الخميس، 28 أكتوبر 2021

قاسم عبده قاسم... مسيرة حياة

 

قاسم عبده قاسم... مسيرة حياة

 عماد أبو غازي

  يتوالى رحيل الأحبة، بغياب قاسم عبده قاسم فقدت صديقًا آخر من أصدقاء العمر، صديق وأستاذ، عرفته قبل حوالي خمسين عامًا، واستمرت العلاقة إلى أسابيع قليلة مضت قبل رحيله.


  امتدت رحلة حياته ما بين السادس والعشرين من مايو عام 1942 والسادس والعشرين من سبتمبر الماضي؛ رحلة حافلة بالعطاء المتنوع والمتعدد في مجالاته، منذ ستينيات القرن الماضي حتى غيابه عنا؛ فبين العمل الأكاديمي، بحثًا وتدريسًا وتأسيسًا، والعمل العام في المجالين السياسي والثقافي، كانت مسيرة قاسم عبده قاسم التي ترك فيها بصمات واضحة وعلامات مؤثرة.

 التحق قاسم الشاب بكلية الآداب بجامعة القاهرة في العام الدراسي 1963/1964، واختار دراسة التاريخ، وشارك في الأنشطة الاجتماعية والترفيهية للطلاب، واكتسب شعبية واسعة بين زملائه ومحبة من أساتذته، فوفق شهادة المهندس أشرف عاشور ابن أستاذه، الذي شارك في معسكر طلابي بالإسكندرية كان والده مشرفًا عليه وكان قاسم بين الطلاب المشاركين فيه، يصفه بأنه "كان ينفرد بشخصية تلفت الانتباه، كان محبوبًا من زملائه ويقودهم في كثير من الأنشطة، وبدا عليه الذكاء وروح المبادرة وحاسة المرح وخفة الظل، كان من الواضح أنه يتمتع بالقدرة على اكتساب حب واحترام كل من كانوا حوله من طلبة ومشرفين وإداريين من الجنسين".

 لقد تخرج قاسم عبده قاسم في عام 1967، وعمل بمطار القاهرة، وفي نفس الوقت واصل دراسته العليا بقسم التاريخ في شعبة تاريخ العصور الوسطى، تحت إشراف أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة القاهرة الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، وأثناء دراسته العليا تفجرت الحركة الطلابية في فبراير 1968، وبدأت مشاركته في النشاط السياسي بشكل واضح منذ ذلك الحين، ففي ذلك الوقت كان طلاب الدراسات العليا يشاركون في الأنشطة الطلابية، وكان لهم ممثليهم في الاتحادات الطلابية، واستمر حضور قاسم عبده قاسم طالب الدراسات العليا بكلية الآداب ومشاركته في النقاشات والأنشطة الطلابية طوال سنوات صعود الحركة الطلابية في النصف الأول من السبعينيات.

  في هذا السياق تعرفت على قاسم لأول مرة، كنت قد التحقت بكلية الآداب في العام الدراسي 1972/1973، أتذكر أننا التقينا للمرة الأولى في مكتب الدكتور محمد أنيس رئيس قسم التاريخ، في اجتماعات الجمعية التاريخية لطلاب القسم، كنت طالبًا في قسم التاريخ، وكان هو يعد رسالته للدكتوراه، ومن يومها لم تنقطع الصلة، جمعتنا نشاطات عامة في العمل السياسي، وأنشطة في الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وتعلمت من كتبه ودراساته المتميزة في تاريخ المماليك، ومن كتاباته في مجال التراث الشعبي، وأعماله المهمة في الربط بين التاريخ والأدب والفلكلور، ومن ترجماته المتعددة، وفي سنة 1995 كان واحد من أعضاء لجنة مناقشتي في رسالتي للدكتوراه.



 يعد قاسم عبده قاسم أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة الزقازيق أحد أبرز أعلام المدرسة التاريخية المصرية المعاصرة؛ ففي تخصص تاريخ العصور الوسطى عامة، والدراسات المملوكية ودراسات تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى خاصة، نستطيع أن نرصد ثلاثة أجيال من الأكاديميين الذين أسهموا إسهامًا بارزًا في هذا الحقل؛ يفصل بين كل جيل منهم والجيل الذي يليه عقدان، وفي كل جيل كان هناك رائد ترك بصمته في التخصص، وكان قاسم عبده قاسم الرائد في الجيل الثالث، جيل السبعينيات.

 يعتبر محمد مصطفى زيادة الرائد الأول للدراسات المملوكية ومؤسس مدرستها في الجامعات المصرية وفي بعض الجامعات العربية، في مطلع الثلاثينيات، فقد عُين بعد عودته من البعثة مدرسًا لتاريخ العصور الوسطى في الجامعة المصرية، فأسس بذلك تخصصًا جديدًا في الجامعات المصرية والعربية، يجمع بين دراسة تاريخ الشرق والغرب في تلك المرحلة، كان موضوع رسالته "العلاقات الخارجية لمصر في القرن الخامس عشر الميلادي" ومن هنا جاء اهتمامه بالدراسات المملوكية.

 وقد أكمل تلميذه سعيد عبد الفتاح عاشور المسيرة في الدراسات المملوكية، وأصبح من أبرز المتخصصين المصريين والعرب في تاريخ المماليك منذ الخمسينيات من القرن الماضي حتى وفاته عام 2009، ويعد المؤسس الثاني لمدرسة تاريخ العصور الوسطى عامة ومدرسة الدراسات المملوكية خاصة، وقد حصل على درجة الدكتوراه عام 1955 في موضوع: "الحياة الاجتماعية في مصر في عصر سلاطين المماليك" وكانت رسالته تأسيسًا لاتجاه جديد في الدراسات المملوكية، يهتم بدراسة التاريخ الاجتماعي، وقد وجه سعيد عاشور فيما بعد عددًا من تلاميذه للدراسة في هذا الاتجاه، وكان قاسم أبرزهم.

 ويعد قاسم عبده قاسم الرائد الثالث في مجال الدراسات المملوكية، والأبرز بين المتخصصين في جيله، ومؤسس مدرسة أكاديمية جديدة في جامعة الزقازيق منذ سبعينيات القرن الماضي، أصبحت خلال سنوات قليلة المدرسة الأهم في الدراسات المملوكية في مصر، وقد اتجه إلى مواصلة الدراسة في التاريخ الاجتماعي لعصر المماليك مثل أستاذه، ونشر قاسم عبده قاسم أكثر من ثمانين بحثًا وخمسة وعشرين كتابًا مؤلفًا منذ عام 1976، بالإضافة إلى ما قام به من ترجمات للدراسات الغربية الحديثة.

 لقد بدأ قاسم عبده قاسم دراسته في فترة برز فيها الاهتمام بدراسة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، فاتجه في رسالته للماجستير إلى دراسة النيل في عصر المماليك، وتأثيراته الاجتماعية والاقتصادية في حياة المصريين وانعكاساتها السياسية، وقد صدرت هذه الدراسة في سنة 1978 في كتاب بعنوان: "النيل والمجتمع في عصر سلاطين المماليك"، ثم تواكبت دراسته للدكتوراه مع الاتجاه نحو الدراسات التي تركز على طبقة أو طائفة أو فئة اجتماعية في مصر في العصور الوسطى، فاختار موضوعًا للدكتوراه عن أهل الذمة في مصر العصور الوسطى، وقد صدرت عام 1977 في كتاب بنفس العنوان بعد عامين من حصوله على درجة الدكتوراه، وقد أعيد طبع الكتابين أكثر من مرة، كما أصدر فيما بعد في عام 1987 دراسة مستقلة عن اليهود في مصر منذ الفتح العربي حتى الغزو العثماني، وقدم بحثًا مستقلًا عن أوضاع المسيحين في مصر في عصر سلاطين المماليك، أضاف فيهما لما قدمه في رسالته للدكتوراه.

 وقد اتخذت دراسات قاسم عدة اتجاهات؛ أولها دراسات التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لعصر المماليك، وقدم فيها بالإضافة للدراسات السابقة، كتابه دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي – عصر سلاطين المماليك الذي صدرت طبعته الأولى عام 1979، وأبحاثه عن أسواق القاهرة في عصر سلاطين المماليك (1976)، والمجاعات والأوبئة في مصر زمن سلاطين المماليك (1983)، والحرف والصناعات المرتبطة بالحياة اليومية في مصر – عصر سلاطين المماليك (1988)، وبعض ملامح الحياة الاجتماعية في الشام في عصر الحروب الصليبية (1994).

 أما الاتجاه الثاني في دراسته والذي يعد رائدًا فيه في مجال دراسات تاريخ المماليك، فكان دراسة التراث الشعبي كمدخل لدراسة التاريخ؛ ويشكل هذا الاتجاه في أعمال قاسم عبده قاسم إضافة جديدة في حقل الدراسات التاريخية عن عصر المماليك من خلال ربطه بين التاريخ والتراث الشعبي واعتماده مصدرًا للدراسات التاريخية، ومن أهم دراسته في هذا المجال: كتابه وبين التاريخ والفلكلور 1993، وأبحاثه المتعددة وأهمها: السيرة الشعبية مصدرًا لدراسة التاريخ الاجتماعي، والحروب الصليبية في ألف ليلة وليلة، والشخصيات التاريخية في سيرة الظاهر بيبرس، والأعمال الثلاثة صدرت في عام 1986، ثم دراسته عن النيل في الأساطير العربية (1987) والأدب الشعبي وسيلة لدراسة التاريخ الثقافي (1988)، والموروث الشعبي والدراسات التاريخية – خطط المقريزي دراسة تطبيقية (1994)، والرؤية الشعبية للأحداث التاريخية (1996)، وشجر الدر بين السيرة الشعبية والتاريخ (1999).

 كذلك أحيا اتجاه ربط دراسة التاريخ بدراسة الأدب والشعر، ذلك الاتجاه الذي بدأه المؤرخ الرائد محمد صبري السوربوني في العشرينيات من القرن الماضي، وانزوا عند الباحثين من الأجيال التالية؛ ومن أهم ما قدمه في هذا المجال: كتابه بين الأدب والتاريخ الصادر في عام 1986، وأبحاثه: الشعر والتاريخ – قراءة في شعر حافظ وشوقي في مجلة فصول (1982)، وفي نفس السياق قدم قراءة في شعر الحركة الصليبية في المجلة التاريخية المصرية (1984)، والرواية التاريخية عند محمد فريد أبو حديد قراءة في رواية ابنة المملوك (1997)، والرواية والتاريخ تفاضل أم تكامل؟ (2005)، والرواية والتاريخ – زمن الازدهار (2009)؛ وقد انعكس اهتمام قاسم عبده قاسم بالأدب على أسلوبه في الكتابة فابتعد عن الجفاف الأكاديمي واللغة التقريرية، وتميزت كتاباته بأسلوبها الشيق الجذاب.

 وفي سياق اهتمامه بالعلاقة بين الآداب والفنون المختلفة ودراسة التاريخ قدم بحثًا في ندوة السينما والتاريخ التي نظمتها لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة سنة 2009 بعنوان: هل هناك أفلام تاريخية عربية؟

 وقد فتح قاسم عبده قاسم بهذه الدراسات المجال أمام الباحثين في حقل دراسات تاريخ مصر في العصور الوسطى لاستخدام الأعمال الأدبية ونصوص التراث الشعبي والأعمال الفنية كمصادر للدراسة التاريخية، بعد أن كان هذا الاتجاه غير مرحب به في أقسام التاريخ إلا فيما ندر، وكان الباحث الذي يرغب في نهج هذا الاتجاه يقابل باستهجان من الأساتذة التقليدين المسيطرين على أقسام التاريخ لسنوات، وقد سار بعض من أبرز طلابه على هذا النهج، وفي مقدمتهم عمرو عبد العزيز منير الذي وجه جزء من جهوده البحثية لدراسات المورثات الشعبية واستخدامها مصدرًا للدراسة التاريخية.

  أما الاتجاه الثالث فدراساته حول التاريخ السياسي لعصر المماليك، وأهمها كتبه المرجعية: الأيوبيون المماليك بالاشتراك مع علي السيد، وعصر سلاطين المماليك – التاريخ السياسي والاجتماعي 1998، في تاريخ الأيوبيين والمماليك 2001، كذلك دراسته عن الملك المظفر سيف الدين قطز، وأبحاثه عن القدس في عصر سلاطين المماليك (1990)، ومفهوم السلطة في عصر سلاطين المماليك (2002)، كما اهتم بدراسة علاقات مصر المملوكية بالعالم في بحثين؛ الأول عن مصر وعالم البحر الأحمر في عصر الجراكسة (1978)، والثاني حول علاقات مصر والحبشة في عصر سلاطين المماليك (1987).

  كذلك كانت الحروب الصليبية من الموضوعات التي اهتم بها قاسم عبده قاسم تأليفًا وبحثًا وترجمة، وقدم فيها رؤية جديدة، وتشكل دراسته حولها اتجاهًا رابعًا في أعماله، وكان أول أبحاثه في هذا المجال دراسته عن صورة المقاتل الصليبي في المصادر التاريخية العربية الذي نشره في المجلة التاريخية المصرية عام 1978، ثم درس الاضطهادات الصليبية ليهود أوروبا (1981)، وفي عام 1987 نشر دراسة مهمة في مجلة المستقبل حول الحروب الصليبية في الأدبيات العربية واللاتينية واليهودية، وفي نفس العام قدم  دراسته عن التجربة الصليبية من المنظور المعاصر للصراع العربي الإسرائيلي، وقد نشرها في الكويت، وفي عام 1989 كتب عن الأصول التوراتية للحركة الصليبية والحركة الصهيونية، وفي العام التالي قدم بحثًا في مؤتمر العلاقات العربية الإسبانية بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد طه حسين بعنوان: "مؤرخو الحروب الصليبية بداية الاستشراق"، وقدم في سنة 1994 دراسة عن مشكلة المصطلح في تاريخ الحروب الصليبية، وفي عام 2001 قدم بحثًا الصراع حول مصر في أثناء الحروب الصليبية في ندوة بالمجلس الأعلى للثقافة، لكن تبقى دراساته الأهم في هذا المجال هي كتابيه الخلفية الأيديولوجية للحروب الصليبية (1983) وماهية الحروب الصليبية، الذي صدر في سلسلة عالم المعرفة في الكويت عام 1990، وكما ذكر الدكتور سليمان العسكري الأمين العام السابق للمجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت، فإن هذا الكتاب الأخير يقدم رؤية جديدة في المدرسة التاريخية العربية المعاصرة للحروب الصليبية.

 ومن المجالات التي اهتم بها قاسم عبده قاسم كذلك دراسات التاريخ الفكري والثقافي فكتب عن فكرة التاريخ عند شمس الدين السخاوي (1980)، وعن الثقافة والعلوم في عصر سلاطين المماليك (1996)، كما قدم قاسم عبده قاسم دراستين عن ابن خلدون في إطار الاحتفالية المشتركة بين المجلس الأعلى للثقافة المصري ومكتبة الإسكندرية، الأولى في القاهرة بعنوان: "ابن خلدون وكيف قرأه المؤرخون العرب، والثانية بعنوان: أزمة المفكر في ظل نظام استبدادي: ابن خلدون نموذجًا.

  وتميزت دراساته بالاعتماد على الوثائق كمصدر مهم للتأريخ؛ ففي رسالته عن أهل الذمة في مصر في العصور الوسطى، درس أوضاع أهل الذمة في مصر في العصور الوسطى مستعينا بالوثائق الأرشيفية، كما قام بنشر وثيقة من وثائق دير سانت كاترين ودراستها 1977، وقدم بحثًا حول وثائق مكتبة دير سانت كاترين كمصدر للتاريخ الاجتماعي في مجلة الفرع الإقليمي العربي للمجلس الدولي للأرشيف نشرت سنة 1999.

 ولقاسم عدد من الدراسات حول قضايا المنهج في الكتابة التاريخية، منها: إعادة قراءة التاريخ لا كتابته، هل يمكن تزوير التاريخ، الرؤية الح ضارية للتاريخ، تطور منهج البحث في الدراسات التاريخية، فكرة التاريخ عند المسلمين، قراءة التاريخ.

 ولم ينحصر اهتمام قاسم عبده قاسم في مجال تخصصه الدقيق في تاريخ العصور الوسطى، فلم يكن الرجل مثل غيره من الأكاديميين التقليديين في مجال الدراسات التاريخية الذين لا يتعدون في دراساتهم وأبحاثهم حدود التخصص الدقيق، لقد تعامل مع دراسة التاريخ باعتبارها منهجًا قابل للتطبيق على العصور التاريخية المختلفة، فقدم عدة دراسات أخرى في موضوعات بعيدة عن تاريخ العصور الوسطى، تخصصه الدقيق، منها على سبيل المثال: تطور الفكر السكاني عند العرب، يهود مصر في التاريخ الحديث، رمضان في كتابات المؤرخين المصريين، القاهرة وتطورها التاريخي، هجرة اليهود من المغرب إلى مصر، الحج من الهند إلى الأراضي المقدسة، الذهب والعاصفة رحلة إلياس الموصلي إلى أمريكا، العلاقة بين المشرق والمغرب في ضوء القراءة الشعبية لتاريخ – الدولة الفاطمية نموذجًا، العرب وأوروبا التطور التاريخي لصورة الآخر، اليهود في الحضارة العربية الإسلامية.

 كما كتب في عدد من القضايا التي تتجاوز حدود الدراسات التاريخية بحكم اهتماماته الثقافية والسياسية المتعددة، ومن هذه الكتابات: البعد الثقافي في الصراع العربي الإسرائيلي، والمشروع الثقافي العربي هل هو حلم قابل للتحقيق، وأزمة الإنسان والكتاب في الوطن العربي، ومشكلات الترجمة في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية، وجمهورية الخوف صورة للعراق تحت حكم صدام من الداخل، كما كانت له مشاركات في ندوات عدة تناول فيها قضايا فكرية وسياسية عامة، منها ندوات: رؤية قومية للتاريخ العربي، الدين والمجتمع العربي، المفهوم السياسي للدولة، حول أزمة الخليج واحتلال العراق للكويت.

وقد قدم قاسم عبده قاسم طوال هذه السنوات عدد من الترجمات المهمة لدراسات غربية من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية عن الحروب الصليبية وتاريخ العصور الوسطى ومناهج البحث في التاريخ، ليسهم في تطوير قدرات الباحثين واطلاعهم على كل جديد، وليثري المكتبة العربية بهذه الترجمات.

  منذ قرابة ربع قرن كان قاسم عبده قاسم يتحدث في ندوة في الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وكان يقول إننا لا نملك مدارس تاريخية في مصر، ربما نملك زهور متفتحة ومتفرقة هنا وهناك لكن جامعاتنا لم تنجح في تأسيس مدارس للدراسات التاريخية، إلا أن المفارقة هنا أن الرجل عند رحيله كان قد نجح بالفعل في تأسيس مدرسة تاريخية لدراسة تاريخ العصور الوسطى تلتف حوله وتتكون بشكل أساسي من تلاميذه ومن المتأثرين بإسهامه العلمي، ولم تقف هذه المدرسة عند حدود كلية الآداب بجامعة الزقازيق التي التحق بها قاسم عبده قاسم منذ حصوله على الدكتوراه في عام 1975، بل امتدت إلى مختلف الجامعات المصرية وإلى بعض الجامعات العربية خاصة جامعة الكويت التي أسهم خلال عمله بها لعدة سنوات في تطوير دراسة تاريخ العصور الوسطى بقسم التاريخ بها.

  إلى جانب تأسيس المدرسة البحثية في دراسات تاريخ العصور الوسطى، كان قاسم يمتلك حلمًا راوده منذ بدايات مشواره، حلم تأسيس مركز للدراسات والبحوث التاريخية والاجتماعية، يحقق من خلاله طموحه وطموح الزملاء والتلاميذ الذي لا تتسع أسوار جامعاتنا بأزماتها ومعوقاتها لتحقيقه، وكانت الخطوة الأولى التي تحققت بالفعل تأسيس دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، وقد أصدرت الدار خلال ما يزيد على ربع قرن مئات من الدراسات والترجمات المتخصصة في التاريخ والأدب والاجتماع والفلكلور، فأثرت المكتبة العربية بما قدمته، وكانت الخطوة التالية التي حلم بها قاسم، أن تصدر الدار مجلة محكمة متخصصة في الدراسات الاجتماعية والإنسانية، ثم اكتمال الحلم بتحول الدار إلى مركز للبحوث والدراسات، لكن ليس كل ما نحلم به نتمكن من تحقيقه، لقد أنجز الرجل الخطوة الأولى نحو تحقيق الهدف، وربما على تلاميذه ومحبيه استكمال الطري لتتحول دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية إلى مركز قاسم عبده قاسم للبحوث والدراسات.

 ورغم كثافة انتاجه العلمي لم يبتعد قاسم عبده قاسم عن العمل العام أبدًا، فقد شارك أنشطة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية منذ السبعينيات، ثم في عضوية مجلس إدارتها بين عامي 1981 و1987 ثم بين عامي 1994 و2001، وأسهم بقوة في إدارتها وتطويرها، وبحكم اهتماماته المتنوعة انضم لعضوية جمعية التراث الشعبي بمصر، والمجلس القومي للثقافة العربية بالمغرب، واللجنة العربية لعلم الاجتماع بتونس.

كذلك كانت له مساهماته المتعددة في أنشطة المجلس الأعلى للثقافة، من خلال عضويته في لجنة التاريخ بالمجلس لدورات متتالية، كما انضم لعضوية اللجان الاستشارية لمكتبة الإسكندرية منذ افتتاحها في عام 2002؛ وفي المؤسستين أسهم في ندواتهما ومؤتمراتهما، وفي أعمال الترجمة التي اضلعت بها المؤسستان.

 أما مساهماته في العمل السياسي بعد مرحلة الحركة الطلابية فقد بدأت عندما أسس المهندس إبراهيم شكري حزب العمل الاشتراكي في أواخر السبعينيات، حيث انضم قاسم إلى عضوية الحزب، وتولى مناصب قياديه فيه وأصبح عضوًا في هيئته العليا، وشارك بقوة في أنشطته لقرابة عشر سنوات، وذلك قبل أن يسيطر على الحزب التيار الإسلامي، وعندها ترك الحزب، وإن لم يترك المشاركة في العمل العام.

 كذلك عندما تأسست لجنة الدفاع عن الثقافة القومية في أعقاب توقيع اتفاقية السلام، وحملت على كاهلها عبء مقاومة التطبيع الثقافي مع إسرائيل، وكانت اللجنة تعمل إطار حزب التجمع الوطني التقدمي والوحدوي وتضم أعضاء من أحزاب وتوجهات سياسية مختلفة، شارك قاسم عبده قاسم في أنشطة اللجنة، ومن ضمن مساهمته بحث نشر في العدد السابع من كتاب المواجهة الذي كان يصدر عن اللجنة، وكان عنوانه "حطين الذكرى الثمانمائة والزمن الرديء".

  لم يكن قاسم عبده قاسم أكاديميًا تقليديًا مجتهدًا، لم يكن باحثًا نمطيًا في مجال الدراسات التاريخية، بل كان مثقفًا صاحب مشروع فكري يتصدى لمشكلات الوطن في لحظة الأزمة التاريخية، وكانت أبحاثه ودراساته تشكل جزءًا من هذا المشروع؛ ولعل كلمات تلميذه المقرب إلى قلبه الدكتور عمرو عبد العزيز منير في تقديمه للكتاب الذي صدر احتفاءً بسبعينية قاسم عبده قاسم ترسم في كلمات قليلة صورة الرجل وتلخص مشروعه؛ قال عمرو في وصف أستاذه: "وبدا شيخنا الدكتور قاسم طوال رحلته العلمية المشرقة عالمًا يبحث عن جوهر وظيفة المؤرخ في أمته، يتحيز لها وينحاز لقضاياها، ويعلن عن انتمائه إلى هذه الأمة مفتخرًا بذلك، ولكن ليس هذا النوع من الفخر الذي يقعده متغنيًا بمجدها الغابر، أو بماضيها الذهبي، أو البكاء على أطلالها، وإنما بالبحث عن الحي في الأمة في عالم أفكارها وحياتها وفاعليتها، البحث عن ضرورات الأحياء ومسارته فيها، ملتزمًا بأصول ذاكراتها الحضارية الحافزة الدافعة الرافعة، رغبة منه لإحياء كل ما يعينها على البقاء والحياة والشهود."

 لقد غاب قاسم عبده قاسم حقًا، لكنه ترك لنا ميراثًا علميًا وإنسانيًا يبقيه حيًا، وترك مدرسة من تلاميذه عليها مسئولية مواصلة طريقه، وترك نموذجًا ملهمًا للأكاديمي وللمثقف المتفاعل مع قضايا الوطن، وترك مشروعات تنادينا لاستكمالها.

مقالي المنشور في أخبار الأدب عدد 15 أكتوبر 2021

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...