السبت، 22 نوفمبر 2014


ده البحث اللي قدمته امبارح في ندوة مركز البحوث العربية والأفريقية، وكان عنوان الندوة "مجلة الفكر الجديد والثقافة الوطنية...

زمن الفجر الجديد 

"نحن نقول الحقيقة لكننا لا نستطيع أن نقولها كاملة"


أهدي هذا البحث إلى الحفيدة يارا سلام ورفيقاتها ورفاقها في السجون، إلى الحلم بفجر جديد طال انتظاره

 

عماد أبو غازي
  في 16 مايو 1945 صدر العدد الأول من "الفجر الجديد"، وكما يقول الدكتور عاصم الدسوقي بحق في تقديمه للإصدار الثاني للمجلة الذي نحتفي به اليوم: "أصبحت الفجر الجديد اسمًا على مسمى، بل إن اختيار الاسم يعد لمحة عبقرية للتعبير عن أهداف التحرير، حيث لم يكتف صاحب الفكرة باسم "الفجر" فقط ولكن حدده بالجديد، أي الفجر غير التقليدي الذي يبدأ به اليوم على مدى الزمن. والحال كذلك كان من الطبيعي أن تستقطب المجلة كل من يحلم بفجر جديد، وكل من يسعى لتحقيق العدالة والمساواة للمصريين دون تفرقة من أي نوع، فأصبحت بكتابها ومحرريها أحد فصائل اليسار المصري."


 أحمد رشدي صالح
وقد استمر صدور المجلة حتى يوليو 1946، عندما صدر العدد الأخير يوم 10 يوليو 1946، في نفس اليوم الذي شن فيه إسماعيل صدقي باشا حملته الأمنية ضد القوى الوطنية والديمقراطية والشيوعية، خلال أربعة عشر شهرًا صدر من المجلة اثنا وأربعون عددًا، وكان صاحب ترخيصها أحمد رشدي صالح الذي كان منضمًا إلى خلية من المثقفين الماركسيين تضم إلى جانبه كل من صادق سعد وريمون دويك. وكان صادق سعد المسوؤل السياسي للمجموعة التي لم يكن لها اسم والتي أشرفت على إصدار الفجر الجديد والضمير، ثم تحولت إلى تنظيم شيوعي عرف باسم "الطليعة الشعبية للتحرر" ثم تغير اسمها إلى "طليعة العمال"، ثم "حزب العمال والفلاحين الشيوعي المصري" سنة 1957.

 وكما يقول أحمد صادق سعد في كتابه "صفحات من اليسار المصري": "رغم أن هيئة تحرير مجلة الفجر الجديد ظهرت كمجموعة مستقلة من المثقفين، إلا أن الحقيقة أن وراءها حلقة ماركسية صغيرة لا تشرف عليها فحسب، بل على نشاطات علنية وسرية أخرى خاصة في بعض الأوساط العمالية".

 
 صادق سعد
 ووفقا لنفس المصدر فإن أصول الحلقة ترجع إلى مجموعة من أعضاء الحزب الشيوعي المصري الأول الذي تأسس في العشرينيات وتم حله واعتقال قادته سنة 1924؛ حيث استطاعوا المحافظة على ترابطهم الفكري والتنظيمي بعد حل الحزب، واتصل أعضاء الحلقة الجديدة ببعض كتابات هذه المجموعة من الشيوعيين القدامى، وبدأت الحلقة الماركسية التي ضمت خليطًا من المصريين والأجانب المقيمين في مصر نشاطها في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي، وجمع نشاطهم بين النشاط التثقيفي والعمل الجماهيري الذي بدأ من خلال "جماعة أنصار السلام"، وقد تركز عملها على النضال ضد تصاعد خطر الفاشية في العالم.
 وقد شهدت المجموعة خلافات سياسية أدت إلى خروج مجموعتين صغيرتين: المجموعة التروتسكية، ثم بعض العناصر اليهودية المؤيدة للحركة الصهيونية.
 ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 لم يعد هناك معنى لاستمرار "جماعة أنصار السلام"، فتقرر حلها، وشكل معظم أعضائها جمعية جديدة حملت اسم "جماعة البحوث"، وفي نفس الوقت استمر النشاط التثقيفي للحلقة الماركسية التي كانت تسعى إلى استخدام الماركسية كأداة لتحليل الواقع المصري، والخروج برؤية سياسية تعبر عن فكر ماركسي مصري.

يوسف درويش
 وفي عام 1940 تشكلت خلية من ثلاثة من المصريين هم أحمد صادق سعد ويوسف درويش وريمون دويك لقيادة العمل في وسط الجماهير بعيدًا عن مجموعة الأجانب، الذين سرعان ما اضطر أغلبهم لمغادرة مصر مع دخول جيوش المحور إلى مصر عبر حدودها الغربية، وانخرطوا مع اتساع رقعة الحرب العالمية في نشاط الأحزاب الشيوعية في بلدانهم، بينما نشطت المجموعة المصرية، وأسست مع أخرين مجموعة من الكيانات الثقافية والبحثية، مثل: "لجنة نشر الثقافة الحديثة" و"دار القرن العشرين"، كما نجحوا في شراء حق استخدام عدد كل أسبوعين من مجلة محدودة الانتشار تحمل اسم الأسبوع.
 ومع عودة الأعضاء الأجانب قبل نهاية الحرب اتفق الجميع على انفصال الأعضاء المصريين في الحلقة، وشكل المصريون خليتين الأولى تعمل في وسط المثقفين وتضم صادق سعد وريمون دويك وأحمد رشدي صالح، والثانية تعمل في صفوف العمال وتضم يوسف درويش ويوسف المدرك ومحمود العسكري.
 وقد شهدت فترة الحرب العالمية الثانية تدفق الكتب الماركسية على مصر بعد انضمام الاتحاد السوفيتي إلى الحلفاء ودخوله الحرب ضد المحور، وما استتبعه ذلك من اعتراف الحكومة المصرية بالدولة السوفيتية، وقد ساعد السماح بدخول الكتب الماركسية على انتشار الفكر الاشتراكي بين قطاعات من الشباب.
 وفي ذلك الوقت قرر بعض أعضاء "لجنة نشر الثقافة الحديثة" استبعاد الأعضاء اليهود من اللجنة، وفي نفس الوقت كان أحمد رشدي صالح قد نجح في الحصول على رخصة مجلة الفجر الجديد التي بدأت نصف شهرية ثم تحولت إلى أسبوعية، فأصبحت الفجر الجديد منبرًا لهذه الحلقة الماركسية، وكما يقول صادق سعد "من ميزات الفجر الجديد أنها لم تكن مجلة فقط، بل مركزًا للجذب، فقد اهتمت بنشر رسائل القراء والاتصال بهم، خاصة في غير القاهرة، ودعتهم إلى تشكيل جماعات أصدقاء الفجر الجديد."
صدقي باشا
 وعندما أغلق صدقي باشا الفجر الجديد وحل جماعة أصدقائها في حملته الواسعة، التي عرفت بقضية الشيوعية الكبرى، رأت الحلقة الماركسية أن الوقت قد حان لتشكيل تنظيم سري، واتخذت المنظمة في البداية اسم "الطليعة الشعبية للتحرر"، ثم تغير الاسم إلى "طليعة العمال"، ثم في عام 1957 حملت اسم "حزب العمال والفلاحين الشيوعي المصري"؛ فلم يتوقف نضال المجموعة بتوقف "الفجر الجديد" بل حتى بعد أن تفرقت بهم السبل واختلفت مواقفهم السياسية بل وتباينت في بعض الأحيان، ظلوا من مواقع مختلفة فاعلين في الواقع السياسي والثقافي المصري.

*****
 إذًا فقد بدأ صدور مجلة الفجر الجديد في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، واستمرت على مدار أربعة عشر شهرًا شهدت حراكًا سياسيًا واسعًا في مصر، وتغيرات مهمة في المحيط الأقليمي، وعلى الساحة الدولية. وكما يقول صادق سعد: "تناضل مصر ضد الاستعمار الأوروبي منذ فترة طويلة، وخاصة بعد أن احتلتها القوات الإنجليزية عام 1882، غير أن هناك فوارق شديدة بين ظروف الحركة الوطنية وخصائصها وبرنامجها وقيادتها قبل الحرب العالمية الثانية، وبينها بعد هذه الحرب وحتى هزيمة يونيو 1967."

 
 فمثلما تفجرت ثورة 1919 مع نهاية الحرب العالمية الأولى أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية تصاعدًا في مطالبة الإنجليز بالجلاء التام عن البلاد، ومنح الاستقلال الكامل لمصر والسودان، وكانت فترة الحرب العالمية الثانية قد شهدت تحولات في الخريطة السياسية للأحزاب المصرية، فقد شهد حزب الوفد، حزب الأغلبية الذي يحظى بتأييد شعبي حقيقي، انقسامات جديدة مؤثرة بانشقاق مكرم عبيد باشا وتأسيسه لحزب الكتلة الوفدية، بعد أن كان ماهر والنقراشي قد انشقا وشكلا الحزب السعدي، كما عاش  حزب الوفد استقطابًا داخليًا حادًا بين الجناح المحافظ الذي يعبر عن مصالح كبار الملاك، والجناح الداعي إلى إصلاحات اجتماعية واقتصادية، والذي سمي تيار الطليعة الوفدية، وكان يضم كثيرًا من الطلبة الوفديين، ويقوده مفكرين ومثقفين من ذوي الميول اليسارية مثل الدكتور محمد مندور. وفي نفس الوقت تصاعد نفوذ الأحزاب والحركات الجديدة التي تستند إلى مرجعيات دينية أو فكرية، مثل: حركة الأخوان المسلمين ومصر الفتاة ذات الميول الفاشية، التي تسمت فيما بعد باسم الحزب الاشتراكي، كذلك شهدت فترة الحرب تأسيس مجموعة من التنظيمات الشيوعية من أبرزها الشرارة (أيسكرا) والحركة المصرية للتحرر الوطني ومجموعة التروتسكيين إلى جانب تلك الحلقة التي وقفت وراء إصدار الفجر الجديد، وأصبح لهذه القوى الجديدة مع الطليعة الوفدية النفوذ الأكبر في وسط الحركة السياسية للطلاب.
 كما شهدت تلك السنوات انتشار جرائم الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية، والتي كان النصيب الأكبر فيها للجهاز السري لجماعة الإخوان المسلمين، وإن قام ببعضها مجموعات صغيرة من الشباب المتحمس. ولم تكن هذه العمليات موجهة ضد قوات الاحتلال أو المتعاملين معه، بل طالت المختلفين سياسيًا، كما طالت أماكن لتجمع المواطنين.

 أحمد باشا ماهر
 في هذه الأجواء بدأت الحكومة المصرية التي كان يرأسها محمود فهمي النقراشي باشا في اتخاذ خطوات نحو العودة بالبلاد للأوضاع الطبيعية، فأُلغيت الرقابة على الصحف وأُبيحت الاجتماعات العامة ومُنع الاعتقال في يونيو 1945، وفي أكتوبر ألغيت الأحكام العرفية تمامًا، رغم أن هذه الحكومة تولت الحكم عقب جريمة الاغتيال التي ارتكبها إرهابي شاب يدعى محمود العيسوي، راح ضحيتها رئيس  الوزراء الدكتور أحمد ماهر، يوم 24 فبراير 1945، وقد وقعت الجريمة بالبهو الفرعوني بالبرلمان عندما كان ماهر باشا متوجهًا من قاعة مجلس النواب إلى قاعة مجلس الشيوخ، وقد برر الإرهابي جريمته بأنها رد على قرار إعلان الحرب على ألمانيا! وكانت مصر قد وقفت على الحياد رسميًا طوال سنوات الحرب، رغم أنها قدمت دعمًا كاملًا لقوات الحلفاء، ورغم أن بعضًا من أهم معارك الحرب دارت على أرضنا، وقد رأى أحمد ماهر وقتها محقًا أن إعلان الحرب في مصلحة مصر حيث يتيح لها أن تكون من بين الدول المؤسسة للأمم المتحدة.
  وفي يوم 22 سبتمبر 1945 أصدرت "الهيئة السياسية" بيانًا طالبت فيه بالجلاء ووحدة وادي النيل، وكان أحمد ماهر قد شكل تلك الهيئة عقب توليه رئاسة الوزرة للاسترشاد بها في الأمور المهمة، وكانت تتشكل من عدد من زعماء الأحزاب والساسة المستقلين، وقد جاء في البيان: "ترى الهيئة السياسية بإجماع الآراء أن حقوق مصر الوطنية كما أجمع عليها رأي الأمة وأعلنتها الحكومة هي جلاء القوات البريطانية وتحقيق مشيئة أهل وادي النيل في وحدة مصر والسودان، كما ترى الهيئة أن الوقت الحاضر هو أنسب الأوقات للعمل على تحقي أهداف البلاد القومية واتخاذ الوسائل لمفاوضة الحليفة للاتفاق على هذه الأسس، وترى الهيئة أن قيام التحالف على هذه الأسس يزيد ما بين البلدين من علاقات الصداقة والتعاون توثقًا ومتانة".

النقراشي
 وفي اليوم التالي تبنت حكومة النقراشي بيان "الهيئة السياسية"، ورغم هدوء صيغة البيان وتأكيده على التحالف مع بريطانيا إلا أنه لم يلق استجابة من الجانب البريطاني، وبعد ثلاثة أشهر تقريبًا، في أواخر ديسمبر 1945، سلم سفير مصر لدى بريطانيا عبد الفتاح عمرو، مذكرة إلى الخارجية البريطانية تطالب الحكومة البريطانية بالدخول في مفاوضات مع الحكومة المصرية لإعادة النظر في معاهدة 1936، التي كانت تحكم العلاقة بين البلدين، وتسمح بوجود قوات بريطانية وقواعد على أرض مصر.
 وبعد أكثر من شهر جاء الرد البريطاني سلبيًا في 26 يناير 1946، كان الرد يؤكد على صلاحية معاهدة 36 للاستمرار، مع مماطلة واضحة في إمكانية تعديل بعض شروطها.
 وكان هذا الرد كفيلًا بتفجير الغضب الشعبي ضد الوجود البريطاني في مصر والسودان، وجاءت الشرارة من الجامعة، فقد كان النشاط السياسي للوفديين خاصة المنتمين لتيار الطليعة الوفدية وكذلك للشيوعيين والمتعاطفين معهم في صفوف الطلاب متصاعدًا منذ بداية العام الدراسي في خريف 1945، وكانت الدعاية الوطنية الممتزجة بالقضايا الاجتماعية الاقتصادية محورًا لهذا النشاط.

لطيفة الزيات
 وكان الطلاب قد شكلوا لجنة لتنظيم حركتهم وقيادتها سميت باسم اللجنة الوطنية العليا للطلاب، وكان من أبرز قادتها لطيفة الزيات الطالبة بكلية الآداب والكاتبة الروائية والناقدة والأستاذة الجامعية فيما بعد، ومصطفى موسى الطالب بكلية الهندسة وكان ينتمي لتيار الطليعة الوفدية وقد غادر مصر في الحقبة الناصرية وعمل بالجزائر، وعصام الدين جلال الطالب بكلية الطب والذي أصبح فيما بعد من الناشطين البارزين في حركة باجواش للعلماء من أجل السلام، وقد نشرت دار الهلال منذ سنوات مذكرات الدكتور عصام الدين جلال التي خصص جزء مهم منها لأحداث فبراير 1946، وفؤاد محيي الدين الطالب بكلية الطب أيضًا والذي أصبح رئيسًا لوزراء مصر في أوائل الثمانينيات.
 خلال الأسبوعين التاليين للرد البريطاني السلبي تصاعدت حركة الاحتجاج وسط طلاب الجامعة، ووصلت الأمور إلى ذروتها يوم السبت 9 فبراير 1946 عندما خرج الطلاب في مظاهرات حاشدة من جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) قاصدين قصر عابدين مقر الملك وهم يهتفون للجلاء، وعند كوبري عباس (الجيزة حاليًا) تصدت قوات الأمن للمظاهرة لمنعها من العبور إلى القاهرة. وكان كوبري عباس من الكباري التي تفتح لمرور المراكب، وهنا تختلف الروايات للواقعة، فهناك رواية شائعة تؤكد أن الشرطة فتحت الكوبري عندما بدأ الطلاب في العبور عليه لتوقف المظاهرة، بينما يروى المؤرخ عبد الرحمن الرافعي القصة بشكل مختلف حيث يؤكد أن الكوبري كان مفتوحًا بالفعل لمرور المراكب، فنزل بعض الطلاب إلى النيل واستقلوا القوارب ليصلوا إلى العوامة التي تتحكم في فتح الكوبري ليغلقوه وتعبر المظاهرة من فوقه.
 وأي كانت الحقيقة فإن فتح الكوبري في هذا الوقت من النهار لم يكن أمرًا طبيعيًا فمواعيد فتح الكباري المعتادة تكون في ساعات الليل المتأخرة أو عند الفجر أو قبيل المغرب، ولا تفتح في وسط النهار، فبغض النظر عما إذا كان البوليس قد فتح الكوبري أثناء مرور الطلاب، أو أن الكوبري كان مفتوحًا عند وصولهم إليه، فإن الغرض في الحالتين كان منع المظاهرة من الوصول إلى هدفها أي قصر عابدين.
 الأمر الثاني أن القصة الشائعة التي نرددها دائمًا تتحدث عن شهداء كوبري عباس الذين سقطوا في النيل جرأ فتح الكوبري على المظاهرة، لكن الحقيقة أنه لم يسقط شهيد واحد في مظاهرة كوبري عباس يوم 9 فبراير 1946 وأن الوحيد الذي استشهد في مظاهرات جامعة فؤاد الأول يوم 9 فبراير الطالب محمد علي محمد من طلبة كلية التجارة أمام باب الجامعة نتيجة سقوطه تحت سيارة أمام الجامعة أثناء خروج المظاهرة، لكن عدد الجرحى في المظاهرات بسبب استخدام البوليس للقوة المفرطة والعنف في التصدي للمظاهرات بلغ 84 مصابًا، بعضهم كانت إصاباتهم بليغة، كما سقط ثلاثة شهداء في الإسكندرية، وثلاثة آخرين في الزقازيق، وشهيد واحد في المنصورة، وكانت المظاهرات قد عمت عديد من المدن المصرية يومي 9 و10 فبراير 1946.
 ولأن النقراشي باشا كان سياسيًا يحترم تاريخه الوطني ويحترم شعبه، ولأن مصر كانت تعيش في ظل نظام دستوري يتمتع فيه الشعب بحريات سياسية واسعة رغم وجود الاحتلال والسرايا، فقد قرر الرجل أن يتحمل مسئولية ما ارتكبه رجال البوليس التابعين له فقدم استقالة وزارته في 15 فبراير قبل أن ينقضي الأسبوع.
 
 
 ولم يؤد القمع البوليسي لمظاهرات الجامعة يومي 9 و10 فبراير 1946 إلى توقف الحركة الطلابية، بل على العكس أدى إلى التفاف شعبي جارف حولها، وتشكلت "اللجنة الوطنية للعمال والطلبة" لتقود الحركة الجماهيرية الصاعدة، قالت عنها الفجر الجديد: "ليكن اتحاد الطلبة والعمال بداية اتحاد المثقفين بالطبقات الشعبية"، وكانت هذه اللجنة تشكل تحالفًا يضم عناصر من الشيوعيين والوفديين وغيرهم من القوى الوطنية الديمقراطية، وأصدرت اللجنة ميثاقًا وطنيًا حددت فيه أهداف الشعب وعلى رأسها الجلاء التام عن مصر والسودان، ودعت اللجنة إلى إضراب عام في البلاد كلها وحددت له يوم 21 فبراير 1946، وأسمته يوم الجلاء، وبدأت الدعوة له، وابتكرت الحركة أساليب جديدة في الدعاية، فتم تصميم شارات معدنية طليت بالمينا عليها عبارات تدعو للجلاء ووحدة وادي النيل، مع بعض الرسوم المعبرة عن الكفاح الوطني، وكان المصريون رجالًا ونساء يعلقون تلك الشارات الصغيرة على صدورهم.
 وكانت حكومة إسماعيل صدقي باشا التي حلت محل حكومة النقراشي قد قررت عدم منع المظاهرات أو التصدي لها، بل إن صدقي استقبل وفدا من قادة الحركة وفقا لروايات كل من فوزي جرجس في كتابه: "دراسات في تاريخ مصر السياسي والاجتماعي" والدكتور عصام الدين جلال في مذكراته.

 
عصام الدين جلال
 وفي يوم الخميس 21 فبراير 1946 أضربت مصر كلها وخرجت المظاهرات تطوف شوارع المدن المصرية، وفي القاهرة خرجت مظاهرة غير مسبوقة من حيث عدد المشاركين فيها ومن حيث تنظيمها، وطافت المظاهرة شوارع وسط القاهرة دون أن تتعرض لها قوات البوليس بناء على تعليمات رئيس الوزراء، وكانت المظاهرة الوحيدة التي تصدى لها البوليس المصري، مظاهرة مدينة المنصورة التي استشهد فيها طالب ثانوي.

 وفي مظاهرة القاهرة صارت الأمور بسلام، لكن ما أن وصلت المظاهرة إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليًا) حيث كانت ثكنات الجيش البريطاني في موضع جامعة الدول العربية وفندق النيل حاليًا، حتى اقتحمت السيارات العسكرية البريطانية المظاهرة، فدهست من دهست وأطلق الجنود النار على من أطلقوا، فسقط في المظاهرة 23 شهيدًا و121 جريحًا.
 وقد تصادف أن شهدت عدد من المستعمرات البريطانية مظاهرات في نفس اليوم، من هنا اتخذ هذا اليوم يوما عالميًا لنضال الطلاب ضد الاستعمار وليس يومًا للطالب العالمي كما يتردد كثيرًا، فيوم الطالب العالمي مرتبط بمناسبة أخرى هي اقتحام النازيين في ألمانيا لإحدى جامعاتها، واليوم يقع في شهر نوفمبر.
 أثار العدد الكبير من الشهداء الذين سقطوا في 21 فبراير سخط المصريين بجميع طوائفهم وأحزابهم، وأدان مجلسا النواب والشيوخ جريمة قوات الاحتلال ووقف الأعضاء حدادًا على أرواح الضحايا في جلستيهما يوم 25 فبراير، كما اتفقت اللجنة الوطنية مع باقي القوى السياسية والجماعات على إعلان يوم 4 مارس يومًا للحداد الوطني، تغلق فيه المدارس والجامعات والمحال التجارية والمقاهي والأماكن العامة وتسير فيه المظاهرات في الشوارع، ومرت المظاهرات في جميع المدن المصرية بسلام ما عدا مظاهرات مدينة الإسكندرية التي اشتبك فيها الجنود البريطانيين مع المتظاهرين أمام كشك البوليس الحربي البريطاني بميدان سعد زغلول، وسقط 28 شهيدًا و 342 جريحًا من بين المتظاهرين مقابل جنديين بريطانيين وجرح أربعة. وسمي اليوم يوم الشهداء، وشارع أفيروف الذي سقط فيه معظم الضحايا شارع الشهداء.
 رغم أن المظاهرات لم تسفر عن إنهاء الاحتلال البريطاني لمصر إلا أنها أرغمت بريطانيا على سحب قواتها من المدن المصرية ما عدا منطقة قناة السويس، وبدأ الانسحاب في 4 يوليو بالجلاء عن القلعة وتسليمها للجيش المصري، وعلى صعيد آخر حظي صدقي باشا بدعم من أحزاب الأقلية وجماعة الإخوان المسلمين ـ المعادية للشعب دائمًا والتي تتحالف مع كل طاغية حتى تتمكن ثم تنقلب عليه وقد تقتله ـ وكان هذا من خلال اللجنة القومية التي شكلوها في مواجهة اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وكان الرجل يمهد سرًا للمفاوضات مع بريطانيا، ولما كان مشروعه للاستقلال ليس إلا استقلالًا منقوصًا يسمح لبريطانيا بالاحتفاظ بقواعدها في مصر وبسيطرتها على البلاد، فقد شن صدقي أكبر حملة اعتقالات عرفتها مصر في الحقبة الليبرالية في يوم 10 يوليو 1946 عشية احتفال القوى الوطنية بذكرى الاحتلال البريطاني لمصر، وقد عرفت هذه الحملة بقضية الشيوعية الكبرى واعتقل فيها العشرات من القيادات الطلابية والعمالية وعشرات من الكتاب والصحفيين، وكان الكثيرين منهم بعيدين تمامًا عن الشيوعية، مثل المفكر الكبير سلامة موسى والكاتب الصحفي محمد زكي عبد القادر، وفي هذه الحملة أغلقت عدة صحف ومجلات ودور نشر وطنية، وكان واضحا أن هدف تلك الحملة التي انتهت إلى لا شيء تمرير ما يصل إليه صدقي من اتفاقات مع الإنجليز، وبالفعل توصل صدقي في أكتوبر 46 إلى التوقيع بالأحرف الأولى على مشروع معاهدة مع وزير خارجية بريطانيا بيفين، عرفت باسم اتفاقية صدقي ـ بيفن، إلا أن الشعب رفض الاتفاقية، بل إن سبعة من أعضاء وفد المفاوضات أعلنوا رفضهم لها لما فيها من انتقاص لحقوق مصر، وسقطت الاتفاقية ومعها سقطت حكومة صدقي في ديسمبر 46، والغريب في الأمر أن تلك الاتفاقية المرفوضة شعبيًا لا تختلف كثيرًا عن اتفاقية الجلاء التي وقعها عبد الناصر مع الإنجليز سنة 54 بعد عامين من انقلابه العسكري، لكن عبد الناصر كان قد مهد الطريق لتوقيع الاتفاقية دون معارضة تذكر بتصفيته للحياة الحزبية والديمقراطية في مصر مستعينًا بالإخوان أيضًا، الذين انقلبوا عليه بعدها بأسابيع وحاولوا اغتياله في ميدان المنشية بالإسكندرية. 
 وبين إسقاط اتفاقية صدقي بيفن سنة 1946 وتوقيع اتفاقية الجلاء سنة 1954 جرت في النهر مياه كثيرة.
 كانت السنوات السبع ما بين سقوط حكومة إسماعيل باشا صدقي بسبب الرفض الشعبي للاتفاقية التي وقعها بالأحرف الأولى مع أرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا وتوقيع اتفاقية الجلاء سنة 1954 سنوات ساخنة مليئة بالحراك السياسي، فقضية الجلاء ووحدة وادي النيل (مصر والسودان) تتصدر الواجهة، وتشكل ركنًا محوريًا في الدعاية السياسية لكل الأحزاب والجماعات والتيارات السياسية، سواء تلك الأحزاب التقليدية التي ظهرت خلال النضال ضد المستعمر منذ بدايات القرن العشرين مثل الحزب الوطني، أو تلك التي ظهرت عقب ثورة 1919 وخرجت جميعها من عباءة الوفد المصري، بل حتى القوى السياسية التي تستند إلى منطلقات أيديولوجيا احتلت القضية الوطنية مكان الصادرة في دعايتها، وقد كان هذا أمرًا طبيعيًا في حركة استلهمت الفاشية والنازية مثل مصر الفتاة، لكن الأمر امتد كذلك إلى التنظيمات الشيوعية التي شغلت القضية الوطنية حيزًا كبيرًا من نشاطها ودعايتها السياسية رغم احتدام قضايا الطبقة العاملة والفلاحين في تلك الحقبة، وشمل الأمر أيضًا جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في مواجهة الحركة الوطنية، وظهرت أول ما ظهرت في مدينة الإسماعيلية في أحضان شركة قناة السويس، وظلت لسنوات تساند الملك في مواجهة الوفد الذي كان يقود الحركة الوطنية.
 وكان طبيعيًا أن ينعكس هذا الوضع على الحركة الطلابية التي كانت تشكل ساحة الحراك السياسي الرئيسي في المجتمع، خاصة وأن جميع الأحزاب والتيارات السياسية كان لها وجودها الفاعل في صفوف الطلاب من خلال تشكيلات حزبية في الجامعات المصرية وفي معاهد الدراسة عمومًا، وقد كان هذا أمرًا مقبولًا ومستقًرا في ظل نظام التعددية الحزبية الذي عاشته مصر قبل انقلاب يوليو 1952، بل أن الأجنحة الطلابية للأحزاب كانت تفرض على القيادات الحزبية المواقف التي ينبغي أن تتخذها، ولعل انتفاضة 1935 الطلابية والتي تعرف بثورة الشباب خير مثال على قدرة الحركة الطلابية على فرض إرادتها على القيادات السياسية، وقد انتهت الانتفاضة بتشكيل جبهة وطنية من الأحزاب أسقطت دستور 1930 الذي انتهك به إسماعيل باشا صدقي الحقوق والحريات العامة وأعادت دستور الأمة ـ دستور 1923 وخاضت المفاوضات مع بريطانيا، وكانت هذه الأجنحة الطلابية مدارس لتخريج الكوادر السياسية الحزبية.
 لقد ارتبطت الحركة الطلابية منذ ميلادها في بدايات القرن العشرين بالنضال من أجل الاستقلال الوطني، فكانت القضية الوطنية دومًا عصب النضال الطلابي في مصر واستمرت المحرك الأساسي للطلاب لعقود طويلة، من هنا فقد كان من الطبيعي أن يشتعل الجدل في صفوف الطلاب وتموج الجامعات المصرية بالحركة عقب سقوط مشروع اتفاقية صدقي بيفن وسقوط حكومة صدقي نفسها، خاصة وأن رئيس الوزراء الجديد كان له تاريخ قريب من الصدام مع الطلاب، فقد تولى الوزارة مرة أخرى محمود فهمي النقراشي باشا الذي شكل وزارة ضمت السعديين والأحرار الدستوريين فامتلكت بذلك الأغلبية البرلمانية،  وكان طرح القضية الوطنية في أوساط الحركة الطلابية المصرية أكثر سخونة وأكثر راديكالية حتى بين المجموعات الطلابية المنتمية للإتلاف الحاكم.
 وكان يوم 19 يناير 1947 مناسبة لتجديد النضال الطلابي فاليوم يوافق ذكرى توقيع اتفاقية السودان سنة 1899، وهي الاتفاقية التي أعطت حق حكم السودان واعتبرها المصريون دومًا اتفاقية باطلة، وقد قررت الأحزاب والقوى السياسية اعتبار ذلك اليوم يومًا للحداد الوطني، وكانت ضغوط الحركة الطلابية على الحكومة من أجل اتخاذ موقف تجاه التعنت البريطاني يتزايد يومًا بعد يوم.
 هذا رغم أن الأشهر الأولى لوزارة النقراشي شهدت جلاء الإنجليز عن المعسكرات والثكنات العسكرية التي كانوا يشغلونها في القاهرة والجيزة والإسكندرية وأخرها ثكنات قصر النيل التي غادروها في 29 مارس 1947 ورفع الملك فاروق العلم المصري عليها في احتفال كبير يوم 31 مارس أعقبه بإيفاد مندوبين عنه لوضع الزهور على ضريح مصطفى كامل وضريح سعد زغلول والنصب التذكاري لشهداء الجامعة في إشارة واضحة لأهمية الحركة الطلابية المصرية، وفي محاولة من الملك للتقرب إلى الحركة الوطنية المتصاعدة، تلك الحركة التي لم يكن يكفيها الجلاء عن هذا المعسكر أو ذاك، ولم تكن لترضى بأقل من الجلاء التام ووحدة وادي النيل.
 وكما يقول الدكتور عاصم محروس عبد المطلب في كتابه "الطلبة والحركة الوطنية في مصر من 1922 إلى 1952"، كان هناك طريقان لحل القضية المصرية سلمًا، إما تدويل القضية بعرضها على مجلس الأمن أو تسليم الحكم للوفد الحزب الأكثر ارتباطًا بالجماهير ليخوض مفاوضات يمكن أن يقبل الناس نتيجتها، أما النقراشي باشا فقد اختار منذ البداية طريق تدويل القضية الذي كان مطلبًا شعبيًا تجمع عليه معظم القوى الوطنية، ففي 25 يناير 1947 قرر مجلس الوزراء وقف المفاوضات مع الإنجليز وعرض قضية الجلاء عن وادي النيل على مجلس الأمن، وأبلغ النقراشي باشا القرار لمجلسي الشيوخ والنواب في بيان ألقاه في جلسة مشتركة للمجلسين عقدت يوم 27 يناير 1947.
 هذا وقد شهدت سنوات ما بعد الحرب تغييرًا كبيرًا في موازين القوى الدولية انعكس على الوضع السياسي المصري، فمن ناحية سقطت النازية والفاشية والعسكرية الاستبدادية في ألمانيا وإيطاليا واليابان، واتجهت التنظيمات التي تأثرت بأفكارها في مصر إلى محاولة تغيير واجهاتها، فتحولت مصر الفتاة إلى الحزب الاشتراكي.
 ومن ناحية أخرى شهدت تلك السنوات صعود الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، والاعتراف المصري بالاتحاد السوفيتي، وقد شكل هذا الصعود والانتصارات التي حققها الاتحاد السوفيتي على النازية، والدور الذي لعبته الأحزاب الشيوعية والاشتراكية الديمقراطية في أوروبا في التصدي للنازية وهزيمتها دعمًا معنويًا للحركة الشيوعية المصرية.
 ومن ناحية ثالثة خرجت القوى الاستعمارية القديمة من الحرب وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا خائرة القوى، وبدأت قيادة المعسكر الاستعماري تنتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تتبع أسلوبًا مغايرًا لأسلوب القوى الاستعمارية التقليدية، وبدأ التوغل الأمريكي في ساحة السياسة المصرية من خلال دور صحفية جديدة، وضعت نصب عينيها الترويج للنموذج الأمريكي من ناحية، وتشويه الحركة الشيوعية والقيادة التاريخية لحزب الوفد من ناحية أخرى.
 كما شهدت تلك السنوات صعود حركات التحرر الوطني ضد القوى الاستعمارية في أنحاء مختلفة من العالم، ولعب الشيوعيون دورًا مهمًا في التعريف بحركات التحرر، والربط بين نضال الشعوب ضد الاستعمار.
 وعلى الصعيد العربي احتمدت القضية الفلسطينية في هذه السنوات وبدأت تتحول إلى هم من هموم المصريين، وظهرت دعاوى القومية العربية تدريجيًا، كما تأسست جامعة الدول العربية، وأصبحت القضايا العربية حاضرة على الساحة السياسية المصرية.

 لقد كانت تلك السنوات سنوات للتغيير، مصريًا وعربيًا ودوليًا، لقد بدأ بنهاية الحرب العالمية الثانية زمن جديد، كان زمن "الفجر الجديد"، الفجر الجديد المنتظر الذي لم يأت بعد.

_______________________________________________

المصادر والمراجع:

  • أحمد صادق سعد: صفحات من اليسار المصري في أعقاب الحرب العالمية الثانية 1945 ـ 1946، تقديم: عبد العظيم رمضان، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1976.
  • أحمد عبد الله: الطلبة والسياسة في مصر، ترجمة: إكرام يوسف، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2007.
  • إسماعيل محمد زين الدين: الطليعة الوفدية والحركة الوطنية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1991.
  • رفعت السعيد: تاريخ الحركة الشيوعية 1940 ـ 1950، ط 2، شركة الأمل للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1988.
  • رفعت السعيد: منظمات اليسار المصري 1951 ـ 1957، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1987.
  • طارق البشري: الحركة السياسية في مصر 1945/1953، طبعة ثانية جديدة، دار الشروق، القاهرة، 2002.
  • عاصم محروس عبد المطلب: الطلبة والحركة الوطنية في مصر من 1922 إلى 1952، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2007.
  • عبد الرحمن الرافعي: في أعقاب الثورة المصرية ـ ثورة 1919، ج3، الطبعة الثانية، دار المعارف، القاهرة، 1989.
  • عصام الدين جلال: في دروب الوطنية، مؤسسة دار الهلال، القاهرة، 2005.
  • فوزي جرجس: دراسات في تاريخ مصر السياسي منذ العصر المملوكي، مطبعة الدار المصرية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة ، 1958.
  • محمد زكي عبد القادر: محنة الدستور 1923 ـ 1952، الطبعة الثانية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1973.
  • مركز البحوث العربية والأفريقية: الفجر الجديد مجلة التحرر القومي والفكري، تقديم: عاصم الدسوقي، إعداد وتصنيف: حنان رمضان، مجلدين، إعادة نشر، مركز البحوث العربية والأفريقية، القاهرة، 2010.

الخميس، 13 نوفمبر 2014


ميلاد الوفد المصري

عماد أبو غازي

 مع مغيب شمس يوم 13 نوفمبر 1918 كانت مصر جديدة قد ولدت، لذلك استحق اليوم أن تحتفل به مصر كلها باعتباره يوما للجهاد الوطني، يوم توجه نواب الأمة، سعد ورفيقيه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي، لدار المندوب السامي البريطاني مطالبين باستقلال البلاد، يوم سعت الحكومة برئاسة حسين باشا رشدي من أجل تشكيل وفد رسمي يتجه إلى لندن للبحث في إجراءات الاستقلال، كانت الأمة كلها "على قلب رجل واحد" كما يقولون، كان التنسيق تامًا بين سعد ورفاقه من ناحية ورئيس الوزراء رشدي باشا ووزير المعارف في حكومته عدلي باشا يكن من ناحية أخرى، كان كل طرف يبلغ الطرف الآخر بما يقوم به أولًا بأول، كان اليوم ميلاد لعهد جديد في تاريخنا الوطني.


 
 مساء 13 نوفمبر 1918 أخذ سعد وزميليه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي يتشاورون في الطريقة التي يعلنون بها حقهم في التحدث باسم الأمة، فاتفقوا على تأليف هيئة تسمى الوفد المصري، إشارة إلى أنها وفد مصر للمطالبة باستقلالها، كما اتفقوا على أن يعملوا على أن تحصل هذه الهيئة على توكيلات من الأمة تمنحها بمقتضاها هذه الصفة.
 استغرق تأسيس هيئة الوفد المصري عشرة أيام بين 13 و23 نوفمبر سنة 1918، وتألف الوفد في تشكيله الأول يوم 13 نوفمبر برئاسة سعد زغلول باشا وعضوية علي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك وعبد اللطيف المكباتي ومحمد علي علوبة بك، وكانوا جميعا أعضاء في الجمعية التشريعية باستثناء محمد محمود وأحمد لطفي السيد، كما كان أغلبهم من الميالين لتيار حزب الأمة باستثناء محمد علي علوبة عضو اللجنة الإدارية للحزب الوطني وعبد اللطيف المكباتي المؤيد لتيار الحزب الوطني، واتفق أعضاء الوفد على قانونه الذي تضمنت مادته الأولى أسماء أعضاء الوفد، ونصت مادته الثانية على أن مهمة الوفد هي السعي بالطرق السلمية المشروعة، حيثما وجد للسعي سبيلًا، في استقلال مصر استقلالًا تاًما، وقررت المادة الثالثة من القانون أن الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر التي يعبرون عنها رأسًا أو بواسطة من يمثلونهم بالهيئات النيابية، كما أشار القانون في مادته الثامنة أن للوفد أن يضم إليه أعضاء آخرون، الأمر الذي حدث بالفعل خلال الأيام والأسابيع التالية، وقد صدق الأعضاء على قانون الوفد في 23 نوفمبر سنة 1918.
 لم يكن الوفد المصري بهذه الصورة التي بدأ بها حزبًا بالمعنى الدقيق للكلمة، بل جماعة من الساسة تنوب عن الأمة وتمثلها في المطالبة باستقلالها، فقد عرفت مصر الأحزاب السياسية بشكل جنيني في سبعينيات القرن التاسع عشر، ثم عرفت التشكليات الحزبية المكتملة في العقد الأول من القرن العشرين بتأسيس حزب الأمة والحزب الوطني، بالإضافة إلى عدد من الأحزاب الصغيرة الأخرى، ولم يكن الوفد عندما قام حزبًا على شاكلة هذه الأحزاب، كان تجمعًا من الساسة حول هدف واحد محدد وبرنامج من نقطة واحدة هي السعي من أجل استقلال مصر استقلالًا تامًا.
  عندما تأسس الوفد كان الحزب الوطني لا يزال قائمًا رغم ملاحقة سلطات الاحتلال لقادته أثناء الحرب، وكان رجال حزب الأمة قد تحولوا إلى الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والثقافية بعد إغلاق جريدة الحزب سنة 1915، وتحول بعض شبابهم إلى الكتابة في مجلة السفور، وعقب الحرب وتأسيس الوفد شكل مجموعة من هؤلاء الشباب الحزب الديمقراطي المصري، وحاولوا الانضمام للوفد، لكن مسعاهم لم يكلل بالنجاح فلم يكونوا قد أعلنوا عن حزبهم بشكل رسمي بعد، ولم يقبلهم سعد في الوفد رغم قربهم من تيار حزب الأمة سياسيًا وفكريًا، وانتمائهم بدرجة أو أخرى إلى مدرسته.
 ولتأليف الوفد المصري قصة تثير الخلاف بين الساسة والمؤرخين حول صاحب فكرته، لقد تعرض كثير من الساسة والمؤرخين لقضية صاحب فكرة تأليف الوفد في كتاباتهم، منهم أحمد شفيق باشا وإسماعيل باشا صدقي ومحمود غنام ومحمد أبو الفتح وعبد الرحمن الرافعي، وتناولها بالدراسة والتحليل المؤرخ الراحل الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه الرائد "تطور الحركة الوطنية في مصر"، وحاول أن يميز بين المطالبة باسترداد مصر لحقوقها وفكرة تأليف الوفد كأداة لاسترداد الحق، فقد كان السعي لنيل مصر لاستقلالها مطلبًا عامًا لرجال السياسة في مصر، بل حلمًا لمجمل المصريين، وكان التفكير في وسيلة لتحقيق هذا الهدف شغلًا شاغلًا لكثير من الساسة المصريين.
 ويلح السؤال، هل كان صاحب فكرة تشكيل الوفد هو سعد باشا الذي تزعم الوفد يوم تأسيسه؟ أم أن الوفد كان فكرة شخص آخر؟ وهنا يظهر اسم الأمير عمر طوسون أحد إمراء أسرة محمد علي الذين عرفوا بمواقفهم الوطنية، كما يتردد اسم حسين باشا رشدي وزير الداخلية. فمن منهم كان صاحب الفكرة؟ من كان صاحب براءة ابتكار الوفد المصري؟

 سؤال يُطرح بإلحاح بين المؤرخين والساسة منذ تسعين سنة، وتنحصر نسبة فكرة تشكيل الوفد المصري بين ثلاثة من رجال ذلك العصر:
 أولهم سعد باشا زغلول مؤسس الوفد وزعيمه ورئيسه الأول الذي كان وكيلًا منتخًبا للجمعية التشريعية وناظرًا ـ أي وزيرًا ـ للمعارف والحقانية في عدة تشكيلات وزاريه قبل الحرب العالمية الأولى، والذي يعتبره المؤرخون أول ناظر من أبناء الفلاحين في عصر الاحتلال، وترجع علاقته بالعمل الوطني إلى زمن الثورة العرابية وبداية عصر الاحتلال.

سعد زغلول 
وثانيهما حسين باشا رشدي طبوزاده رئيس الوزراء ذو الأصول التركية الذي كان يشغل منصب رئيس مجلس النظار أو ناظر النظار منذ أبريل سنة 1914، وعاصر إعلان الحماية البريطانية على مصر وكان وقتها نائبًا للحضرة الخديوية أثناء سفر عباس حلمي الثاني خارج البلاد إلى جانب عمله كناظر للنظار، وحمل على كاهله عبء التعامل مع سلطات الحماية في فترة الانتقال من نظام الخديوية إلى نظام السلطنة، وكان أول من حمل لقب رئيس مجلس الوزراء في مصر في إطار التحولات التي صاحبت إعلان السلطنة في مصر، وذلك في ديسمبر سنة 1914، واستمر في منصبه حتى 22 أبريل سنة 1919، أي أنه عاصر سنوات الحرب كلها واستمر حتى قيام الثورة ونهاية مرحلتها الأولى.

حسين باشا رشدي
أما ثالث الثلاثة فهو الأمير عمر طوسون سليل أسرة محمد علي، المعروف بمواقفة الوطنية المشوبه بميول عثمانية وبعدائه للاحتلال البريطاني، وكان الأمير يعد من المناصرين للحركة الوطنية داخل الأسرة العلوية وكذلك بميوله الإصلاحية، واستمرت مواقفه في الدفاع عن الاستقلال والدستور مع مجموعة من أمراء أسرة محمد علي في مرحلة ما بعد الثورة، ثورة 19 طبعًا.

 
الأمير عمر طوسون
ولكل واحد من الثلاثة قصة مع تشكيل الوفد المصري، إنها ثلاث قصص متقاطعة تنتهي كلها إلى ما حدث يوم 13 نوفمبر سنة 1918 وما تلاه من أيام مجيده في تاريخ مصر الحديث.
 الأمر المؤكد أن النخبة السياسية المصرية كانت تنتظر انتهاء الحرب العظمى كي تحصل مصر على استقلالها التام، فالعلاقة بالدولة العثمانية قد انتهت رسميًا وفعليًا، بل إن الدولة العثمانية نفسها كانت توشك على أن تلقى حتفها، ومبرر إعلان الحماية البريطانية على مصر ينتهي بانتهاء الحرب، وبالتالي فالمنطق الطبيعي لابد أن يقود إلى إعلان استقلال البلاد بإعلان الهدنة، كذلك أحيا إعلان الرئيس الأمريكي ولسن لمبادئه الأربعة عشر الشهيرة، ثم لما ردده في خطبه السياسية في العام الأخير للحرب حول حق تقرير المصير لشعوب الأرض الآمال في النفوس، لكن هل يحصل المصريون على استقلالهم دون مطالبة؟ بالطبع لا، لابد من هيئة أو وفد مصري يفاوض من أجل هذا الاستقلال ويطالب به.
لا شك إذا في أن فكرة المطالبة بالاستقلال بعد الحرب كانت تشغل الساسة المصريين، لكن ممن جاءت البداية؟
 يكاد يتفق الجميع على أن الأمير عمر طوسون كان أول من طرح الفكرة بشكل واضح ومستقيم، ويقول الأمير عن ذلك بعد سنوات من الأحداث: "إن فكرة إرسال وفد رسمي للمطالبة بحقوق مصر في مؤتمر الصلح، الذي أزمع عقده في نهاية الحرب العالمية الأولى قد خطرت ببالنا بعدما صرح الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة بمبادئه الأربعة عشر المشهورة في 8 يناير سنة 1918، تلك النقاط التي تمنح الحق لكل أمة صغرت أو كبرت في تقرير مصيرها، ولما كانت مسألة مصر، بناء على هذا الاعتبار، مسألة دولية، وليس لدولة دون سواها أن تنفرد بالنظر فيها، وأن مثل هذه المسألة الهامة تحتاج إلى درس وتمحيص قبل اجتماع المؤتمر، حتى لا يأتي يوم انعقاده إلا ونحن جميعًا مستعدون للمطالبة بحقوق بلادنا كاملة، ولا يضيع علينا الوقت سدى، فقد دفعنا ذلك إلى التكلم مع المرحوم محمد سعيد باشا في شأنها (كان محمد سعيد ناظرًا للنظار قبل حسين رشدي باشا كما عاد إليها مرة أخرى بعد استقالة رشدي سنة 1919) فاقترح علينا أن نتكلم فيها مع المرحوم سعد زغلول باشا لشخصيته البارزة في الهيئة الاجتماعية وفي الجمعية التشريعية، فاستصوبنا هذا الرأي وصممنا عليه، ولم تمكنا المقادير من مقابلة سعد باشا إلا في الحفلة التي أقامها المرحوم رشدي باشا في ليلة 9 أكتوبر سنة 1918 بكازينو سان استفانو احتفالًا بعيد جلوس المغفور له الملك أحمد فؤاد الأول، وذلك قبل الهدنة والصلح، لأن نهاية الحرب كانت قد بدأت في هذا التاريخ، وفي تلك الليلة ذكرنا لسعد باشا قرب انتهاء الحرب وانعقاد مؤتمر الصلح، وإنه يحسن بمصر أن تفكر في إرسال وفد للمطالبة بحقوقها أمام هذا المؤتمر. فاستحسن الفكرة ووعد بالتكلم مع أصدقائه فيها عند عودته إلى القاهرة وأن يخبرنا بالنتيجة".
 
 هذه رواية الأمير للموضوع، فماذا كانت رواية سعد زغلول؟
 تتفق رواية سعد زغلول في مذكراته مع رواية الأمير عمر طوسون، حول طرح الأمير للفكرة في حفل 9 أكتوبر سنة 1918 بسان استفانو بالإسكندرية في حوار جانبي بينهما، ويزيد سعد على ذلك أن الأمير عاد مرة أخرى للنقاش معه في الموضوع بعدها بأيام قليلة، في حفل آخر أقامه السير رجنلد ونجت المندوب السامي البريطاني في مصر تكريمًا للسلطان فؤاد بالإسكندرية يوم 23 أكتوبر، والتقيا في اليوم التالي في القطار في طريق عودتهما للقاهرة وتحادثا في الموضوع مرة ثالثة، وحسب رواية لسعد زغلول فإنه رحب بالفكرة عندما عرضها عليه الأمير ولكنه قال له إن الفكرة "قامت في بعض الرؤوس من قبل وقد آن الآن أوانها"، الأمر الذي أكد عمر طوسون أنه لا يتذكر أن سعد زغلول قاله له.
 وفي يوم 11 نوفمبر أبلغ سعد زغلول الأمير عمر طوسون بموعده مع المندوب السامي البريطاني يوم 13 نوفمبر بمجرد تحديد الموعد، فقرر الأمير عقد اجتماع بقصره بشبرا يوم 19 نوفمبر 1918 لمناقشة أمر تشكيل الوفد ووجه الدعوات إلا أن الحكومة قررت منع الاجتماع وتم إبلاغ الأمير فأرسل للمدعوين خطابات بتأجيل عقد الاجتماع، ويذكر عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919 أنه تردد أن الإلغاء كان باتفاق بين السلطان ورشدي باشا وسعد زغلول.
 سعى الأمير عندما شعر باتجاه سعد زغلول وحسين رشدي إلى استبعاده لتكوين وفد موازي، وجمع بعض المقربين إليه وبعض رجال الحزب الوطني، وبدا أن الحركة الوطنية في طريقها للانقسام، لكن الأمير عمر طوسون تلقى رسالة من السلطان على لسان أمين يحيى باشا يدعوه فيها للكف عن التدخل في هذه المسألة. ويرى الرافعي أن سعد اعتبر دخول الأمير في الوفد يعني رئاسته بالضرورة له وبالتالي فقد سعى لأن يشكل الوفد بعيدًا عنه، وسواء صحت تفسيرات الرافعي أم لا فإن شعبية الوفد وابتعاده عن أن يشكل تحت رئاسة أحد أمراء الأسرة العلوية الحاكمة حتى لو كان هذا الأمير من أصحاب المواقف الوطنية مثل عمر طوسون قد أعطاه قوة وتأثير أكبر، وكما سجل الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه المهم "تطور الحركة الوطنية في مصر" فإن سعد وصحبه كانوا يريدونها "حركة شعب لا إمارة وحركة استقلال لا خلافة". ومع ذلك يؤكد سعد زغلول في مذكراته على فضل الأمير عمر طوسون فيقول بالحرف الواحد: "إن الأمير يستحق تمثالًا من الذهب لو نجحت المهمة".
 في نفس الوقت كان حسين رشدي باشا يفكر مع نهاية الحرب في الوسيلة التي يتحقق بها وعد الإنجليز بمنح مصر استقلالها مقابل موقفها أثناء الحرب العالمية الأولى، ولما كان هو الذي تعامل مع سلطات الاحتلال منذ اللحظة الأولى لقيام الحرب وإعلان الأحكام العرفية باعتباره قائم مقام خديوي مصر، كما أنه كان أول رئيس وزراء بعد إعلان السلطنة وكان عليه مسئولية التعامل مع سلطات الحماية البريطانية، ورغم أن قرار الحماية والمراسلات الموجهة لرئيس الوزارة المصري لا تحمل وعدًا صريحًا باستقلال مصر بعد الحرب، إلا أن رشدي باشا ورجال حكومته ومنهم عدلي باشا يكن كانوا على قناعة كاملة بأن استقلال مصر مرتبط بانتهاء الحرب وانتصار بريطانيا وحلفائها، ومن هنا فقد كانت الحكومة المصرية وعلى رأسها حسين رشدي تفكر في سبل المطالبة باستقلال البلاد، وتعد العدة لتشكيل وفد رسمي يتوجه إلى لندن لمناقشة حكومة جلالة الملك في أمر مصر بعد الحرب، وكانت رؤية رشدي وعدلي أن وجود وفد غير رسمي أو "شعبي" إلى جانب الوفد الرسمي يدعم المطالبة بالاستقلال، وعزز جهود الحكومة التي لا تستند إلى أي مشروعية شعبية، وسعد يملك هذه المشروعية باعتباره الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية وبخبرته السياسية الطويلة أفضل من يرأس هذا الوفد، لذلك كان التنسيق كاملًا بين سعد ومجموعته ورئيس مجلس الوزراء حسين باشا رشدي.

الزعيم محمد فريد
يبقى شخص رابع لم يفكر في إرسال وفد بل قام بنفسه بالفعل ومنذ سنوات ما قبل الحرب برئاسة عدة وفود في محافل دولية مختلفة للمطالبة باستقلال مصر، إنه محمد فريد بك الزعيم المنسي، خليفة مصطفى كامل في رئاسة الحزب الوطني، الرجل الذي اختار المنفى ليواجه من خلاله الاحتلال، فمنذ عام 1910 يشارك الزعيم محمد فريد في مؤتمرات السلام العالمية ويلقي فيها الخطب ويقدم المذكرات شارحًا القضية المصرية، كان أول مؤتمر للسلام يشارك فيه مؤتمر استوكهلم في أغسطس سنة 1910 وشكل بعده جمعية السلام العام بوادي النيل، ليشارك بعدها في مؤتمر جنيف في سبتمبر سنة 1912 ومؤتمر لاهاي في أغسطس سنة 1913 على رأس وفد مصري ضم محمد عبد الملك حمزة بك ومحمد علي بك المهندس والأستاذ محمد السادة والأستاذ السيد منصور، كما شارك في مؤتمرات الأجناس المضطهدة بلندن في فبراير 1914 ولوزان في يونيو 1916، كما تقدم بمذكرة لمؤتمر الاشتراكية الدولية باستوكهلم سنة 1917، وفي أكتوبر من نفس العام وقبل طرح فكرة الوفد المصري بعام أرسل بمذكرة للدول المتحاربة والمحايدة يطلب فيها الإقرار باستقلال مصر التام وحريتها عند انعقاد مؤتمر الصلح، وتوالت مذكراته ورسائله من المنفى إلى كل محفل دولي يمكن أن يخاطبه، بما في ذلك مؤتمر الصلح نفسه الذي أرسل إليه ثلاثة تقارير في ديسمبر 1918 ويناير 1919 طالب فيها باستقلال وادي النيل وقبول مصر في عصبة الأمم وتمثيلها في مؤتمر الصلح وحماية حرية الملاحة في قناة السويس.
 لقد كانت هناك رؤيتان داخل الحركة الوطنية رؤية الأمير عمر طوسون والحزب الوطني وترى تدويل القضية وعرضها على مؤتمر الصلح، ورؤية سعد زغلول ومجموعته وحسين رشدي وحكومته وترى الاتجاه إلى بريطانيا والحوار معها. وقد نجح سعد زغلول في الأيام الأولى للحركة في لم الشمل الوطني من خلال ضم أعضاء جدد للوفد يمثلون الاتجاهات المختلفة في الحركة الوطنية.

الأربعاء، 12 نوفمبر 2014


"13 نوفمبر"

 يوم تغير فيه التاريخ

عماد أبو غازي

 يوم 11 نوفمبر سنة 1918 سكتت المدافع على جميع الجبهات، وانتهت الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء، بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا، انتصارًا كاملًا على دول المحور بقيادة ألمانيا، توقفت الحرب بعد أربع سنوات وبضعة أشهر عرف فيها العالم ويلات لم يعرفها في تاريخه من قبل.
 كان المصريون ينتظرون نهاية الحرب حتى تنتهي معانتهم من حرب لم يكونوا طرفًا فيها، سقط في المعارك شهداء من المصريين، وصادرت سلطة الاحتلال دوابهم ومحاصيلهم لصالح المجهود الحربي، وتحملت الخزانة المصرية ثلاثة ملايين ونصف مليون جنيه دعمًا لبريطانيا العظمى في حربها، لكنهم أيضًا كانوا ينتظرون على أمل أن ينتهي الاحتلال البريطاني لمصر مع نهايتها مثلما انتهى الحكم العثماني مع بدايتها.
 كانت آمال المصريين تستند إلى ما قدموه من دعم لبريطانيا أثناء الحرب، كما كانت تستند إلى الوعد البريطانية، فقد جاء في رسالة الحكومة البريطانية إلى السلطان حسين كامل عند تنصيبه مكان الخديوي عباس حلمي الثاني: "قد أصبح من الضروري الآن وضع شكل للحكومة التي ستحكم البلاد بعد تحريرها"، كما تضمنت وعدًا بالنظر في نظام الامتيازات الأجنبية بعد انتهاء الحرب، ومع اقتراب نهاية الحرب بدأ التفكير جديًا في نظام جديد لإدارة البلاد، وقد وضع بالفعل السير وليم برونيت المستشار المالي البريطاني مشروعًا لقانون نظامي لمصر لكن النخبة السياسية المصرية رفضته تمامًا لأنه وضع مصر في مرتبة المستعمرات وحرمها من مجلس تشريعي منتخب، وكان أول من تصدى للمشروع حسين باشا رشدي رئيس الحكومة.
 وفي عام 1917 أعلن الرئيس الأمريكي ويلسون المبادئ الأربعة عشر التي تضمنت حق تقرير المصير للشعوب، وقد أحيت هذه المبادئ الآمال في نفوس المصريين، فقد تصوروا أن الدول المنتصرة سوف تلتزم بهذه المبادئ وتعمل بها بعد نهاية الحرب.
 ورغم إعلان الأحكام العرفية وفرض الرقابة على الصحف وتعطيل الجمعية التشريعية أثناء سنوات الحرب الأربعة، إلا أن الروح الوطنية كانت تنمو ببطء في تربة هيئتها سنوات النضال الوطني والديمقراطي منذ مطلع القرن، فقد كانت السنوات الأولى من القرن العشرين سنوات للبعث الوطني ولتمهيد التربة من أجل المطالبة بالاستقلال والدستور بفضل التيارين الفاعلين في الحركة الوطنية المصرية، تيار الحزب الوطني وتيار حزب الأمة.
 ومع نهاية الحرب حدث ما لم يكن في الحسبان وما لم تكن تتوقعه سلطات الاحتلال التي تصورت واهمة أن الهدوء الذي خيم على البلاد أثناء الحرب كان خنوعًا من المصريين وقبولًا للاحتلال، فقبل أن تنتهي الحرب اتفق سعد باشا زغلول الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية وزعيم المعارضة بها وزميليه في الجمعية عبد العزيز فهمي بك وعلي شعراوي باشا على أن يطلبوا من دار الحماية تحديد موعد لهم ليقابلوا السير رجنلد وينجت المندوب السامي البريطاني للتحدث إليه في طلب الترخيص لهم بالسفر إلى لندن لعرض مطالب البلاد على الحكومة الإنجليزية.
 وقبل أن تعلن الهدنة بساعات تقدم سعد ورفيقيه يوم الاثنين 11 نوفمبر بطلبهم إلى دار الحماية بوساطة من حسين باشا رشدي رئيس الوزراء، فاستجابت دار الحماية لطلبهم وحددت لهم موعدًا يوم الأربعاء 13 نوفمبر 1918 الساعة الحادية عشر صباحًا، وقابلوا المندوب السامي ودار بينهم حوار طويل استمر لمدة ساعة.

 جدارية من قاعدة تمثال سعد بالإسكندرية تصور لقاء الزعماء الثلاثة بالمعتمد البريطاني
(محمود مختار)
وقد أورد المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919 نصًا للحوار الذي دار بين الزعماء الثلاثة والمندوب السامي البريطاني، حيث طالب سعد زغلول بإلغاء الأحكام العرفية وإنهاء مراقبة الصحف والمطبوعات، تلك الرقابة التي ضاق بها المصريون...
 وقال سعد: "المصريون لهم الحق في القلق على مستقبلهم".
  وعندما رد عليه ونجت مطالبا إياه والمصريين بعدم التعجل والنظر للعواقب البعيدة، علق سعد على مقولة ونجت بأنها عبارة مبهمة غير مفهومة.
 وقد وجه ونجت أثناء الحديث انتقادات لمحمد فريد ورجال الحزب الوطني، أوضح علي شعراوي باشا دوافع الحزب الوطني في اتخاذ المواقف المتشددة....
 وقال: "نريد صداقة الحر للحر لا العبد للحر"...
 عندها قال ونجت في استنكار: "إذا فأنتم تريدون الاستقلال"...
 فرد سعد: "ونحن أهل له"...
 حاول ونجت أن يقلل من شأن الشعب المصري ومن قدرته على حكم نفسه بنفسه، مرة بالتأكيد على ضرورة التدرج في الاستقلال، ومرة بحجة عدم أهلية المصريين، ومرة ثالثة بدعوى أمية المصريين، ومرة رابعة بالإشارة إلى موقع مصر الذي يجعلها مطمعًا للطامعين.
 ففند الزعماء الثلاثة دعواه الواحدة بعد الأخرى، وأكد عبد العزيز بك فهمي على مطالب الأمة قائلا: "نحن نطلب الاستقلال التام".... وأكد على أن للحزب الوطني وحزب الأمة هدف واحد وطريقين مختلفين للوصول إليه.
 بعد أن انتهى اللقاء توجه الزعماء الثلاثة إلى وزارة الداخلية لمقابلة حسين رشدي باشا في مكتبه بالوزارة وأبلغوه بما دار في اللقاء.
 وكان رشدي باشا قد أعد في نفس اليوم خطابًا للسلطان أحمد فؤاد يستأذنه فيه السماح له ولعدلي يكن باشا بالتوجه إلى لندن للسعي نحو تحقيق استقلال مصر.
 وفي نفس اليوم أيضًا التقى رشدي بالسير ونجت، فتسأل الأخير كيف يتحدث ثلاثة رجال باسم الأمة؟
 وعندما علم سعد من رشدي باشا بما دار في لقائه مع ونجت اجتمع مع رفيقيه للتشاور في أسلوب يثبت جدارتهم بتمثيل الأمة، فاتفقوا على تأليف هيئة تسمى الوفد المصري في إشارة إلى أنها وفد مصر للمطالبة باستقلالها، وأن تحصل هذه الهيئة على توكيلات من الأمة للحديث باسمها.

 كان يوم الأربعاء 13 نوفمبر 1918 يومًا تغير فيه وجه التاريخ في مصر، كان يومًا له ما بعده.

الثلاثاء، 11 نوفمبر 2014


وسكتت المدافع في نوفمبر

عماد أبو غازي

 غريب جدا أمر المصادفات التاريخية، ففي يوم 11 نوفمبر عام 1918 سكتت المدافع في أوروبا بعد أربع سنوات من الحرب الضارية التي قامت بين الدول الاستعمارية الأوروبية من أجل اقتسام النفوذ، الحرب التي سميت وقتها الحرب العظمى، ونطلق عليها اليوم الحرب العالمية الأولى، والتي كان لها تأثيرًا بالغًا في تاريخ مصر الحديث، رغم أن مصر لم تكن طرفًا أصيلًا في تلك الحرب.
 
 
 في نفس اليوم، يوم 11 نوفمبر وقبل أربع سنوات على نهاية الحرب وإعلان الهدنة، وبعد أسابيع قليلة من اشتعال نيران الحرب وجه الخديوي عباس حلمي الثاني منشورًا إلى الأمة بإعلان الدستور بناء على نصيحة الزعيم محمد فريد.

 عباس حلمي الثاني
أربع سنوات تفصل بين إعلان الخديوي عباس حلمي وإعلان الهدنة، كانت سنوات تغير فيها وجه مصر، واختمرت فيها الثورة، الثورة الشعبية الكبرى في تاريخنا الحديث، ثورة 1919 التي نقترب من الاحتفال بعيدها المئوي بعد سنوات قليلة، وفي مثل هذه الأيام من نوفمبر سنة 1918 كانت البداية، كانت في يوم 13 نوفمبر 1918، اليوم الذي أصبح عيدًا للجهاد الوطني، ظلت مصر تحتفل به باعتباره أهم أعيادنا الوطنية إلى أن قام انقلاب يوليو 1952.
 لكن قبل يوم البداية لابد من العودة إلى الوراء قليلًا لنرى كيف جاءت البداية، خضعت مصر للاحتلال البريطاني عام 1882، ورغم أن القوة الحقيقية في مصر كانت للمعتمد البريطاني لكن الوضع القانوني للاحتلال ظل مخلخلًا، بسبب تبعية مصر من الناحية الرسمية للدولة العثمانية وبسبب ضغوط الدول الأوروبية المنافسة لبريطانيا، وفي عام 1904 استقر وضع الاحتلال بعد الاتفاق الودي بين فرنسا وبريطانيا، والذي جاء فيه: "إن حكومة جلالة الملك (ملك بريطانيا) تصرح بأنها لا تقصد تغيير الحالة السياسية في مصر، وحكومة الجمهورية الفرنسية تصرح بأنها لا تعترض عمل بريطانيا العظمى في مصر، لا بطلب تعيين أجل للاحتلال ولا بأمر آخر"، وسرعان ما انضمت حكومات ألمانيا والنمسا وإيطاليا إلى الاتفاق، بذلك أصبحت بريطانيا مطلقة اليد في مصر، خصوصا أن السلطان العثماني الحاكم "الشرعي" لمصر (والشرعي بين مليون قوس) لم يكن بقادر على التصدي لبريطانيا، فضلا عن إنه ساعدها في احتلالها للبلاد بإصداره فرمان عصيان عرابي سنة 1882.

 السلطان عبد الحميد الثاني
في السنوات التي أعقبت الوفاق الودي تحول التياران الرئيسيان في الحركة الوطنية المصرية إلى حزبين: حزب الأمة والحزب الوطني، وكان للحزبين الفضل في تمهيد الأرض للثورة، فكما يقول المؤرخ الراحل الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه المهم "تطور الحركة الوطنية في مصر": "إذا كان الحزب الوطني قد غرس في تلك الحقبة من تاريخ مصر بذرة الكراهية للاحتلال ومقاومته في نفوس الشعب، فإن حزب الأمة قد ثبت بدوره أسس القومية المصرية، وألقى بذور الاستقلال عن كل من تركيا وبريطانيا، وبمعنى آخر أنه بينما كان عمل الحزب الوطني قائمًا على هدم الاحتلال، كان عمل حزب الأمة قائمًا على بناء أسس مصر الحديثة المستقلة، وواضح أن العمليتين: الهدم والبناء يكمل كل منهما الآخر".
 لقد مهد الحزبان الأرض فأثمر زرعهما الثورة.
 في 1914 نشبت الحرب في أوروبا بين معسكرين، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا في جانب، وألمانيا والنمسا والمجر وبلغاريا ثم تركيا في الجانب الآخر، بدأت المعارك في أغسطس بعد اعتداء ألمانيا على بلجيكا، وتصاعدت المعارك بطول أوروبا وعرضها، وامتدت إلى منطقة المشرق العربي والمستعمرات، كانت أول حرب في تاريخ الإنسانية تمتد بهذا الاتساع.
 
 
 كانت مصر بين ناريين في هذه الحرب فعلى أرضها قوات الاحتلال البريطاني منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وفي نفس الوقت هي ولاية تابعة لتركيا من الناحية الرسمية، وتنازع رجال السياسة في مصر اتجاهين: الأول يراهن على انتصار ألمانيا واهمًا أن هذا الانتصار سيقود إلى استقلال مصر، أما الاتجاه الثاني فكان يؤمن بانتصار الحلفاء ويرى في بريطانيا شرًا أهون من شر، كما كان هؤلاء يتصورون أن مساندة مصر لبريطانيا العظمى في الحرب سيؤدي إلى منح مصر استقلالها.
 
 مع بداية الحرب في أغسطس 1914 أعلن مجلس النظار منع التعامل مع ألمانيا ورعاياها، ومنع السفن المصرية من الاتصال بالموانئ الألمانية واحتجاز السفن الألمانية في الثغور المصرية، ومنح القوات البريطانية حقوق الحرب في الأراضي والمياه المصرية.

 حسين باشا رشدي رئيس مجلس النظار
وفي 2 نوفمبر 1914 أعلن الجنرال مكسويل قائد جيش الاحتلال في مصر وضع القطر المصري تحت الحكم العسكري، وفرضت الرقابة على الصحف كنتيجة لإعلان الأحكام العرفية.
 يوم 11 نوفمبر 1914 أعلن الخديوي عباس حلمي الثاني من استنبول منشورًا إلى الأمة بإعلان الدستور الكامل في مصر، والحقيقة أن الإعلان كان يهدف إلى حشد الشعب المصري خلف الدولة العثمانية ومحاولة الحصول على تأييد المصريين للزحف التركي على البلاد.
 وفي 18 ديسمبر 1914 أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وأنهت علاقتها بالدولة العثمانية، وعزلت الخديوي، وحولت مصر إلى سلطنة، وعينت السلطان حسين كامل سلطانًا على البلاد تحت الحماية البريطانية.
 
السلطان حسين كامل
 
 وقد شارك الجيش المصري في المعارك إلى جانب الجيش البريطاني، وشارك سلاح المدفعية المصرية في التصدي للقوات التركية عند القناة والانتصار عليها. واستشهد في الموقعة الملازم أول أحمد حلمي قائد بطارية المدفعية المصرية.

 أما الموقف العام للشعب المصري فلم يبد تعاطفًا مع الأتراك أو إكتراثًا بهم، ولم تشهد سنوات الحرب مقاومة للاحتلال سوى بعض العمليات الصغيرة لأعضاء الحزب الوطني وأنصاره، لدرجة دفعت القيادة البريطانية إلى سحب جزء من القوات المخصصة لتأمين الجبهة الداخلية إلى جبهة القتال عندما استشعرت أن الأمور آمنة في الداخل.
 وعندما سكتت المدافع يوم 11 نوفمبر 1918 كانت هناك مصر جديدة.

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...