الأربعاء، 30 أبريل 2014


 قراءة في تاريخ الأحزاب السياسية في مصر ( 3 )

1907 عام الأحزاب
عماد أبو غازي

 يعتبر المؤرخون الذين درسوا تاريخ الأحزاب السياسية في مصر عام 1907 عامًا للأحزاب، فقد شهد ذلك العام موجة من موجات تأسيس الأحزاب في مصر جعلته يحتل المرتبة الأولى من حيث عدد الأحزاب التي تأسست فيه، ولم يتراجع عام 1907 عن المرتبة الأولى إلا بعد ثورة 25 يناير 2011 التي أعقبها تأسيس عدد من الأحزاب غير مسبوق في التاريخ المصري.

 ففي هذا العام تحولت ثلاثة تيارات سياسية كانت تعبر عن نفسها من خلال الصحافة إلى أحزاب سياسية؛ فأسس مجموعة من كبار ملاك الأراضي الزراعية وكبار رجال العائلات وبعض رجال السياسة والقانون والصحافة حزب الأمة في 21 سبتمبر سنة 1907، وكان من أبرز قادته ومفكريه أحمد لطفي السيد مُصدر جريدة "الجريدة"، كما شارك في تأسيسه محمود باشا سليمان وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك وحمد الباسل بك وحسن صبري بك ومحمود عبد الغفار بك وأحمد فتحي زغلول، وكان حسن باشا عبد الرازق هو الذي أعلن تأسيس الحزب في اجتماع الجمعية العمومية لشركة الجريدة، وقد تبنى الحزب الفكر الليبرالي ورأى أن الارتقاء بالتعليم وبناء ديمقراطية على أساس من النظام الدستوري الطريق الوحيد لتحقيق رقي مصر واستقلالها، ويعتبر الدكتور يونان لبيب رزق أن حزب الأمة كان أول الأحزاب المصرية التي تحمل سمات الحزب السياسي كما ظهر في الغرب الأوروبي، من حيث وجود برنامج سياسي ولائحة وهيكل إداري ومقار، وعضويات بلغت خلال ثلاثة أشهر فقط 645 عضوًا.


أحمد لطفي السيد


 وبعدها بأشهر قليلة أسس الشيخ علي يوسف صاحب جريدة "المؤيد" ومُصدرها حزب "الإصلاح على المبادئ الدستورية" في 9 ديسمبر من نفس العام، وكان حزبًا مواليًا للخديوي عباس حلمي الثاني ومؤيدًا له، وقد انتهى الحزب بوفاة مؤسسه سنة 1913.

الشيخ علي يوسف
 أما مصطفى كامل صاحب جريدة "اللواء" فأعلن عن تأسيس الحزب الوطني في 27 ديسمبر  سنة 1907، وقد اعتبر حزب مصطفى كامل قضية الاستقلال الوطني همه الأول وإن كان قد تبنى أيضا الدعوة إلى الدستور.
 
مصطفى كامل
 وتطورت مواقف الحزب فيما بعد وفاة مصطفى كامل في 10 فبراير سنة 1908، فاكتسبت أبعادا اجتماعية في ظل زعامة محمد فريد فبدأ يهتم بالنقابات العمالية والتعاونيات ومدارس الشعب وغيرها من المشروعات، وقد أضطر فريد لمغادرة البلاد إلى منفاه الاختياري بين تركيا وسويسرا وألمانيا، لكنه ظل زعيما للحزب حتى وفاته في نوفمبر سنة 1919.

 وكان الحزب الوطني اسمًا يطلق على التيار المعادي للاحتلال قبل تأسيس الحزب، وكانت الصحف الغربية قد بدأت الحديث عن هذا التيار باعتباره حزبًا وطنيًا، وعن مصطفى كامل كزعيم لهذا الحزب، منذ ألقى خطابه الشهير في باريس في 31 أغسطس سنة 1895، ذلك الخطاب الذي شن فيه هجومًا حادًا على الاحتلال البريطاني للبلاد، ويرى الدكتور يونان لبيب رزق أن الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل قد خرج من عباءة الحزب الوطني السري الذي تشكل في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر، وكان يضم الخديوي عباس حلمي إلى جانب رواد صالون لطيف باشا سليم من الوطنيين الراديكاليين، وأصدقاء وتلاميذ محمد عبده الميالين إلى الاعتدال، وبهذا المعنى يكون كل من حزب الأمة والحزب الوطني قد خرجا من عباءة هذه الجماعة السرية.

عباس حلمي الثاني
 وقد سبق الإعلان عن تأسيس الأحزاب الرئيسية الثلاثة في تلك التجربة التي تعد الثانية بين التجارب المصرية في التعددية الحزبية، تكوين الحزب الوطني الحر في 26 يوليو من عام 1907، وكان هذا الحزب الذي أسسه محمد وحيد بك الأيوبي حزبًا مواليًا للاحتلال البريطاني، وقد اختار جريدة "المقطم" التي كانت تعتبر بمعنى ما لسان حال سلطات الاحتلال في مصر، ليعلن من خلالها برنامجه، وقد علقت صحيفة الديلي تلجراف اللندنية على قيام الحزب بقولها: "إن هذا الحزب الحر قد قام لمناهضة مصطفى كامل في حملته ونمائمه، ولدفع الضرر الذي لحق من تلك الحملة بمصالح مصر وبمبدأ الحرية"، في إشارة إلى حملة مصطفى كامل في الداخل والخارج ضد سياسة الاحتلال، خاصة بعد حادثة دنشواي التي وقعت في صيف 1906، وقد تغير اسم الحزب فيما بعد إلى حزب الأحرار بعد أن أصدر جريدة تحمل هذا الاسم في عام 1908، وقد انتهى هذا الحزب في أغسطس من عام 1910 بعد أن أدين مؤسسه في قضية تبديد أموال وحُكم عليه بالسجن لمدة شهرين.
 وشهد عام 1907 أيضا تأسيس الصحفي حافظ أفندي عوض لحزب سياسي حمل اسم الحزب الوطني، وقد نشر برنامجه في جريدة المؤيد التي عمل فيها لمدة عشر سنوات، وكان برنامجه يتحدث عن التعاون مع سلطات الاحتلال، وقال فيه: "إننا رجال الحزب الوطني نعتقد أن مصالح مصر وإنجلترا واحدة"، ويبدو أن حزبه كان حزبا على الورق فقط، وقد انضم في يناير عام 1908 بعد تأسيس مصطفى كامل للحزب الوطني الحقيقي إلى حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، كذلك تأسس في ذلك العام حزب صغير حمل اسم الحزب الجمهوري دعا إلى انهاء حكم أسرة محمد علي، أسسه مجموعة صغيرة العدد من الصحفيين والمثقفين، وكان هذا الحزب يرى أن النظام الجمهوري أقرب النظم إلى مبادئ العدل والإنصاف، ولم يستمر هذا الحزب في الوجود واختفى تمامًا.

 وفي الأعوام التي تلت عام الأحزاب عام 1907، تأسست في مصر مجموعة أخرى من الأحزاب نعرف منها الحزب المصري الذي أسسه أخنوخ فانوس في سبتمبر سنة 1908، ونشر برنامجه في صحفية المقطم، وتقوم فلسفته على محاولة الحصول على استقلال مصر عن طريق الصداقة مع إنجلترا وكسب ثقة الإنجليز، ولم يعش هذا الحزب طويلًا ولم يترك أثرًا في الحياة السياسية.

 ومن الأحزاب الأخرى التي ظهرت على الساحة ولم تستمر أيضًا في الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولى حزب العمال الذي تأسس في يوليو سنة 1908 وأسسه الصحفي محمد أحمد، وحزب النبلاء الذي تأسس في أكتوبر 1908، والحزب الاشتراكي المبارك الذي رأسه الدكتور حسن فهمي جمال الدين وتم الإعلان عن تأسيسه في أكتوبر 1909، وتضمن برنامجه تحسين أحوال الفلاحين ومنح معاشات للعجزة والمرضى منهم  وتنظيم العلاقة بينهم وبين كبار الملاك.
 وفي سنة 1910 تأسس حزب جديد من الأحزاب الموالية للإنجليز باسم الحزب الدستوري، أسسه إدريس راغب، وانتهى وجوده في عام 1911.
 لقد نجحت الدراسات التي قام بها مؤرخون أجانب ومصريين حول تطور الحياة الحزبية في مصر في إجمالها، ومن أهمها دراسات جاكوب لاندو والدكتور يونان لبيب رزق والدكتور محمود متولي في رصد كثير من الأحزاب من خلال تتبع برامجها وأخبارها المتفرقة في الصحف، لكن يبدو  أن معظم أحزاب تلك المرحلة كانت مجرد برامج وأخبار في الصحف باستثناء الأحزاب الثلاثة الرئيسية، حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية وحزب الأمة والحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، بل ربما نستطيع القول أن هذه المرحلة انتهت إلى تيارين رئيسيين: تيار الحزب الوطني وتيار حزب الأمة امتد تأثيرهما إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى.
 وخلال الفترة من عام 1907 حتى عام 1918 كان الحزب الوطني اللاعب الرئيسي في الساحة السياسية المصرية، لم يفقد قوته برحيل زعيمه مصطفى كامل، بل استمر وتطور في ظل زعامة محمد فريد، ولم يتوقف بمغادرة فريد للبلاد بل استمر نشاطه في الداخل والخارج، بل حتى لم تستطع الحرب العالمية الأولى أو الأحكام العرفية والمصادرات المتوالية لصحفه من قبل السلطة إخماد صوته، واتجه بعض شبابه إلى العمل السري المسلح ضد الاحتلال، بل لجأ بعضهم إلى تنفيذ محاولات لاغتيال السلطان حسين كامل وبعض رجاله.

 وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى كان الحزب الوطني الحزب الوحيد الذي استمر من أحزاب تلك المرحلة بمسماه وهياكله وبرنامجه إلى أن تم حل الأحزاب السياسية في يناير 1953.

الاثنين، 28 أبريل 2014


قراءة في تاريخ الأحزاب السياسية في مصر ( 2 )

مصر بين تجربتين

عماد أبو غازي

 هل اختفت التنظيمات السياسة في مصر عقب هزيمة الثورة العرابية وخضوع مصر للاحتلال البريطاني في خريف 1882؟
 نستطيع القول بأن التجربة المصرية الأولى في تشكيل الأحزاب تكاد تكون قد انتهت بهزيمة الثورة العرابية واحتلال بريطانيا لمصر في سبتمبر 1882، ونقول: "تكاد تكون"، لإنه عقب الاحتلال البريطاني مباشرة واصل بعض الوطنيين المصريين في الخارج نضالهم ضد الاحتلال في مصر من خلال صحافة معبرة عن التيار الوطني، كان منهم الشيخ محمد عبده عضو الحزب الوطني الذي شارك جمال الدين الأفغاني في إصدار مجلة العروة الوثقى من الخارج، ويعقوب صنوع الذي نفاه الخديوي إسماعيل فظل يصدر الصحف الوطنية من باريس حتى وفاته، وكل هؤلاء كانوا امتدادًا للتجربة الحزبية القصيرة التي استمرت من 1879 إلى 1882.
 
الأفغاني
 

                                                  يعقوب صنوع

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
محمد عبده
 كذلك تشكلت مجموعات للمقاومة السرية المسلحة، جماعات للانتقام مما حل بالوطن وبقادة ثورته الذين قدم العشرات منهم وفي مقدمتهم أعضاء الحزب الوطني لمحاكم عسكرية ومخصوصة، أصدرت ضدهم أحكاما بالإعدام ـ أرغمت سلطات الاحتلال الخديوي على تخفيفها ـ والنفي والسجن وتحديد الإقامة ومصادرة الأملاك والعزل من الوظيفة، حقًا لم تستمر هذه المنظمات طويلًا، كما لم تكن حركة مجموعات المقاومة السرية مؤثرة، لكنها كانت تعكس إدراك قطاع من المصريين، خاصة الشباب، لأهمية التنظيم، وكان من بين من قبض عليهم بتهمة الانتماء إلى هذه المجموعات الشاب سعد زغلول أحد مريدي الأفغاني ومحمد عبده، سعد الذي أصبح زعيمًا للثورة المصرية بعدها بخمسة وثلاثين عامًا، والذي أسس أهم وأكبر حزب سياسي في مصر في القرن العشرين.
سعد زغلول

 تاريخ هذه المجموعات مازال في معظمه مجهولًا يحتاج إلى البحث والدراسة، وربما كانت الوثائق البريطانية ووثائق نظارة الداخلية ومجلس النظار في مصر مصدرًا لمعلومات عن هذه المنظمات، إذا جاز لنا وصفها بذلك.
 هناك أيضا ظواهر أخرى تشير إلى وجود مجموعات منظمة دون أن تعلن عن تشكيل أحزاب سياسية بالمعنى المتعارف عليه، فعلى سبيل المثال تكشف قصة نجاح عبد الله النديم خطيب الثورة في الهروب لمدة تسع سنوات عن شكل من أشكال الارتباط بين من تبقى حرًا من رجال الحزب الوطني، وتبين أقواله التي أدلى بها عقب القبض عليه عام 1891 رحلته مع الهرب وأسماء من ساعدوه ومولوا رحلته، ومنهم بعض كبار الملاك والأعيان والعمد والمشايخ والموظفين العموميين الذين شاركوا في العمل الوطني في سبعينيات القرن التاسع عشر وثمانينياته، لقد كانوا تيارًا متواصلًا كامنًا تحت السطح، كذلك فإن تيار معارضة الاحتلال ظل يعمل بهدوء على مدى ما يقارب عقدين من الزمان، وكان المعارضون لسلطة الاحتلال يُسمون "الوطنيون" وأحيانًا "الفرنسيون" لإنهم اتخاذوا من الفرنسية لغة للكتابة عندما يكتبون بلغة أجنبية كنوع من التحدي لسلطات الاحتلال، كما عرفت مصر ظاهرة الصالونات الفكرية التي شارك فيها مجموعة من الذين أثروا في الحياة السياسية في مصر من أمثال الشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول، وبمجرد عودة النديم من منفاه بعد تولي عباس حلمي الثاني مقعد الخديوية قام بإصدار مجلة الأستاذ، وتحلق حوله مجموعة من الشباب الوطني، وارتادوا مجلسه وكان من بينهم مصطفى كامل مؤسس الحزب الوطني الثاني، وإذا كان النديم قد نُفي مرة أخرى بعيدًا عن مصر، إلا أن الروح الوطنية تجددت مرة أخرى في تسعينيات القرن التاسع عشر، ورغم أن المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي يلح في كتاباته على فكرة تراجع الروح الوطنية تمام وسيادة سلوك التملق للمحتل البريطاني خلال السنوات الخمسة عشر التي أعقبت الاحتلال في محاولة لإبراز التحول الذي حدث بظهور مصطفى كامل، إلا أن مصطفى كامل ما كان له أن يظهر على الساحة ويلعب الدور الذي لعبه في البعث الوطني دون وجود تيار في الحياة السياسية يقاوم الاحتلال البريطاني، حتى ولو كان ذلك بالمقاومة السلبية، حقا إنه من المؤكد حتى الآن في ضوء ما لدينا من وثائق أن تلك لم تعرف تشكيل أحزاب سياسية، لكنها شهدت نمو تدريجي لتيار مقاوم لعب فيه بعض من شاركوا في النضال الوطني قبل الاحتلال دورًا، وتبلور هذا التيار فيما بعد في موجة ثانية من الأحزاب السياسية.
 لقد عاد التيار الوطني إلى الظهور بقوة مع مطلع القرن العشرين، من خلال مجموعة من الصحف الوطنية كانت اللواء التي أصدرها مصطفى كامل سنة 1900 في صدارتها، بينما عادت الحياة الحزبية إلى مصر مرة أخرى مع عام 1907 الذي يطلق عليه المؤرخون عام الأحزاب، ففي ذلك العام تحولت الصحف الرئيسية الثلاثة التي تعبر عن التيارات السياسية الرئيسية في المجتمع، اللواء والمؤيد والجريدة إلى أحزاب سياسية.
https://t.co/Ll14LyFgb2

أنا ضد الاعدام


نحن مجموعة من المصريات والمصريين اجتمعنا مؤخرا بعد أن صدمنا تصاعد النغمة المستهينة بحق الحياة في مصر، وتصاعد وتيرة أحكام الإعدام في البلاد والترويج لها باعتبارها حلاً عملياً لمشاكلنا، وما يمثله ذلك من تعدٍ على أقدس وأول حقوق البشر وهو الحق في الحياة، مما يكرس لاستباحة الأرواح ويغذي اجواء الترويع وتصعيد العنف والعنف المضاد.
اجتمعت المجموعة مؤخرا في القاهرة على هدف واحد وهو العمل على "إلغاء عقوبة الأعدام في مصر" حتى نلحق بركب الدول التي ألغت العقوبة سواء في القانون أو الممارسة بما في ذلك دول عربية وإسلامية عديدة، والتي بلغت اكثر من ثلثي بلاد العالم، وفقا لمنظمة العفو الدولية.
لقد اجتمعنا وفي أذهاننا سؤال اساسي ملح "من ذا الذي يحق له أن يسلب حياة ليس هو مانحها للإنسان؟"، إن القيم والمبادئ العليا لكافة الأديان والشرائع والعهود السماوية والأرضية تتفق على أولوية حماية حياة ودم الإنسان فيما تعمل هذه العقوبة على إهدارهما.
وكان الواقع المرير الذي تمر به البلاد أحد المحفزات الهامة التي حركت ضمائر الموقعين على هذا البيان، وخاصة التدهور الواضح في منظومة العدالة والقانون في مصر التي أصبحت معها الأحكام القضائية محل تساؤل في مدى استنادها لأسس العدالة البسيطة وأساليب الإثبات الخالية من التعسف والإجبار.
إن انتشار التعذيب واستفحاله واستخدامه بشكل ممنهج من قبل رجال السلطة في مصر واستمرار الاعتماد على الاعترافات كوسيلة لإثبات الجرائم في مصر رغم تكرار إثبات انتزاعها تحت التعذيب في كثير من القضايا يزيد من قلق الموقعين على هذا البيان بشأن عقوبة لا يمكن التراجع عنها بعد تنفيذها، فعقوبة السجن يمكن خفضها وإنهاء حبس أي محتجز بموجبها بعد إثبات براءته وعقوبة الغرامة كذلك، ولكن عقوبة الإعدام لا يمكن التراجع عنها بعد تنفيذها، بالإضافة الى ان اعدام الأبرياء ينطوي على احتمال افلات الجاني واستمراره في تهديد المجتمع.
لكل ما ذكرناه يطالب الموقعون على هذا البيان السلطات المعنية في مصر بتعليق تنفيذ كافة الأحكام الصادرة بالإعدام وبالامتناع عن إصدار أية أحكام جديدة بالإعدام لحين فتح نقاش مجتمعي واسع يسمح للجميع بتبين أبعاد مشكلات هذه العقوبة، كما يطالب الموقعون جميع المهتمين بالشأن العام بالمساهمة في فتح النقاش حول هذه القضية من أجل حماية حق المصريين في الحياة.وقد صدر البيان يوم 27 ابريل 2014 حاملا 164 توقيعا
وبلغ عدد التوقيعات يوم 28 ابريل 2014 صباحا 700 توقيعا.

الأحد، 27 أبريل 2014


قراءة في تاريخ الأحزاب السياسية في مصر ( 1 )

البداية

·        حكاية جمعية مصر الفتاة أقدم تشكيل حزبي عرفته مصر في تاريخها الحديث.

·        الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني، مؤلف من رجال مختلفي الاعتقاد والمذهب وجميع النصارى واليهود ومن يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها.

عماد أبو غازي

  عرفت مصر الأحزاب السياسية منذ أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، في تجربة قصيرة سبقت الثورة العرابية وانتهت ظاهريا مع الاحتلال البريطاني لمصر، وبعد هذه التجربة الأولى في العمل الحزبي عرفت مصر في تاريخها أربع تجارب أخرى في التعددية الحزبية المقننة؛ الأولى في بدايات القرن العشرين، والثانية واكبت ثورة 1919 واستمرت حتى صدور قرار حل الأحزاب السياسية في يناير 1953 بعد انقلاب الضباط الأحرار، والثالثة في منتصف السبعينيات من القرن العشرين مع العودة للتعددية المقيدة، والتجربة الرابعة نعيشها الآن بعد ثورة 25 يناير،  ولكل مرحلة من هذه المراحل ملامحة المميزة وسماتها الخاصة.
 ورغم ما يببدو في هذا المسار من انقطاعات وفجوات زمنية إلا أن حقيقة الأمر أن النشاط الحزبي لم  يتوقف تقريبًا في مصر منذ بدأ قبل أكثر من مائة وثلاثين عاما، كما أن هناك تواصل دائم بين التجارب الحزبية في تاريخنا حتى وإن لم يبد ظاهرا على السطح.
*****
 التجربة الأولى: في سبعينيات القرن التاسع عشر، في وقت كانت البلاد تموج فيه بتيارات الإصلاح والتجديد، وكان الشعور الوطني في تصاعد مستمر، حيث سعى الوطنيون المصريون إلى إنقاذ البلاد من عبء الديون الخارجية التي كانت قد أوشكت أن تهدر استقلال مصر، أصدرت مجموعة من قادة الرأي ورجال السياسة والعسكريين الوثيقة المعروفة باسم اللائحة الوطنية في 2 أبريل سنة 1879، ووقع عليها 327 شخصية من بينهم ستين من أعضاء مجلس شورى النواب وشيخ الإسلام وبطريرك الأقباط الأرثوذكس وحاخام اليهود المصريين وعدد من العلماء ورجال الدين، وأكثر من أربعين من التجار وكبار الملاك، وبعض الموظفين الحكوميين، وقرابة تسعين من العسكريين، وركزت اللائحة على مطلبين أساسيين: مشروع وطني لحل أزمة الدين الخارجي يضع حد للتدخل الأجنبي في إدارة شؤون البلاد، ونظام نيابي دستوري يأتي بحكومة مسؤولة أمام البرلمان.

القاهرة سبعينيات القرن التاسع عشر
 وقد قبل الخديوي إسماعيل العريضة وسعى لتنفيذها، وكلف شريف باشا برئاسة الحكومة وإعداد الدستور وتنفيذ ما ورد في اللائحة، الأمر الذي أدى إلى الإطاحة به من مقعد الخديوية باتفاق أوروبي عثماني، ليحل محله ابنه توفيق، ولم يستطع شريف باشا الاستمرار مع التوجهات الجديدة للخديوي الشاب الذي خضع لمخططات القوى الأوروبية.



الخديوي إسماعيل


الخديوي توفيق
        
 شريف باشا
 دفع الوضع المتأزم المعارضين الوطنيين إلى تشكيل تجمعات معارضة لسياسة الخديوي وللتدخل الأجنبي، فتشكلت التجمعات السياسية مثل جماعة مصر الفتاة والحزب الوطني الأهلي، التي كانت تطرح مشروعات للإصلاح الوطني والدستوري.

 وتعد جمعية مصر الفتاة التي ظهرت في سبعينيات القرن التاسع عشر أقدم تشكيل حزبي عرفته مصر في تاريخها الحديث، وقد تأسست في مدينة الإسكندرية، وقد اقتبست اسمها من تنظيم وطني إيطالي لعب دورًا بارزًا في تحقيق الوحدة الإيطالية كان يسمى "إيطاليا الفتاة"، وأظن أن اختيار الاسم جاء بتأثير اختلاط الجالية الإيطالية في الإسكندرية  بالمصريين، وكان للجمعية جريدة ناطقة باسمها تحمل أيضًا اسم "مصر الفتاة"تمت مصادرة أعدادها ثم تعطيلها نهائيا في نوفمبر 1879، ورئيس الجمعية غير معروف، لكن نائب رئيسها كان رئيسًا لمحكمة أسيوط اسمه محمد أمين، وكاتم سرها محمود واصف، وكان ممن اتصل بالجمعية وانضم إليها عبدالله النديم، وكان للجمعية برنامجًا سياسيًا يدعو لإقامة نظام سياسي جديد يقوم على توزيع السلطات وتوازنها، واستقلال القضاء، وتحقيق المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، وصيانة الحريات الشخصية وحرية الاعتقاد والتعبير، وتطوير التعليم العام والاهتمام به، وإعادة تنظيم الجيش، والإصلاح الضريبي والاقتصادي للتخلص من أزمة الدين العام، كما اهتمت الجمعية في كتابتها بأوضاع الفلاحين والطبقات الشعبية، ويبدو أن الجمعية لم تستمر طويلا فحسب ما ذكره الدكتور محمود متولي في كتابه المعنون "مصر والحياة الحزبية والنيابية قبل سنة 1952"، انتقل أعضاء الجمعية تدريجيًا إلى الحزب الوطني.

عبد الله نديم
 أما الحزب الثاني فقد قام بتشكيله بعض الموقعين على العريضة الوطنية في شكل جماعة أخذت تجتمع بشكل سري في القاهرة في بيت السيد البكري نقيب الأشراف ثم في بيت محمد باشا سلطان، وقد عرفت باسم الحزب الوطني الأهلي، كما عرفت باسم جماعة حلوان بسبب نقل اجتماعاتها إلى حلوان بعيدًا عن عيون شرطة رياض باشا.
رياض باشا
 وقد بدأت المجموعة نشاطها الرسمي في 4 نوفمبر 1879 بإصدار بيان سياسي طبعوا منه 20 ألف نسخة تم توزيعها في أنحاء البلاد، وفشل رياض باشا في التوصل إلى المجموعة التي تقود الحزب، وكان محمد باشا سلطان أول رئيس للحزب، وضم الحزب في عضويته عناصر مدنية وعسكرية وعددًا من قادة الرأي البارزين آنذاك تبنوا برنامجًا للإصلاح السياسي والاقتصادي، منهم سليمان باشا أباظة وحسن باشا الشريعي وشريف باشا وإسماعيل راغب باشا وعمر باشا لطفي، ومن العسكريين شاهين باشا كينج ناظر الحربية السابق ومحمود سامي البارودي وأحمد عرابي وعبد العال حلمي وعلي فهمي، وتوالت بيانات الحزب في الداخل والخارج تحمل مطالب الحركة الوطنية المصرية، وفي ذات الوقت تم تكليف أديب اسحاق بإصدار صحيفة في باريس اسمها "القاهرة" لتكون لسان حال الحزب الوطني، بعد إغلاق جريدتي "مصر" و"التجارة" المعبرتان عن التيار الوطني، وكانت أعداد جريدة القاهرة تدخل إلى البلاد مهربة ويتم تداولها سرًا.

أديب إسحاق
 وكان لجمعية مصر الفتاة والحزب الوطني دورهما المهم في التمهيد لقيام الثورة العرابية، بل إن أحمد عرابي نفسه كما رأينا كان عضوًا بالحزب.



الخديوي توفيق وشريف باشا مع قادة الثورة العرابية
 وبعد الثورة سعى الحزب الوطني إلى تقديم نفسه بشكل واسع داخل البلاد وخارجها من خلال برنامج سياسي تفصيلي ساهم في ترويجه السياسي البريطاني ويلفرد بلنت صديق العرابيين، وأشير فيه صراحة إلى أن أحمد عرابي هو لسان حال الحزب، واللافت للنظر أن البرنامج يبدو فيه اتجاه طمئنة الخارج العثماني والأوروبي، فقد أكد البرنامج على العلاقة الودية بين مصر والدولة العثمانية مع الحفاظ على ما نصت عليه الفرمانات السلطانية من استقلال لمصر، لكنه في ذات الوقت اعترف بحق السلطنة العثمانية فيما تحصل عليه من خراج من مصر. أما ما يتعلق بالقوة الأوروبية الكبرى (إنجلترا وفرنسا) فقد أشار البرنامج إلى اعتراف الحزب الوطني بفضلهما، وبحقهما في استمرار الرقابة المالية الأوروبية لحين سداد ديون مصر، وفي هذا تراجع واضح عن مطالب اللائحة الوطنية.

 وفي الشأن الداخلي أشار البرنامج في ماده الثانية إلى الخديوي توفيق وأعلن خضوع الحزب لجنابه العالي وتأييد سلطته "ما دامت أحكامه جارية على قانون العدل والشريعة حسب ما وعد به المصريين في شهر سبتمبر سنة 81"، في إشارة إلى مظاهرة عابدين في 9 سبتمبر 1881، وقرن البرنامج الخضوع للخديوي "بالعزم الأكيد على عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر الذل، وبالإلحاح على الحضرة الخديوية بتنفيذ ما وعدت به من الحكم الشوري وإطلاق عنان الحرية للمصريين". وفي هذا السياق وفي مواضع عدة من البرنامج يتكرر الهجوم على الخديوي إسماعيل باعتباره نموذجًا للاستبداد وإهدار موارد البلاد.

 ويشير البرنامج إلى أن دور العسكريين في السياسة مؤقت وإلى عودتهم إلى مهمة حماية الأمة بمجرد اكتمال الإصلاح السياسي وانعقاد مجلس النواب.

 ويعرف البرنامج الحزب بأنه: "حزب سياسي لا ديني، مؤلف من رجال مختلفي الاعتقاد والمذهب وجميع النصارى واليهود ومن يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم لهذا الحزب، فإنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات ويعلم أن الجميع إخوان، وحقوقهم في السياسة والشرائع متساوية".

ويُختتم البرنامج بعبارة تقول: "آمال هذا الحزب محصورة في إصلاح البلاد ماديًا وأدبيًا؛ ولا يكون ذلك إلا بحفظ الشرائع والقوانين وتوسيع نطاق المعارف وإطلاق الحرية السياسية التي يعتبرونها حياة للأمة، وللمصريين اعتقاد في دول أوروبا التي تمتعت ببركة الحرية والاستقلال أن تمتعهم بهذه البركة، وهم يعلمون أنه لن تنال أمة من الأمم حريتها إلا بالجد والكد فهم ثابتون على عزمهم، آمنون في تقدمهم، واثقون بجانب الله تعالى إذا تخلى عنهم من يساعدهم".

السبت، 26 أبريل 2014


مصر قصة

حضارة

حكم قراقوش
عماد أبو غازي
 نعود اليوم معا إلى القرن السادس الهجري، إلى زمن الدولة الأيوبية، وعلى وجه التحديد إلى عصر مؤسسها صلاح الدين يوسف بن أيوب، ورحلتنا اليوم للتعرف على واحد من أبرز معاوني السلطان صلاح الدين الأيوبي وأشهر رجال دولته، الأمير بهاء الدين قراقوش، الذي سام المصريين العذاب فانتقموا منه شر انتقام، مستخدمين أقدم أسلحتهم وأمضاها فعلا، سلاح النكتة والسخرية.
 لكن تعالوا معا أولا لنتعرف على أصل الأيوبيين، المؤسس الحقيقي للأسرة الأيوبية من وجهة نظر معظم المؤرخين هو يوسف بن أيوب المشهور بصلاح الدين الأيوبي، وكان جده ويسمى شاذي من أصل كردي حسب أرجح الروايات والآراء، وقد التحق ابنا شاذي وهما أيوب وشيركوه بخدمة نور الدين محمود أحد حكام دولة الأتابكه في حلب وهو ابن الاتابك عماد الدين زنكي الذي بدأ الجهود الحقيقية لمواجهة الخطر الصليبي في المنطقة، وعندما شب يوسف ابن أيوب لحق هو الآخر بخدمة نور الدين محمود، وشارك مع عمه شيركوه في التدخل سياسيا وعسكريا لحسم المنازعات وقمع الثورات في مصر في أواخر زمن الفاطميين بتكليف من نور الدين محمود الذي كان يسعى لحصار الصليبين وتطويقهم من الشمال والجنوب، ومن هنا بدأت علاقة صلاح الدين ـ وهذا لقبه وليس أسمه بمصر. جاء صلاح الدين إلى مصر في سنة 559 هجرية للمرة الأولى ثم عاد إليها ثانية سنة 562هـ وكان ضمن رجال جيش عمه شيركوه الذي أختاره الخليفة الفاطمي العاضد وزيرا له. فلما توفى شيركوه سنة 564 هـ فجأة، حل محله صلاح الدين في الوزارة وتلقب بلقب الملك الناصر وسيطر على كل أمور مصر، إلى أن تمكن من عزل الخليفة العاضد وهو في مرض موته في سنة 567هـ وأعاد مصر مرة أخرى ولاية تابعة للخلافة العباسية بعد أن استمرت لأكثر من قرنين من الزمان دولة مستقلة.
 وكانت طموحات صلاح الدين الشخصية كبيرة فأصطدم بمشروع نور الدين محمود لتوحيد مصر والشام لقتال الصليبيين، وكادت الحرب تقع بينهما لولا الوفاة المفاجأة لنور الدين محمود سنة 569 هـ، وبعد فترة وجيزة من وفاة نور الدين أعلن صلاح الدين الأيوبي استقلاله بمصر، ومن هنا يعتبر عام 569هـ البداية الحقيقية لتأسيس الدولة الأيوبية.
 وتحول صلاح الدين بعد ذلك إلى استكمال مشروعات نور الدين محمود في قتال الصليبين، وبعد وفاته انقسمت الدولة الأيوبية إلى مجموعة من الدول في مصر والشام والجزيرة واليمن التي كان صلاح الدين قد ضمها إلى ملكه ليلجأ إليها في حالة نجاح نور الدين محمود في إقصائه عن مصر.
 إن قصة قراقوش ترتبط بصلاح الدين الأيوبي وحكمه لمصر فقد نشأ بهاء الدين أبو سعيد قراقوش الأسدي في خدمة صلاح الدين، وكان أحد رجال دولته البارزين وأتباعه المخلصين. فكان ينوب عنه في بعض الأحيان في حكم مدينة القاهرة عندما يغيب عنها، وأنابه خلفاؤه من بعده، وظل في قمة السلطة حتى وفاته في غرة شهر رجب سنة 597 هجرية. وقد خاض بهاء الدين قراقوش مع صلاح الدين بعض معاركه كما ولاه حكم عكا بعد أن استردها من الصليبين، إلا إنها ضاعت من يدي قراقوش بسرعة ونجح الصليبيون في احتلالها مرة أخرى، بل إنهم أسروا قراقوش واضطر صلاح الدين إلى افتدائه بعشرة ألاف دينار.
 ويذكر التاريخ أن قراقوش هو الذي أشرف على بناء قلعة الجبل بالقاهرة وعلى بناء الأسوار الجديدة حول القاهرة وضواحيها وهو العمل الذي لم يقدر له الاكتمال في حياة سيده صلاح الدين، ومن العمائر التي ينسب إلى قراقوش الإشراف على بنائه كذلك قناطر الجيزة.
 
وتدلنا المصادر على أربعة أمراء على الأقل حملوا أسم قراقوش في أوائل العصر الأيوبي من بينهم رجلنا بهاء الدين أبو سعيد قراقوش الأسدي، وكلمة قراقوش تعني النسر الأسود باللغة التركية.
 ورغم ما ينسب إلى قراقوش من أعمال معمارية مهمة، إلا أن المصريين قد عرفوا قراقوش كحاكم ظالم، واشتهر عندهم بأحكامه الشاذة والغريبة، حتى صارت أحكامه مضربا للأمثال؛ فالعبارة الشهيرة "ولاحكم قراقوش" يرددها المصريون عادة كلما واجهوا حكما جائرا أو تصرفا يتسم بالعنت من كل صاحب سلطة.
وقد وصلتنا أخبار قراقوش وأحكامه الشاذة من خلال كتاب "الفاشوش في أحكام قراقوش" الذي ألفه الوزير الأسعد بن المهذب بن مينا أبي مليح مماتي الذي كان هو الآخر من رجال دولة صلاح الدين الأيوبي ومن وزرائه، وكان ابن مماتي مصريا من أسرة قبطية الأصل عريقة في العمل الإداري شغل كثير من أفرادها وظائف مهمة في عصر الدولة الفاطمية. وقد خدم الأسعد بن مماتي في الدواوين الفاطمية لعدة سنوات قبل أن يستولي صلاح الدين على مصر لحساب أستاذه نور الدين محمود ويعيدها للتبعية العباسية، فاستمر ابن مماتي في العمل مع صلاح الدين، وأصبح من رجاله المقربين.
 وقد ألف ابن مماتي كتاب الفاشوش في أحكام قراقوش لكشف عيوب بهاء الدين قراقوش أمام سيده صلاح الدين الأيوبي بعد أن زادت مظالمه وضج الناس بالشكوى من أفعاله، وقد حدد ابن مماتي هدفه من تأليف الفاشوش في مقدمته حيث قال:

 "أنني لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش مخرمة فاشوش، وقد أتلف الأمه، فالله يزيح عنهم كل غمة، لا يقتدي بعالم، ولا يعرف المظلوم من الظالم، ولم في قلبه شي من الحنة، والشكية عنده لمن سبق، ولا يهتدي لمن صدق، فلا يقدر أحد على عظمة منزلته على أن يرد كلمته، ويشتط إشتياطة الشيطان، ويحكم حكما ما أنزل الله به من سلطان، فصنعت هذا الكتاب لصلاح الدين عسى أن يريح منه المسلمين".
 لكن هل استجاب صلاح الدين لوزيره ابن مماتي؟ لم يستجب صلاح الدين إلى رغبات المصريين ويبدو أن قراقوش كان الرجل المناسب الذي يحتاجه صلاح الدين لتأمين مصر أثناء غيابه عنها، فالتاريخ يؤكد أنه لم يعر كلام ابن مماتي التفاتا، بل أن ابن مماتي هو الذي انتهت حياته منفيا هاربا بعيدا عن وطنه مصر حيث عاش سنواته الأخيرة في حلب ومات فيها غريبا.
 ومن قصص قراقوش وأحكامه الغريبة التي أوردها ابن مماتي في كتابه حكاية الركبدار والقفاص، تقول الحكاية: "أتوه ذات مرة بغلام يعمل ركبدار عنده وقد قتل قتيلا، فقال اشنقوه، ثم قالوا له: إنه حدادك وينعل لك الفرس، فإن شنقته انقطعت منه، فنظر قراقوش قبالة بابه لرجل قفاص، وقال: مالنا لهذا القفاص حاجة، فلما أتوه به قال: اشنقوا القفاص وسيبوا الركبدار الحداد الذي ينعل لنا الفرس."
 وقد تكون هذه الحكاية مختلقة أو بها شئ من المبالغة إلا أن المقصود بها إظهار حمق قراقوش وجور أحكامه. وفي نفس الوقت تهدف القصة إلى إظهار اهتمامه بشكل العدالة دون جوهرها، فما دام هناك قتيلا فلابد من القصاص من قاتل، ولما كان قراقوش يحتاج إلى القاتل لخدمته في إسطبلاته، فقد أعدم شخصا بريئا لا يحتاج إليه.
 وفي حكاية أخرى من حكايات قراقوش يسعى الأسعد ابن مماتي إلى كشف مدى سذاجة الرجل وخفة عقله، يقول ابن مماتي: "سابق قراقوش رجلا بفرس له فسبقه الرجل بفرسه، فحلف انه لا يعلفه ثلاثة أيام، فقال له السايس: يا مولاي يموت الفرس، فقال له: احلف لي انك إذا علفته يا هذا ألا تُعلمه (أي لا تُعلم الفرس) إني دريت بذلك."
 لقد كان انتقام المصريين من قراقوش بالسخرية والاستهزاء به من خلال الطرائف التي حواها كتاب الفاشوش في أحكام قراقوش والذي ظل المصريون يتداولونه جيلا بعد جيل. وإذا كانت هذه هى بعض حكايات قراقوش كما أوردها ابن مماتي، فهناك من مؤرخينا المعاصرين، من يرون في هذه القصص مبالغات كبيرة وخيالا شعبيا خصبا. ويرى هؤلاء أن المنافسة الوظيفية بين قراقوش وابن مماتي هى الدافع الحقيقي لقيام الأخير بتأليف كتاب الفاشوش والذي يعتبر المصدر الأساسي لهذه القصص والحكايات، كما يذهبون كذلك أن قراقوش كان حاكما صارما لكن الظروف التي كانت تمر بها البلاد أثناء الحروب الصليبية هي التي فرضت عليه هذه الصرامة، التي دفعت المصريين إلى كراهيته.

لكن هل يا ترى كان المصريون وحدهم هم الذين يكرهون قراقوش؟
 يروي المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي واقعة تولي حفيد صلاح الدين للملك وهو بعد طفل صغير سنة 595 هـ خلفا لأبيه العزيز عثمان، وكان الأب قد أوصى له بالملك من بعده على أن يكون مدبر أمره الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي. لكن الخلاف وقع بين أمراء الدولة الأيوبية فطعن عدة منهم في قراقوش بأنه مضطرب الرأي ضيق الفطن لا يصلح للأمر.
هذه هي صورة قراقوش الذي سخر منه المصريون فصار عبرة في التاريخ.          

الجمعة، 25 أبريل 2014


قهوة قشتمر

ليست الأولى ولن تكون الأخيرة

عماد أبو غازي

 مرة أخرى أعود للكتابة عن قهوة قشتمر التي تقع بين شارع الجيش وميدان الضاهر، تلك القهوة التي خلدها نجيب محفوظ برواية تحمل اسمها، والتي اشتهرت بأنها ملتقى لهواة الشطرنج، منذ أربعة أعوام تلقيت رسالة لصفحة تراث وتاريخ بجريدة الشروق تستغيث من المخاطر التي تهدد قهوة قشتمر، كانت الرسالة من الأستاذ طارق فودة وتحمل عنوان: "على ميدان قشتمر: ورثة الموسيقار محمد عبدالوهاب يعلنون إلغاء إيجار قهوة قشتمر وإنشاء برج سكنى مكانها"، وأمس أخبرني عبد الرحمن أحد الشباب الذين أعتز بهم والذي يسكن بمنطقة الضاهر عما آل إليه حال مقهى قشتمر، الذي بات مهجورا، الشيء الإيجابي أنه لم يهدم بعد، فقررت أن أفتح الموضوع مرة أخرى ربما نستطيع أن ننقذ جزء من تراثنا الثقافي.

 
في رسالته سنة 2009 قال الأستاذ طارق فودة:
 "قهوة قشتمر ليست فقط مجرد مكان فيه مقاعد وموائد تقدم فيها القهوة والشاى وغيرها من المشاريب. وليست فقط هى المكان، الذى نال شهرة واسعة عندما جعلها أديب نوبل نجيب محفوظ عنوانا لواحدة من أشهر رواياته، لكنها عندى أبعد من ذلك بكثير؛ لأنها فعلا هي بداية الطريق إلى حي الظاهر الموصل إلى الفجالة، وهى المدخل الحقيقى من شارع فاروق (شارع الجيش حاليا) إلى ميدان قشتمر، فهى الناصية ما بين شارع فاروق والميدان المسمى باسمها، وهى كذلك أقرب الأماكن إلى واحد من أشهر المبانى التاريخية فى القاهرة المملوكية...
 أقول: تقترب قهوة قشتمر من مسجد وحديقة الظاهر: الظاهر بيبرس من أشهر من حكموا مصر من المماليك، وممن دافعوا عنها دفاعا رائعا فى استبسال وشجاعة لا نظير لهما.
وقبل أن يرتاد نجيب محفوظ قهوة قشتمر قادما إليها من الفتحة المواجهة لها والتى تخترق شارع الحسينية، المخرج الذى كان يخرج منه إليها نجيب محفوظ، ومن حيث ولد وعاش فى مطلع أيامه؛ قبل هذا كان كبار كتاب مصر يجلسون إلى قهوة قشتمر؛ فقد كان واحد من أهم كتاب القرن العشرين يسكن فى مواجهة القهوة مباشرة، وعلى الناصية الأخرى من شارع فاروق ــ شرفته المطلة على شارع هارون تتجه إليها مباشرة، وهو: إبراهيم عبدالقادر المازني، ومن هنا ــ فإنها كانت ملتقى الأدباء والكتاب فى مطلع ومنتصف القرن العشرين.
وأبعد من هذا..
كانت قشتمر من أكثر الأماكن التى عانت إبان الحرب العالمية الثانية من قنابل الألمان ــ ليست القنابل وحدها، وإنما الطوربيدات أيضا؛ فقد حدث في ليلة ما من ليالى سنة 1942، وكانت الحرب مستعرة بين روميل وفيلد مارشال مونتجمري، وأرادت ألمانيا أن تضرب الجيش الإنجليزى فى كل مكان على أرض مصر حتى تضعفهم على أرض العلمين، فى المعركة الفاصلة، وكان القصف، أو عنفوان القصف يتجه إلى حيث المكان الذي يتصور الألمان أن الإنجليز يجتمعون فيه، ما يعرف باسم مدبح الانجليز، فقد تصور الألمان أن الانجليز ما زالوا يستخدمون حديقة الظاهرة مذبحا لأبقارهم، التى يأكلونها ويزودون بها الجيش البريطانى كله، هكذا كان الحال فى الحرب العالمية الأولى، لكنه لم يكن كذلك فى الحرب العالمية الثانية.
ومن هنا كان القصف عنيفا على أرض قشتمر، عندما يخطئون الهدف على مدبح الإنجليز حديقة الظاهرة.
وأنا واحد من الناس الذين عاشوا هذا القذف المباشر، فقد كانت جدتى لأمى تعيش فى 3 ميدان قشتمر ملاصقة لقهوة قشتمر تماما، وفى إحدى الليالى أسقط الألمان أول طوربيد لهم فسقط على أرض الميدان، صنع التوربيد حفرة واسعة على بعد أمتار من حديقة الظاهر، جاءت سيارة المطافئ لتسقط فيها، تلتها سيارة الإسعاف لتسقط هى الأخرى ولتخمد أجراس السيارتين، ثم دقائق بعدها يسقط الطوربيد الثانى على أرض قهوة قشتمر ــ لترتفع شظاياه إلى الدور الثالث ــ حيث كنا نجلس جميعا على الأرض ــ تخترق الشظية نافذة الحجرة المواجهة، تعبر الصالة، حيث نحن جالسون تعبر فوق رءوسنا وتستقر فى الحائط أمام أعينا. وانتهت الغارة لنرى أن شعر أبى، وكان حالك السواد قد إبيض جميعا لهول ما أحس به ومن هول خوفه علينا جميعا.
 ذكريات أخرى كثيرة حول قشتمر لا يتسع المكان لذكرها، ولكن هذه القهوة وهذا الميدان كانا محطا لأحداث كثيرة إبان الحرب العالمية الثانية.
قهوة قشتمر ــ والميدان كله ــ وبقاؤه على ما كان عليه من أجل أيام لها تاريخ وهى أغلى من أن يدور الحوار حول بيعها ــ بين ورثة عبدالوهاب وهذا الحاج الذى ورث إدارتها عن أبيه الحاج ــ وعن جده الحاج أيضا."


 انتهى كلام الأستاذ طارق فودة، وأقول:
 ليست قهوة قشتمر المبنى التاريخي الثقافي الأول الذي تطاله معاول الهدم ولن تكون المكان الأخير في مصر الذي تهدده تحولات المدينة وتحولات البشر.

 ففي كل بلدان العالم التي تحترم تاريخها وتراثها تكون للأماكن والمباني التي ترتبط بأحداث سياسية أو ثقافية أو فنية، أو تلك التي عاشت فيها الشخصيات التي لعبت دورا في التاريخ قيمة وجدانية وثقافية أبعد وأرفع من قيمتها في سوق العقارات. لا تستطيع معاول الهدم أن تقترب منها. بل تحتفي هذه البلدان بالمباني من هذا النوع وتحافظ عليها، تحولها إلى متاحف أو مزارات ثقافية وسياحية، وتحرص كل بلد إلى أن تشير إلى تلك المواقع من منازل أو مقاهي أو حدائق وتبرزها على خرائطها، فمثل هذه الأماكن تتحول بمن عاشوا فيها أو اعتادوا ارتيادها أو مروا بها إلى جزء من تاريخ الأمة.

 وعندنا في مصر يختلف الموقف، فبعضا من هذه المباني تحول بالفعل إلى متاحف ومزارات في مراحل مختلفة من تاريخنا، مثل "بيت الأمة" (منزل الزعيم سعد زغلول) و"كرمة ابن هانئ" (بيت أمير الشعراء أحمد شوقي) و"رامتان" (بيت طه حسين)، ومثلها بيوت كل من الفنان محمود سعيد بالإسكندرية والفنان ناجي بالهرم وقصر الأمير عمرو إبراهيم بالجزيرة والذي يتميز بطرازه المعماري الفريد، وقد ظل التنظيم الطليعي في الستينيات يستخدمه كأحد مقراته، وحولته وزارة الثقافة منذ التسعينيات إلى متحف للخزف، إلى جانب استخدام بدرومه وحديقته كمركز للفنون وقاعات للعرض التشكيلي، بعض هذه المباني اشترتها الدولة والبعض الآخر صادرته بعد انقلاب يوليو 1952، والبعض من هذه البيوت والقصور وهبها أصحابها للأمة أو أوصوا بتحويلها إلى متاحف للشعب بعد وفاتهم، مثل قصر الأمير محمد علي بالمنيل، وقصر الأمير يوسف كمال بالمطرية، وقصر محمد محمود خليل بك نائب رئيس مجلس الشيوخ في العصر الملكي وأحد رعاة الحركة الفنية في مصر وصاحب المجموعة المتميزة من الأعمال التشكيلية العالمية، والذي أصبح متحفا بعد وفاة الرجل وزوجته الفرنسية يحمل اسمهما معا، إلى أن تم الاستيلاء عليه ـ رغم الوصية ـ في عصر الرئيس الراحل أنور السادات لأنه كان يجاور منزله بالجيزة، واستعادته وزارة الثقافة مرة أخرى، ومثل منزل الفنان حامد سعيد مؤسس جماعة الفن والحياة بالمرج والذي بناه له ـ إن لم تخني الذاكرة ـ المهندس حسن فتحي.

 وإذا كانت الظروف قد حفظت لنا هذه المباني المهمة التي ارتبطت بزعماء مصر ومفكريها، وامتدت إليها يد الحماية والصيانة والترميم، وأصبحت تحظى برعاية وزارة الثقافة التي حولتها إلى متاحف ومراكز ثقافية مفتوحة أمام الناس، ومغلقة في أحيان أخرى للترميم أو التأمين أو التطوير! فإن مصير عشرات من بيوت قادة الفكر والفن والسياسة في مصر كان مأساويا، وأذكر هنا بعض الحالات من الماضي البعيد والماضي القريب: لقد تم هدم قصر هدى شعراوي رائدة النهضة النسائية في مصر التي لعبت دورا مهما في أحداث ثورة 1919، والتي أسست الاتحاد النسائي المصري سنة 1923 ثم أسست الاتحاد النسائي العربي، ودعت لعقد أول مؤتمر نسائي عربي لمناصرة القضية الفلسطينية في الثلاثينيات من القرن الماضي، وعقدت جلسات المؤتمر في قصرها الذي كان يحتل ناصية شارع قصر النيل وناصية شارع شمبليون وتحولت الأرض من يومها إلى خرابة ثم ساحة لانتظار السيارات، هدمته الدولة ـ نعم الدولة ـ في أوائل الستينيات في ظل سياسة الفندقة التي تبناها أحد الوزراء الكبار في ذلك العصر، والتي أطاح في ظلها بحديقة قصر الأمير محمد علي بالمنيل ليقيم على بقايا أشجارها النادرة فندقا شوه به القصر الأثري، والتي تحول في ظلها أيضا قصر خير الله بالزمالك إلى فندق عمر الخيام الزمالك دون محافظة على حديقته ومكوناتها، ثم تحول في السبعينيات إلى فندق ماريوت الزمالك ببرجيه سابقي التجهيز المحيطين بالقصر الأثري، وفي السبعينيات أيضا وبعد حريق دار الأوبرا تم هدم قهوة متاتيا بميدان العتبة، والتي كان يجلس عليه جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وغيرهما من قادة الفكر والسياسة ورجال الثقافة والفن منذ عصر الخديوي إسماعيل، كما هُدم فندق سميراميس بطرازه المعماري المميز وأركانه التي شهدت لقاءات سياسية لقادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وشهدت جلسات كبار مثقفي مصر ومفكريها، ليقام مكانه فندق إنتركونتينتال بطرازه المعماري الحديث، وتتردد كل حين دعاوى هدم فندق الكونتينتال بميدان الأوبرا، هذا الفندق الذي شهد اجتماع البرلمان المصري في تحد واضح للملك فؤاد في أول انقلاباته الدستورية.

 وفي الإسكندرية تم هدم مطعم بترو الذي كان يشهد مجلس توفيق الحكيم، والطابية التي كانت تعلوه والتي تعد من بقايا التحصينات العسكرية زمن العرابيين، وفندق سان ستيفانو، وعديد من الفيلات القديمة بالمدينة، وغير ذلك من بيوت الصعيد القديمة في المنيا وأسيوط والأقصر، لو امتلكت مدينة في العالم بيوتا لها مثل هذا التاريخ لعرفت كيف تحتفي بها بما يليق بقيمتها.

  ومن ناحية أخرى فكثيرا ما يقوم ورثة الساسة والكتاب والفنانيين بهدم بيوتهم أو بيعها بعد وفاتهم، وما حدث مع فيلا أم كلثوم ليس ببعيد، فقد تحولت الفيلا إلى برج وفندق يحمل اسمها دون أن يبقى أي شيئ من المكان الذي عاشت فيه سنوات طويلة من عمرها، ويحمل كل ركن فيه ذكرى من ذكرياتها.

 إذن فحالة قهوة قشتمر ليست الوحيدة ولا هي الأولى لقد اختفت قهوة إسيفتش وبار اللواء وكافيتريا أسترا بميدان التحرير وقهوة المالية بميدان لاظوغلي، وكلها أماكن لها مكانها ومكانتها في تاريخنا الفكري والثقافي والسياسي، ونسمع أحيانا عن تهديدات تحيق بمقاهي أخرى لها تارخها مثل مقهى ريش بشارع طلعت حرب.

 وإذا كانت الدولة مطالبة وملزمة بألا ترتكب جرائم كتلك التي وقعت في الماضي القريب أو البعيد، إلا أننا لا نستطيع أن نمنع الأفراد من التصرف في أملاكهم كما يشأون، لقد قامت حملة صحفية وقت بيع فيلا أم كلثوم وهدمها، ولم تؤت ثمرة، لأن ما قام به ورثة أم كلثوم لا يخالف القانون.

 فماذا نفعل؟

 أتصور أن مسؤلية الدولة وواجبها يقتضيان إنشاء صندوق لتمويل شراء مثل هذه المباني من أصحابها، وصيانتها والحفاظ عليها، وتحويلها إلى مزارات سياحية وتاريخية ومراكز للنشاط الثقافي، ربما يكون مثل هذا الصندوق خطوة أولى على طريق الحفاظ على مبان لها تاريخ.

 وربما يستطيع المجتمع المدني أن يقوم بهذه المهمة، ما دامت الدولة لا تقوم بها، وإذا كانت سنوات أربع قد مرت ولم يهدم مقهى قشتمر بعد، فربما نستطيع انقاذه، وانقاذ جزء من تاريخنا.

سيناء في عهد الدولة القديمة

 عماد أبو غازي

 يصادف يوم 25 أبريل عيد تحرير سيناء، ففي مثل هذا اليوم من عام 1982 عاد العلم المصري ليرتفع مرفرفا على كل أرجاء شبه الجزيرة، باستثناء مثلث طابا الذي استعادته مصر بالتحكيم الدولي.
 وبعد غياب سنوات في ظل الاحتلال الإسرائيلي كانت عودة سيناء إلى أرض الوطن ثمرة لحرب أكتوبر 1973 التي خاضها الجيش المصري، كما توجت قصة نضال أهالي سيناء ومقاومتهم الشعبية للاحتلال، تلك القصة التي تحتاج إلى تدوينها وتوثيقها باعتبارها ملحمة من ملاحم نضال المصريين من أجل تحرير الوطن.
 وعلاقة الوادي والدلتا بشبه جزيرة سيناء قديمة قدم مصر الموحدة، بل ربما قبلها حيث بدأ نشاط سكان الدلتا في سيناء منذ عصر ما قبل الأسرات، فمع المراحل الأخيرة لاندماج الوجه القبلي والوجه البحري في كيان سياسي موحد ربما كان أقدم دولة في التاريخ، بدأ المصريون يلتفتون إلى البوابة الشرقية لبلادهم، شبه جزيرة سيناء، فمنذ أواخر الألف الرابعة قبل الميلاد وبدايات الألف الثالثة اتجه المصريون في عصر الأسرة الأولى إلى دمج سيناء مع الدلتا والوادي في ذلك الكيان السياسي الواحد الثابت عبر التاريخ، مصر، وأصبحت قبائل سيناء جزءا من التكوين المصري، وهناك العديد من الآثار المكتشفة في سيناء التي ترجع إلى عصر الأسرتين الأولى والثانية، كما وردت إشارات إلى تحصينات مصرية في مناطق الحدود بين مصر وفلسطين في الآثار المكتشفة بالقرب من أبيدوس في صعيد مصر حيث كان مقر حكام الأسرات الأولى.
 وتحفل منطقتي سرابيت الخادم ووادي المغارة في جنوب سيناء بالآثار التي ترجع إلى أقدم عصور الأسرات، ومن أقدمها نقش جداري للملك سمر خت سابع ملوك الدولة الأولى ونقش آخر للملك زوسر أو جسر صاحب الهرم المدرج في سقارة، وهو من ملوك الأسرة الثالثة، وهناك نقش ثالث للملك سنفرو والد خوفو صاحب الهرم الأكبر.
 
تمثال حجري للملك زوسر 
وقد أطلق المصريون على سيناء اسم "تامفكات" أي أرض الفيروز أو "خاست مفكات" بمعنى حقول الفيروز، كما عرفت بعدة أسماء أخرى ترتبط بالفيروز الذي أحبه المصريون ونقبوا عنه في جبال سيناء، كما أطلقوا عليها أيضا في بعض المراحل اسم أرض المعدن الأخضر "تاشسمت" نسبة إلى النحاس الذي كان يستخرج من أرضها.
 أما اسم سيناء فربما ينسب إلى الإله سين إله القمر عند الساميين، أو الإله المصري سوبد الذي كان يعبد هناك إلى جانب حتحور.
 لقد ظلت سيناء طوال التاريخ المصري مصرية باستثناء سنوات الاحتلال التي انهتها حرب أكتوبر.

الأربعاء، 23 أبريل 2014


مصر قصة حضارة

مصر هبة المصريين

عماد أبو غازي

 في ماض سحيق شق نهر النيل مجراه منطلقا من قمم الجبال العالية ليعبر الغابات والصحارى بحثا عن هذه الأرض، أرض مصر، ليمهد الطريق أمام الإنسان القديم فيها لتشييد حضارة من أقدم الحضارات التي عرفها البشر وأعظمها. حديثنا اليوم عن ذلك النهر الذي تعتمد عليه حياة مصر، والذي أدرك الأجداد قيمته فقدسوه، فهو مصدر الحياة، وسر استمرار الحضارة في هذه الأرض، والحديث عن النهر الخالد يدفعنا إلى الماضي البعيد، قبل العصور التاريخية، إننا نعود إلى الفترة التي تُعرّف بالحقب الجيولوجية، ولا تُعرّف بالسنوات، ووفقا لكثير من الأبحاث والدراسات الجيولوجية والجغرافية فإن النيل الذي نعرفه اليوم قد بدأ ظهوره في العصر الجيولوجي الرابع والأخير والذي يعرف بعصر البلايستوسين.
حزين                                                                                                      غربال





 توينبي
 ويقول الدكتور سليمان حزين في دراسته عن حضارة مصر، إنه قبل تكوين النهر في صورته الحالية كانت هناك ثلاثة نظم نهرية مستقلة عن بعضها، أولها في الهضبة الاستوائية، وثانيها في الهضبة الحبشية، وثالثها في النوبة ومصر، ومن هذه النظم الثلاثة تكون النهر العظيم. وسر عظمة هذا النهر ـ كما يقول الدكتور سليمان حزين ـ ترجع إلى تكوينه الطبيعي، وإلى ما يمتاز به من ميزات جغرافية طبيعية، وإلى تطوره الفزيوغرافي، وإلى ما تميزت به مراحل ذلك التطور، لاسيما خلال الزمن الجيولوجي الرابع، من ترتيب خاص وتتابع في الأحداث، كان لهما أبعد الأثر في تكوين أرض هذا الوادي، وإعدادها لأن تكون مهد حضارة تعتبر من أعرق الحضارات.
 وقد كان من نتائج ذلك كله أن جمع نهر النيل، في مصر على الأقل ما بين خاصيتين في واقع الأمر مترابطتان أشد الترابط: أولاهما أن هذا النهر يعتبر من الناحية الجيولوجية من أحدث أنهار العالم الكبرى تكوينا، وثانيتهما أن أرضه مع ذلك كانت مهدا لحضارة من أقدم الحضارات المستقرة.
 لقد ربط المؤرخون والرحالة الذين زاروا مصر منذ القدم، بين نهر النيل والحضارة المصرية القديمة، ومن هنا جاءت العبارة الشهيرة "مصر هبة النيل" والتي تنسب إلى المؤرخ الإغريقي هيرودوت الذي يوصف بأنه أبو التاريخ، وهيرودوت مؤرخ إغريقي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، ولد في هاليكارناسوس من مدن جنوب غرب آسيا الصغرى، وقد هاجر هيرودوت من بلاده وهو فتى، وتنقل في رحلات عديدة جاب فيها العالم القديم وسجل خلالها مشاهدته، التي جمعها تاريخه الشهير الذي أسماه "تمحيص الأخبار" واستحق بسببه أن يكون أبو التاريخ. وزار هيرودوت مصر في فترة الاحتلال الفارسي الأول للبلاد الذي بدأ عندما غزاها قمبيز في سنة 525 قبل الميلاد، وفي الفترة التي زار فيها هيرودوت مصر كانت هناك جالية يونانية كبيرة تعيش في مصر، وقد اختلط هيردوت بهم واعتمد على أرائهم كثيرا، عند تأريخه لمصر.
 لكن ماذا يقول هيرودوت عن فضل النيل على مصر، وننقل هنا عن الترجمة العربية لكتاب هيرودوت والتي قام بها الأستاذ الدكتور محمد صقر خفاجه بعنوان "هيرودوت يتحدث عن مصر" حيث يقول هيرودوت:
 "أما بخصوص المسائل الإنسانية فالكهنة متفقون فيما بينهم على أن مينا كان أول ملك لمصر من البشر، وإن مصر في عهده كانت كلها مستنقعا ما عدا ولاية طيبة، بينما لم يظهر فوق الماء جزء واحد من الأرض التي توجد الآن شمال بحيرة مويريس، وهذه تقع من البحر على سفر سبعة أيام تصعيدا في النهر، ويظهر لي أن كلامهم عن وطنهم صحيح، إذ يتضح لمن لم يستمع إليهم من قبل، ولمن عساه أن يكون قد رأى البلاد وحسب، وكان عليما بصيرا؛ يتضح له أن مصر التي يبحر إليها اليونانيون أرض مكتسبة، وأنها هبة من النيل."
 من هنا جاءت المقولة الشهيرة لأبى التاريخ هيرودوت "مصر هبة النيل"، وهى مقولة رددها قبله وبعده عديد من المؤرخين.
 لكن هل هذه المقولة صحيحة؟ أو بمعنى آخر هل تعبر بالفعل عن حقيقة نشؤ الحضارة المصرية وتطورها؟
 لقد رد الجغرافي المصري الكبير الدكتور سليمان حزين على مقولة هيرودوت بمقوله أخرى قدم بها لكتابه "حضارة مصر أرض الكنانة"، فقال:
 "لم تكن مصر الحضارة هبة النيل كما قال عنها هيرودوت وإنما هي كانت هبة الإنسان المصري للحضارة والتاريخ"
 وقبل ذلك ذهب الأستاذ محمد شفيق غربال المؤرخ المصري البارز نفس المذهب في أحاديثه الإذاعية التي قدمها بالإنجليزية من دار الإذاعة المصرية، ثم جمعها في كتاب باسم "تكوين مصر" حيث يقول:
"النيل منبع حياتنا، ومصر ما هي إلا الأراضي الواقعة على ضفتي النهر، وليس لها من حدود إلا المدى الذي تصل إليه مياه النهر ومع ذلك فإن المصريين هم الذين خلقوا مصر، تأمل النيل مجتازا آلاف الأميال من خط الاستواء إلى البحر الأبيض، هل تجد على طول مجراه إلا مصرا واحدة؟ إن هبات النيل كهبات الطبيعة سواء بسواء، طائشة عمياء، إذا ما تركت دون ضبط فإنها تدمر كل شئ وتخلف مستنقعات الملاريا الوبيلة. والإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يجعل من هذه الهبة نعمة لا نقمة. وقد كان ذلك ما عمله الإنسان في مصر، فمصر هبة المصريين."
 لقد كان المؤرخ المصري محمد شفيق غربال محقا كل الحق عندما قال: إن "مصر هبة المصريين"، فهذه الأرض وتلك الحضارة الرائدة العظيمة لم تظهر وحدها لمجرد اختراق النهر للصحراء، بل هي حضارة من صنع الإنسان.
 فوراء قصة هذه الحضارة رواد عظام خلقوا مصر وانتزعوها من بين المستنقعات والصحارى، وأبدعوا هذه الحضارة، ولأولئك الرواد قصة ترجع إلى آلاف السنين، وهذه القصة يرويها لنا المؤرخ الكبير أرنولد تويبني، مفسرا الأحداث وفقا لنظريته الشهيرة "التحدي والاستجابة"؛ فيقول: "إن المصريين الأوائل شأنهم في ذلك شأن بعض الشعوب واجهوا بعد نهاية عصر الجليد التحول الطبيعي العميق في مناخ الأرض، والذي تمثل في ارتفاع درجات الحرارة والجفاف".
 هذا هو التحدي فماذا كانت الاستجابة من الأقوام الذين واجهوا التحول؛ منهم من لم ينتقل من مكانه ولم يغير طرائق معيشته فلقى جزاء إخفاقه في مواجهة تحدي الجفاف الإبادة والزوال. ومنهم من تجنب ترك الموطن ولكنه استبدل طريقة معيشته بأخرى فتحولوا من صيادين إلى رعاة رحل عرفتهم المراعي الأفروأسيوية. ومن هؤلاء من رحل نحو الشمال وكان لزاما عليهم أن يواجهوا تحدي برد الشمال الموسمي. ومن الأقوام من انتقل صوب الجنوب نحو المنطقة المطيرة وهنالك أوهن قواهم جو تلك المناطق المطير الجاري على وتيرة واحدة. وأخيرا منهم أقوام استجابوا لتحدي الجفاف بتغيير وطنهم وتغيير طرائق معيشتهم معا. ومن هؤلاء كان الأجداد الأوائل للمصريين، وكانت استجابتهم للتحدي هي العمل الإرادي الذي خلق مصر كما عرفها التاريخ.
 ويمضي توبيني في رسم صورة الرواد الأوائل مؤكدا على فكرة أساسية هي أن مصر وحضارتها هي هبة هؤلاء الرواد الأسلاف القدماء للشعب المصري، لقد هبط أولئك الرواد الأبطال بدافع الجرأة أو اليأس إلى مستنقعات قاع الوادي، واخضعوا طيش الطبيعة لإرادتهم، وحولوا المستنقعات إلى حقول تجري فيها القنوات والجسور، وهكذا استخلصت أرض مصر من الأجمة التي خلقتها الطبيعة، وبدأ المجتمع المصري قصة مغامراته الخالدة لتستقيم له أمور دنياه وأمور أخراه.
 ويذهب تويبني إلى أن المستنقعات التي تحكم فيها المصريون الأوائل هذا التحكم الحاسم كانت لا تختلف كثيرا عن منطقة المستنقعات بجنوب السودان، بل إن العلماء يظنون أن أسلاف القوم الذين يعيشون الآن في تلك المنطقة كانوا يقطنون فيما مضى ما يعرف الآن بصحراء ليبيا جنبا إلى جنب مع مبدعي الحضارة المصرية، عندما استجاب هؤلاء لداعي الجفاف واختاروا لأنفسهم أن يتخذوا خطة بالغة الخطورة إلى أقصى مدى.
 ويرى تويبني أن وجود الرجل أو الرجال ـ ونقول أو النساء ـ الموهوبين الذين قادوا شعبهم في الساعة الملائمة إلى مغامرة كبرى من مغامرات الخلق والتكوين كانت عاملا أساسيا وراء نجاح الأسلاف الأوائل للمصريين في مواجهة تحدي الجفاف، حقا إن مصر هي هبة المصريين الأوائل الذين عرفوا كيف يروضوا الطبيعة ويستفيدوا منها لأقصى درجات الاستفادة، ويقوموا بهذه المغامرة الأولى التي خلقت مصر التي نعرفها.

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...