الأربعاء، 28 يناير 2015


 دي مجموعة مقالات قصيرة نشرتها مع بعض في صفحة تراث وتاريخ في جرنال الشروق في يناير 2012، بعد سنة من الثورة:

حكايات ميدان التحرير

عماد أبو غازي

 في يناير من العام الماضي أصبح ميدان التحرير اسمًا يتصدر نشرات الأخبار في العالم، ورمزًا لثورات الشعوب ضد طغيان الحكام واستبدادهم، ودخلت كلمة "تحرير" العربية لغات العالم المختلفة، وأضحت جزءًا من قاموس الشعوب الثائرة المتطلعة إلى التحرر، لم يعد ميدان التحرير مجرد ميدانًا في قلب القاهرة بل غطت ميادين التحرير مدن مصر ومدن العالم شرقًا وغربًا.

 ميدان التحرير الذي شهد ثورة الشعب المصري على مدى ثمانية عشر يوما من 25 يناير إلى 11 فبراير 2011، والذي لا يزال ساحة للتطلع إلى تحقيق الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والحرية لشعب مصر، له حكاية ممتدة ترجع بدايتها إلى عصر الخديوي إسماعيل (1863 ـ 1879) عندما أطلق مشروعه لتحديث القاهرة وتحويل الكيمان والتلال والخرائب في غرب المدينة القديمة إلى حي حديث على طراز الأحياء الجديدة في المدن الأوروبية، حي أطلق عليه القاهرة الإسماعيلية وعندما أضيفت له منطقة التوفيقية صار يعرف بالقاهرة الخديوية، تمييزًا لها عن القاهرة الفاطمية وقاهرة المماليك، حي به شوارع مستقيمة متقاطعة ومتوازية تصب في ميادين متسعة، كان من بينها هذا الميدان الذي أصبح ميدان التحرير منذ يناير 1953، ثم تغيير اسمه رسميًا إلى ميدان أنور السادات بعد اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر 1981، لكن أحدًا لم يشعر بهذا التغيير أو يعترف به.

 ميدان التحرير يذكره علي باشا مبارك في الجزء الثالث من خططه المعروفة بالخطط التوفيقية الجديدة ضمن الميادين المستجدة في عصر الخديوي إسماعيل، ويذكره باسم ميدان الكوبري ويحدده بأنه الميدان الذي يقع تجاه كوبري قصر النيل وسراي الإسماعيلية، وهي من السرايات التي بناها الخديوي إسماعيل وموضعها الآن وفقًا لما ذكره عبد الرحمن زكي في موسوعة مدينة القاهرة، مجمع التحرير.

 فكرة الميادين في المدن الحديثة ترتبط بتحولات المجتمعات في تلك الحقبة من الزمن، ولم يكن إنشاء الميادين مجرد تعبير عن رؤية جمالية، أو تلبية لاحتياجات ترتبط بالتخطيط العمراني للمدن الحديثة، بل كانت الميادين ساحات مفتوحة للتعبير أمام الشعوب.

 وفي مصر كانت الميادين الجديدة ساحات للتظاهر والاحتجاج خاصة إذا كان قصر الحاكم يطل عليها، مثل ميدان عابدين الذي ظل منذ الثورة العرابية سنة 1881، مقصدًا للمتظاهرين والمحتجين. أما ميداننا ميدان التحرير، فقد عرف أول حدث سياسي كبير بعد إنشائه بسنوات قليلة، عندما وقعت به مظاهرة قصر النيل التي قادها الضابط محمد عبيد لتحرير عرابي وزملائه الذين كانوا يحاكمون أمام مجلس عسكري.

 وفي السنوات التي تلت الاحتلال البريطاني تراجعت مكانة ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليًا) كساحة للمظاهرات الشعبية، كان معبرًا للمظاهرات مثلما حدث مع تلك المتجه إلى بيت الأمة وقصر عابدين في نوفمبر 1935، حتى شهد واحدة من أكبر المظاهرات في تاريخ مصر، في 21 فبراير 1946، وأعقبتها بعد خمس سنوات مليونية دعم المقاومة الشعبية في القناة، ومع صحوة الحركة الطلابية المصرية في أواخر الستينات ومطلع السبعينات كان ميدان التحرير المقصد والهدف لكل المحتجين، مثلما كان شهر يناير موعدًا لتجدد النضال من أجل حرية هذا الوطن.





 وقد خلد أمل دنقل اعتصام ميدان التحرير في يناير 1972 في قصيدته الشهيرة "الكعكة الحجرية"، مثلما خلد أحمد فؤاد نجم شهر يناير شهر الثورات بقصيدته "كل ما تهل البشاير من يناير"، ومثلما عبر عبد الرحمن الأبنودي عن ثورة 25 يناير بقصيدته "الميدان".

 


أمل دنقل
مظاهرة قصر النيل

فبراير 1881

في يناير 1881 كانت البداية الأولى للثورة العرابية التي اكتملت بمظاهرة عابدين في 9 سبتمبر من نفس العام، ففي منتصف يناير صعّد عثمان باشا رفقي ناظر الجهادية من اضطهاده للضباط المصريين في الجيش لصالح الضباط من ذوي الأصول التركية والجركسية، فأصدر في 16 يناير عدة قرارات بإبعاد عبد العال بك حلمي من قيادة آلاي طره ونقله إلى ديوان الجهادية وفصل أحمد بك عبد الغفار قائمقام آلاي الفرسان، وعين مكانهما ضباطًا جراكسة، وعندما علم أحمد عرابي بالخبر اجتمع في تلك الليلة بعدد من الضباط الوطنيين بمنزله واتفقوا على مقاومة إجراءات عثمان رفقي، واختار المجتمعون عرابي قائدًا لهم وأقسموا بحمايته على السيف والمصحف.

 وفي اليوم التالي 17 يناير 1881 توجه الأميرالاي أحمد عرابي والأميرالاي علي فهمي والأميرالاي عبد العال حلمي إلى رياض باشا في نظارة الداخلية وقدموا له عريضة يطالبون فيها بعزل رفقي باشا.

 في 31 يناير جاء الرد على العريضة في اجتماع مجلس النظار برئاسة الخديوي توفيق حيث صدر القرار بالقبض على الضباط الثلاثة ومحاكمتهم أمام مجلس عسكري، دون النظر إلى معارضة رياض باشا وتحفظه خوفًا من إثارة الفتن.

 ورغم إصرار رفقي باشا على عزل الضباط الثلاثة والقبض عليهم ومحاكمتهم، إلا أنه كان أضعف من أن يواجههم مباشرة، فأرسل لثلاثتهم استدعاء للحضور إلى الديوان بمعسكر قصر النيل بدعوى المداولة معهم في ترتيب الاحتفال بزفاف الأميرة جميلة هانم شقيقة الخديوي؛ وفي الموعد المحدد صباح الأول من فبراير توجه الضباط الثلاثة إلى قصر النيل بصحبتهم مجموعة من ضباط آلاي الحرس الذي كان مقره قشلاق عابدين لمراقبة الموقف عن بعد، والتصرف في حالة تعرض عرابي ورفيقيه لمكروه.

 وبمجرد وصول عرابي وحلمي وفهمي لقصر النيل تم تجريدهم من سيوفهم والقبض عليهم تمهيدًا لمحاكمتهم أمام المجلس العسكري برئاسة الجنرال استون باشا رئيس أركان حرب الجيش المصري. وفي طريقهم إلى السجن بقصر النيل مروا بين صفين من الضباط الجراكسة يسبونهم. وعين رفقي باشا ثلاثة من الضباط الجراكسة ليحلوا محلهم.

 لكن الضباط المرافقين لهم أسرعوا إلى قشلاق عابدين وأبلغوا زملاءهم من الضباط المصريين، فتصدى البكباشي محمد عبيد أفندي لقيادة الضباط والجنود، وعندما حاول قائممقام الآلاي خورشيد بك منعه أمر الجنود باعتراضه، ورفض الضباط استدعاء الخديوي لهم، وتحركوا فورًا بمظاهرة عسكرية إلى الميدان، وحاصروا ثكنات قصر النيل، واقتحموها شاهرين أسلحتهم وحرروا عرابي وزميليه، وفر من فر من الضباط الأتراك والجراكسة واعتقل من اعتقل، أما عثمان باشا رفقي ناظر الجهادية فهرب النافذة لينجوا بجلده.

 وعادت المظاهرة ميدان من قصر النيل إلى ميدان عابدين حيث قصر الخديوي، وهناك لحق بها آلاي طره بقيادة البكباشي خضر أفندي خضر. وانتهت المظاهرة العسكرية بعزل رفقي باشا وتعيين محمود سامي البارودي ناظرًا للجهادية، وكان البارودي رغم أصوله غير المصرية مناصرًا للضباط المصريين، ومشاركًا في الثورة حتى نهايتها.

 فكان هذا أول انتصار للثورة العرابية.

يوم الجلاء

الميدان في 21 فبراير 1946

 من أهم الأحداث في الميدان مظاهرة "يوم الجلاء" التي دعت إليها اللجنة الوطنية للطلبة والعمال، والتي تشكلت عقب قمع مظاهرات الجامعة يومي 9 و10 فبراير 1946، وكانت تضم عناصر من الوفديين والشيوعيين وغيرهم من القوى الوطنية والديمقراطية، وأصدرت اللجنة ميثاقًا وطنيًا حددت فيه أهداف الشعب وعلى رأسها الجلاء التام عن مصر والسودان، ودعت إلى إضراب عام في البلاد يوم 21 فبراير، وأسمته يوم الجلاء، وابتكرت الحركة أساليب جديدة في الدعاية، فصممت شارات معدنية طليت بالمينا عليها عبارات تدعو للجلاء ووحدة وادي النيل، مع بعض الرسوم المعبرة عن الكفاح الوطني، وكان المصريون رجالا ونساء يعلقون تلك الشارات الصغيرة على صدورهم، وكانت حكومة إسماعيل صدقي باشا قد قررت عدم منع المظاهرات أو التصدي لها، بل إن صدقي استقبل وفدًا من قادة اللجنة.

 لطيفة الزيات من قيادة الحركة الطلابية 1946
وفي يوم الخميس 21 فبراير 1946 أضربت مصر كلها وخرجت المظاهرات تطوف الشوارع، وفي القاهرة خرجت مظاهرة غير مسبوقة من حيث عدد المشاركين فيها ومن حيث تنظيمها، وطافت المظاهرة شوارع وسط القاهرة دون أن تتعرض لها قوات البوليس بناء على تعليمات رئيس الوزراء، لكن ما أن وصلت المظاهرة إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير) حيث ثكنات الجيش البريطاني حتى اقتحمت السيارات العسكرية البريطانية المظاهرة، فدهست من دهست وأطلق الجنود النار على من أطلقوا، فسقط في المظاهرة 23 شهيدًا و121 جريحًا.

 رغم أن المظاهرات لم تسفر عن إنهاء الاحتلال إلا أنها أرغمت بريطانيا على سحب قواتها من المدن المصرية ما عدا مدن منطقة القناة، وبدأ الانسحاب في 4 يوليو بالجلاء عن القلعة وتسليمها للجيش المصري، أما صدقي باشا فحظي بدعم من أحزاب الأقلية وجماعة الإخوان المسلمين من خلال اللجنة القومية التي تشكلت في مواجهة اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وكان الرجل يمهد سرًا للمفاوضات مع بريطانيا، فشن أكبر حملة اعتقالات عرفتها مصر في الحقبة الليبرالية في يوم 10 يوليو عشية احتفال القوى الوطنية بذكرى الاحتلال البريطاني لمصر، وقد عرفت هذه الحملة بقضية الشيوعية الكبرى واعتقل فيها العشرات من الطلاب والعمال والكّتاب والصحفيين، وكان الكثيرون منهم بعيدين تمامًا عن الشيوعية، مثل سلامة موسى والكاتب الصحفي محمد زكي عبد القادر، كما أغلق عدة صحف ودور نشر وطنية، وكان واضحًا أن هدف الحملة تمرير ما يصل إليه صدقي من اتفاقات مع الإنجليز، وبالفعل توصل في أكتوبر إلى التوقيع بالأحرف الأولى على معاهدة مع وزير خارجية بريطانيا بيفن، إلا أن الشعب رفض الاتفاقية، فسقطت ومعها حكومة صدقي في ديسمبر 46.

14 نوفمبر 1954

 وقد شهد الميدان بعد خمس سنوات، في نوفمبر 1951، مليونية غير مسبوقة في تاريخ مصر، فبعد شهر من إعلان رئيس الوزراء مصطفى النحاس إلغاء معاهدة 1936 من جانب واحد، دعت القوى الوطنية على اختلاف أطيافها إلى الخروج في مظاهرة تحدد لها يوم الأربعاء الرابع عشر من نوفمبر 1951،  وكان للمظاهرة مطلب واحد، رحيل المحتل البريطاني، كما كانت المظاهرة في الوقت نفسه تسعى لتخليد ذكرى شهداء المقاومة الشعبية في القناة. وكانت مظاهرة 14 نوفمبر 1951 واحدة أكبر المظاهرات الشعبية في تاريخ مصر.

الصورتان من مجموعة الصديق أحمد كمالي (أيام مصرية)
 
يا عم حمزة رجعوا التلامذة

 مثلما شهد عام 2011 ثورات وانتفاضات شعبية وميادين تحرير غطت العالم كله، كان عام 1968 عامًا للطلاب والشباب ففي ذلك العام شهدت بلدان العالم انتفاضات طلابية كانت إيذانًا بميلاد عصر جديد، من الشرق الأقصى إلى الولايات المتحدة مرورًا بألمانيا وفرنسا وتشيكوسلوفاكيا، خرج طلاب العالم ثائرين على الأوضاع، مطالبين بالتغيير وبالإصلاحات داخل الجامعات، رافعين شعارات الديمقراطية الحقيقية والإصلاح الاجتماعي في بلدانهم، منادين بالسلام والعدل على الصعيد العالمي، كانت تلك الحركات الطلابية التي غلب عليها الطابع اليساري تنبئ بميلاد يسار جديد مختلف ومستقل وبعيد عن الأحزاب اليسارية التقليدية، وخلقت الحركة الطلابية الجديدة جسورًا من التواصل مع مجموعات من المثقفين المستقلين أثروا فيها وتأثروا بها. وبلغت تلك الحركات الذروة في شهر مايو 1968، في حركة الطلاب الفرنسيين التي أسقطت الجنرال ديجول وهو من هو عن رئاسة فرنسا قبل أن تنتهي مدته الدستورية.

 ولم تكن مصر بعيدة عن كل هذا، بل كان لطلابها السبق في مظاهرات عام 1968 على مستوى العالم، وكانت هذه هي المفاجأة التي جاءت بعد سنوات صمت طويلة للحركة الطلابية المصرية. فمع وصول الضباط الأحرار للحكم في يوليو 1952 تعرضت الجامعة مثل غيرها من مؤسسات الدولة لما سمي بالتطهير ففقدت مجموعة من خيرة أساتذتها، وأهم من ذلك فقدت استقلالها، كما جرم النظام الجديد التظاهر وصادر حق الطلاب في تكوين تنظيماتهم الطلابية المستقلة، واكتملت سيطرة النظام على الجامعات بعد انتصار عبد الناصر وجناحه في أزمة مارس 1954 على محمد نجيب وأنصاره الذين كانوا يدعون إلى عودة الحياة الديمقراطية، وحاصر النظام النشاط السياسي للطلاب إلا ما تم منه داخل الأطر السياسية لتنظيمات النظام.

 ثم كانت هزيمة يونيو 1967 لطمة أفاقت قوى المجتمع الحية، لقد ارتبطت الحركة الطلابية منذ ميلادها بالنضال من أجل الاستقلال، فكانت القضية الوطنية دوما عصب النضال الطلابي في مصر، من هنا فقد كان من الطبيعي أن تعود الروح للحركة الطلابية بعد الهزيمة واحتلال الأرض، وجاءت البداية مع عام 1968، فكانت مظاهرات طلاب وعمال مصر في القاهرة والجيزة والإسكندرية في فبراير 1968.

 لقد بدأت الأحداث بمظاهرات عمال حلوان احتجاجًا على الأحكام التي صدرت ضد قادة الطيران الذين اتهموا بالمسئولية عن النكسة واعتبرها العمال أحكامًا هينة، وأدى التصدي العنيف للمظاهرات من جانب قوات الشرطة إلى انتقال الاحتجاج إلى الجامعة، وكان اليوم يوافق 21 فبراير، الذي يحيه العالم كله في ذكرى طلاب مصر الذين استشهدوا في عام 1946، وإذا كانت المظاهرات العمالية وشعاراتها قد تمحورت حول ضرورة محاسبة المسئولين عن النكسة، فإن الحركة الطلابية رفعت شعارات تتعلق بالديمقراطية. وبقدر ما كانت هزيمة يونيو صدمة لمصر كلها كانت مظاهرات الطلاب والعمال في فبراير 1968 صدمة للنظام الذي كان يتصور أنه نجح في تدجين الشعب.

كان الزمن في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات زمن رجوع التلامذة إلى صادرة المواجهة مع النظام من أجل الديمقراطية وإزالة آثار الهزيمة، رجع التلامذة في فبراير 1968، واستمروا في الساحة لقرابة عشر سنوات.

 وكان عام 71/1972 بداية لموجة جديدة في الحركة الطلابية المصرية استمرت على مدار عامين دراسيين، وامتدت آثارها حتى عام 1977،  وتركزت مطالب تلك الحركة على قضيتين: الديمقراطية وإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب التي عاشتها مصر منذ قبِل عبد الناصر مبادرة روجرز، واستقطبت الحركة الطلابية كل القوى الحية في المجتمع، كذلك عرفت تلك السنوات تصاعدًا للحركة العمالية أعاد إلى الأذهان السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والتي تشكلت فيها اللجنة الوطنية للعمال والطلبة.

  كان العام الدراسي قد بدأ باعتصام طلاب كلية الطب البيطري بجامعة القاهرة، للمطالبة ببدل العدوى للأطباء البيطريين. وبدأت الحركة من خلال مجلات الحائط التي ابتكرتها الحركة الطلابية في تلك المرحلة، وحلقات النقاش والاجتماعات، ومن خلال نشاط الأسر والجماعات الطلابية التي أصبحت ظاهرة في تلك المرحلة.

أحمد عبد الله رئيس اللجنة الوطنية
 أما الانتفاضة السياسية الواسعة فقد بدأت في يناير 1972، وكان السبب الذي فجرها خطاب الضباب الشهير للرئيس السادات، الذي أعلن فيه تأجيل عام الحسم بسبب "الضباب السياسي" الذي تسببت فيه الحرب الهندية الباكستانية؛ فشكل الطلاب لجان وطنية على مستوى الكليات والجامعات ثم لجنة وطنية عليا لقيادة عملهم، ورفع الطلاب شعارًا سياسيًا واضحًا لحركتهم، "كل الديمقراطية للشعب... كل التفاني للوطن".

 وتوالت المؤتمرات السياسية داخل الجامعات طوال شهر يناير 1972 انتهت باعتصامات طلابية، وتوجه وفد من الطلاب إلى مجلس الشعب، وبعد أن تم الاتفاق على نشر بيان الطلاب في الصحف بعد إدخال بعض التعديلات عليه، تراجع النظام ولم يطق صبرًا على الطلاب، فاقتحمت قوات الأمن الجامعات واعتقلت الطلاب المعتصمين، فخرجت المظاهرات إلى الشوارع واحتل الطلاب ميدان التحرير في مشهد لم تعرفه مصر لسنوات طويلة سابقة، إنه المشهد الذي خلده الشاعر الكبير أمل دنقل بقصيدته الكعكة الحجرية إشارة إلى قاعدة التمثال الجرانيتية الخالية التي ظلت تميز الميدان، وأزيلت أثناء أعمال الحفر لمشروع الخط الأول لمترو الأنفاق، ولم تعد إلى الآن.

 في العام الدراسي التالي بدء النشاط الطلابي من خلال مجلات الحائط وحلقات النقاش، وبدأت الأزمة الأولى مع إحالة إدارة كلية طب القاهرة عدد من الطلاب للتحقيق بسبب مجلات الحائط، فتصاعدت الاحتجاجات بين طلاب الجامعة تضامنًا مع زملائهم، وشكل الطلاب لجان الدفاع عن الديمقراطية، وتصاعدت أنشطتهم السياسية داخل أسوار الجامعات وانضم إليهم عددًا من الفنانين والكتاب والمثقفين من خلال الأنشطة الثقافية والفنية والسياسية التي نظمتها الأسر الطلابية ذات التوجه اليساري في مختلف كليات الجامعة وتحولت المؤتمرات السياسية إلى اعتصام متصاعد.

 وكان للحركة الطلابية أصداء واسعة في المجتمع، كانت أملًا يتفتح في بناء مجتمع حر جديد، بعد أن عاشت مصر عشرين عامًا في ظل حكم صادر حريات المواطنين ومبادرتهم الشعبية، كانت مظاهرات الطلاب تعيد حنينًا إلى ماض صار بعيدًا، لقد فقد المجتمع المصري تنظيماته المستقلة ومبادرته الشعبية لسنوات طويلة، فكانت الحركة الطلابية الجديدة بمثابة "عودة الروح" و"عودة الوعي" لمصر، فأيدها أبرز مثقفي مصر ومبدعيها وفي مقدمتهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ من خلال بيان ساندوا فيه مطالب الحركة الطلابية.

 وفي الأيام الأخيرة من عام 1972 فقد النظام صبره بعد امتداد الحركة إلى كل الجامعات المصرية، فشن حملة اعتقالات واسعة على القيادات الطلابية بعد خطاب للرئيس السادات، أكد فيه تمسكه بالحرية والممارسة الديمقراطية، مع تحذير "اليسار المغامر" و"اليمين الرجعي" و"القلة المندسة"، تلك المصطلحات التي احترف النظام ترديدها لتبرير اعتداءاته المتكررة على الحريات.

 عندما اكتشف الطلاب اعتقال زملائهم خرجت المظاهرات تجوب الجامعات المصرية وتهتف: "يوم الخميس قال لنا حرية ... وأخد اخواتنا في الفجرية"، "قال هنمارس قال هنمارس... حط في بيتنا مخبر حارس"، وتحولت المؤتمرات والمظاهرات إلى اعتصام مفتوح، وفي جامعة القاهرة احتل الطلاب قاعة الاحتفالات الكبرى، واستمرت حالة الغضب تتصاعد إلى أن خرج آلاف الطلاب صباح يوم الأربعاء  3 يناير 1973 في مظاهرات كان ميدان التحرير هدفها لكن قوات الأمن حاصرتها، فغابت عن ميدان التحرير أربعين عامًا إلا قليل.
 
 
 

الثلاثاء، 27 يناير 2015


شهادة على هامش: المثقف الانتقالي لشيرين أبو النجا

عماد أبو غازي
(مقالي في العدد الجديد من عالم الكتاب، أول الأعداد التي يرأس تحريرها الصديق محمد شعير)

  يعد كتاب شرين أبو النجا "المثقف الانتقالي من الاستبداد إلى التمرد" بحق واحدًا من الكتب المهمة التي صدرت في سنوات ما بعد الثورة متناولة حال الثقافة في مصر، ويجمع الكتاب بين جهد نظري واضح لشرين أبو النجا الباحثة الأكاديمية المتميزة، وتجربة معاشة وشهادة لشرين أبو النجا المثقفة الفاعلة في الحياة الثقافية المصرية على مدار ربع القرن الأخير، فيضيف هذا البعد المزدوج قيمة كبيرة للكتاب.
 وسأحاول في هذه السطور أن أشتبك مع هذا العمل الذي أره قادرًا على إثارة نقاش حي في الساحة الثقافية المصرية، واخترت أن يكون اشتباكي مع الكتاب من خلال نص قصير يجمع ما بين محاولة البحث في التاريخ مهنتي التي أعمل بها، وشهادة الممارس الفاعل في العمل الثقافي الأهلي والرسمي على مدار أربعين عامًا.
 بداية أزعم أننا لو خرجنا من اللحظة التاريخية التي نحن فيها، ونظرنا إلى مصر من أعلى، سنكتشف أننا نعيش في زمن انتقالي منذ قرنين، ونشهد موجات ثورية وانتفاضات شعبية متوالية منذ نهاية القرن الثامن عشر، ما بين انتفاضات في مواجهة استبداد السلطة، وثورات في مواجهة المحتل الأجنبي؛ فمصر في حراك لم ينتهي منذ أواخر القرن الثامن عشر، حراك تتخلله فترات من الجمود الظاهري، والثقافة و"المثقف" ميدان أساسي من ميادين هذا الحراك.
 لقد عرفت مصر المؤسسات الثقافية الحديثة مثل: المطبعة والمكتبة والأرشيف والمتحف؛ ثم الأوبرا والمسارح في القرن التاسع عشر، ومنذ البداية سار العمل الثقافي في ثلاثة مسارات متوازية ومتفاعلة في آن واحد: المسار الحكومي والمسار الأهلي والمسار الخاص الربحي المرتبط بالصناعات الثقافية؛ ففي القرن التاسع عشر بدأت مصر تعرف الصناعات الثقافية الحديثة، مثلما عرفت المؤسسات الحكومية الثقافية الكبرى، وفيه أيضا ظهرت الجمعيات الأهلية العاملة في المجال الثقافي. وإلى جانب هذه القطاعات الثلاثة العاملة في المجال الثقافي: القطاع الحكومي والقطاع الخاص والقطاع الأهلي، هناك أيضا جماعات المصالح من نقابات واتحادات وغرف صناعة والتي تعبر عن العاملين في الحقل الثقافي وتدافع عن مصالحهم.
 ورغم أن العمل الثقافي ظل دومًا قائمًا على هذه القطاعات مجتمعة إلا أن المرحلة الشمولية شهدت سيطرة للدولة على كل القطاعات من خلال بنية تشريعية تخضع كل هذه المؤسسات لأشكال متعددة من رقابة الدولة وقدرتها على التدخل في عملها. فبعد نجاح حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952 وسيطرتها الكاملة في أعقاب أزمة مارس 1954 بدأت مرحلة جديدة في تاريخ مصر السياسي انعكست بشكل واضح على الساحة الثقافية، فتعاظم دور الدولة في العمل الثقافي وتراجع دور العمل الأهلي على الأقل في العقدين الأولين من هذه الحقبة، كما تأثرت الصناعات الثقافية وخضع الكثير منها لسيطرة الدولة.
 وقد عرفت مصر وزارة الثقافة تحت هذا المسمى لأول مرة عام 1958، لتكون بذلك أول وزارة للثقافة في العالم العربي والقارة الإفريقية بل ومن أوليات وزارات الثقافة على مستوى العالم. وكان النظام الجديد بعد يوليو 1952 قد أنشأ وزارة باسم وزارة الإرشاد القومي تولاها عند تأسيسها في نوفمبر 1952 السياسي المخضرم فتحي رضوان مؤسس الحزب الوطني الجديد، والذي كان قد شارك في الثلاثينات في تأسيس مصر الفتاة، ويبدو أن فكرة وزارة الإرشاد القومي جاءت باقتراح منه، والاسم الذي حملته الوزارة يحمل دلالة مهمة، فهي وزارة تتولى مسئولية التوجيه وصياغة العقل المصري، وتدريجيًا تم تأسيس مؤسسات حكومية جديدة للعمل الثقافي أضيفت لما سبق تأسيسه منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، فتأسست مصلحة الفنون ثم المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وفي أكتوبر عام 1958 أصبح مسمى الوزارة وزارة الثقافة والإرشاد القومي، وتولاها أحد ضباط يوليو الدكتور ثروت عكاشة الذي يعتبر بحق الأب المؤسس لوزارة الثقافة ومؤسساتها في مصر، وخلال مرحلة الستينيات تناوب على الوزارة شخصيتان من أصول عسكرية تبنى كل منهما سياسة مختلفة عن الآخر: الدكتور ثروت عكاشة والدكتور عبد القادر حاتم، ففي الوقت الذي تعامل فيه الأول مع الثقافة باعتبارها صناعة ثقيلة ينبغي أن توليها الدولة اهتمامًا واضحًا، كان تركيز الثاني على مجال الإعلام، وقد حرص في أغلب فترات توليه للوزارة أن يجمع بين الإعلام والثقافة تحت مظلة واحدة. وطوال تلك الفترة كانت الدولة تقوم برسم السياسة الثقافية وتشرف على تنفيذها، وتراجع النشاط الأهلي حيث خضعت الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخاصة لقيود مشددة من الدولة، كما تراجعت الصناعات الثقافية الخاصة مع موجة التأميمات في مطلع الستينيات، حيث طال التأميم كثير من دور النشر الكبرى وشركات الإنتاج السينمائي، ودخلت الدولة بقوة في مجال الصناعات الثقافية من خلال وزارة الثقافة، لكن هذا لا يعني أن الدولة نجحت نجاحًا كاملًا في استخدام الثقافة في السيطرة على العقول، فقد كانت هذه مهمة الإعلام بالدرجة الأولى، لكن وزارة الثقافة نجحت في استيعاب أعدادًا من المثقفين والمبدعين من مختلف الاتجاهات داخل مؤسساتها، الأمر الذي لم يكن جديدًا على الدولة المصرية الحديثة منذ نشأتها.

 بالنسبة لجيلي الذي تفتح وعيه السياسي على لحظة مروعة في تاريخ مصر الحديث، أعني هزيمة يونيو 1967، كان الخروج الجماهيري إلى الشارع في مواجهة السلطة في مظاهرات فبراير 68 الطلابية العمالية لأول مرة منذ استقر الحكم الشمولي في 1954 إيذانًا ببداية مرحلة جديدة في تاريخ مصر، أو هكذا كان يبدو الأمر وقتها. كانت تلك اللحظة بداية لخروج قطاع من المثقفين من تحت سيطرة الدولة، بدأت بتكوين كيانات ثقافية مستقلة عن السلطة، وإصدارات مستقلة، وهنا كانت تجربة "جاليري 68" التي لم تعش طويلًا تجربة رائدة بحق، كذلك تشكلت جمعية كُتّاب الغد التي قام عليها مجموعة من الأدباء والكتاب اليساريين ـ معظمهم من الشباب وقتها ـ كانوا يحملون رؤية وحلم بمصر مختلفة، شكلوا نواة لتيار جديد مستقل في الثقافة المصرية يستقل عن مؤسسات الدولة ويختلف عن اليسار التقليدي الذي انخرط في تلك المؤسسات، وبدأت "كُتّاب الغد" تدخل مجال النشر بإصدارتها التي لم تستمر طويلًا لكنها كانت محاولة لكسر احتكار الدولة في النشر للمثقفين الشبان.

 كانت التجربتان، تجربة جاليري 68 وتجربة كُتّاب الغد، مصدر إلهام لجيلنا في تخطي قيود النشر الحكومي، أتذكر هنا تجربة طبع الديوان الأول للشاعر حلمي سالم، "حبيبتي مزروعة في دماء الأرض"، الذي صدر عام 1974، كنا وقتها طلابًا في جامعة القاهرة، وكان زميلنا حلمي سالم شاعرًا واعدًا يشارك إلى جانب شعراء من أجيال أكبر منه في الندوات التي ننظمها في الجامعة، وقرر أن يجمع قصائده في ديوان، كانت منافذ النشر الحكومي مغلقة أمامه، فاتفقنا على الاكتتاب بشراء نسخ الديوان مقدمًا، مقابل إيصالات طبعها حلمي نتسلم بها النسخ بعد صدور الديوان، وقد كان، وكانت بالنسبة لنا تجربة مهمة في شبابنا المبكر، أدركنا معها قدرتنا على أن نفعل بعيدًا عن السلطة الثقافية.

 ومما دعم هذا الاتجاه نحو الاستقلال عن المؤسسة الثقافية الرسمية، التغير الواضح الذي شهدته حقبة السبعينيات في اتجاهات العمل بوزارة الثقافة، فمن ناحية غلب الميل لاتجاه الإعلام على حساب الثقافة، ومن ناحية أخرى اتسعت الفجوة بين قطاع من النخبة المثقفة ومؤسسات الدولة الثقافية، حيث تم تدريجيًا استبعاد المبدعين والمثقفين المنتمين لليسار بمختلف اتجاهاته من مؤسسات الوزارة منذ مايو 1971، وفي نفس الوقت تراجع دور الدولة في العمل الثقافي لتنتهي تلك المرحلة بإلغاء وزارة الثقافة ليحل محلها المجلس الأعلى للثقافة مع الإبقاء على هيئة الآثار وهيئة الكتاب وتحويل تبعية قصور الثقافة للمحليات، وتحول وزير الثقافة إلى وزير دولة للثقافة والإعلام، وقد جاء ذلك في سياق سياسة جديدة للدولة لإلغاء الوزارات الخدمية وتحويلها إلى وزارات دولة، وتولي المحليات جزءًا أساسيًا من مسئولية القطاع الخدمي. وكان لهذ الاتجاه وجهه الإيجابي حيث دعم اتجاهًا متصاعدًا لظهور تيار ثقافي مستقل يعمل بعيدًا عن مؤسسات الدولة وفي مواجهتها أحيانًا، فعرفت الساحة الثقافية ظاهرة نشرات ومجلات الماستر التي استمرت حتى منتصف الثمانينيات، والتي اعتمدت على التطور في تقنيات الطباعة والتصوير، فأصبح في مقدور مجموعات المثقفين بجنيهات قليلة إصدار مجلات تحمل مسمى نشرة غير دورية أو كتاب غير دوري لتهرب من قيود قانون الصحافة، يقومون فيها بنشر رؤاهم وإبداعاتهم، واتجه كثير من العاملين في الحقل الثقافي إلى العمل الأهلي الذي أتاح مجالًا للنشاط رغم القيود القانونية، كذلك اتخذت مجموعات من المثقفين اليساريين من الأجيال الجديدة موقفًا معارضًا للانخراط في اتحاد الكُتّاب الذي يحظى برعاية الدولة ورفعوا لسنوات شعار "من أجل اتحاد ديمقراطي مستقل للكُتّاب".

 وربما كان تشكيل لجنة الدفاع عن الثقافة القومية أبرز تجليات صدام قطاع مهم من المثقفين مع السلطة السياسية في أواخر السبعينيات، فقد تشكلت اللجنة ككيان معارض للتطبيع الثقافي مع إسرائيل وتواصل عملها الثقافي والبحثي ونشاطها الجماهيري في الشارع حتى أواخر الثمانينيات، عندما بدأت تتراجع تدريجيًا بعد أن تبنت وزارة الثقافة موقفًا رسميًا ضد التطبيع الثقافي مع إسرائيل منذ أواخر عام 1987 عندما تولى فاروق حسني منصب وزير الثقافة.

 ومع السنوات الأولى للثمانينيات وعقب اغتيال الرئيس أنور السادات بدأت سياسة ثقافية جديدة للدولة، قامت على استخدام الثقافة كمدخل لاستعادة وجود مصر في العالم العربي بعد المقاطعة التي بدأت مع كامب ديفيد، وعلى مستوى الداخل السعي نحو "التصالح" مع المثقفين بمختلف اتجاهاتهم والعمل على استعادتهم لمؤسسات الدولة الثقافية، وقد تصاعد هذا الاتجاه بشكل واضح منذ أواخر الثمانينيات، ودفع هذا بكثير من المثقفين إلى العودة لأحضان وزارة الثقافة والسعي للعمل من خلال مؤسساتها، فهدأت وتيرة العمل الثقافي خارج مؤسسات الدولة، وتراجعت الإصدارات المستقلة، فمجلات الدولة الثقافية تفتح أبوابها للجميع، ومؤسساتها ترحب بالاختلاف، والخلاف حول الموقف من التطبيع زال، وتواكب هذا مع تصاعد موجة أعمال العنف والإرهاب، والترويج لمقولة المواجهة الثقافية للفكر الذي يقف وراء الإرهاب.

 وبدأت مجموعات من النخبة الثقافية تقنع نفسها بإمكانيات متاحة لمحاولة الإصلاح من الداخل، فبدأنا نجد أسماء من الجماعة الثقافية من أجيال مختلفة ظلت لسنوات تُحسب على الثقافة المستقلة أو المعارضة الثقافية تندمج في عمل المؤسسات الثقافية الرسمية، بل وتتولى مناصب قيادية فيها، وكنت منهم.

 ومن اللافت للنظر أنه منذ تسعينيات والقرن الماضي صعدت إلى السطح من جديد الجماعات المستقلة في مجال الثقافة، كما ظهرت أشكال جديدة من التجمعات الثقافية في شكل منظمات مجتمع مدني وشركات ومؤسسات خاصة لعبت دورًا مؤثرًا في الواقع الثقافي، وشهدت السنوات السابقة على الثورة عودة الانقسام إلى الساحة الثقافية ونمو تيار الثقافة المستقلة.

لقد شهدت السنوات التي سبقت ثورة 25 يناير 2011 ظواهر ثقافية كانت بمثابة التمهيد للثورة وشق الطريق أمامها؛ فمنذ عام 2005 عرفت مصر تغيرًا واضحًا في ثقافة المجتمع السياسية، ومهد الطريق للثورة السلوك الاحتجاجي في الشارع وظهور حركات معارضة لمشروع التوريث والتمديد ومواجهة الفساد والدعوة للتغيير، وقد شارك في هذه الحركات وأنشطتها المختلفة رموز ثقافية وإبداعية بارزة، وكان جزء من حركتهم موجها ضد السياسة الثقافية للدولة.

 كما اتسع نشاط الجماعات الثقافية المستقلة وأضحت ظاهرة من ظواهر الحراك العام في المجتمع، وسعت لتقديم ثقافة بديلة للثقافة الرسمية، وظهرت ساحات جديدة للنشاط الثقافي نجحت في جذب قطاعات متزايدة من الجمهور رغم الحصار الأمني.

 وعلى مستوى الإبداع ظهرت في السنوات السابقة على الثورة أعمال عديدة فضحت فساد النظام وحرضت على الثورة عليه، سواء في مجال السينما أو المسرح أو الغناء والموسيقى أو الأنواع الأدبية المختلفة، لقد كان هناك تغيير في الحالة الإبداعية قبل الثورة. كما أخذ التدوين كظاهرة ونوع إبداعي جديد يحتل مكانًا ومساحة، ويكتسب قدرة متزايدة على التأثير.

 لقد انتهت المرحلة السابقة على الثورة وهناك مجموعة من المشكلات الخطيرة على الساحة الثقافية: انتهت بحالة من الانقسام في الجماعة الثقافية المصرية حول السياسات الثقافية للدولة، وبوضع يشوبه قدر كبير من عدم الثقة بين وزارة الثقافة وقطاع مهم من المثقفين والمبدعين؛ انتهت بوزارة تدعم الأنشطة الثقافية المستقلة، لكن دون رؤية واضحة أو منهج محدد أو سياسة ثابتة مستقرة؛ انتهت بموازنة ضعيفة للثقافة، أغلبها موجه للأجور، وأقلها للأنشطة الثقافية، ويتم توزيع هذا القسم المخصص للأنشطة الثقافية بشكل غير عادل على مستوى الوطن، حيث تبتلع أنشطة العاصمة الجزء الأكبر منها؛ انتهت بوزارة متضخمة بجهاز بيروقراطي يضم عشرات الآلاف من العاملين، الكثير منهم غير مؤهلين للعمل بالأجهزة الثقافية؛ انتهت ببنية أساسية تشمل مئات المواقع الثقافية على مستوى مصر، لكن ما يقرب من نصفها متوقف عن العمل، والبعض منها يقوم على إدارته عناصر غير مؤهلة، أو معادية للثقافة والإبداع، وبمشروعات للتوسع في هذه البنية الأساسية لكنها مشروعات أكبر من الموازنات المعتمدة مما أدى إلى استمرار العمل فيها لسنوات دون انجاز.

 ومع أول حكومة تشكلت بعد نجاح الثورة في إسقاط رأس النظام تم تكليفي بحقيبة وزارة الثقافة، هل كنت أصلح لهذا المنصب بعد أن عملت في مناصب قيادية داخل وزارة الثقافة لمدة اثنتي عشر عامًا في ظل النظام القديم؟ لا أملك إجابة قاطعة، ربما جاء اختياري لأني محل قبول من قطاع من الدولة وقطاع من الشارع الثقافي وقطاع من الثوار، بمعنى ما، وزير توافقي، عمومًا كان قراري منذ قامت الثورة أن علاقتي بالعمل الثقافي الرسمي لابد أن تنتهي مع نهاية المرحلة الانتقالية، إن لم يكن قبل ذلك، لأن الأوان قد آن ليتولى جيل جديد مختلف دفة الأمور، وما حاولت أن أفعله خلال الشهور الثمانية التي أمضيتها حتى استقالتي أن أمهد لهذا التغيير.

هل يمكن أن يحدث التغيير بضربة واحدة؟ هذا ما يراه البعض، لكن محاولاتي كانت تتسم بالإصلاحية، ربما كان هذا خطأ، لكن هذه كانت حدود طاقتي، لذلك وصفت نفسي في حديث صحفي أثناء الوزارة، بأني إصلاحي في زمن ثوري.

كان المنطلق الأول أن وزارة الثقافة ليست وزارة للمثقفين، وأن هذا المفهوم لابد أن يتغير، فوزارة الثقافة وزارة لكل المواطنين، وأن الوظيفة الأساسية للدولة في مجال الثقافة في النظم الديمقراطية تتلخص في ثلاثة أهداف أساسية:

الأول: حماية التراث الثقافي المادي واللامادي بما فيه من آثار ومخطوطات ووثائق وموروث ثقافي شعبي تراكم عبر الزمن، بالإضافة إلى التراث الفني الحديث بتنويعاته المختلفة، وتشمل وسائل الحماية إقامة مؤسسة لجمع هذا التراث وحفظه، كما تشمل أعمال الصيانة والترميم، والتشريعات القانونية التي تحقق هذه الحماية.

 الثاني: حماية حقوق الملكية الفكرية للمبدعين، وتشجيع الصناعات الثقافية الحديثة والحرف التراثية والإنتاج الثقافي والإبداعي بمختلف أنواعه الأدبية والفنية، بما في ذلك الحماية ضد المصادرة.

 الثالث: توفير الخدمات الثقافية للمواطنين، وتوفير البنية الأساسية لممارسة الأنشطة الثقافية والاستمتاع بها.

 ووصولًا لتحقيق هذه وعلى الصعيد الرسمي بدأت وزارة الثقافة مشروعًا للمقرطة، من خلال تغيير أساليب الإدارة، ومشاركة المجتمع المدني فيها، وإعادة توزيع الموازنات بشكل يحقق تلبية أكثر لاحتياجات المناطق المحرومة من الخدمة الثقافية، وتعديل برامج الأنشطة وتحديد الأولويات. جاء التغيير في أسلوب الإدارة من خلال تشكيل مجالس إدارات لهيئات الوزارة ومراكزها المتخصصة من خارج قيادات المؤسسة الرسمية، كما بدأت تجربة انتخاب المكاتب الفنية للفرق وانتخاب مديرين تلك الفرق من الفنانين والفنيين العاملين بها، وقد اكتملت التجربة في البيت الفني للمسرح، وجزئيًا في دار الأوبرا، وكانت تقابل بمحاولات لإعاقتها وإصرار من بعض المسئولين على عدم إنجاحها في البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية.

 كما بدأت الوزارة في تطبيق سياسة جديدة لتنظيم المهرجانات السينمائية الدولية من خلال المجتمع المدني بدعم جزئي من وزارة الثقافة وفقًا لقواعد وشروط شفافة ومعلنة. كما تم تحويل فائض موازنة المهرجانات إلى هيئة قصور الثقافة لتنظيم أنشطة في المحافظات. وفي الوقت نفسه بدأ مجلس الإدارة الجديد لصندوق التنمية الثقافية في وضع قواعد واضحة لدعم الصندوق للجمعيات الأهلية والمجتمع المدني والكيانات المستقلة. وفي اتجاه لدعم الفرق الفنية المستقلة وفرق الهواة تقرر فتح المسارح الملحقة بالمتاحف والمركز الثقافية أمام هذه الفرق لتقديم عروضها.

 وحاولت الوزارة أن تنفتح على الجماعة الثقافية وعلى الكيانات الثقافية المستقلة من خلال حوار متواصل أداره أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، وكانت حصيلة الحوار أسلوب جديد في تشكيل المجلس الأعلى للثقافة كان من المفترض أن يكتمل في منتصف عام 2012، كانت الفكرة أن يستقل المجلس عن الوزارة ويتحول إلى جهاز للتخطيط ورسم السياسات والرقابة على الأداء، وكان التصور قائمًا على أن يتم هذا التغيير في دور المجلس على مراحل؛ المرحلة الأولى بإعادة تشكيل اللجان المتخصصة للمجلس مع انتهاء دورة عملها في صيف 2011، على أن يتم التشكيل بناء على ترشيحات من الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات البحثية والأكاديمية والنقابات والاتحادات وغرف الصناعة في مجال عمل كل لجنة من لجان المجلس، بحيث يتم تشكيل اللجنة من الأسماء التي تحصل على أكبر عدد من الترشيحات مع مراعاة مجموعة من القواعد، مثل تمثيل الشباب والمرأة والتخصصات المختلفة في مجال عمل اللجنة فضلًا عن التمثيل الجغرافي، وبعد ذلك تقوم كل لجنة بانتخاب مقررها، وتشكل هذه اللجان الجمعية العمومية للمجلس، على أن يشكل المجلس نفسه من مقرري اللجان، ويقومون في أول اجتماع لهم بانتخاب ستة أعضاء يكتمل بهم تشكيل المجلس، وتأتي المرحلة الأخيرة باجتماع المجلس بتشكيله الجديد لمناقشات مقترح نظامه الأساسي ولائحته التنفيذية، المتضمنة انتخاب الأعضاء للأمين العام ثم صدور قرار جمهوري بتعينه على غرار ما يحدث في مجمع اللغة العربية، كما كان التصور يقوم على أن لا يكون للأعضاء الذين يدعون بحكم مناصبهم صوت معدود عند التصويت على القرارات التي يتخذها المجلس، وقد تم التراجع عن هذا المشروع على مراحل بعد استقالة الأمين العام ثم استقالتي في نوفمبر 2011.

 وبعد... فهذه محاولة من مشارك في مرحلة من مراحل الانتقال للاشتباك مع مثقف شيرين أبو النجا الانتقالي.

الخميس، 22 يناير 2015


كلمة في لقاء في ذكرى رضوى

18 يناير 2015
 

 
يوم الأحد الماضي 18 يناير 2015 نظمت مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات (9 مارس) لقاءً في ذكرى رضوى عاشور، شارك فيه عدد من أعضاء المجموعة وأسرة رضوى وبعض أصدقائها وطلابها.
 اختارت زميلتنا الدكتورة هالة كمال مقاطع من أعمال رضوى لتقدم بها كلمات المتحدثين، وكانت تقدمة كلمتي عن دور رضوى عاشور في لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، هذا المقطع من "أطياف":
 "في آخر نوفمبر عام 1977 قررت أن تبدأ في بحث موضوع دير ياسين؛ فجمعت ما توفر لها من مادة. كانت تعرف أن هناك رواية صهيونية، تنوي عرضها ودحضها، ورواية أخرى عربية تريد تدقيقها وتفصيلها، ولكنها وهي تجمع المتاح من الوثائق والكتب والمقالات كانت تكتشف خيوطًا جديدة، تتبعها بحرص فتقودها إلى مساحة من المعرفة تقف أمامها مندهشة متسائلة: لماذا ظلت طوال تلك السنين غائبة، من غيّبها، وكيف ولماذا؟ هل هي المحاولة الساذجة للرد على ادعاء الصهاينة بأن الهجوم على القرية كان مبررًا لأنها كانت مركزًا للجنود العراقيين؛ ولكن هل يتطلب إثبات ذلك تصوير أهالي القرية كحملان لا حول لها ولا قوة إزاء سكاكين الجزار؟
 تقول الرواية العربية الشائعة: كان هناك قرويون عزل دخل عليهم رجال الأرغون وليحي وذبحوا 254 من الشيوخ والنساء والأطفال، وأسروا الباقين وطافوا بموكب الأسرى في الأحياء اليهودية من القدس فانتشر الفزع بين العرب فهاجروا خوفًا من أن يصيبهم ما أصاب أهل دير ياسين. هل هذه الرواية دقيقة؟ هل كان أهل دير ياسين غافلين عن الخطر المحدق بهم؟ لم يكن ذلك منطقيًا. بإمكانها وهي جالسة إلى مكتبها، الآن هنا في القاهرة، من مجرد نظرة على الخرائط ومجريات الأسابيع السابقة، أن ترى حدة الخطر: دير ياسين تواجه الضواحي الغربية للقدس، تشرف على طريق القدس ـ يافا (أي طريق القدس ـ تل أبيب). وهي محاطة بسبع مستوطنات يهودية: شرقها "جيفعات شاؤول" و"منونتيفيوري" و"بيت فيجان" تشكل سدًا يفصلها عن القدس؛ وغربها مستوطنة "موتسا" تفصلها عن القسطل. القرى العربية المجاورة: جنوبًا: عين كارم والمالحة. شمالًا: لفتا. قبل أربعة أشهر شن الصهاينة غارات مكثفة على لفتا فسقطت، وهاجموا حيين عربيين في القدس الغربية يكسرون جرار الزيت، يسكبون الجاز على الطحين والسكر والأرز. ثم أقام الإنجليز نقطة تفتيش في القرية تتلى فيها يوميًا في الرابعة مساءً أسماء كل رجال القرية للتأكد من وجودهم.
 تسع سنوات فقط، هل تكفي لكي ينسى الأهالي القهر والمقاومة؟
 تتكاثر بطاقات البحث، تتراكم بين يديها مادة مشعثة، تستخلص منها بعض الأمور ويظل بعضها الآخر غائبًا أو غائمًا أو مراوغًا كخيط تتبعه فينقطع فجأة ويتركها أمام السؤال: ماذا بعد؟
وكانت كلماتي:
ماذا بعد؟ كان ده السؤال اللي بدأ يلح على كتير من المثقفين المصريين في أواخر نوفمبر سنة 1977، بعد زيارة الرئيس السادات للقدس، الزيارة اللي كانت بداية لمرحلة جديدة من الصراع العربي الإسرائيلي ونقطة تحول فيه.
 شهور قليلة بعد الزيارة اللي كان شعارها "كسر الحاجز النفسي" وابتدت بوادر التطبيع الثقافي مع إسرائيل، من ناحية زيارات لشخصيات إسرائيلية لمصر ومصريين يزوروا إسرائيل حتى من قبل توقيع المعاهدة.
 ومن ناحية تانية بدأت حملة للتلاعب بالوعي؛ الترويج لافكار زي إن الفلسطنيين هما اللي باعوا أرضهم، وزي إحنا مالنا ومال فلسطين.
 كان واضح إن المواجهة هتكون ثقافية بالدرجة الأولى.
 في مارس سنة 1979، وبعد توقيع المعاهدة بأيام قليلة عقد مجموعة من الكتاب والاُدباء والفنانين والأكاديميين المصريين مؤتمر في حزب التجمع وخرجوا منه بتشكيل لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، كانت اللجنة بتعرّف نفسها بإنها: "لجنة جبهوية تعمل في إطار حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي أعضائها من الحزبيين ومن غير الحزبيين."
 
 

 كانت رضوى عاشور واحدة من مجموعة المثقفين اللي قرروا التصدي للتطبيع الثقافي والوقوف في وش التيار الجارف والدفاع عن الثقافة القومية.
اللجنة كانت بتشتغل على قضية مواجهة التطبيع الثقافي مع إسرائيل بشكل أساسي، لكن كمان كانت مهتمة بالتعريف بالثقافة الوطنية ومواجهة ثقافة التبعية.
  رضوى عاشور كانت من العضوات البارزات في اللجنة وكان دورها واضح في كل أنشطتها، يعني نقدر نقول كانت جزء من القلب الأساسي جنب أستاذتها الدكتورة لطيفة الزيات مقررة اللجنة.
لكن الدور الأبرز لها كان من خلال رئاستها لتحرير المواجهة.
 

 
المواجهة بدأت كنشرة إعلامية من صفحات قليلة بتتطبع طباعة ماستر، ضمن ظاهرة النشرات غير الدورية اللي بدأت في النص التاني من السبعينات، ولمدة سنتين بداية من يوليو 81 صدر تسع أعداد من النشرة.
 لكن من يونيو 1983 اتحولت لشكل الكتاب غير الدوري اللي بيعتمد على الدراسات والتقارير والعروض مع الاحتفاظ بقسم خبري.
من الوقت ده تولت رضوى عاشور رئاسة تحرير المواجهة، وكنت سكرتير تحرير للمواجهة معاها، وبين يوليو 83 ويوليو 88 صدر سبع أعداد من كتاب المواجهة.
قراية الافتتاحيات بتلقي لنا ضوء على بعض أفكار رضوى عاشور ومواقفها.
 في الوقت اللي باقي لي هأسيب الكلام لرضوى، هابتدي بأول فقرة من إفتتاحية العدد الأول من كتاب المواجهة، اللي صدر في يوليو سنة 83،  وكان عنوانها، المواجهة لماذا؟ قالت رضوى:
"لا نعتقد اننا نبالغ حين نقول أن ما شهدته مصر في السنوات العشر الأخيرة من عمل أيديولوجي وإعلامي مسخر لخدمة الثورة المضادة يفوق كل ما عرفته في تاريخها الحديث.
 كان الهدف هو إخراج مصر من معسكر التحرر الوطني... وكان المطلوب تحديدًا هو تبعية مصر، اقتصاديًا وسياسيًا، أما الأداة فكانت ثقافة التبعية، إشاعة القيم والأفكار وأنماط السلوك والرموز التي تجعل ذلك التحول في هوية مصر الرسمية وولاءاتها يتم بهدوء ويسر وبلا مقاومة تذكر."
  وفي نفس الافتتاحية، وتحت عنوان "طمس الذاكرة"، قالت:
 "سوف تشهد مصر السبعينيات عملًا مكثفًا في الإذاعة والصحافة والتلفزيون لطمس الذاكرة الوطنية بما يضمن إعادة النظر في ثوابتها."

وفي شهر نوفمبر 1984 صدر العدد التالت من كتاب المواجهة  في الذكرى السابعة لزيارة السادات للقدس، رضوى قالت في افتتاحية بعنوان السبع العجاف:

 "مرت سبع سنوات على ذلك المساء الخريفي الذي حطت فيه طائرة تحمل اسم مصر ورسم علمها وعددًا من حكامها في مطار إسرائيلي داخل الأرض الفلسطينية...

 الرسميون العرب يزرعون لغة جديدة تكثر فيها مفردات السلام والواقعية والممكن والمتاح. لغة زائفة تكشفها كل يوم الوقائع التي تؤكد بما لا لَبْس فيه أن التعايش بين المشروع الصهيوني ومشروع التحرر العربي غير ممكن لأن أحدهما هو نفي الآخر."

وبعدين بتقول:

"ولأننا نعي لُب هذا الصراع وحقيقته، ولأننا أوفياء حتى الشهادة لمشروع التحرر والنهضة العربي نعرف أنه لا سبيل أمامنا سوى المضي من أجل استئصال الصهيونية ومشروعها. كما نعرف أيضًا أن التبعية للإمبريالية بكل ما يترتب عليها اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا إنما تشكل الحلقة الرئيسية في الصراع القائم من أجل المستقبل.

 إن لجنة للدفاع عن الثقافة القومية، أو مجلة صادرة عنها، لا تدحر دبابات الغزاة ولا تسقط أسراب طائراتهم المعتدية، ولكنها رغم ذلك يمكن أن تلعب دورًا لا يستهان به على الجبهة الثقافية بفضح الوعي الزائف، والتبصير بالمخاطر، ونشر القيم الوطنية والديمقراطية، وإزكاء الروح النضالية."

 العدد الرابع صدر في أبريل 85 علشان يوثق المواجهة الواسعة لاشتراك إسرائيل في معرض الكتاب، ودي كانت تالت مرة إسرائيل تشارك فيها، وتالت مرة تتصدى اللجنة للمشاركة، وده كان جزء من نشاط لجنة الدفاع عن الثقافة القومية في وسط الجمهور، أول مرة سنة 81 وتاني مرة سنة 82، وكانت معارضة الاشتراك من اللجنة وعدد من الشخصيات العامة، أما في 85 فكانت المعارضة أوسع بكتير، وجزء من السبب راجع لجهود اللجنة طول ست سنين .
وده اللي يترصده رضوى في افتتاحية العدد الرابع اللي كانت بعنوان، ولَك يا مصر السلامة، قالت رضوى:

"إن تجربة معرض الكتاب الدولي السابع عشر مليئة بالدروس المستفادة ومؤشر هام على أن أي قدر من العمل الواعي والمخلص مهما كان متواضعًا يؤتي بثمار لا يمكن اغفال قيمتها."

وبتكتب في الافتتاحية تحليل للوضع بتقول فيه:

 "رغم مرور ما يقرب من ست سنوات على توقيع الاتفاقية المصرية الإسرائيلية، ورغم العلم الاسرائيلي الذي يرفرف على تلك العمارة المشرفة على النيل وعلى بقعة من أكثر بقاع العاصمة ارتباطًا بتاريخ مصر الحديث حيث الجامعة والنصب التذكاري لشهدائها وتمثال نهضة مصر، ورغم عقد اتفاقيات ثقافية تسمح بتبادل وفود ومعارض فنية وإقامة مركز أكاديمي إسرائيلي في القاهرة، ونقول رغم هذا كله فلازال المثقفون المصريون عند موقفهم المبدئي برفض كافة أشكال التطبيع مع الدولة الصهيونية، ومن هنا فقد عارضوا وشجبوا وأدانوا وواجهوا اشتراك إسرائيل في معرض الكتاب الدولي السابع عشر...

إن موقف المثقفين المصريين من اشتراك إسرائيل في معرض الكتاب هو رسالة لكل من يهمه الأمر:
 لأن اسرائيل تحتل فلسطين والجنوب اللبناني والجولان السورية وطابا المصرية.
ولأن اسرائيل لها تاريخ حافل بالعدوان والتوسع واقتراف المذابح الجماعية وإقامة معسكرات الاعتقال.
لأن إسرائيل تعامل المواطنين العرب في فلسطين المحتلة عام 1948 معاملة المواطنين من الدرجة الثانية.
لأن إسرائيل دولة عنصرية تنشر الفكر الفاشي المناهض للعرب وتحظر تداول الكتب العربية ذات المضمون التحرري، وتغلق الجامعات العربية وتقمع الطلاب وتشرد الأساتذة المساندين لقضية تحرير فلسطين.
لأن إسرائيل هي إسرائيل فنحن لا نريدها.
فهل وصلت الرسالة؟"

ومع صدور العدد الخامس في سبتمبر 85 كان القتال مشتعل في المخيمات الفلسطينية في لبنان، فقالت رضوى:

"إن المشهد الراهن مفجع ومربك ولكننا لا نريد أن نيأس ونرتبك، نريد أن نرفع صوتنا عاليًا وحاسمًا ضد اقتتال رفاق الخندق الواحد في حركة التحرر العربي، وضد إراقة الدم الفلسطيني، مؤكدين ما كنا نظن أنه مفروغ منه وواضح لا لَبْس فيه.

 إننا نريد أن نرفع صوتنا بشجب وإدانة وتجريم كافة أشكال الطائفية والتمزيق والتشرذم وتفتيت صف القوى الوطنية، نريد أن نجرم تحويل الأفراح الى مأتم"
العدد السابع والأخير صدر وانتفاضة الحجارة الفلسطينية في شهرها الرابع، وكان عنوان افتتاحيتها "الحجارة والذاكرة واليقين" اللي قالت فيها رضوى:

"لقد دخلت الانتفاضة شهرها الرابع ووصل عدد الشهداء 111 شهيدًا، يزيدون كل يوم، وقد يتضاعف عددهم عند الانتهاء من طباعة هذا الكتاب، فضلًا عن مئات الجرحى والنساء اللاتي اجهضن بسبب الغازات السامة وآلاف المعتقلين.

 لقد فاجأت الانتفاضة بحجمها واتساعها واستمرارها الجميع، فاجأت الاحتلال الصهيوني والأنظمة العربية بل لا نبالغ لو قلنا أنها فاجأت قيادات الثورة الفلسطينية نفسها، ومع ذلك فليست هذه الانتفاضة إلا امتدادًا لنضالات الشعب الفلسطيني منذ بدايات القرن، إنها امتداد لانتفاضات 1919، 1921، 1929، 1936."

حقيقي ده كلام مر عليه النهارده حوالي 30 سنة، وحقيقي رضوى غايبة عن لقائنا بشخصها، لكن أفكار رضوى وكلمتها، روح رضوى وضميرها الحي معانا دايمًا.
 


 

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...