الأحد، 26 أكتوبر 2014


 

دول ولاد الفلاحين
تحية للفلاح المصري الشهيد
عماد أبو غازي
 



الشهيد للفنان عبد الهادي الوشاحي
1974

  وقفنا في رحلتنا مع الفلاح المصري المحارب عند الاحتلال الفارسي لمصر، وقد كان الاحتلال الفارسي لمصر سنة 526 ق.م. إيذانًا بمرحلة جديدة من التاريخ المصري ما زالت آثارها قائمة إلى الآن، فبعد أن كانت مصر منذ فجر تاريخها تسير في حركة صعود مستمر تتخللها كبوات قصيرة، أصبحت تعيش في كبوة مستمرة تتخللها لحظات نهوض قصيرة، وكان الفارق المميز بين المرحلتين، تحول مصر إلى ولاية تابعة لإمبراطورية كبرى، أو كيان مستقل تحكمه أسرة أجنبية، وفي كلتا الحالتين غاب الفلاح المحارب، أو بمعنى أدق غُيب بالقوة فيما عدا لحظات خاصة في تاريخ طويل.
 رغم أن الاسكندر الأكبر حاول أن يربط نفسه بالمصريين من خلال ادعاء انتسابه إلى آمون وأنه ابن له، فقد أقام خلفاء الاسكندر من البطالمة دولة مركزها الإسكندرية، يسود فيها المقدونيون ويسيطرون على مقدرات البلاد، ويستنزف في ظلها المصريون ويتعرضون للاستغلال.

 
الإسكندر الأكبر
لكن، لم يرضخ المصريون لحكم البطالمة، وظهرت نذر المقاومة الشعبية في عصر بطليموس الأول في أشكال من المقاومة السلبية، ولكن المقاومة الصريحة بدأت في عصر بطليموس الثاني فيلادلفيوس، حيث تذكر الوثائق البردية الكثير عن القلاقل والاضطرابات التي أثارها الفلاحون، وربما شهد عصر بطليموس الثالث يورجيتس أول ثورة قومية شاملة ضد حكم البطالمة شملت البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وفي عامي 207 و206 قبل الميلاد تجددت الثورة مرة أخرى حيث بدأت من الدلتا ثم امتدت إلى مصر العليا، وتتحدث البرديات عن أن الثوار حطموا ممتلكات الأجانب ومنازل المصريين المتعاونين مع البطالمة، وفي ظل هذه الثورة نجح بعض ملوك النوبة والتي كانت دائمًا المعقل الأخير للدفاع عن مصر في تحرير طيبة من حكم البطالمة، وأثناء هذه الثورة ظهرت نبوءة صانع الفخار التي تتحدث عن أن مصريًا وطنيًا سوف يحكم البلاد ويحررها من مغتصبيها الأجانب ويعيد العاصمة إلى منف كما كانت أيام الفراعنة الأقدمين.
 وتظل حركات المقاومة الشعبية حتى قبيل انهيار دولة البطالمة بسنوات قليلة ففي ثمانينيات القرن الأول قبل الميلاد اشتعلت الثورة مرة أخرى في جنوب الوادي، وكان لكهنة آمون دور كبير في هذه الثورة الجامحة، والتقى الثوار بالجيش الملكي، الشعب بأسلحة صغيرة أمام جيش منظم يحمل أفراده سلاحًا قويًا، ومع ذلك استمرت المعارك ثلاثة أعوام كاملة ولم تنته إلا بعد أن دمر الملك طيبة، معقل الثورة، تدميرًا كاملًا.
 ومما ساعد على قيام الثورات إحساس المصريين بقدرتهم العسكرية مرة أخرى، فقد قامت سياسة البطالمة في بداية حكمهم على منع المصريين من حمل السلاح أو الانخراط في الجيش، وأبعدوا المصريين تمامًا عن أمور الحرب والقتال، واعتمدوا على قواتهم المقدونية الوافدة معهم. لكن السنوات تمضي، وتتوالى هزائم جيوش البطالمة أمام الأعداء الخارجيين فيضطروا إلى تجنيد المصريين فى الجيش البطلمي.
 وكانت موقعة رفح سنة 217 قبل الميلاد التي التقى فيها جيش البطالمة وفي قلبه فيلق من المصريين بجيش السلوقيين ـ ورثة الاسكندر فى سوريا ـ نقطة فاصلة فى تاريخ العسكرية المصرية؛ ففى ذلك العام زحف أنطيوخوس الثالث الملك السلوقي حتى تخطى رفح والتقى هناك بالجيش البطلمي الجديد الذي كان يقوده بطليموس الرابع فيلوباتور، ولم يستطع جيش أطيوخوس الذي كان يتألف من خيرة جنود عصره أن يصمد أمام قلب جيش بطليموس وكان قوامه الأساسي من المصريين الذين حرموا من القتال لقرون طويلة، فأثبتوا بمجرد أن أتيحت لهم فرصة المواجهة أنهم جيش مقاتل لا يهاب الموت ويملك صلابة لا تبارى.
 إنه نفس الأمر الذي تكرر عندما ذاق طومان باي الهزيمة على يد العثمانيين وتجسدت أمامه صورة إنهيار الدولة، فسلح الشعب الذي حرم من حمل السلاح طوال عصور الرومان والبيزنطيين والعرب والترك والجراكسة، فحرر المصريون القاهرة من العثمانيين لعدة أيام، وأعادوا الخطبة باسم السلطان طومان باي، لكن مدافع سليم كانت أقوى من سيوفهم ورماحهم وبنادقهم.

صورة متخيلة لموكب طومان باي في طريقة إلى باب زويلة حيث شنقه سليم العثماني
 
 وفي مطلع العصر الحديث، عاد المصري مرة أخرى بعد 1900 سنة ليثبت كفاءته العسكرية، فيتصدى للفرنسيين بقيادة بونابرت ثم للإنجليز بقيادة فريزر، وعندما جند محمد على أبناء الفلاحين المصريين وخاض بهم إبراهيم باشا غمار حروب طويلة، وصلوا إلى أبواب أوروبا، وهددوا استنبول عاصمة الدولة العثمانية، وحققوا انتصارات سجلت في تاريخ العسكرية المصرية، ومن يومها لم يترك الفلاح المصري السلاح حتى لو كان ذاهبًا إلى "الجهادية" مرغمًا.
 ومثلما خلد التاريخ انتصارات الفلاح المصري على الرعاة الأسيويين والهكسوس والأشوريين والسلوقيين وسجل معاركه في القرن التاسع عشر، فقد سجل كذلك سعيه لاستعادة أرضه المحتلة في أكتوبر 1973.

 وهذه شهادت قادة العدو عن المقاتل المصري، قال الجنرال ديفيد أليعازر: "إن أكبر مفاجآت حرب أكتوبر كانت روح الجندي المصري العالية وكفاءته".
 وقال الجنرال جونين: "كان الجندي المصري يتقدم في موجات، وكنا نطلق النار وهو يتقدم، ونحيل ما حوله إلى جحيم، ورغم ذلك يظل يتقدم".
 وقال الخبير العسكري زيف شيف:"كنا نعتقد أن الدبابة تسحق المشاة وقد أدهشنا أن يقوم المصريون بالهجوم على الدبابات وهم مشاة كانت لدى جنود المشاه المصريين الشجاعة لمواجهة المدرعات الإسرائيلية وإطلاق الصواريخ عليها."
 وعلقت صحيفة الديلي إكسبريس على الحرب بقولها: "إن المحاربين المصريين الذين أذهلوا الإسرائيليين بحماسهم القتالي الذي يصل إلى حد الانتحار يشكل نوعًا جديدًا من الجنود وهذا هو أهم ما ظهر في الحرب، إن سلاح مصر السري كان الجندي المثقف الواعي الذي يحارب ويكسب أعنف المعارك في تاريخ حروب الصحراء".
 أما الأوبزرفر فقالت: "لقد انتزع جيل جديد من الضباط المصريين احترام العالم، هم مجموعة من الشباب الهادئ المثقف جدًا والمحترف الذي يتمتع بالثقة الكاملة من رجاله، منهم القادة ومنهم المخططون العسكريون، هم رجال غير معروفين ولكنهم كانوا يعرفون جيدًا ماذا يريدون ويقومون بمهامهم في تصميم".

 هؤلاء هم "الفلاحين بيغيروا الكتان بالكاكي"، كما وصفهم زين العابدين فؤاد الذي كان وقتها جندي مجند بالقوات المسلحة المصرية، مثله مثل عشرات الآلاف من خريجي المدارس والجامعات ومن الفلاحين والعمال الذين التحقوا بالجيش مجندين بعد هزيمة 67 ولم يغادروه إلا بعد حرب أكتوبر 73.
 
زين العابدين فؤاد
 
http://youtu.be/mkJ9blw3QfM
 
ودول ولاد الفلاحين كما أجاب أحمد فؤاد نجم في قصيدته عن حرب أكتوبر "دولا مين؟"

http://youtu.be/CmErhIYDipg?list=PLGYSa3-ido1g0DtAk8D6ndB0jVIAiXdrC
 
 

الأربعاء، 8 أكتوبر 2014


الصحوة الأخيرة

عماد أبو غازي

 عاشت مصر مرحلة ترهل وانحلال حضاري بعد عصر الرعامسة، نتيجة لكثافة الاستغلال الذي تعرض له الفلاح المصري الصانع الأول للحضارة، فمنذ عصر بناء الإمبراطورية جنى ثمارها تحالف الكهنة والعسكريين والكتبة، ذلك التحالف الذي أخذ عبر عشرات السنين يكثف استغلاله للفلاحين المصريين ويبدد المنجز الحضاري المصري.
 كانت النتيجة الطبيعية للترهل الذي أصاب مصر انخفاض مناعتها في مواجهة الخطر الخارجي الجديد الذي بات يهدد سوريا وفلسطين ومصر، خطر الإمبراطورية الآشورية الصاعدة في العراق، ومنذ القرن الثامن قبل الميلاد توالت هجمات الآشوريين على مصر، ونجحوا في احتلال البلاد في القرن السابع قبل الميلاد في ظل الانهيار والضعف الذي أصاب الدولة المصرية، ففي عام 674 ق.م. وصلت الجيوش الآشورية بقيادة الملك آشور أخي الدين إلى شرق الدلتا، حيث تصدى لهم طهارقا ملك مصر النوبي بجيوش ضخمة نجحت في رد الآشوريين إلى بلادهم، لكن الآشوريين عادوا مرة أخرى بعد أربع سنوات ووصلوا إلى أبواب الدلتا واحتلوها بالكامل، ولم يحترم الآشوريين معتقدات المصريين وديانتهم بل سعوا للبطش بالثقافة المصرية وتدميرها.

 
طهارقا بجسم أبو الهول
استنفر الاحتلال مشاعر أهل الدلتا فدعوا طهارقا للزحف شمالًا لتحريرهم، ورغم نجاح طهارقا في تحرير الدلتا إلا أن هذا النجاح لم يدم طويلًا، فبعد تولي الملك الآشوري الجديد آشور بني بعل العرش أرسل جيشا ضخمًا ليحتل مصر ويصل إلى طيبة.
 
آشور بني بعل
 
 فاتجه طهارقا إلى عاصمته الأصلية نباتا في جنوب النوبة، فكانت النوبة هي الملجأ الأخير الذي حمى الثقافة المصرية كالعادة.  

 وهنا ظهر الفلاح المحارب مرة أخرى، وظهرت المقاومة الشعبية الحقيقية في مصر للمرة الأولى، ففي كل الغزوات السابقة على غزو الآشوريين للبلاد، كان المصريون يجتمعون تحت منارة الدولة أو أمراء طيبة وينخرطون في جيوشهم ليخوضوا حرب التحرير، لكن في هذه المرة بدأت حركات التحرير السرية تنتشر في أرجاء البلاد، وأخذ الناس على عاتقهم أن يجعلوا من مصر جحيمًا لا يحتمل بالنسبة للمستعمر المستبد، ورفعوا راية العصيان بزعامة مصري أسمه "نخاو" اعتبره المصريون الزعيم الروحي لحركتهم، وكان نخاو هذا رجلًا مسنًا ذا خبرة وتجارب وثقافة واسعة، أخذ يجمع المصريين حوله ويهاجم المستعمر في حركات سريعة وسرية، واتبعوا في حربهم ما يمكن أن نسميه بلغة العصر حرب العصابات.

 وإذا كانت حركة نخاو لم تنجح فى تحرير البلاد فإنها انتهت إلى تعيين نخاو حاكمًا للدلتا تحت الولاية الإسمية للآشوريين.
 وإذا كانت أمور الدلتا قد استقرت تحت حكم نخاو فإن الصعيد ظل يغلي بالمقاومة، وتجمعت جهود أهله حول تانوت آمون أحد أمراء النوبة لمحاربة الآشوريين، نجح تانوت آمون في حشد جيش ضخم من الفلاحين استطاع أن يهزم به الآشوريين عند مدينة منف، لكنه وقع في خطأ تاريخي عندما لم يتقدم خلفهم ويطردهم من الدلتا، فقد عاد الآشوريون مرة أخرى بقوة أكبر هزمته في منف سنة 661 ق.م.، وطاردته حتى طيبة وفر الأمير الشاب إلى نباتا.
 وانتقلت مهمة التحرير إلى أهل الشمال مرة أخرى، فكانت ثورتهم الناجحة التي نظمها وقادها الأمير بسماتيك ابن الأمير نخاو، الذي نجح في توحيد البلاد خلفه لأنه جمع بين أصول أبيه الشمالية وصلته بالأسرات الليبية التي حكمت مصر في أواخر عصر الدولة الحديثة، وأصول أمه النوبية الجنوبية التي كانت ابنة للفرعون طهارقا. عرف بسماتيك كيف يعد لمعركته إعدادًا جيدًا وعقد مجموعة من التحالفات الإقليمية، وجمع بين المقاومة المسلحة والجهود الدبلوماسية، لينتهي به الأمر بتحرير البلاد من الآشوريين، وتأسيس أسرة ملكية جديدة، بل عصر جديد من عصور الحضارة المصرية عرف بالعصر الصاوي، نسبة إلى مدينة سايس، وكان العصر آخر عصور النهضة المصرية الناجحة، وانتهى بعد أكثر من مئة عام بالاحتلال الفارسي.

 
بسماتيك الأول
 لقد صمدت مصر أمام الغزوات الأجنبية قرابة ثلاثة آلاف عام إلى أن نجح الفرس فى كسرها وتدمير مقومات ثقافتها فانهارت القدرات العسكرية للبلاد، لكن القوة والروح القتالية ظلت كامنة داخل نفوس المصريين تظهر بين حين وآخر فى حركات التمرد ضد الفرس، إلى أن جاء الإسكندر الأكبر ليطردهم من البلاد.
 ففى سنة 525 قبل الميلاد حل بمصر الاحتلال الفارسي على يد قمبيز بن قورش الذي كان شديد الشراسة في معاملته للمصريين، وفي الاستهزاء بمعتقداتهم الدينية وثقافتهم، ولم يتوقف المصريون عن مقاومة الفرس والثورة ضدهم، ونعرف من خلال النصوص القديمة أخبار ثلاث ثورات كبرى ضد الاحتلال الفارسي، اشتعلت أولى هذه الثورات سنة 486 ق.م. واستمرت حتى عام 484 عندما نجح الملك الفارسي إجزركسيس في القضاء عليها، ورغم التنكيل بالمصريين والعمل على القضاء على الروح القومية في مصر إلا أن الثورة عادت للاشتعال سريعًا ونجحت في طرد الفرس من البلاد، ونجاحها في صد عدة محاولات أخرى لإعادة الاحتلال الفارسي، لكن طاقة المقاومة سقطت في النهاية أمام الجيوش الفارسية القوية.

قمبيز ممسكا ببسماتيك الثالث
 وفي أواخر القرن الخامس قبل الميلاد نجح المصريون في تحرير بلادهم مرة أخرى مؤسسين الأسرات الثلاث الأخيرة المستقلة والتي استمرت تحكم البلاد قرابة سبعين عامًا من سنة 404 إلى سنة 342 ق.م.، وعندما سقطت مصر للمرة الأخيرة في يد الفرس بعد معارك ضارية دافع فيها آخر ملوك مصر المستقلة نختنابو الثاني عن البلاد دفاع الأبطال، وطوال عشرة أعوام كاملة ظلت مصر تقاوم الحكم الفارسي إلى أن دخل الاسكندر الأكبر البلاد بجيوشه فتخلصت مصر من الحكم الفارسي، لتبدأ حقبة جديدة في التاريخ المصري.

الكاتب والكاهن والقائد

عماد أبو غازي

 لقد بهرت إنجازات تحتمس الثالث العسكرية التي سجلها في عديد من النقوش على لسانه شخصيًا أو على لسان كاتبه المؤرخين المحدثين، وإذا كانت الانتصارات العسكرية في حد ذاتها ليست عملًا متميزًا، فإن ما ميز تحتمس الثالث كان خططه وتكتيكاته العسكرية ورؤيته الإستراتيجية الثاقبة، لقد حدد تحتمس الثالث أهدافه بدقة وعرف كيف يحققها، ووضع الخطط العسكرية الفذة، بمقاييس عصره، التي أربكت العدو الذي يحاربه، ففي موقعة مجدو كان اتخاذه الطريق الوعر غير المتوقع عنصرًا حاسمًا في نجاحه في حصار خصومه داخل أسوار مدينتهم، مدينة مجدو، وفي حربه مع ميتان اتبع أسلوبًا مبتكرًا بنقل السفن برًا على عربات حتى شواطئ نهر الفرات ثم قام بمفاجأة الأعداء بهجومه الخاطف، وقد أشار عالم المصريات سليم حسن إلى أن القائد البريطاني الكبير مونتجمري، الذي هزم الألمان بقيادة روميل في العالمين سنة 1942، قد اتبع نفس التكتيك العسكري بعد تحتمس بثلاثة آلاف سنة في معاركه العسكرية أثناء الحرب العالمية الثانية في أوروبا، مستخدمًا أسلوب تحتمس في عبور الفرات عندما قام بعبور نهر الراين.


تحتمس الثالث
 ولكن هل غيرت هذه الحروب من طبيعة الفلاح المقاتل المصري، تأمُل حوادث التاريخ يكشف عن أن الفلاح صانع الحضارة والنماء ظل يؤمن بالحرب دفاعًا عن الحق لا الحرب من أجل العدوان، وطوال ثلاثة آلاف سنة تقريبًا هي عمر الحضارة المصرية القديمة، نجح الجيش المصري في صد الغزوات الأجنبية غزوة وراء غزوة، وظل الطابع الدفاعي غالبًا على العقيدة العسكرية المصرية، حتى عندما فكر المصريون في عصر الدولة الحديثة في بناء إمبراطوريتهم في غرب آسيا، كان هذا ردًا على احتلال الهكسوس للبلاد الذي يعتبر من أطول فترات الاحتلال في تاريخنا القديم، والتي ذاق فيها المصريون وطأة الحكم الأجنبي، ومن هنا فالأرجح أن بناء الإمبراطورية المصرية كان لهدف دفاعي بحت لضمان حماية البلاد من الغزوات المتكررة التي تأتي من الشرق. لقد دفعت سنوات حكم الهكسوس لمصر بالمصريين إلى الانطلاق شمالًا وشرقًا لتأمين حدودهم في البداية، ثم أغرتهم الانتصارات ببناء إمبراطورية كبيرة، ويبدو أن الغزوات الناجحة كانت تفتح شهية حكام المصريين للتوسع، فلم تقتصر حملات تحتمس الثالث العسكرية على الشمال والشرق والشمال فقط، بل امتد نشاطه إلى الجنوب، حيث نجح هذا الملك في الوصول بالنفوذ المصري إلى مناطق قريبة من الشلال الخامس في النوبة ونصب هناك لوحًا تذكاريًا يخلد غزواته، لقد كان تحتمس الثالث قائدًا عسكريًا فذًا بمقاييس عصره، حقق انتصارات خالدة وأمن حدود مصر الشرقية لقرون عديدة تالية لعصره، كما توسع في الجنوب ووصل بالحكم المصري إلى حدود لم يصلها من قبل.
 لكن كيف تراجعت هذه الإمبراطورية الكبيرة وتقلصت حدودها؟ وكيف عادت مصر محتلة مرة أخرى بعد قرون من حكم تحتمس الثالث؟
 لقد أدى تكوين الإمبراطورية إلى عدة نتائج، فمن ناحية اندمج قطاع من النخب الأسيوية التي تعلمت في مصر في المجتمع المصري، وانتشر الزواج بين الأمراء المصريين والأميرات الأسيويات، ومن ناحية أخرى أنفصل الجيش النظامي الذي شيد تلك الإمبراطورية الكبيرة عن الفلاحين، وأصبح جيشًا طبقيًا محترفًا، ومن ناحية ثالثة تدفقت الثروات على مصر من غنائم الحروب والجبايات التي فرضت على الشعوب المغلوبة، وأصبحت كثير من تلك الثروات جزء من أملاك الإله آمون، فزادت ثروات الكهنة، كما تضخم الجهاز الإداري للدولة بشكل واضح، هذه العوامل الأربعة أدت إلى تأكل الإمبراطورية بعد عدة قرون.
 جاءت الضربة الأولى على يد أمنحوتب الرابع الذي سمى نفسه إخناتون، وحاول فرض هيمنة عقيدة واحدة على المجتمع المصري، العقيدة الأتونية، متحديًا خاصية أساسية من الخصائص التي قامت عليها الحضارة المصرية القديمة، أعني القبول بالتعددية والاختلاف والتنوع، كانت تجربة إخناتون نموذج من نماذج التطرف الديني، فغرقت مصر في صراعات داخلية، انتهت بنهاية عصره، وفقدت مصر خلالها كثير من نفوذها الخارجي وقوتها.

إخناتون
 لكن الفوضى التي أتى بها إخناتون وأعقبت عصره سرعان ما انتهت على أيدي العسكريين الذين تحالفوا مع كهنة آمون، وقاد القائد العسكري حور محب انقلابًا تدريجيًا هادئًا أسس به لعهد جديد ـ بعد مرحلة انتقالية قصيرة ـ عادت للإمبراطورية فيه بعض أمجادها.
 
حور محب
 ولم يورث حور محب الحكم لإحد من أسرته، بل لزميل من زملائه العسكريين، هو وزيره رمسيس الذي عرف باسم رمسيس الأول مؤسس الأسرة التاسعة عشر، الذي حكم لعامين أشرك فيهما ابنه سيتي الأول في الحكم.

رمسيس الأول

 
سيتي الأول 
 وقد سار سيتي على نهج أبيه فأشرك ابنه الذي أصبح أشهر فراعنة مصر، رمسيس الثاني معه في حكم البلاد، ودخل رمسيس الثاني في حروب متعددة مع الحثيين استعاد خلالها أجزاءً من الإمبراطورية المصرية في غرب آسيا، لكن ظهور خطر الآشوريين دفع المصريين والحثيين إلى توقيع معاهدة سلام، ربما تكون أقدم معاهدة سلام وصلت إلينا.

 
رمسيس الثاني
تجاوز حكم رمسيس الثاني الستين عامًا، ترهلت الدولة خلالها وفقدت مصر إمبراطوريتها تدريجيًا مرة أخرى، ورغم أن محاولات الإصلاح واستعادة الإمبراطورية قد تكررت خلال حكم الأسرتين 19 و20 إلا أن أمورًا كثيرة كانت تغيرت، فقد اتسعت الفجوة بين الفلاحين الذين صنعوا الحضارة وحرروا الأرض وشيدوا الإمبراطورية الأولى والطبقة الحاكمة وعلى رأسها الفرعون، تلك الطبقة التي أصبحت خليطًا من العسكريين المحترفيين والكهنة والكتبة البيروقراطيين، لقد قتل هذا التحالف البغيض بين القائد والكاهن وتابعهما الموظف روح الشعب، وازداد الاعتماد على الأجانب في الجيش والإدارة، فضاعت مصر عندما غاب الفلاح صانع الحضارة وصانع النصر.

الثلاثاء، 7 أكتوبر 2014


الفلاح المصري يشيد الإمبراطورية

عماد أبو غازي

 في أوائل القرن الخامس عشر قبل الميلاد أنتقل حكم مصر إلى بيت جديد ينتمي إلى الأسرة الثامنة عشر، وإن كان علماء المصريات لم يعرفوا بعد أصل مؤسسها تحتمس الأول ولا كيفية انتقال العرش إليه، وقد نجح تحتمس الأول وأبناؤه وأحفاده في تأسيس أكبر إمبراطورية مصرية عرفها التاريخ، فوصلت حدود مصر الجنوبية في عصره إلى الشلال الثالث، ووصلت غزواته في سوريا إلى أعالي الفرات.
ومنذ ذلك الحين أصبحت أقاليم غرب آسيا هدفًا صريحًا للسيطرة المصرية، وجعل تحتمس الأول مدينة منف العاصمة القديمة للبلاد نقطة انطلاق لجيوشه المتجهة نحو الشرق والشمال.

 
تحتمس الأول
وإذا كان تحتمس الأول قد وضع أسس الإمبراطورية المصرية، فإن حفيده تحتمس الثالث قد أكمل هذا المشروع وترك لخلفائه دولة واسعة مترامية الأطراف يهابها الجميع.
 وكان تحتمس الثالث ابنًا للملك تحتمس الثاني أنجبه من زوجته الثانية أيزيت، وقد تم اختياره عن طريق كهنة آمون ليخلف أباه الذى لم يحكم سوى ثلاث سنوات، وكان تحتمس الثالث طفلًا صغيًرا عندما تولى الحكم فأصبحت عمته حتشبسوت وصية على العرش، ثم شريكة له في الحكم. ولم ينفرد تحتمس الثالث بالسلطة إلا بعد وفاة حتشبسوت في العام الثاني والعشرين من حكمه الذى أمتد لمدة ثلاثة وخمسين عامًا.

 
حتشبسوت باللحية الملكية
 وفى أواخر أيام حكم تحتمس الثالث أشرك معه في الحكم أبنه أمنحتب الثاني الذى خلفه في حكم الإمبراطورية الواسعة مترامية الأطراف التي شيدها لمصر، وامتدت شمالًا وشرقًا وجنوبًا.

 
تمثال لتحتمس الثالث
لقد كان التوسع الخارجي أمرًا غريبًا وجديدًا على السياسة المصرية، لكن تكرار الغزوات التي قام بها الآسيويون على البلاد، ونجاح المصريين مرة وراء مرة في طرد الغزاة وملاحقتهم خلف الحدود، فتحت شهية حكام مصر لبناء إمبراطورية كبيرة، ودفعتهم إلى التوسع لتأمين الاستقرار وتأديب الأعداء، فقد أصبح ملوك مصر ومخططو سياستها على قناعة تامة بأن حماية حدود مصر الشرقية لن تتحقق إلا بضم المناطق التي ينطلق منها الغزاة وإخضاعها للسيادة المصرية.
 لقد شن تحتمس الثالث قرابة خمس عشرة حملة عسكرية فى سوريا وفلسطين لدحر خصوم مصر فى تلك البلاد وللقضاء على الحكام المناوئين للسياسة المصرية، فقام تحتمس الثالث بحملته الأولى للقضاء على تحالف بعض الأمراء السوريين مع أمير مدينة قادش التى تقع عند منفذ سهل البقاع، وفي العام الثالث والعشرين من حكمه استطاع الملك أن يصل إلى إحدى المدن عبر أحد الطرق الوعرة، وكانت مفاجأة أدت إلى إرباك خصومه الذين أنتظروه في الطريق المعتاد للمدينة، وحاصر تحتمس الثالث المدينة سبعة أشهر انتهت باستسلامها وسقوط التحالف المعادي لمصر، لكن حروب الملك الشاب لم تنته في سوريا،  لقد ظهر خضم جديد وقف أمام الطموحات المصرية، هو الأمير تونب، الذى لم يتوقف عن مناوأة مصر إلا بعد أن تلقى عدة هزائم على يد جيوش تحتمس الثالث.

 
جدارية تسجل انتصارات تحتمس الثالث
 إلا أن أكثر خصوم مصر خطورة كانت دولة ميتاني في شمال الفرات والتي كانت تحكمها أرستقراطية عسكرية ذات أصول هندوأوروبية، وقد أصبحت حدود مصر متاخمة لدولة ميتاني بعد توسع تحتمس الثالث وأسلافه في فلسطين وسوريا، فبدأ الصدام بين الدولتين.
 اتبع تحتمس الثالث تكتيكًا عسكريًا جديدًا في حربه مع الميتانيين ليقهر المانع المائي الذي احتمى خلفه الأعداء أعني نهر الفرات، لقد نقل تحتمس الثالث سفن جيشه فوق العربات من سواحل لبنان إلى الشاطئ الغربي لنهر الفرات، ليعبر به النهر ويفاجئ الميتانيين ويهزمهم، وقد خلد المصريون هذا النصر في نص يقول على لسان تحتمس الثالث:
"الآن سار جلالتي إلى شمال حدود بلاد آسيا، وقد أمرت ببناء سفن نقل من خشب الأرز في جبيل، مما تنبته تلالها، وهي أرض الإله الواقعة على مقربة من صيدا، وقد أرسلت قبل جلالتي لتستعمل في عبور ذلك النهر العظيم، الذي يجري في هذه الأرض الأجنبية..."
 
 
تحتمس الثالث
وفي نص آخر يشرح الكاتب الذي يسجل معارك تحتمس بعض تفاصيل تلك المعركة فيقول:
"سار جلالته إلى بلاد نهرين في مقدمة جيشه شرقي هذا النهر، وأقام لوحة أخرى بجوار اللوحة التي نصبها والده ملك الوجه القبلي والوجه البحري، إن جلالته سار شمالًا متغلبًا على البلاد، ومخربًا إقليم نهرين التابع للعدو الخاسئ..
 وبعد ذلك انحدر شمالًا مقتفيًا أثرهم لمسافة، فلم يلتفت واحد منهم خلفه، ولكنهم أرخوا لسيطرتهم العنان كأنهم قطيع بقر الوحش... تأمل، إن خيلهم هربت، وغنم جيش جلالته ثلاثة أمراء ونساؤهم وعددهن ثلاثون، كما أخذ ثمانين أسيرًا، ومن العبيد والإماء ستمائة وستة، ومعهم أولادهم، أما الذين سلموا خاضعين ومعهم زوجاتهم وأولادهم  فكثيرون"....
 ورغم تمتع المدن السورية والفلسطينية بدرجة من درجات الاستقلال، إلا أن فرقًا حربية مصرية تمركزت في المواقع الاستراتيجية لضمان التحكم في البلاد، واضطرت المدن الممتدة من أقاليم الفرات العليا حتى حدود مصر الجغرافية إلى دفع الجزية بشكل منتظم لمصر، ونتج عن هذه السياسة الإمبراطورية تدفق الثروات على البلاد، مرة في شكل غنائم حرب ومرات في شكل جبايات منتظمة وضرائب.

الإمبراطورية المصرية 
 
ومن ناحية أخرى شيدت المعابد للآلهة المصرية في مواقع متعددة بسوريا وفلسطين كتأكيد رمزي للسيادة المصرية، كما تم إرسال أبناء الحكام المحليين في سوربا وفلسطين إلى مصر كرهائن، حيث كانوا يتلقون تعليمًا متميزًا داخل البلاط الملكي المصري، قبل أن يرجعوا إلى بلادهم متمصرين ليخلفوا أباءهم في الحكم...

 سخمت ربة الحرب
وبهذه السياسة نجحت مصر في السيطرة الفكرية والسياسية على تلك المناطق حتى بعد أن زال نفوذها العسكري.

الاثنين، 6 أكتوبر 2014


 دول مقالين كتبتهم في مخربشاتي بجريدة الدستور في الذكرى 35 لحرب أكتوبر من ست سنين...

حكاية الفلاح المحارب

عماد أبو غازي
 من 35 سنة في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر 1973، أصدر الرئيس السادات قرارات بالإفراج عن من تبقى من الطلاب المعتقلين بعد مظاهرات 1973، كما أعاد الصحفيين المبعدين إلى أعمالهم بعد أن ألغى قرارات لجنة النظام بالاتحاد الاشتراكي العربي بفصلهم، الفصل الذي ترتب عليه إبعادهم من عملهم الصحفي وفقًا لقوانين ذلك العصر، كان التصور وقتها أن تلك القرارات صدرت تحسبًا لافتتاح الجامعة الذي كان موعده قد اقترب طلبًا لعام دراسي هادئ، لكن الأيام التالية كشفت عن أن حقيقة الأمر أن القرارات صدرت لضمان "وحدة الجبهة الداخلية" في الأيام الأخيرة السابقة على الحرب التي طال انتظارها.
 بعد أيام قليلة من القرار انطلقت الشرارة الأولى لحرب أكتوبر 1973 ليحقق الجيش المصري الذي أعيد تكوينه على أسس جديدة بعد هزيمة 1967، الجيش الذي ضم عشرات الآلاف من المجندين من خريجي الجامعات المصرية، عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف.

 جاءت الحرب بعد سبع سنوات من الانتظار والغليان المكتوم، بعد أن كاد الناس يصلون إلى حد اليأس بسبب استطالة حالة "اللا سلم واللا حرب"، بدأ العبور، كان الأمر مفاجأة، لكن المتأمل لتاريخ هذا البلد لابد أن يدرك أن  ما حدث في ظهر يوم السبت 6 أكتوبر سنة 1973 لم يكن بمستغرب، فأبناء الجيش المصري الذي عبر القناة، هم أنفسهم حفدة المقاتلين المصريين الذين صدوا الغزاة طوال تاريخ مصر الألفي الطويل، حفدة الفلاح المصري المقاتل الذي ينفي تاريخه أكذوبة خنوعه وخضوعه لكل غاصب محتل.
 إن الجميع يعرفون قصة الفلاح الفصيح وشكاواه الشهيرة التي استنجد فيها بالفرعون ليرفع عنه ظلم موظفيه ورجاله، تلك القصة التي تعتبر واحدة من روائع الأدب السياسي في مصر القديمة، لكن من يعرف قصة الفلاح المحارب؟
 إنها قصة ممتدة عبر التاريخ، قصة كفاح المصري من أجل الدفاع عن وطنه، فرغم أن الشعب المصري مسالم لا يبدأ بالعدوان، ورغم أنه لم يبن دولته القديمة على أسس من التوسع والاستعمار للبلدان المجاورة، إلا أن العدوان المستمر للجيران ـ خاصة البدو الأسيويين ـ كان يحفز المصريين دائمًا للدفاع عن وطنهم وترابهم وحدودهم.
 وقد أثبت أبناء النيل في معظم المرات التي تعرضت بلادهم فيها لعدوان الغزاة أنهم أهل لحماية أرضهم وصد الغزاة عنها، فرغم كراهية المصري للقتل والقتال إلا أنه لا يتهاون أبدًا مع من يتعدى على أرضه.
 إن درس التاريخ الممتد لأكثر من خمسة ألاف سنة يؤكد دائمًا أن المصري ذلك الفلاح المسالم الوديع الذي يكرس حياته كلها لبناء الحضارة، ليهب الحياة لا ليسلبها، يتحول إلى مقاتل شرس شجاع إذا تعرض الوطن للخطر، ويترك المحراث والفأس ليحمل السلاح. إن إطلالة سريعة عبر عصور التاريخ المصري تؤكد أن التاريخ الطويل للحضارة المصرية هو تاريخ ممتد من مقاومة الغزاة الذين توالوا على البلاد.فمنذ الألف الثالث قبل الميلاد كانت مصر عرضه لغارات متوالية من سكان المناطق الغربية من آسيا، وكانت هذه الغارات تأخذ عادة شكل الهجمات الخاطفة التي تهدف إلى السلب والنهب في الدلتا. وتشير النصوص التاريخية القديمة إلى أن جسر أو زوسر صاحب هرم سقارة المدرج قد بذل جهودًا ضخمة لحماية البلاد من تلك الغارات.

 جسر أو زوسر
لقد كان للمصريين القدماء جيش قوامه من فلاحي مصر يدافع عن حدود الوطن من الشرق والغرب والجنوب، وربما كانت أولى الغزوات الخارجية التي يسجلها التاريخ هي تلك التي وقعت في عصر الأسرة السادسة، حوالي سنة 2450 قبل الميلاد، عندما تعرضت مصر لهجوم كاسح ومباغت من الحدود الشرقية قامت به جماعات من البدو من غرب آسيا، واستقرت تلك الجماعات في أرض الدلتا بقوة السلاح.
 وإذا كان المؤرخون لم يعرفوا أصل تلك الجماعات على وجه التحديد، لكن ما نعرفه بشكل مؤكد أن مصر هبت كلها للدفاع عن أرضها، فيبدو أن شدة الاجتياح الأسيوي استدعت تجنيد جيش كبير، فتم تجنيد الآلاف من مختلف أنحاء البلاد وتدريبهم بسرعة، وقد نجح هذا الجيش في طرد الغزاة.
وقد خلد قائد الجيش المصري الذي تصدى للغزاة ودحرهم هذا الدفاع المجيد في نقش على جدران مقبرته، سجل منه كيف تكون هذا الجيش من جموع المصريين من الوجهين القبلي والبحري وأهالي النوبة والصحراء الغربية.

وخرج هذا الجيش الجبار ليلًا ليدفع الغزاة عند الحدود الشرقية لدلتا النيل، فهزمهم شر هزيمة وأنزل بهم خسائر فادحة، ولم يكتف بصدهم عن البلاد بل طاردهم إلى ما وراء الحدود. وقد سجل القائد المصري "أونى" هذا الانتصار في أنشودة كان الجنود يتغنون بها جاء فيها:

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن فارق بلاد سكان الرمال

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن خرب بلاد سكان الرمال

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن دمر حصون الأعداء

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن أقتلع تينهم وكرومهم

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن ألقى النار بين جنودهم

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن قتل عشرات الآلاف من الجنود

        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا

        بعد أن أحضر معه آلافًا من الأسرى

لقد كان الغزو الخارجي الذي تعرضت له مصر عند نهاية الدولة القديمة دافعًا للانتباه الدائم للأخطار الخارجية، وللعمل على تكوين جيش محترف قوي يذود عن البلاد في وقت الخطر...

 تستمر مسيرة الفلاح المحارب الذي يدافع عن أرضه ووطنه عبر التاريخ المصري القديم، ففي عصر الدولة الوسطى أصبحت حماية حدود البلاد من الموضوعات المتكررة في النصوص المصرية القديمة، فيسجل الملك سونسرت الثالث أحد ملوك الدولة الوسطى نصا في شكل وصية تحمل الدعوة للدفاع عن الحدود وتأمينها قال فيها:
"أي أمرأ من ولدي يستطيع أن يحمي ما أقمت من حدود لهو ولدى من صلبي، وإنه كمثل صادق لذلك الابن الذي يحمى أباه، ويذود عن حدوده، فأما من قصر عن ذلك ولم يذد عن حدودي، فذلك ليس من ولدي، لأنني لم ألده، وهذا تمثالي أقمته لكم على الحدود، عله أن ينهضكم، فدافعوا عنه.
 إن الأعداء يصدعون لصوت الشجاع، فإذا ما هوجموا خضعوا، وإذا لان لهم الأمر هجموا، وإنهم لقوم ضعفاء لا يقام لهم وزن، ثم هم مساكين، ضعاف قلوبهم..."

سونسرت الثالث
 
 ومع نهاية عصر الدولة الوسطى نجح الهكسوس في احتلال قسم كبير من البلاد، وبسطوا نفوذهم على بقيتها، بفضل استخدامهم لتقنيات عسكرية لم يكن المصريون قد وصلوا إليها بعد. ولا نعرف على وجه التحديد الكيفية التي نجح بها الهكسوس في احتلال مصر، هل عن طريق التسلل والاستيطان التدريجي أم عن طريق الغزو المباشر، لكن المصريين عبروا عن هذا الواقع المرير من خلال نص منقوش على لوح حجري يقول:
 "هب الغضب الإلهي علينا ولست أدرى لماذا؟ فعلى حين غفلة بلغت الجرأة بقوم من جنس غير معروف جاءوا من الشرق أن غزوا بلادنا واستولوا عليها عنوة، وهؤلاء الناس قبضوا على الرؤساء وأضرموا النار في المدن بوحشية، وأزالوا المعابد، وعاملوا الأهالي بكل قسوة يذبحون البعض ويسبون النساء والأطفال وأخيرًا عينوا أحدهم ملكًا اسمه سالاتيس فأقام في منف وجبى الإتاوات من الأقاليم العليا والسفلى..." 
 وفي مواجهة حكم الهكسوس للبلاد أعاد المصريون تنظيم صفوفهم واستوعبوا ما فاتهم من تطور في التسليح، وعاد الفلاحون إلى القتال مرة أخرى، ونجحوا في طرد الغزاة؛ حيث قاد سقنن رع وابنيه كاموس وأحمس جيش التحرير في حرب طويلة انتهت بالنصر المظفر، وانطلق الجيش المصري، جيش الفلاحين، إلى الشرق خارج الحدود ليؤمن البلاد فتأمن مصر شر الغزاة.

 
 أحمس الأول يطهر من الربين رع وآمون
 لقد حكم الهكسوس مصر ما يقرب من مئة وخمسين عامًا، احتاج الأمر قرن من الزمان حتى ينظم المصريون حركتهم تحت قيادة أمراء طيبة ويتحركوا لتحرير البلاد وطرد الهكسوس، بدأت حرب التحرير في عهد سقنن رع الذي بدأ حربًا متواصلة لطرد الهكسوس من البلاد، استشهد سقنن رع في ميدان القتال دون أن يكمل حرب التحرير، لكنه أشعل شرارتها، وأكمل المسيرة من بعده ابنه كاموس، ولعبت أميرات أسرة سقنن رع دورًا مهمًا في الحشد المعنوي للقتال، لكن الحلم لم يتحقق إلا على يد الابن الثاني لسقنن رع، أحمس الأول، الذى أكمل جهود تحرير مصر من الهكسوس، وأعاد توحيد البلاد مرة أخرى، ورغم أن أحمس ينتمي إلى ملوك الأسرة السابعة عشرة الذين حكموا جنوب البلاد من طيبة وأشعلوا حرب التحرير ضد الهكسوس، إلا أن إنجازه للتحرير الكامل لمصر جعل منه مؤسسًا لأسرة جديدة بل ولعصر جديد في التاريخ المصري.

 شاهد لأحمس الأول
 لقد أثبتت تجربة الحرب التي خاضها المصريون لتحرير بلادهم من الهكسوس عدة أمور، أولاها: أن المصري مهما صبر على من يغتصب أرضه وحقه لابد له من لحظة يقظة يهب فيها ليسترد حقه، وثانيها: قدرة المصري على استيعاب التقنيات الجديدة وتطويرها والاستفادة منها، فقد ساد الهكسوس لأنهم كانوا يستخدمون الخيول والعجلات، ولم يكن المصري يعرفها حتى ذلك الحين، لكن الفلاح المصري سرعان ما استوعب هذه التقنية الجديدة عليه واستخدمها وطورها لبناء إمبراطورية كبيرة، أما ثالثها: فما أدركه المصريون من ذلك الوقت المبكر عن ما نسميه بلغة اليوم أمنهم القومي، من أن أمن مصر خارج حدودها، لقد أدرك المصريون بعد التجربة المريرة من احتلال الهكسوس لأجزاء كبيرة من البلاد، وسيطرتهم السياسية على الأجزاء الباقية، أن أمن مصر واستقرارها يقتضى تعقب الغزاة وراء الحدود، فتتتبع أحمس الهكسوس في فلسطين وسوريا وأستأصل حصونهم واستحكاماتهم التي بنوها في فلسطين وأزالها من الوجود، كذلك اتجه أحمس وابنه أمنحتب الأول إلى تأمين الحدود الجنوبية للبلاد، وبناء القلاع والحصون في النوبة التي ثبت لحكام مصر أنها خط الدفاع الأخير عن البلاد عندما يأتي الغزاة من الشمال والشرق.

قلادة عسكرية من عصر الدولة الحديثة
 وفى أوائل القرن الخامس عشر قبل الميلاد أنتقل حكم مصر إلى بيت جديد ينتمى إلى الأسرة الثامنة عشرة، وقد نجح تحتمس الأول مؤسس البيت الجديد، وأبناؤه وأحفاده في تأسيس أكبر إمبراطورية مصرية عرفها التاريخ.
 
تحتمس الأول
وللتاريخ بقية... 


الجمعة، 3 أكتوبر 2014


عيد بأية حال عدت يا عيد

          عيد بأية حال عدت يا عيد          بما مضى أم لأمر فيك تجديد

 ربما يكون هذا البيت من الشعر الذي قاله المتنبي شاعر العربية الكبير أشهر ما كتب في العربية عن العيد، والبيت مطلع قصيدة للمتنبي من ثمانية وعشرين بيتًا، قالها في هجاء كافور الأخشيدي المتصرف في أمر مصر، ويقول المتنبي في قصيدته:

 والمتنبي هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي، كني بأبي الطيب. ولد بالكوفة، ونشأ بالشام، ثم تنقل في البادية لطلب الأدب والعلم، قال الشعر منذ صباه وبرع فيه، وتنبأ في بادية السماوة التي تقع بين الكوفة والشام، فتبعه كثيرون، وقبل أن يستفحل أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد حاكم مصر والشام فأسره وسجنه حتى تاب ورجع عن دعواه.
 وقد احترف المتنبي مدح الحكام طلبًا للعطايا والمناصب، واعتاد أن ينقلب على من يمدحهم عندما لا يجزلون له العطاء، وفد على سيف الدولة الحمداني في حلب، فمدحه وصارت له حظوة عنده، ثم هجره واتجه إلى مصر التي كانت تحت حكم الأخشيديين، فمدح كافور الإخشيدي صاحب الأمر والنهي في مصر بقصيدة مطلعها:

    عَـلَى قَـدرِ أَهـلِ العَـزمِ تَأتِي العَزائِمُ    وتَــأتِي عَـلَى قَـدرِ الكِـرامِ المَكـارِم

   وتَعظُـم فـي عَيـنِ الصّغِـيرِ صِغارُها       وتَصغُـر فـي عَيـنِ العَظِيـمِ العَظـائِمُ

 وأبو المسك كافور الإخشيدي كان في الأصل عبدًا واشتراه أبو بكر محمد بن طغج الإخشيد والي مصر الذي استقل بها عن الدولة العباسية، وكان ذلك في سنة اثنتي عشرة وثلثمائة، وترقى كافور عند سيده الجديد ونسب إليه، وصارت له الحظوة عند الأخشيد إلى أن جعله أتابكًا لولديه، أي مشرفًا على تربيتهما، وقام كافور بتدبير أمور الدولة في عهود أبناء محمد بن طغج الأخشيد، ثم انفرد بالحكم في نهاية الأمر.
 وعندما جاء المتنبي إلى مصر كانت أمورها في يد كافور، فلما مدحه المتنبي ولم يعطه كافور ما كان ينتظره انقلب عليه وهجاه، ورحل عن مصر في يوم وقفة عيد الأضحى سنة 350 هـ متجهًا إلى العراق وفارس بحثًا عن حاكم آخر يمدحه، لذلك استهل قصيدته في هجاء كافور بمخاطبة العيد.
 والقصيدة مليئة بالتعريض بكافور الأخشيدي وبأصله ولونه، وهي تنضح بروح من التعالي على سمر البشرة كانت سائدة في ذلك الوقت، ولو حاكمنا القصيدة بمعايير عصرنا لاعتبرت نموذجًا للعنصرية، كما أن في القصيدة هجوم حاد على مصر وأهلها ووصف لهم بالغفلة.
 ومات المتنبي مقتولًا في معركة بسواد العراق، وهو في طريقه إلى الكوفة، على يد فاتك الأسدي، بسبب إحدى هجائيته، فكان المتنبي قد هجا أحد رجال عصره وهو ضبة بن يزيد الأسدي بقصيدة تعرض فيها لأم ضبة، وكان فاتك هذا خالًا لضبة، ولما حاول المتنبي أن يهرب من المعركة لإحساسه بعدم التكافأ، قال له ابنه: "أتهرب وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني   والسيف والرمح والقرطاس والقلم"

 فخجل أن يهرب فقتل، فكان كما قيل شاعر قتله بيت شعر. وكان ذلك في سنة 354هـ.

أعلى النموذ

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...