًا بعيدةَ المنال.

لم يَكُن الشيخ أحمد الأمير مَعنيًّا بالتعليم فقط، لكنه كان مشغولًا بإصلاح مجتمعه، لكنَّ التعليم كان في القلب من رؤية الشيخ الأمير الإصلاحية؛ فقد شكَّل ما يقرب من نصف كتابات الشيخ المنشورة في الصحف والمجلات. كان الرَّجُل -كما يتَّضِح من كتابته- يتبنَّى رؤية إصلاحية تقوم على الإصلاح المستند إلى الوقائع المعيشة، وهي رؤية تتَّسِم بالعقلانية والتَّدرُّج في الإصلاح، وفي الوقت نفسه نجد لديه إلحاحًا على الفكرة التي يتبنَّاها، يكتب فيها مرَّاتٍ؛ عَلَّه ينجح في إقناع المجتمع أو المسؤولين.

هناك بعض الأمور التي توقَّفتُ عندها في المقالات التي يجمعها هذا الكتاب، فاهتمامه كشيخٍ أزهري بتعليم القرآن الكريم والاهتمام به في المدارس والكتاتيب مفهومٌ، وطبيعيٌّ، لكن اهتمامه الشديد بتدريس التاريخ المصري القديم والدعوة إلى تخصيص مُقرَّرات دراسية له أمرٌ لافِتٌ للنَّظَر، ويدلُّ على وَعيٍ عميق بالهُويَّة الحضارية، وبتاريخ بلده، يرتبط بهذا أيضًا دعوته القوية إلى تعليم المصريين لُغَتَهم المصرية القديمة، واعتبار عدم معرفتنا بها يُشكِّل حاجزًا بيننا وبين جُزءٍ مُهمٍّ من تاريخنا وتراثنا الحضاري والثقافي.

كذلك يتَّضِح بجَلاءٍ من التقديم الذي وضعه الصديق سعد عبد الرحمن للكتاب، ومن سيرة الرجل وكتاباته- اهتمامُه بأمور أخرى، يراها لازِمَةً وضرورية للتكوين الإنساني لطُلَّابه، ومُكمِّلَة للعملية التعليمية.

مثل اهتمامه بالرياضة البدنية، متمثِّلَةً في مسابقات شَدِّ الحبل بين طُلَّاب الكُتَّاب الذي يتولَّى إدارته، ومكافأة خشبة باشا للفريق الفائز، وتشكيله فريقَيْن لكرة القدم في الكُتَّاب سنة 1906، في فترة مبكِّرة للغاية، لم تكن هذه الرياضة قد انتشرت فيها بَعدُ انتشارًا واسعًا في المجتمع.

كذلك اهتمامه بالمسرح والتمثيل، وتشكيله لما يمكن أن نعتبره "مسرحًا مدرسيًّا" في نفس السنة، سنة 1906، الأمر الذي تؤكِّد مُقدِّمة سعد عبد الرحمن على أنه قد يكون الأوَّلَ من نوعه في الصعيد.

أيضًا اهتمامه بربط التعليم بالبيئة، وتحويل طُلَّابه إلى مُنتِجين إلى جانب تَلقِّيهم للعلم، وذلك من خلال تخصيص قطعة أرض مجاورة للكُتَّاب لتعليم تلاميذه الزراعة، وكذلك تعليمهم بعض الحِرَف البيئية، كصناعة الأدوات المختلفة من الجلود والخوص والجَريد.

وممَّا لَفَتَ انتباهي بحُكمِ التَّخصُّص في مجال الوثائق والأرشيف: قيامُ الرَّجُل بحفظ مقالاته وترتيبها كقُصاصاتٍ صحفيَّة، بنفس منطق العمل في الأرشيف الصحفي الحديث، الذي لم تعرفه مصر بصورته العِلميَّة إلَّا في أربعينيات القرن الماضي، وقد جمع هذه المقالات المنشورة في هذا الكتاب مع غيرها من مقالاته، وكان يجمع -بالإضافة إلى مقالاته- قُصاصاتِ الرُّدود والتعليقات التي ترتبط بما يكتب، كذلك الأخبار المتعلِّقة بكُتَّاب سيد باشا خشبة، ويُنسِّقها في مَلفٍّ، ويُعِدُّ لها الفهارس الموضوعية، مع تسجيل بيانات النشر الكامِلَة لكُلِّ قُصاصة من القصاصات التي جمعها ورتَّبها. لقد قام الرَّجُل بعملٍ أرشيفيٍّ دقيق وفقًا لقواعِدَ لم تكن معروفةً في مصر في هذا الوقت المُبكِّر، وأظنُّ أن ما قاده إليها تفكيرُه المنطقيُّ.

في ختام هذه المقدِّمة أقول إنه ربما نتَّفِق أو نختلف مع بعض آراء الشيخ الأمير، لكننا لا نملك إلا تقدير عمله والإعجاب الشديد به؛ فقد كان الرَّجُل -بلا شَكٍّ- مجتهدًا ومُجدِّدًا في الفكر والممارسة؛ وقد حفظ تراثه حفظًا دقيقًا، وحمل ابنُه الأمانة، وأوصلها إلى مَن هو أهلٌ لتعميم الفائدة منها.

فتَحِيَّة للرجال الثلاثة.

 تقديمي لكتاب التعليم المصري في نصف قرن...

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...