الاثنين، 12 نوفمبر 2018

حكاية يوم 13 نوفمبر


حكاية يوم 13 نوفمبر
عماد أبو غازي

 عندما نقف عند تمثال سعد زغلول القائم في محطة الرمل بالإسكندرية، سنشاهد جداريتين من النحت البارز على جانبي قاعدة التمثال، تجسدان بعض الأحداث الفارقة التي شهدتها ثورة 1919.


 لقد كلفت الحكومة الائتلافية محمود مختار عقب وفاة سعد زغلول في أغسطس سنة 1927 بعمل تمثالي ميدان لسعد، واحد في القاهرة والثاني في الإسكندرية في سياق خطة إحياء ذكرى سعد، وفكر مختار في أن يجعل من التمثالين ملحمة نحتية تؤرخ للثورة وأحداثها وقيمها ومبادئها، لا مجرد تمثالين شخصيين لسعد؛ فاستخدم قاعدتي التمثالين لتحقيق هدفه.
 وفي تمثال الإسكندرية سجل مختار في واحدة من الجداريتين ما حدث يوم 13 نوفمبر سنة 1918؛ إنه يوم يحمل ذكرى مناسبة وطنية من أهم المناسبات في تاريخنا الحديث، إنها ذكرى ذلك اليوم الذي عرفه المصريون لسنوات باسم عيد الجهاد الوطني، وهي المناسبة التي ظلت مصر كلها تحتفل بها منذ عام 1919 حتى قيام حركة الجيش في عام 1952، ولهذا اليوم قصة ودلالات في تاريخ مصر تستحق أن تعرفها الأجيال وتعيها، لقد كان يوم 13 نوفمبر 1918 الذي تقترب الذكرى المئوية الأولى له حدثًا من الأحداث الفارقة في التاريخ المصري، لقد كان ذلك اليوم بمثابة نقطة الانطلاق للثورة المصرية؛ ثورة 1919، الثورة الكبرى في تاريخنا في القرن العشرين؛ لقد كان اليوم يومًا تغير فيه وجه التاريخ في مصر، كان يومًا له ما بعده؛ فما الذي حدث في هذا اليوم؟
 ترجع القصة إلى الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الأولى التي استمرت من سنة 1914 إلى سنة 1918، فرغم أن الحرب كانت بين القوى الاستعمارية الأوروبية الكبرى في ذلك الوقت، إلا أن مصر اكتوت بنارها وكانت ساحة من ساحاتها العسكرية، فعلى أرض سيناء وجبهة قناة السويس اندلعت المعارك بين القوات البريطانية التي كانت تحتل مصر منذ عام 1882 والقوات التركية التي كانت تعتبر مصر جزءًا من الدولة العثمانية منذ أربعمائة سنة سابقة على هذا التاريخ، كذلك عانى المصريون من وطأة الأحكام العرفية التي فرضتها قوات الاحتلال على مصر عقب عزل الخديوي عباس حلمي وتعيين حسين كامل سلطانًا على البلاد تحت الحماية البريطانية، كما عانوا كذلك من تسخيرهم وتسخير موارد البلاد وثرواتها لخدمة المجهود الحربي البريطاني، وهي الحالة التي عبرت عنها ببلاغة كلمات أغنية "يا عزيز عيني" التي لحنها وغناها سيد درويش، وقد تحمل المصريون هذه المعاناة تحت ضغط الجبروت العسكري لجيوش الاحتلال وكلهم أمل في أن تزول الغمة ويزول الاحتلال بنهاية الحرب.
 وفي صيف 1918 بدا واضحًا أن كفة الحلفاء (إنجلترا وفرنسا وإيطاليا ومعهم الولايات المتحدة) هي الراجحة، وأن النصر من نصيبهم، وبالفعل في يوم 11 نوفمبر سنة 1918 سكتت المدافع على جميع الجبهات، وانتهت الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء، انتصارًا كاملًا على دول المحور بقيادة ألمانيا، توقفت الحرب بعد أربع سنوات وبضعة أشهر عرف فيها العالم ويلات لم يعرفها في تاريخه من قبل.
 كان المصريون ينتظرون نهاية الحرب حتى تنتهي معانتهم من حرب لم يكونوا طرفًا فيها، سقط في المعارك شهداء من المصريين، وصادرت سلطة الاحتلال دوابهم ومحاصيلهم لصالح المجهود الحربي، وتحملت الخزانة المصرية ثلاثة ملايين ونصف مليون جنيه دعمًا لبريطانيا العظمى في حربها، لكنهم أيضًا كانوا ينتظرون على أمل أن ينتهي الاحتلال البريطاني لمصر مع نهايتها مثلما انتهى الحكم العثماني مع بدايتها.
 كانت آمال المصريين تستند إلى ما قدموه من دعم لبريطانيا أثناء الحرب، كما كانت تستند إلى الوعد البريطانية، فقد جاء في رسالة الحكومة البريطانية إلى السلطان حسين كامل عند تنصيبه مكان الخديوي عباس حلمي الثاني: "قد أصبح من الضروري الآن وضع شكل للحكومة التي ستحكم البلاد بعد تحريرها"، كما تضمنت وعدًا بالنظر في نظام الامتيازات الأجنبية بعد انتهاء الحرب، ومع اقتراب نهاية الحرب بدأ التفكير جديًا في نظام جديد لإدارة البلاد، وقد وضع بالفعل السير وليم برونيت المستشار المالي البريطاني مشروعًا لقانون نظامي لمصر لكن النخبة السياسية المصرية رفضته تمامًا لأنه وضع مصر في مرتبة المستعمرات وحرمها من مجلس تشريعي منتخب، وكان أول من تصدى للمشروع حسين باشا رشدي رئيس الحكومة.
 وفي عام 1917 أعلن الرئيس الأمريكي ويلسون مبادئه الأربعة عشر التي تضمنت حق تقرير المصير للشعوب، وقد أحيت هذه المبادئ الآمال في نفوس المصريين، فقد تصوروا أن الدول المنتصرة سوف تلتزم بهذه المبادئ وتعمل بها بعد نهاية الحرب.
 ورغم إعلان الأحكام العرفية وفرض الرقابة على الصحف وتعطيل الجمعية التشريعية أثناء سنوات الحرب الأربعة، إلا أن الروح الوطنية كانت تنمو ببطء في تربة هيئتها سنوات النضال الوطني والديمقراطي منذ مطلع القرن، فقد كانت السنوات الأولى من القرن العشرين سنوات للبعث الوطني ولتمهيد التربة من أجل المطالبة بالاستقلال والدستور بفضل التيارين الفاعلين في الحركة الوطنية المصرية، تيار الحزب الوطني وتيار حزب الأمة.
 ومع نهاية الحرب حدث ما لم يكن في الحسبان وما لم تكن تتوقعه سلطات الاحتلال التي تصورت واهمة أن الهدوء الذي خيم على البلاد أثناء الحرب كان خنوعًا من المصريين وقبولًا للاحتلال، فقبل أن تنتهي الحرب اتفق سعد باشا زغلول الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية وزعيم المعارضة بها وزميليه عبد العزيز فهمي بك وعلي شعراوي باشا على أن يطلبوا من دار الحماية تحديد موعد لهم ليقابلوا السير ريجنلد وينجت المندوب السامي البريطاني.
 وقبل أن تعلن الهدنة بساعات تقدم سعد ورفيقيه يوم الاثنين 11 نوفمبر بطلبهم إلى دار الحماية بوساطة من حسين باشا رشدي رئيس الوزراء، فاستجابت دار الحماية لطلبهم وحددت لهم موعدًا يوم الأربعاء 13 نوفمبر 1918 الساعة الحادية عشر صباحًا.
 وبالفعل ذهبوا إلى دار المعتمد البريطاني وهو الحاكم الفعلي للبلاد، وقابلوه ودار بينهم حوار طويل استمر لمدة ساعة؛ طالبوا فيه بإنهاء حالة الأحكام العرفية (الطوارئ بلغة اليوم) والسماح لوفد يمثل المصريين بالسفر إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح الذي كان سيحدد خارطة العالم الجديد بعد الحرب.
 وكان رد المعتمد البريطاني السير وينجت الرفض القاطع على أساس أنهم لا يحملون أي صفة تتيح لهم تمثيل مصر أو الحديث باسم المصريين.
وقد أورد المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919 نصًا للحوار الذي دار بين الزعماء الثلاثة والمندوب السامي البريطاني، حيث طالب سعد زغلول بإلغاء الأحكام العرفية وإنهاء مراقبة الصحف والمطبوعات، تلك الرقابة التي ضاق بها المصريون...
 وقال سعد: "المصريون لهم الحق في القلق على مستقبلهم"، وعندما رد عليه ونجت مطالبًا إياه والمصريين بعدم التعجل والنظر للعواقب البعيدة، علق سعد على مقولة ونجت بأنها عبارة مبهمة غير مفهومة.
 وقد وجه ونجت أثناء الحديث انتقادات لمحمد فريد ورجال الحزب الوطني، أوضح علي شعراوي باشا دوافع الحزب الوطني في اتخاذ المواقف المتشددة...
 وقال: "نريد صداقة الحر للحر لا العبد للحر"...
 عندها قال ونجت في استنكار: "إذًا فأنتم تريدون الاستقلال"...
 فرد سعد: "ونحن أهل له"...
 حاول ونجت أن يقلل من شأن الشعب المصري ومن قدرته على حكم نفسه بنفسه، مرة بالتأكيد على ضرورة التدرج في الاستقلال، ومرة بحجة عدم أهلية المصريين، ومرة ثالثة بدعوى أمية المصريين، ومرة رابعة بالإشارة إلى موقع مصر الذي يجعلها مطمعًا للطامعين.
 ففند الزعماء الثلاثة دعواه الواحدة بعد الأخرى، وأكد عبد العزيز بك فهمي على مطالب الأمة قائلًا: "نحن نطلب الاستقلال التام"... وأكد على أن للحزب الوطني وحزب الأمة هدفًا واحدًا وطريقين مختلفين للوصول إليه.
 بعد أن انتهى اللقاء توجه الزعماء الثلاثة إلى وزارة الداخلية لمقابلة حسين رشدي باشا في مكتبه بالوزارة وأبلغوه بما دار في اللقاء.
 وكان رشدي باشا قد أعد في نفس اليوم خطابًا للسلطان أحمد فؤاد يستأذنه فيه السماح له ولعدلي يكن باشا بالتوجه إلى لندن للسعي نحو تحقيق استقلال مصر.
 وفي نفس اليوم أيضًا التقى رشدي بالسير ونجت، فتسأل الأخير كيف يتحدث ثلاثة رجال باسم الأمة؟
 فعندما علم سعد من رشدي باشا بما دار في لقائه مع ونجت اجتمع مع رفيقيه للتشاور في أسلوب يثبت جدارتهم بتمثيل الأمة، فاتفقوا على تأليف هيئة تسمى الوفد المصري في إشارة إلى أنها وفد مصر للمطالبة باستقلالها، وأن تحصل هذه الهيئة على توكيلات من الأمة للحديث باسمها.
  لقد تصور وينجت أن الأمر انتهى عند هذا الحد، لكن ما حدث بعد ذلك كان ما لم يتوقعه وينجت، ولا حكومة بريطانيا العظمى التي يمثلها، ولا سلطان البلاد الجديد السلطان أحمد فؤاد الذي عينه الإنجليز قبلها بشهور بعد وفاة رجلهم السلطان حسين كامل.
  كان رد فعل الشعب المصري ردًا إيجابيًا على دعوة سعد وأعضاء الوفد، كشف موقف المصريين عن روح الثورة التي ظلت كامنة لسنوات في نفوسهم، لقد بدأت حملة لجمع التوقيعات على توكيل من أفراد الشعب المصري فردًا فردًا لسعد زغلول ورفاقه ليكونوا وكلاء عن الأمة المصرية في حضور مؤتمر الصلح، وليشكلوا وفدًا يمثل مصر وشعبها هناك ويسعى من أجل الحصول على الاستقلال لمصر وعلى اعتراف المجتمع الدولي بهذا الاستقلال، خلال أسابيع قليلة اتسعت حملة جمع التوقيعات وشملت جميع طوائف الأمة وطبقاتها، وظهرت وحدة المصريين حول هدف واحد، وأصبح اسم "الوفد المصري" تعبيرًا عن طموح المصريين نحو استقلال بلادهم، وفشلت كل محاولات السراي والإنجليز ورجالهم في نظارة الداخلية في وقف حركة التوكيلات، وعندها كان القرار الذي فجر الثورة المصرية الكبرى ثورة 1919، قرار القبض على سعد زغلول وزملائه من رجال الوفد المصري ونفيهم إلى مالطة، في 8 مارس 1919، وفي اليوم التالي مباشرة انفجر بركان الغضب المكبوت ليطيح بنظام قديم وقيم قديمة ويرسي أسس عصر جديد من السعي نحو الاستقلال التام والديمقراطية، لتبدأ حلقة جديدة من حلقات نضال المصريين من أجل الحرية.
 لقد كانت البداية من ذلك الحدث الذي وقع يوم الأربعاء 13 نوفمبر 1918 لذلك أعتبر المصريون هذا اليوم عيدًا للجهاد الوطني ظلوا يحتفلون به كل عام، وفي احتفالهم إرساء لقيم ومبادئ مهمة تشكل دلالات هذا اليوم، أولها أن الأمة هي مصدر السلطات وهي التي تفوض قادتها في تمثيلها وتحاسبهم على ما يفعلون، وثانيها أن مصر كيان مستقل قائم بذاته؛ فلا هي مستعمرة بريطانية ولا هي ولاية عثمانية، وثالثها أن المصريين أمة واحدة لا فرق بينهم على أساس دين أو عقيدة أو جنس، تربط بينهم الرابطة الوطنية قبل الرابطة الدينية، ورابعها أن استقلال مصر السياسي لا يتحقق بمعزل عن حرية المواطنين واحترام حقوقهم؛ والجدارية القائمة على قاعدة تمثال سعد في الإسكندرية تسجل هذا الحدث.
 لقد كان يوم 13 نوفمبر 1918 يوم ميلاد الوفد المصري أكبر وأهم أحزاب الموجة الحزبية الثالثة في تاريخ مصر، والذي سيحتفل بمئوية تأسيسه في نوفمبر من هذا العام، كما كان اليوم نقطة الانطلاق نحو ثورة 1919، التي سنحتفل بمئويتها الأولى في العام القادم.
مجلة ديوان عدد خريف 2018

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...