السبت، 26 نوفمبر 2016

عودة الدستور ... انتصار الشعب

(12)

عودة الدستور ... انتصار الشعب

عماد أبو غازي

  
صدرت صحف السبت 7 ديسمبر 1935 تحمل البيان الذي اتفق عليه الطلاب، وجاء فيه:
 "لقد قام الشباب بحركته الأبية يوم عيد الجهاد، صارخًا من اعتداء الاستعمار، مطلقًا صوته القوي داويًا مجلجلًا في أنحاء العالم ـ بعد أن نفذ معين صبره، وتمزق أخر ستار عن رياء الإنجليز وخداعهم. ورأى الشباب أن خير وسيلة لمجابهة هذا العدو المشترك، هو أن تكون صفوف الأمة كلها قلبًا واحدًا ويدًا واحدة، كالبنيان المرصوص، أمام طغيانه وبهتانه "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص" "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم". ولما ساروا في طريقهم اعترضهم خلاف بريء في الرأي، أوجد بعض الأمل عند المستعمرين في فشل حركتهم، فراحوا يتغنون بذلك في صحفهم.
 واليوم وقد بدا من تصريح وزير خارجية إنجلترا في مجلس العموم أمس إصرار الإنجليز على إهدار حقوق الوطن، رأى الطلبة من واجبهم أن يوحدوا جبهتهم ويجمعوا كلمتهم على أن يواصلوا السعي:
أولا: للاستقلال لمصر والسودان استقلالًا تامًا، وتحقيق جميع المطالب الوطنية، ومن بينها دستور 1923 مؤكدين العزم على تقديم كل تضحية مهما غلت في سبيل ذلك.
ثانيا: دعوة جميع الأحزاب والهيئات إلى ترك المناقشات والخلافات الحزبية، وأن يوجهوا جميع قواهم إلى عدو الشعب المشترك وهو الإنجليز، وأن يعملوا على تكوين جبهة وطنية قوية ضدهم".
 وقد وقع على البيان أعضاء اللجنة التنفيذية للطلبة: جلال الدين الحمامصي (كلية الهندسة) ومحمود لاشين (كلية العلوم) محمد فريد زعلوك (كلية الحقوق) أحمد الدمرداش التوني (كلية الزراعة) نور الدين طراف (كلية الطب) وأحمد طلبة صقر (كلية التجارة) ومصطفى السعدني (كلية الآداب) محمد برهام (دار العلوم العليا) محمد شبل الحضري (الفنون الجميلة العليا).
 وكان من الأسماء البارزة الأخرى من بين قيادات اللجنة وقيادات الحركة الطلابية في عام 1935، من كلية الحقوق عبد العزيز الشوربجي، ومن كلية الآداب سهير القلماوي، ومحمد حسن الزيات، ومن كلية الطب قاسم فرحات ومحمد بلال، ومن كلية الزراعة إبراهيم شكري، وكان من طلاب المرحلة الثانوية الذين شاركوا في قيادة المظاهرات جمال عبد الناصر وحكمت أبو زيد.
 ومن استعراض أسماء قادة الطلاب نكتشف أن ثورة 35 مدرسة تخرج منها رئيس جمهورية، وثلاثة وزراء، وأول وزيرة، وأول رئيسة لهيئة ثقافية حكومية، ورئيس حزب سياسي، ونقيب للمحامين، ورئيس تحرير صحيفة كبرى، ورئيس للجنة الأولمبية المصرية، ومدير لنادي رياضي، وكبير مشجعي النادي الأهلي، ونقابيين مهنيين بارزين، وأكديميين، وقد استمروا جميعًا فاعلين في العمل العام لعدة عقود تالية.
 وفي صباح 7 ديسمبر احتفل الطلاب، بحضور مدير الجامعة أحمد لطفي السيد، بإزاحة الستار عن النصب التذكاري للشهداء، ثم خرجوا في مظاهرة وصفها ضياء الدين الريس بأنها "لا يحدها النظر" متوجهين إلى القاهرة عبر كوبري عباس، فأمر قائد قوة البوليس بفتح الكوبري، وتصور أنه نجح في وقف المظاهرة، إلا أن طلاب كلية الهندسة استقلوا القوارب إلى عوامة التحكم في الكوبري، وأغلقوه لتعبر المظاهرة إلى منيل الروضة، الذي تحول إلى ساحة لمعركة حربية بين الطلاب والبوليس وأصيب لوكاس  بك مساعد حكمدار العاصمة الإنجليزي إصابة خطيرة، كما أصيب مفتش البوليس نوبل في ساقه بطلقات نارية كانت قواته تطلقها على الطلاب الذين أصيب العشرات منهم، واعتقل 78 طالبًا، وكان البوليس شديد العنف في تعامله مع الطلاب فلجأ الكثيرون منهم للاختباء في بيوت الحي.
 استمرت المظاهرات لأيام واتسع نطاقها رغم إغلاق الجامعة، واستجاب قادة الأحزاب للطلاب، وأعلنوا تأليف الجبهة الوطنية برئاسة مصطفى النحاس باشا، وشاركت فيها كل الأحزاب السياسية وبعض المستقلين، ولم يبق خارجها سوى حركة مصر الفتاة ذات الميول الفاشية وجماعة الإخوان المسلمين ـ بالطبع ـ فقد كان موقفها دائما في الجبهة المعادية للشعب وحركته.
 وصباح الأربعاء 11 ديسمبر 1935 صاغ قادة الجبهة خطابين: الأول للملك يطلب عودة دستور 1923، والثاني للمندوب السامي البريطاني يطلب بدأ المفاوضات من أجل الجلاء، وسط ذهول الملك والإنجليز من التحول السريع في المواقف، ولم ينقض يوم الخميس 12 ديسمبر 1935 إلا وكانت حكومة توفيق نسيم قد قدمت استقالتها، وأصدر الملك أمرًا ملكيًا بعودة الدستور، وانتصر الشعب.
*****
ختام القول
 لقد ظلت أفكار عبدة السلطان الذين باعوا ضمائرهم وعلمهم للمستبدين ملهمة لكل من يسعى إلى سلب الأمة حقوقها والتعدي على حرياتها، وفي المقابل ستظل تضحيات شهداء الأمة من أمثال عبد الحكم الجراحي وعبد المجيد مرسي وطه عفيفي، وأفكار وقيم الحرية التي رفع راياتها ودافع عنها وضحى من أجلها العقاد وطه حسين وروز اليوسف وحافظ إبراهيم ومختار ومصطفى النحاس وويصا واصف وعدلي يكن وسينيوت حنا وأحمد لطفي السيد وغيرهم، هادية للشعب المصري مهما مر الزمن ومهما حاول المستبدون طمس هذه القيم وإخفائها تحت التراب، لقد ذهبت أسماء من صنعوا دستور 30 إلى مزبلة التاريخ مع دستورهم، بينما ظلت وستظل أسماء من قاوموا نهج الاستبداد ساطعة في سماء الوطن.
*****
قائمة بالمراجع:
·        أحمد عبد الله: الطلبة والسياسة في مصر، ترجمة إكرام يوسف، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2007.
·        بدر الدين أبو غازي: المثال مختار، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2003.
·        حمادة إسماعيل: انتفاضة 1935 بين وثبة القاهرة وغضبة الأقاليم، دار الشروق، القاهرة، 2005.
·        عاصم محروس: الطلبة والحركة الوطنية في مصر 1922 ـ 1952، دار الكتب والوثائق القومية، 2009.
·        عبد الرحمن الرافعي: في أعقاب الثورة المصرية ثورة 1919، ج2، ط3، دار المعارف، القاهرة، 1988.
·        عبد العظيم رمضان: تطور الحركة الوطنية في مصر من سنة 1918 إلى سنة 1936، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968.
·        عبد المنعم الدسوقي الجميعي: الجامعة المصرية والمجتمع 1908 ـ 1940، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، القاهرة، 1983.
·        علي شلبي ومصطفى النحاس جبر: الانقلابات الدستورية في مصر 1923 ـ 1936، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1981.
·        محمد زكي عبد القادر: محنة الدستور 1923 ـ 1952، ط2، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1973.
·        محمد ضياء الدين الريس: الدستور والاستقلال والثورة الوطنية، ج1، مطبوعات الشعب، القاهرة، 1975.
·        محمد ضياء الدين الريس: الدستور والاستقلال والثورة الوطنية، ج2، مطبوعات الشعب، القاهرة، 1976.
·        يونان لبيب رزق: تاريخ الوزارات المصرية 1878 ـ 1953، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، القاهرة، 1975.

الجمعة، 25 نوفمبر 2016

(11)

حكاية الرجل الذي وحد الأمة

عماد أبو غازي

  كان المشهد يوم تشييع عبد الحكم الجراحي يوحي بأن الأمة توحدت، لكننا كنا في حاجة إلى ثلاثة أسابيع أخرى قبل أن تتشكل الجبهة الوطنية، وقبل أن تستعيد الأمة دستورها، وتفرض على بريطانيا العظمى الدخول في مفاوضات.
 في اليوم التالي لتشيع الجراحي اجتمعت اللجنة التنفيذية العليا للطلبة واتخذت قرارات منها: فتح باب الاكتتاب لإرسال وفد من الطلبة إلى مقر عصبة الأمم للمطالبة باستقلال مصر والسودان، والاحتجاج على إجابة الدعوة لزيارة الأسطول البريطاني لمصر، ومنها المطالبة بمحاكمة المسئولين عن التصدي لمتظاهرين بعنف، ولم يتهم أحد وقتها بالاستقواء بالخارج، كما أعلنت اللجنة مواصلة الطلاب لنضالهم حتى تحقيق كل مطالب الأمة.
 كما أرسل الطلاب برقيات احتجاج إلى عصبة الأمم وإلى رئيس الوزراء والوزراء، يحتجون فيها على استخدام القوة لفض مظاهراتهم السلمية ويعترضون على إغلاق الجامعة.
  ورغم إحالة عدد من الطلاب المتظاهرين إلى المحاكم، استنادًا لقوانين استحضرتها الحكومة لضرب حركة الطلاب، إلا أن الحركة تصاعدت واتسع نطاقها لتشمل عددًا كبيرًا من المدن المصرية، واتخذ الطلاب قرارًا بأن يكون يوم الخميس 21 نوفمبر يومًا للإضراب العام حدادًا على أرواح الشهداء، ونجح الإضراب رغم جهود الحكومة والإنجليز لإفشاله، فاحتجبت الصحف عن الصدور، وأغلقت المحال التجارية، وأضرب المحامون، وخرجت المظاهرات إلى الشوارع تتقدمها الطالبات وتوجهت إلى بيت الأمة حيث ألقت أم المصريين كلمة في الجموع المحتشدة أشادت فيها بالحركة الطلابية الصاعدة التي تسعى نحو عودة الدستور والاستقلال.

صفية زغلول
 وفي نفس اليوم توجهت لجنة من سيدات الوفد إلى مقابر الشهداء لوضع باقات الزهور، ثم زرن أسر من استشهدوا في المظاهرات. وكان رد الحكومة مد قرار إغلاق الجامعة أسبوعًا ثم أسبوعًا أخرًا لتستمر الجامعة مغلقة حتى يوم 7 ديسمبر.
 وخلال الأسبوعين سارت الحركة في مسارين مختلفين، فمن ناحية انضمت هيئات جديدة إلى حركة الاحتجاج فأرسل القضاة رسالة للملك ورئيس وزرائه تؤكد رفضهم لغياب الحياة النيابية ولتدخل بريطانيا في شئون مصر، وتوالت بعد ذلك بيانات الاحتجاج من أساتذة الجامعة، بدأت بكلية الآداب ببيان قوي اللهجة فيه إدانة واضحة لموقف الحكومة، وللعنف الذي تمت مواجهة مظاهرات الطلاب به، وجاء في البيان:
 "شعرنا من زمن نحن المصريين من هيئة التدريس في كلية الآداب بالجامعة المصرية أن قلقًا يساور المصريين، وتكاد آثاره تفسد على البيئة الجامعية أمرها وتحول بينها وبين أداء الواجب الجامعي من تثقيف الشباب وتعليمهم، وقد انتهى هذا القلق إلى الاضطراب الذي حدث في الأيام الأخيرة، ونشأ عنه وقف الدراسة في الكليات أسبوعين بعد أن قام الطلبة بمظاهرات سلمية قمعت بعنف شديد أزهقت فيه أرواح بريئة، وما تزال تدمي لها قلوب الأساتذة حزنًا وألمًا.
 وكثيرًا ما شغلنا هذا القلق وحملنا على البحث عن أسبابه، وتحدث في ذلك بعضنا إلى بعض، والآن وقد بلغ الأمر هذا المدى الخطير، نرى من الواجب علينا والحق لنا أن نقرر أن أسباب هذا القلق الذي أثار الأبناء وأزعج الآباء ترجع إلى اضطراب الحياة السياسية المصرية الداخلية والخارجية، فإن من حق مصر أن تنعم بحياة مستقرة واضحة الحدود، قوامها الاستقلال والديمقراطية. لكن موقف إنجلترا من مصر حال دون تنظيم العلاقة بيننا وبينها أولًا، وأغراها بالتدخل في شئوننا الخاصة ثانيًا، حتى جهر وزير خارجيتها بأنها تأبى عودة الدستور الذي رضيه الشعب وأقره جلالة الملك.
 وإننا نأسف كل الأسف لهذه الحالة المنكرة التي صارت إليها الأمور، ونصارح الأمة وأولي الأمر والرأي فيها بأن مستقبل الوطن عامة والعلم والمتعلمين خاصة متعرض لأشد الأخطار، ما دام هذا القلق متسلطًا على النفوس، ونهيب بهم جميعًا أن لا يضنوا بما يملكون من جهد وعزم وحزم في درء هذا الخطر عن البلاد.
 ولعل هذا الصوت الجامعي الهادئ يبلغ مسمع الإنجليز شعبًا وحكومة، فينبههم إلى أن ما يسببونه من القلق في مصر لا يلائم المصلحة المصرية ولا المصلحة الإنجليزية ولا مصلحة السلام العام."
 وقد وقع على البيان جميع أساتذة كلية الآداب المصريين، وتلت كلية الآداب كليات الهندسة والتجارة والزراعة والحقوق، وإن كان بعض أساتذة كلية الحقوق رفضوا التوقيع على بيان الكلية بسبب فقرة في البيان تضمنت نصحًا للطلاب بالهدوء وترك الأمر لزعماء الأمة، وقد قرر هؤلاء الأساتذة الانضمام إلى بيان أساتذة كلية الآداب لقوته ووضوحه، كذلك اجتمع أساتذة كليتي الطب والعلوم وقرروا تبني البيان الصادر عن أساتذة كلية الآداب.
 ومن ناحيتهم أصدر الأطباء والمحامون بيانات تطالب بالدستور والاستقلال، وتدين عنف الحكومة في مواجهة المظاهرات السلمية، وتدعو الأحزاب لتوحيد موقفها.
 وفي نفس الوقت استمرت المظاهرات والمؤتمرات السياسية رغم تعطيل الدراسة في الجامعة والأزهر وكثير من المدارس.
 ومن ناحية أخرى بدأ انشقاق واضح في المعارضة، فالوفد يرى أن المطلب الأساسي عودة دستور 23 وإجراء انتخابات نيابية تمهيدًا للدخول في مفاوضات من أجل الاستقلال، بينما رأى الأحرار الدستوريين وبعض الأحزاب الصغيرة تقديم مطلب الاستقلال على عودة الدستور، وانعكس الانقسام على حركة الطلاب فظهرت اللجنة القومية من طلاب الأحرار ومصر الفتاة في مواجهة اللجنة التنفيذية التي كان الوفد يسيطر عليها، وبدأت الاجتماعات الطلابية تشهد تراشقًا بالكلمات ثم بالبيانات، ووصل الخلاف إلى ذروته في الأسبوع الأول من ديسمبر، واعتقدت بريطانيا أن الأزمة إلى زوال قريب وأن الأمور ستعود إلى سابق عهدها، وتصورت حكومة نسيم إنه "مولد وانفض"، وبالتالي لم تر مبررًا لتأجيل الدراسة مرة أخرى، فالخلاف بين الطلاب أصبح أشد من خلافهم مع الحكومة.
 لقد كان الطلاب يعدون لإقامة نصب تذكاري للشهداء بساحة الجامعة يزاح عنه الستار يوم افتتاح الدراسة صباح 7 ديسمبر، وكان متوقعًا أن يتحول الاحتفال إلى معركة على من يتقدم الحفل طالب الحقوق محمد فريد زعلوك زعيم الطلبة الوفديين أم طالب الطب نور الدين طراف زعيم الجبهة المعارضة للوفد.
 لكن الأقدار لعبت دورها مرة أخرى، لتتوحد جبهة الطلاب وتتكاتف، وتدفع قادة الأحزاب أيضًا إلى الوحدة.
  لكن كيف انقلب الخلاف إلى اتفاق مرة أخرى؟ وكيف مر حفل إزاحة الستار بسلام ووقف فيه طرفا الخلاف معًا؟ وكيف صدر البيان الذي يعلن وحدة الصفوف، ويدعو قادة الأحزاب إلى الاتحاد حول مطلبي الدستور والاستقلال معًا، والذي نشر في الصحف صباح السبت 7 ديسمبر؟
 هناك رواية نشرها الدكتور عاصم محروس عبد المطلب في كتابه الذي صدر مؤخرًا عن مركز تاريخ مصر المعاصر بدار الكتب، مصدرها حوار أجره مع فريد زعلوك زعيم الطلبة الوفديين، ويرجع الحديث إلى عام 77، يؤكد فيه زعلوك أن الخلاف لم يكن حادًا! وإن خصوم الوفد من الطلاب زاروا الطلاب الوفديين في مقر نادي المحاماة مما أزال الخصومة فورًا، وساعد على ذلك بعض المحامين الوفديين من لجنة الدفاع عن الطلاب المحالين للمحاكم كانوا حاضرين بالمصادفة، فتمت المصالحة وصدر البيان المشترك.

الدكتور محمد ضياء الدين الريس
 لكن هناك رواية ثانية للدكتور محمد ضياء الدين الريس في كتابه "الدستور والاستقلال والثورة الوطنية 1935" الصادر سنة 1975، تكشف عن تفاصيل أخرى كان المؤلف بطلها، يتحدث الدكتور الريس باعتباره شاهدًا على الأحداث معتمدًا على مذكراته وذكرياته، وكان قد تخرج من دار العلوم في تلك السنة وعين مدرسًا بوزارة المعارف، ويذكر أنه قرر أن يقابل زعماء الطلبة وهم شباب مثله ويتحدث إليهم مبينًا خطر الانقسام على الوطن، وما فيه من إهدار لتضحيات الشهداء، ويدعوهم إلى الاتحاد، ليدفعوا زعماء الأحزاب إلى الوقوف صفًا واحدًا، من أجل الدستور والاستقلال معًا، فلا تعارض بين المطلبين، بل هما متكاملان. واصطحب معه في هذه المهمة زميل سبقه في التخرج اسمه أحمد بدوي، وبدأ الشابان جولات "مكوكية" بين فريد زعلوك ونور الدين طراف بدأت يوم 3 ديسمبر وكللت بالنجاح مساء يوم 6 ديسمبر، وساق القدر هور بتصريح متعجرف جديد قال فيه أن بريطانيا لن تتفاوض مع مصر في هذه الظروف، فقد كان يظن أن الانقسام في صفوف المصريين قضى على حركتهم.



 يحكي ضياء الدين الريس تفاصيل القصة على مدار عشر صفحات من كتابه، تلك القصة التي تنتهي بصدور بيان مشترك لقيادات الحركة الطلابية نشر في صحف السبت 7 ديسمبر، وتلي أمام نصب الشهداء، كان الريس هو محرر مسودته.

*****

الخميس، 24 نوفمبر 2016

(10)

يوم 14 نوفمبر 1934

عماد أبو غازي

  استمرت المظاهرات التي وصفها المؤرخون بأنها ثورة الشباب واعتبروها تقارب في قوتها وأهميتها ثورة 1919، وكانت مظاهرة 14 نوفمبر من أقوى هذه المظاهرات، وقد دفعت قوتها الحكومة إلى اتخاذ قرارًا بإغلاق الجامعة ظلت تجدده حتى تهدأ ثورة الطلبة، لكن الثورة تواصلت لعدة أيام وسقط فيها عشرات الجرحى والشهداء فبعد استشهاد محمد عبد المقصود شبكة ومحمد محمود النقيب من طنطا والعامل اسماعيل محمد الخالع في سرادق بيت الأمة يوم 13 نوفمبر، استشهد عبد المجيد مرسي الطالب بكلية الزراعة في مظاهرة 14 نوفمبر وعلي طه عفيفي الطالب بدار العلوم يوم 16 نوفمبر.

الشهيد محمد عبد المجيد مرسي
 لكن أشهر هؤلاء الشهداء الذين غيروا تاريخ مصر بدمائهم كان الشهيد محمد عبد الحكم الجراحي شهيد كلية الآداب الذي أصيب بالرصاص في مظاهرة 14 نوفمبر.
 لقد بدأت الأحداث يوم الخميس 14 نوفمبر 1935 وفقًا لرواية الدكتور محمد ضياء الدين الريس بتجمع طلاب كلية الحقوق في الثامنة صباحًا بفناء الجامعة الرئيسي أمام كليتهم، وسرعان ما انضم إليهم طلاب كلية الآداب، وبدأت الهتافات المطالبة باستقالة الحكومة وعودة الدستور، ثم انضم إلى الحشد طلاب كلية الهندسة وطالبات كلية الآداب، واعتلت إحداهن منصة الخطابة وألقت كلمة حماسية، أعقبتها كلمات لممثلي كليات الجامعة؛ وبعد احتشاد الطلاب خرجوا في مظاهرة كبيرة سارت في شارع المدارس (شارع الجامعة الآن) فانضم لها طلاب كليات الزراعة والطب البيطري والمدرسة السعيدية ومدرسة التجارة المتوسطة، وسارت المظاهرة حتى وصلت كوبري عباس دون تدخل من قوات البوليس التابعة لمحافظة الجيزة، وبمجرد أن عبرت المظاهرة كوبري عباس ووصلت إلى الروضة تصدت لهم قوة من الكونستبلات الإنجليز بقيادة البكباشي ليز والكونستابل لوكنر، وأصدر المستر كين بويد مدير إدارة الأمن الأوروبي بوزارة الداخلية أوامره بإطلاق الرصاص على المظاهرة، فأصيب الطالب محمد عبد المجيد مرسي من طلاب كلية الزراعة بعدة رصاصات أودت بحياته، كما أصيب عدد من الطلاب بالرصاص الحي وكانت إصابة الطالب محمد عبد الحكم الجراحي الذي أصيب بعدة رصاصات خطيرة فتم نقله إلى مستشفى قصر العيني، واستمر الجراحي يصارع الموت خمسة أيام، وكانت متابعة الصحافة لإخباره يومًا بيوم سببًا في التفاف مشاعر الأمة حول الشاب الذي كان في العشرين من عمره.

الشهيد علي طه عفيفي

هذا وكان أحمد لطفي السيد مدير الجامعة قد اتخذ قرارًا بإغلاق الجامعة لمدة أسبوع اعتبارًا من يوم 14 نوفمبر، وكذلك إغلاق نادي الجامعة بشارع المناخ (عدلي) وكان النادي ملتقى لطلاب الجامعة وأساتذتها، لكن مدرسة دار العلوم العليا التي كانت حتى ذلك الحين لا تتبع الجامعة قررت استئناف التظاهر يوم السبت 16 نوفمبر، وبعد خروج المظاهرة من مبنى المدرسة القديم بشارع المبتديان في طريقها إلى بيت الأمة تصدت لها قوات الشرطة والجيش وتعدت على المتظاهرين بالهراوات، وأصيب الطالب علي طه عفيفي بكسر في قاع الجمجمة بعد أن تعرض للضرب بعنف من بعض الجنود، واستشهد في اليوم التالي، وشيعه جمع كبير من المواطنين في جنازة شعبية كبيرة زادت من السخط على الحكومة.

علي طه عفيفي مصابًا قبيل وفاته
وفي نفس اليوم خرجت المظاهرات من طلاب المدارس الثانوية في معظم محافظات مصر، وتصدى لها البوليس والجيش بالقوة، وتم القبض على العشرات وتقديمهم لمحاكمات عاجلة، حصل معظمهم فيها على البراءة أو على أحكام مخففة.
 أما الأزهر، فبمجرد أن تسرب نبأ نية طلابه تنظيم مظاهرات ضد الحكومة، قام الشيخ المراغي شيخ الجامع الأزهر بتعطيل الدراسة بمناسبة اقتراب شهر رمضان، رغم أن الأحداث جرت في منتصف شعبان، وقد اتخذ الشيخ قراره بعد لقاء استمر لمدة ساعة كاملة مع المستر كين بويد.
 وفي نفس الوقت استمرت محاولات الأطباء في مستشفى قصر العيني لإنقاذ حياة عبد الحكم الجراحي دون جدوى، وكانت الرسائل التي يبعث الجراحي بها من سريره وهو بين الحياة والموت سببًا في حفز همم المصريين واشتعال الموقف ضد حكومة توفيق نسيم وضد الاحتلال، فقد بعث إلى مستر بلدوين رئيس وزراء بريطانيا رسالة قال في مطلعها إلى بريطانيا روح الشر، وعدد فيها مظاهر عدوان بريطانيا على الشعوب وتنبأ بقرب زوال إمبراطوريتها، كما بعث برسالة أخرى إلى زملائه قال فيها:
 "إخواني الأعزاء: إني أشكر لكم شعوركم السامي بالنسبة لما أديته، وأعتبره أقل من الواجب في سبيل البلد الذي وهبنا الحياة بل وهب الحضارة للعالم".

الجراحي
 عندما علم الطلاب بنبأ وفاة الجراحي قرروا أن يشيعوا جثمانه في جنازة شعبية تليق به وبالقضية التي استشهد من أجلها، وتناوبوا على حراسة الجثمان حتى لا تختطفه الحكومة ليدفن في صمت مثلما حدث مع زميله الشهيد محمد عبد المجيد مرسي.
 وخرجت الجنازة من مستشفى قصر العيني يتقدمها مصطفى النحاس وأحمد لطفي السيد رئيس الجامعة ومنصور فهمي عميد كلية الآداب وعشرات من الساسة المصريين من مختلف الاتجاهات وزعماء النقابات المهنية والعمالية، وآلاف الطالبات والطلاب، وتقدم العلم المصري الأخضر الجنازة وتوجهت الجنازة إلى مسجد السيدة زينب حيث صُلي على الجثمان، ومن هناك إلى المدافن، وكان الطريق محفوفا بآلاف المواطنين يهتفون لمصر ولشهيدها، وأصوات النساء ترتفع من الشرفات والشبابيك مودعة جثمان عبد الحكم في رحلته الأخيرة. مشهد رأيته يتكرر في نوفمبر 2012 في جنازة الشهيد جابر صلاح (جيكا) شهيد موقعة محمد محمود الثانية الذي ودعه الآلاف في جنازة سارت من جامع عمر مكرم إلى مدافن باب الوزير في القلعة، بعد أن ظل في حالة موت إكلينيكي لمدة خمسة أيام، وقد نقل الجثمان بعد ذلك إلى مدفن جديد بالقرب من باب النصر.

شاهد قبر الشهيد عبد الحكم الجراحي
وقد وصف بشتلي أفندي في تقريره بالقلم المخصوص بوزارة الداخلية الجنازة قائلا:
 "عندما يموت أحد المتظاهرين تكون المشكلة الكبرى أمام السلطات هي أن تنتهي الجنازة بأقل قدر ممكن من الاضطرابات، وقد نجح البوليس في تلافي القلاقل الخطيرة في كل الحالات عدا حالة واحدة، حالة محمد عبد الحكم الجراحي الذي توفي في 19 نوفمبر، وفي بادئ الأمر أخفى طلبة الطب الجثمان في المستشفى ورفضوا الإفصاح عن مكانه، حتى أعطيت التأكيدات بأنه سوف يسمح بخروج جنازة شعبية، وقد اشترك جمع غفير في الجنازة التي خرجت في مساء نفس اليوم، وعومل الفقيد باعتباره بطلًا وطنيًا، ورافق زعماء سياسيون، مثل النحاس وصدقي ومحمد محمود وآخرون مسيرة الجنازة لقدر من المسافة..."
 وقد غطت الأهرام الجنازة تغطية تفصيلية، وجاء في كلمة التحرير:
 "لقد شهدنا أمس أول بوادر الائتلاف الحقيقية في مأتم المغفور له محمد عبد الحكم الجراحي، فقد حقق هذا الفتى المعجزة التي حبطت دونها جهود المفكرين، إذ اجتمع وراء نعشه جميع رؤساء الهيئات والأحزاب، ساروا صفا واحدا وقد نسوا كل شيء إلا الضحية الغالية التي تسير الهوينة على أعناق الرفاق ملفوفة في علم البلاد."
 لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فما الذي حدث بين تشيع الجراحي يوم 19 نوفمبر وعودة الدستور يوم 12 ديسمبر 1935؟

*****

الأربعاء، 23 نوفمبر 2016

(9)

يسقط هور ابن التور

عماد أبو غازي
  جاء تصريح السير صمويل هور وزير الخارجية البريطاني يوم 9 نوفمبر 1935 والذي عرفه المصريون من الصحف التي نشرته في صباح اليوم التالي في وقته، جاء ومصر تستعد  للاحتفال بذكرى عيد الجهاد الوطني، وعيد الجهاد الوطني يصادف 13 نوفمبر من كل عام، اليوم الذي توجه فيه سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي سنة 1918 إلى دار المعتمد البريطاني مطالبين بإنهاء الأحكام العرفية والسماح لهم بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس ممثلين للشعب المصري، وكانت مصر تحتفل بهذا اليوم وتعتبره أهم أعيادها الوطنية لسنوات طويلة، إلى أن ألغى نظام يوليو 52 هذا اليوم من ذاكرة الوطن.
سير صمويل هور
 جاء تصريح هور وسحب الانقسام تخيم على المعارضة المصرية، والصدام في صفوفها أشد من الصدام بينها وبين السرايا، وبينها وبين حكومة توفيق نسيم باشا، رغم مرور عام على توليها دون أن يعود لمصر دستورها، جاء التصريح ليستفز الشعور الوطني للمصريين ويؤدى إلى التقارب بين صفوف المعارضة، لكن ما الذي استفز الناس فيما قاله السير صمويل هور؟
 لقد جاء في تصريحه:
 "لا صحة على الإطلاق لزعم الزاعمين إننا نعارض في عودة النظام الدستوري لمصر، بشكل يتفق مع احتياجاتها، فنحن انطلاقًا من تقاليدنا لا نريد أن نقوم بذلك ولا يمكن أن نقوم به، فقط عندما استشارونا في الأمر، أشرنا بعدم إعادة دستور 23 ولا دستور 30، لأنه قد ظهر أن الأول غير صالح للعمل به، والثاني غير مرغوب فيه".
 لقد فضح التصريح حكومة نسيم التي لا تستطيع أن تأخذ خطوة تعد من صميم أعمال السيادة إلا بعد استئذان الحكومة البريطانية، كما كشف حقيقة موقف بريطانيا المعادي لعودة دستور 23.



محمد توفيق نسيم باشا
 كان رد الفعل الشعبي سريعًا وقويًا، فقد نشرت صحف 10 نوفمبر 1935 التصريح مهاجمة إياه، وفي يوم 11 نوفمبر جاءت المبادرة من جانب الطلاب، فاجتمعت اللجنة التنفيذية العليا التي تمثل اتحاد طلاب الجامعة، وأصدرت نداءً وطنيًا بمناسبة عيد الجهاد، نشرته صحف 12 نوفمبر، دعت فيه إلى أن يحتفل طلبة الجامعة والأمة بهذا اليوم احتفالًا يليق بجلال هذه الذكرى، وأعلن بيان اللجنة بدء الجهاد من أجل الدستور والاستقلال، وكان الطابع الغالب على الحركة عند بدايتها، الوحدة والبعد عن التحزب. وفي نفس اليوم بدأ تحرك في الوفد للإعداد لموقف يعلنه رئيس الحزب مصطفى النحاس في الاحتفال بعيد الجهاد الوطني، وكان برنامج الاحتفال يبدأ باجتماع في مقر النادي السعدي يرأسه النحاس باشا، ثم يتوجه المجتمعون لزيارة مقبرة سعد زغلول بمنطقة الإمام الشافعي، حيث كانت حكومة صدقي باشا والحكومات التي أعقبتها قد حالت دون نقل رفات الزعيم إلى ضريحه بمنطقة المنيرة، ثم يقام الاحتفال الكبير بسرادق منصوب إلى جوار بيت الأمة، وقد فاق عدد الدعوات الموجهة لحضور الاحتفال عشرة آلاف دعوة، وكان مقررًا أن يلقي النحاس باشا خطابه في هذا الاحتفال.
 وفي صبيحة يوم 13 نوفمبر خرجت المظاهرات من الجامعة ومن دار العلوم والأزهر وبعض المدارس الثانوية في القاهرة وخارجها تهتف في الشوارع "يسقط هور ابن التور"، وتدعو زعماء الأحزاب إلى توحيد الصفوف من أجل استعادة الدستور.
 وتصف جريدة الأهرام يوم 14 نوفمبر مظاهرات الجامعة:
 "قبل الساعة الثامنة من صباح أمس اندفعت سيول الطلبة من الباب العمومي للجامعة، واحتشدوا بالفضاء الواقع أمامها، وفي كل لحظة كان عددهم يزداد، وكلما وفد شباب كلية أو مدرسة ومعهم علمهم يرفرف فوق الرؤوس، استقبلهم زملاؤهم المجتمعون بالتصفيق الحاد والهتافات الداوية، وبعد زمن وجيز بلغ عددهم سبعة آلاف طالب ويزيد. وأقام الطلبة منبرًا للخطابة عند مدخل كلية الحقوق، وفي وسط هزيم الرعد اعتلاه أحدهم وأخذ يلقي خطابه في قوة وبيان واضح، وجعل الخطباء يتناوبون الكلام مستعرضين موقف الأمة المصرية من عام 1918 إلى يومنا هذا... وبعد الساعة العاشرة بدأ زحف الطلبة العام نحو القاهرة، لزيارة بيت الأمة وزيارة ضريح المغفور له سعد باشا."
 وتحركت المظاهرات في عدة اتجاهات ومن عدة أماكن، حيث اتجهت المظاهرة الرئيسية من الجامعة لتعبر كوبري الجلاء في اتجاه وسط المدينة، فاشتبكت معها قوات البوليس والقوات البريطانية عند كوبري الإسماعيلية (قصر النيل حاليا) وفي مدخل ميدان الإسماعيلية (التحرير)، لكنهم نجحوا في الوصول إلى الميدان وتفرقوا في عدة اتجاهات، فاتجهت مظاهرة كبيرة إلى ميدان عابدين واشتبكت مع قوات البوليس أمام القصر، واتجهت مظاهرة أخرى إلى دار المندوب السامي البريطاني في قصر الدوبارة، واتجهت مظاهرة ثالثة إلى شارع جامع شركس (صبري أبو علم) حيث كانت القنصلية البريطانية، وانتهت كل هذه المظاهرات باشتباكات عنيفة دامية مع قوات البوليس والقوات البريطانية.
  وفي نفس الوقت خرج طلاب مدرسة التجارة العليا بشارع قصر العيني في مظاهرة حاشدة اعتدى عليهم رجال الشرطة اعتداءً وحشيًا، وخرجت مظاهرات المدارس الثانوية والأزهرية في عدة أحياء من القاهرة، وسقط عشرات الجرحى في المظاهرات.
 وشهدت عدة مدن مصرية مظاهرات طلابية حاشدة، كان أشدها عنفًا مظاهرات طنطا التي بدأها طلبة المعهد الأحمدي وانضم أليهم طلاب المدارس الثانوية، وسقط فيها أول شهيدين من شهداء الثورة.
 وفي مساء يوم 13 نوفمبر 1935 ألقى النحاس باشا خطابًا في حشد جماهيري كبير في السرادق الذي أقامه الوفد المصري بجوار بيت الأمة، وفي ختام خطابه الطويل أعلن موقف الوفد المصري من الوضع القائم فيما أسماه "كلمة الوفد المصري"، وجاء فيها على لسان النحاس باشا وفقًا للنص الذي أورده الدكتور محمد ضياء الدين الريس في كتابه عن الاستقلال والدستور:
"وقد اجتمع الوفد المصري أول أمس، كما اجتمع مع الهيئة الوفدية، وأجالوا البحث في الموقف السياسي الحاضر، وإليكم كلمة الوفد الإجماعية الحاسمة بهذا الخصوص:
 أولًا: توجيه الدعوة إلى الأمة كلها بجميع طبقاتها، وعلى اختلاف هيئاتها واجتماعاتها، بعدم التعاون مع الإنجليز ما دام اعتداؤهم قائما على الدستور والاستقلال.
 ثانيًا: إن الواجب الوطني أصبح يحتم على الوزارة المصرية أن تستقيل نزولًا على خطة عدم التعاون، ولأن استمرارها في الحكم بعد إصرار الإنجليز على الاعتداء على الدستور والاستقرار هو إقرار لهذا الاعتداء.
 ثالثًا: إذا لم تستقل الوزارة فإن الوفد لن يؤيدها بعد الآن.
 رابعًا: كل وزارة تقبل أن تعاون الإنجليز مع استمرار اعتدائهم على الدستور والاستقلال هي وزارة خارجة على البلاد يقاومها الوفد بكل ما يستطيع.
 تلك كلمة الوفد يقولها صريحة عالية، لتسمعها الأمة المصرية، وتعيها الوزارة والمصرية، وليعمل بها العاملون."



 ثم وجه خطابه إلى الداعين إلى الوحدة القومية بين الأحزاب قائلًا:
 "إنما يكون توحيد الكلمة بنزول الجميع على مبادئ الأمة وأن يعمل كل من ناحيته لها، وإني باسم الوفد المصري أدعو الشعب المصري ـ تحقيقًا لوحدة الجهود ـ إلى الاستمساك بهذه المبادئ، وأن تعلن جميع الهيئات في غير مواربة ولا إبهام المطالبة بعودة دستور الأمة، ناجزًا غير مؤجل، وكف عدوان الإنجليز عنه وعن استقلال البلاد، بهذا وبهذا وحده تكون الوحدة."
 وقد خرج الحاضرون في مظاهرة تهتف بالثورة فتصدت لهم قوات البوليس بقيادة الأميرالاي لوكاس بك مساعد حكمدار العاصمة، وأطلقت عليهم الرصاص الحي، وقد أسفر الاشتباك عن استشهاد العامل إسماعيل محمد الخالع الذي كان يعمل في السرادق متأثرًا بجراحة، وجرح 150 آخرين، والقبض على 220 من المشاركين في الاحتفال والمظاهرات.

*****

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2016

(8)

سقوط دستور 30

عماد أبو غازي

  لم يؤد سقوط صدقي إلى انتهاء الانقلاب الدستوري الأخطر والأطول في تاريخ مصر في الحقبة الليبرالية، بل استمرت نفس السياسة المعادية للدستور وللشعب، على يد حكومة حزب "الشعب" برئاسة الرئيس الجديد للحزب وللحكومة عبد الفتاح باشا يحيي، واستمر دستور 1930 الذي سلب من الشعب حقوقه ساريًا،  وكانت لحكومة عبد الفتاح باشا يحيي ابداعاتها المنبئة عن توجهاتها، لقد ابتكر الباشا وسيلة جديدة يؤكد بها الولاء من طاغية صغير للملك، فقد أقرت الوزارة مبدأً جديدًا غير مسبوق في النظام الدستوري المصري، أن يؤدي الوزراء يمين الولاء للملك.

عبد الفتاح باشا يحيى 
وفي ظل حكومة عبد الفتاح باشا يحيي تواصلت الانتهاكات للحريات العامة، واستمرت المعارضة السياسية والشعبية للحكومة الجديدة، تلك الحكومة التي حاولت أن تجمل وجهها بالتحقيق في فساد عهد صدقي، رغم أن رجالها هم أنفسهم رجال صدقي، وحزبهم نفس الحزب المصطنع الذي حمل اسم الشعب زورًا وبهتانًا، حاولت أن تجمل وجهها بالتضحية ببعض رجال الحكومة السابقة، في محاولة لتخفيف حدة المعارضة.
 بعد ثلاثة أشهر من تشكيل الحكومة دخلت في صدام مع المحامين عندما أصدرت لائحة جديدة للمحاماة، نصت على استبعاد من وقعت عليه عقوبة تأديبية من المحامين من عضوية مجلس النقابة، وكان القصد من ذلك استبعاد الخصوم السياسيين لنظام الانقلاب الدستوري من عضوية مجلس النقابة، وقد رفض المحامون اللائحة وناضلوا من أجل إسقاطها إلى أن تحقق لهم ذلك.
 كان التعديل الوزاري مجرد محاولة لامتصاص جزء من الغضب الشعبي بإبعاد صدقي عدو الشعب الذي أصبح ورقة محروقة تشكل عبءً على الملك والإنجليز ومصالحهما أكثر مما تفيدهما، وقد أكد عبد الفتاح باشا يحيي أن وزارته تستند إلى دستور 30 عندما قال في رسالته إلى الملك فؤاد بعد تكليفه بالوزارة:
 "كان لي شرف الاشتراك في وضع أسس النظام الحاضر والسهر على تنفيذه حتى استقر نهائيًا... وستسير وزارتي بالبلاد في ظل جلالتكم في الطريق نفسه مسترشدة بحكمة جلالتكم السامية."
 لكن في كل الأحوال كان سقوط صدقي خطوة على الطريق، طريق استعادة الشعب لحريته وحقوقه، فقد كان الملك والإنجليز وصدقي نفسه يخططون لبقاء حكمه وانقلابه عشر سنوات.
 وفي خريف 1934 مرض الملك فؤاد، وشعر الإنجليز بأن رحيل فؤاد أصبح قريبًا، وإنهم أمام حكومة ضعيفة لا تملك سندًا شعبيًا، فتدخلوا في شئون البلاد بشكل فج ومهين، للملك ولحكومته.
 ويبدو أن فؤاد عندما شعر باقتراب أجله وبعد أن تأكد له فشل حكومة عبد الفتاح يحيي في إزالة الاحتقان، قرر أن يسعى في اتجاه إرضاء الشعب، فجاءت الخطوة الثانية إلى الأمام عندما كلف الملك فؤاد توفيق نسيم باشا بتشكيل الوزارة في محاولة الاقتراب خطوة أخرى نحو الشعب والمعارضة، كما أصدر مرسومًا ملكيًا بإلغاء دستور 30 المرفوض شعبيًا، وحل البرلمان الذي أتت به انتخابات صدقي المزورة، إلا أنه لم يُعد العمل بدستور 1923، بل نقل اختصاصات البرلمان إلى شخصه.
 رغم ذلك فإن إلغاء دستور 30 شكل انفراجه مؤقتة في الوضع السياسي، فسارعت قيادة الوفد للاستفادة منها بالدعوة لمؤتمر عام لحزب الوفد شارك فيه أكثر من ثلاثين ألف من المصريين، وانعقد على مدار يومي 9 و10 يناير 1935، وناقش المؤتمر من خلال أوراق سياسية وبحثية معمقة الوضع في مصر والتخطيط لمستقبلها، وغطت هذه الأوراق مختلف جوانب الحياة المصرية، من الوضع الدستوري إلى الامتيازات الأجنبية وعلاقات مصر الدولية، كما ناقشت الأوراق موضوعات مثل: القضاء، وأوضاع التعليم، والصحة، والأزمة الاقتصادية، والزراعة، والصناعة، وأوضاع القلاحين والعمال، والمرأة المصرية ونصيبها من النهضة، وخصصت ورقة من الأوراق المقدمة لمناقشة نظام الوفد المصري، وأظن أن هذا المؤتمر كان الأول من نوعه في تاريخ الأحزاب المصرية.


النحاس باشا
 وقد انتهى المؤتمر إلى أربعة قرارات:
 أولًا: ثقته التامة بالوفد المصري ورئيسه الجليل.
 ثانيًا: وجوب عودة دستور سنة 1923 كاملًا غير منقوص، حتى تستأنف البلاد في ظله الحياة الديمقراطية الحرة، ويستقر الأمر فيها.
 ثالثًا: يعرب المؤتمر عن أمله في أن يصل الوفد إلى حل القضية المصرية حلًا شريفًا أساسه تحقيق استقلال البلاد التام، مع المحافظة على المصالح البريطانية التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال، وإقامة العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر على أساس المودة وحسن التفاهم.
 رابعًا: يبدي المؤتمر ارتياحه للأبحاث القيمة التي عرضت عليه من لجانه، ويرجو بعد أن تبين الفساد الذي وصلت إليه أحوال البلاد في جميع نواحيها بسبب النظام الذي فرض في الأعوام الماضية أن يقوم الوفد بدرس الاقتراحات التي قدمتها اللجان، على أن يقرر ما يراه مناسبًا بشأنها تحقيقًا للإصلاح الذي تنشده البلاد."

 ورغم هذه البداية القوية المتفائلة لعام 1935 إلا أن الأمور سارت في اتجاه آخر. فنوايا فؤاد لم تكن خالصة لوجه الله والوطن عندما ألغى دستور 30 وأقال حكومة يحيى باشا إبراهيم، فقد كان يعتقد أن خطوته ستؤدي لشق صفوف المعارضين، وقد أثمرت المحاولة بالفعل على هذا الصعيد؛ فانفضت الجبهة القومية التي تشكلت من الوفد والأحرار الدستوريين، وشهد الوفد نفسه انقسامًا حادًا، فقد أيدت قيادة الوفد حكومة نسيم تأييدًا ضمنيًا، بينما رفضت بعض الفصائل الأكثر ثباتًا في المعارضة أن تؤيد الحكومة، وكانت صحيفة روز اليوسف وعلى رأسها السيدة روز اليوسف والكاتب الكبير عباس محمود العقاد من أشد المعارضين لخط المهادنة من داخل حزب الوفد وصحافته، حيث رأيا أن المعارضة ينبغي أن تستمر حتى يعود دستور 23، واتخذ بعض المفكرين الليبراليين نفس الموقف، وكان من أبرزهم الدكتور محمود عزمي.

العقاد
 وشهدت جبهة الوفد ومناصريه انقسامًا أدى إلى استقالة العقاد من الوفد بعد أن كتب في إحدى مقالاته: "إنما كنا وفديين لأننا وطنيون، ولم نكن وطنيين لأننا وفديون"، كما أدت إلى إعلان قيادة الوفد أن روز اليوسف ـ المجلة ـ لم تعد من الصحف التي تعبر عن الوفد، بعد أن رفضت روز اليوسف ـ الكاتبة والفنانة ـ الخضوع لتهديدات مكرم عبيد باشا بضرورة الالتزام بخط الوفد.

روزاليوسف
 وخلال خريف عام 1935 بلغ الانقسام أشده في صفوف المعارضة رغم عدم ظهور بوادر حقيقية لعودة دستور 1923، ورغم أنه بات واضحًا من تصريحات المسؤولين البريطانيين أنه لا نية لديهم للدخول في مفاوضات تحقق استقلال مصر.
 إذن لم يعد هناك أمل في تحقيق حلم المصريين في الاستقلال والدستور.
 كان الوضع الدولي يزداد احتقانًا بسبب التصرفات الخرقاء للنازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية التي كانت تضع العالم على أعتاب حرب عالمية جديدة، ولم تكن المعارك بعيدة عن حدود مصر، ففي هذا الوقت كانت الحكومة الفاشية في إيطاليا تحتل ليبيا وتعد العدة لغزو الحبشة، وأضاف كل هذا أعباء إضافية على الوضع المصري، فبدأت بريطانيا تتصرف في مصر كما لو كانت محمية بريطانية، وتنظم عروضًا عسكرية لقواتها في مصر، وتعلق جريدة الأهرام في 12 أكتوبر على ما يحدث من استعراضات للقوة العسكرية على الأراضي المصرية في مقال افتتاحي بعنوان "بين عام 1935 وعام 1914"، قالت فيه:
 "على أن الجمهور وهو يشهد هذه الاستعدادات يذكر ما شهده سنة 1914، ولذا يفزع من هذه الذكرى، ويقلق من هذه القوات والإجراءات والاعتمادات التي توضع من أجلها.
 على أنه بجانب تسجيلنا لهذا المظهر، لا نرى أن هناك فرقًا جوهريًا بين حالتنا اليوم وحالة مصر سنة 1914. فالاستعدادات العسكرية قائمة وتقوم بها السلطات البريطانية، وهذا ما رأيناه سنة 1914. والبرلمان معطل الآن، وكانت الجمعية التشريعية معطلة منذ قيام الحرب الكبرى. والوزارة الحالية مستسلمة للإنجليز أكثر من استسلام الوزارة الرشدية سنة 1914."
 وتختتم الافتتاحية بعبارة تعكس حال المصريين وقتها:
 "وبعد، فإن المصريين عن بكرة أبيهم يرون أن ظروف الحالة الحاضرة تشبه ما حصل سنة 1914."
 وفي 27 أكتوبر 1935 نشرت مجلة أخر ساعة افتتاحية معبرة عن الحالة التي وصلت إليها البلاد، بعنوان "لا دستور، ولا معاهدة، ولا يحزنون!"، جاء فيها:
 "نستطيع أن نقول ـ استنادا إلى أوثق المصادر وأوسعها علمًا ببواطن الأمور ـ أن السلطات البريطانية ترفض رفضًا باتًا أن تصغي إلى أي حديث عن عودة الدستور الآن، أو إجراء مفاوضات بقصد عقد معاهدة في الظروف الحاضرة، وإن كل مسعى في هذا السبيل سوف يقابل بأذن صماء... فليدرك هذه الحقيقة كل من لا يزال يعلق الآمال على إنجلترا، وعلى حسن نيات الإنجليز، ولنترك الآن كل حديث عن مفاوضات الإنجليز، ولنفكر في وسيلة نرغم بها القوم على الإصغاء إلى مطالبنا... إذًا فلا دستور ولا معاهدة، ونقول: هذا النبآء سيتأكد من مصادر أخرى، وتردده كل الصحف، وتثبته الأيام... وأما بالنسبة لوزارة نسيم فهي باقية على الرغم من كل شيء، ومن غضب الشعب عليها ومن احتجاجات الصحف، لأن الإنجليز راضون عنها، يريدون بقاءها لخدمة أغراضهم، والذي دلت عليه الأخبار والوقائع، أن المندوب السامي حضر من إنجلترا بقرار الحكومة البريطانية ضرورة بقاء هذه الوزارة والعمل على تثبيتها أطول مدة ممكنة".
 لكن كما يقولون: "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن"؛ سفينة الإنجليز، وسفينة الملك، وسفينة الحكومة!
 ففي ظل حالة الإحباط العامة، والتراخي من قبل قادة المعارضة، جاء الإنقاذ من خارج مصر، فقد أدى تصريح أدلى به السير صمويل هور وزير خارجية بريطانيا ـ واعتبره المصريون تدخلًا وقحًا في الشئون الداخلية لمصر ـ إلى تفجر الأوضاع السياسية، وعودة الاحتقان، ثم انفجار الثورة، خاصة بعد أن تقبلت حكومة نسيم التصريح ولم تعترض عليه.
 كانت خلاصة التصريح أن دستور 30 لم يكن مناسبًا لمصر، كما أن عودة دستور 23 غير ملائمة.
 ومن هذا التصريح انفجرت ثورة الشباب.

*****

الاثنين، 21 نوفمبر 2016

(7)

سقوط طاغية

عماد أبو غازي

  "أيها المصريون لقد رأيتم ما حل بوطنكم من نكبات وما نزل بأرضكم من ويلات. لقد رأيتم كيف تصبح كرامتكم هدفًا للأهواء ولقمة سائغة في فم الأعداء. لقد استغل الآثمون وداعتكم واتخذوها ذريعة لأطماعهم ومنفذًا لخداعهم.
 اعتدوا على الدستور وهو عنوان نهضتكم وعلى البرلمان وهو رمز كرامتكم وعلى النيل وهو مصدر حياتكم. ولم يدعوا في أرض الوطن لسان ينطق بالحق أو قلمًا يجري بالصدق ومدوا أيديهم إلى امتهان رجولتكم واحتقار عزتكم لتطيب لهم لذات المناصب وشهوات الحكم في جو يأمنون فيه صوتًا يواجههم أو كلمة تعلوا في وجوههم...
 أيها المصريون إنهم أشخاص وأنتم أمة، إنهم أفراد وأنتم جماعة، إنهم ضعف وأنتم قوة، إنهم يريدون المناصب وأنتم تريدون الحرية، والمناصب في عهدهم ذل وعار والحرية شرف ووقار...
 إن اليوم عصيب والوقت رهيب والنصر من المجاهدين قريب، فجاهدوا قليلًا لتستريحوا كثيرًا، وإن كانت حياتكم غالية فالوطن أغلى، وإن كانت معيشتكم عالية فالكرامة أعلى والموت خير للمرء من أن يقضي الحياة هوانًا وذلًا...
 أيها المصريون اليوم يومكم والوطن لكم والحرية حقكم. فهبوا لإنقاذها قبل أن تحق على البلاد كلمة الدمار والخراب، فثبتوا في الحق أقدامكم، وارفعوا بجهاد الصدق أعلامكم".

 هذه فقرات من منشور من تلك المنشورات التي كانت تغرق مصر كلها في مواجهة حكومة صدقي واستبداده، والتي صورها المشهد الأخير من فيلم القاهرة 30 لصلاح أبو سيف والمأخوذ عن رواية نجيب محفوظ "القاهرة الجديدة" والذي يجري فيه الفنان عبد العزيز ميكاوي وهو يلقي في الهواء منشوراته الثورية، وهذا المنشور موقع باسم المصري الحر، وصورته منشورة في كتاب الانقلابات الدستورية في مصر، للدكتورين علي شلبي ومصطفى النحاس جبر، وكان المنشور سلاحًا من أسلحة المقاومة ضد الاستبداد في زمن صودرت فيه الصحف، ولم تكن به فضائيات أو شبكات للتواصل الاجتماعي على الإنترنت.


 لقد استمرت المقاومة وتصاعدت ضد صدقي، وزاد من قوتها وحدتها امتداد آثار الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى إلى مصر، وكان سلوك حكومة صدقي في مواجهة الأزمة يصب في خدمة الأثرياء من كبار الملاك وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، بينما حاصرت الأزمة الناس في أرزاقهم، حقًا لقد أنشأت حكومة صدقي "مساكن الشعب"، لتأوي الفقراء، بقي بعضها إلى الآن شاهدًا على العصر في منطقة أبو الريش بالقاهرة، وافتتحت الحكومة "مطاعم الشعب" لإطعام الجائعين، لكنها كانت مسكنات شكلية لم تؤد إلى حل المشكلات، وسرعان ما انضم العمال والفلاحين إلى حركات الاحتجاج، وظهر عمال عنابر السكة الحديد في مقدمة الحركة العمالية وطليعتها، كما شهدت قرى الدلتا والصعيد هبات فلاحية متعددة بعضها أخذ طابعًا جماعيًا سياسيًا ضد دستور 30 وتزوير الانتخابات، وبعضها الآخر كان احتجاجًا على سوء الأوضاع الاقتصادية وتعسف الحكومة في جباية الضرائب، وابتكر الوفد أسلوبًا جديدًا في النضال بالدعوة للامتناع عن دفع الضرائب.
 وانضم الاتحاد النسائي المصري بقيادة هدى شعراوي إلى المعارضة، ونظمت لجنة سيدات الوفد مظاهرة نسائية ضخمة ضد حكومة صدقي باشا، وخرجت المظاهرة من دار رياض باشا وسارت في طرقات القاهرة، وانضم إليها المئات، وتدخلت الشرطة لفض المظاهرة بالقوة واعتقلت عدد من السيدات وأودعتهن في أقسام الشرطة، ثم اضطرت تحت الضغط الشعبي للإفراج عنهن ليلًا، وقد شاركت النساء في أنشطة عديدة ضد حكومة صدقي أبرزها الدعوة لمقاطعة الانتخابات البرلمانية الزائفة التي نظمتها الحكومة.
 وها هو شاعر النيل ينعى حال مصر في ظل الحكومة الاستبدادية في قصيدة جاء فيها:

حولوا النيل واحجبوا الضوء عنا       واطمسوا النجم واحرمونا النسيما
واملأوا البحر ـ إن أردتم ـ سفينًا          واملأوا الجو ـ إن أردتم ـ نجومًا
وأقيموا للعسف في كل شبر           كونستبلًا بالسوط يفري الأديما
إننا لن نحول عن عهد مصر               أو ترونا في التراب عظمًا رميمًا

 لكن المسمار الأول في نعش حكومة صدقي كان حادثة اغتيال مأمور مركز البداري، فقد كشفت تلك القضية عن الانتهاكات التي كانت تقع في مراكز الشرطة ضد المواطنين، ففي ظل الدكتاتورية والاستبداد والفساد تغولت سلطة البوليس والإدارة على سلطة القضاء والنيابة، ويحكي عبد الرحمن الرافعي في كتابه "في أعقاب الثورة المصرية"، عن واقعة منع مأمور الشرطة في المنيا لأحد وكلاء النيابة من مباشرة التحقيق في شكوى قدمها الأهالي ضد رجال الإدارة في مديرية المنيا كنموذج لهذا التغول الذي ساندته الحكومة.
 وقد أدت سياسة إطلاق يد الشرطة وجهات الإدارة في التنكيل بالمعارضين السياسيين إلى امتداد هذا الأسلوب إلى التعامل مع كل المواطنين، فأصبحت إهانة الكرامة والتعذيب أسلوبًا معتادًا في أقسام الشرطة، ومن ضمن هذه الوقائع ما حدث في مركز البداري، والذي انتهى بحكم لمحكمة النقض برئاسة عبد العزيز فهمي باشا في أدانت فيه المحكمة في حكم تاريخي لها صدر يوم 5 ديسمبر سنة 1932 فساد النظام وأفعال رجال البوليس التي وصفها الحكم بأنها "إجرام في إجرام"، وقالت المحكمة أيضا: "إن من وقائع هذه القضية ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون بالأشغال الشاقة، وإنها من أشد المخازي إثارة للنفس".


عبد العزيز فهمي

 وفتح هذا الحكم ملف انتهاكات الشرطة؛ فبدأت النيابة العامة التحقيق في وقائع التعذيب التي يتعرض لها المواطنون على يد رجال البوليس في مختلف أنحاء البلاد، وكان هذا الحكم وما تبعه من تحقيقات سببًا في انقسام في حكومة صدقي الذي أوقف التحقيقات فاستقال بعض وزرائه احتجاج على هذا الإجراء، وتم تغيير الحكومة بعد استبعاد الوزراء المستقيلين، واستمرت انتهاكات البوليس ورجال الإدارة، لكن حكومة صدقي الجديدة لم تصمد أكثر من تسعة أشهر وسقطت وسقط معها صدقي باشا؛ ففي نفس الوقت أحس الإنجليز بأن الأمر بات يهدد مصالحهم في مصر، وإن سياستهم الداعمة لصدقي تضر بهم، فغيروا في صيف 1933 مندوبهم السامي الذي كان سندًا دائمًا لصدقي، وأعطوا الضوء الأخضر لفؤاد ليتخلص من رئيس وزرائه في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي. فاستقال صدقي بإيعاز من الملك في سبتمبر 1933 وحل محله عبد الفتاح باشا يحيي الذي كان قد استقال من الوزارة ومن حزب الشعب قبلها بتسعة أشهر، ولم يخرج صدقي من الوزارة فقط بل انفض عنه حزبه "حزب الشعب" كما هي عادة أحزاب السلطة دائمًا.

روزاليوسف

وكتبت السيدة روزاليوسف تعليقا على سقوط الطاغية:

 "حين سقط صدقي تخلى عنه كل شيء: تخلى عنه حزبه، وتخلت عنه جريدته، وتخلت عنه الأغلبية التي أوجدها من العدم. وتلك كانت نتيجة طبيعية. فالبناء الذي يقام على السلطان يذهب بذهاب السلطان، وما تأتي به الريح تذهب به الزوابع..."

 لكن هل انتهى عهد الطغيان بسقوط الطاغية؟


*****

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...