الخميس، 27 يوليو 2023

أحمد مرسي حارس التراث الشعبي

 

أحمد مرسي حارس التراث الشعبي

عماد أبو غازي

 عرفت الدكتور أحمد مرسي منذ ما يزيد عن خمسين عامًا بقليل، عندما التحقت طالبًا بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وتحديدًا في يوم 14 أكتوبر 1972 اليوم الأول في الدراسة للعام الجامعي 1972/1973، كان الدكتور أحمد مرسي في استقبال الطلاب الجدد بالمبنى الرئيسي للكلية مع أعضاء اتحاد الطلاب وبعض المعيدين وأعضاء هيئة التدريس وعددًا من طلاب الأسر الجامعية، يرحبون بالطلاب الجدد ويرشدونهم إلى عالمهم الجديد الذي يدخلون إليه، في حفل استقبال بهيج كانت كلية الآداب تتميز به بين كليات الجامعة، وبعد هذا الاستقبال الحافل توجهنا لمدرج 78 الذي كان يحمل وقتها اسم الشهيد عمر شاهين، أحد شهداء المقاومة الشعبية في القناة في يناير 1952، واستمعنا إلى كلمة عميد الكلية الدكتور يحيى هويدي.


 وقتها كان الدكتور أحمد مرسي مدرسًا شابًا بقسم اللغة العربية وآدابها، لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد، وفي الوقت نفسه كان رائدًا للجنة النشاط السياسي والثقافي باتحاد طلاب الكلية، ورائدًا للشباب بالكلية، وقد كانت هذه الصفة الأخيرة التي جعلته في مقدمة مستقبلينا في يومنا الأول بالكلية.


في مناقشة رسالة د. رضوى عاشور

 كان أحمد مرسي قريبًا في السن من الطلاب، فقد كان من أصغر المدرسين في الكلية، وكان يجمع بين الحزم والقدرة على إدارة الحوار واستيعاب المختلفين معه، وأظن أن هذه كانت مبررات اختياره رائدًا للشباب، ورائدًا للجنة النشاط السياسي والثقافي، فقد كانت الجامعات تموج بالحراك السياسي وحركات الاحتجاج منذ تفجرت مظاهرات الطلاب والعمال في فبراير 1968، كانت روح التمرد بين الشباب جزء من حركة التمرد التي اجتاحت العالم في عام 1968، رغم تعدد الدوافع واختلافها، وكانت كلية الآداب بجامعة القاهرة من الكليات التي تشهد نشاطًا سياسيًا واسعًا يلغب فيه اليسار الشيوعي دورًا رئيسيًا، بل إن مجلس اتحاد طلاب الكلية كان يقوده طلابًا ينتمون إلى اليسار، وكان الأمر يحتاج إلى درجة عالية من الحكمة في التعامل مع الطلاب، وكان أحمد مرسي يتميز بقدر عالٍ من الحكمة، ورغم اختلاف المواقف معه خلال سنوات النشاط السياسي الطلابي وهو رائد للاتحاد، لم يصل خلاف أبدًا مع الطلاب إلى حد الصدام والقطيعة، رغم أنه في نظر الطلاب يمثل الإدارة، لكنه عرف دومًا كيف يدير الخلاف بحكمة، حتى ألغيت الريادة في العام الجامعي 1975 / 1976، وتحرر من صورة ممثل الإدارة.

 عرفته في سياق آخر بعيدًا عن النشاط الطلابي، عرفته مدرسًا جامعيًا متميزًا، فقد كان من حسن حظي أن جاء توزيعي في مادة اللغة العربية ضمن المجموعة التي يقوم الدكتور أحمد مرسي بالتدريس لها، كنا وقتها عندما نلتحق بكلية الآداب ندرس دراسة عامة في السنة الأولى ثم نتخصص في السنة الثانية، وكان من ضمن مقررات السنة الأولى مقرر الأدب العربي، وكان يقوم بالتدريس لنا في المحاضرات العامة أربعة من كبار الأساتذة، كل واحد منهم يُدّرس موضوعًا مختلفًا، موضوعًا في الرواية العربية مع الدكتورة سهير القلماوي، وموضوعًا في الغزل العفيف مع الدكتور يوسف خليف، وموضوعًا في الأدب الشعبي مع الدكتور عبد الحميد يونس، وموضوعًا بعنوان الطبيعة والشاعر العربي مع الدكتور حسين نصار، أما التطبيقات فكان يتولى تدريسها مجموعة من المدرسين، ويختار كل واحد منهم موضوعًا مختلفًا لندرسه معه، وكنت ضمن طلاب المجموعة السابعة التي تدرس مع الدكتور أحمد مرسي، وقد اختار قصيدة البحتري عن الربيع موضوعًا للدراسة، واللافت هنا أنه لم يختر موضوعًا في الأدب الشعبي، بل موضوعًا يرتبط بمحاضرات الدكتور حسين نصار عن الطبيعة والشاعر العربي، لذلك لم أعرف إلا بعدها بسنوات أن تخصصه الدقيق كان في الأدب الشعبي، كانت محاضراته من أكثر المحاضرات إمتاعًا بالنسبة لي، ورغم أن كثير من طلاب المجموعة انتقلوا إلى مجموعات أخرى، ربما هربًا من جدية الدكتور أحمد مرسي والتزامه الصارم في المحاضرات، وربما لأن موعد المحاضرة كان من الخامسة إلى الثامنة مساءً، ورغم أني كنت أتردد كثيرًا على المجموعة التي كان يُدّرس لها الدكتور عبد المنعم تليمة الذي اختار رواية بداية ونهاية لنجيب محفوظ لتدريسها، لكني كنت من المجموعة التي واظبت حتى نهاية العام الدراسي مع الدكتور أحمد مرسي، وقد تعلمت كثيرًا من محاضراته.


 إذًا فقد عرفت أحمد مرسي مسئولًا عن النشاط الطلابي ومعلمًا منذ خريف عام 1972، أما هو فلم يعرفني إلا في مطلع عام 1984، بعد أن أصبحت معيدًا في الكلية بعدة أشهر، فقبل ذلك كنت مجرد واحدًا من بين مئات الطلاب الذين يتعامل معهم دون أن يعرفهم كلهم عن قرب، ربما أكون قد قابلته مرات قليلة في منزل الدكتور عبد المحسن طه بدر الذي كنت أتردد عليه باستمرار بعد تخرجي من الكلية، لكن من المؤكد أنه لم ينتبه إليّ.

 لقد بدأت العلاقة الحقيقة بيننا أثناء تجدد الحراك الطلابي الذي واكبه حركة واسعة بين أعضاء هيئة التدريس في الجامعات المصرية للمطالبة بتعديل قانون الجامعات ولائحته التنفيذية، في العام الجامعي 1983 / 1984، ووصل الحراك ذروته في مطلع عام 1984، نجح الحراك الطلابي في تغيير اللائحة التي كان الرئيس السادات قد وضعها لتقييد النشاط الطلابي في أواخر السبعينيات، ونجح في إعادة اتحادات الطلاب التي كانت قد ألغيت، كما نجحت حركة أعضاء هيئة التدريس في انتزاع زيادة كبيرة في مرتبات أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة، ووعد بقانون جديد لتنظيم الجامعات، وكنت ناشطًا في هذه الحركة، وأصبحت عضوًا في اللجان التي شكلها مجلس الكلية لوضع مشروع قانون جديد لتنظيم الجامعات، ثم وضع لائحة جديدة للدراسات العليا بالكلية، كممثل للمعيدين، وجاء ذلك بترشيح من أساتذتي الدكتور عبد المحسن طه بدر والدكتور مصطفى سويف، في سياق هذا الحراك تعرف عليّ الدكتور أحمد مرسي عندما اقترح عميد الكلية وقتها الدكتور محمد الجوهري أن يشكل المعيدين أسرة لهم، وكلف الدكتور أحمد مرسي بالإشراف على تأسيس الأسرة، على مدى عدة أشهر من الاجتماعات واللقاءات توثقت علاقتي به، حقًا لم ير مشروع أسرة المعيدين النور، لكني خرجت منه بصداقة مع الدكتور أحمد مرسي استمرت قرابة أربعين سنة.


 في عام 1999 عندما انتدبت للعمل في المجلس الأعلى للثقافة مشرفًا على اللجان الثقافية بدأت علاقة جديدة مع الدكتور أحمد مرسي، عرفت فيه شخصية حارس التراث الشعبي الحريص على الحفاظ عليه وعلى توثيقه وإتاحته، وذلك من خلال عضويته في لجنة الفنون الشعبية لسنوات، ثم توليه لمنصب مقرر اللجنة، وفي الحالتين كان يقدم النموذج في الحرص على تراثنا الشعبي والعمل من أجل إلقاء الضوء على جوانبه المتعددة والتعريف به، وعندما أصبح مرشحًا ليكون مقررًا للجنة كان أول ما طالب به تغيير اسم اللجنة من لجنة الفنون الشعبية إلى لجنة الفنون الشعبية والتراث اللامادي، ولم يكن هذا مجرد تغيير شكلي في اسم اللجنة، بل تحول في مسار عملها، فانتقل بها إلى آفاق أرحب في اهتماماتها، وكانت اللجنة في فترته من أنشط لجان المجلس الأعلى للثقافة.


 ومما يحسب للدكتور أحمد مرسي في مجال الاهتمام بالفنون الشعبية والتراث اللامادي سعيه الدؤوب لتنظيم ملتقى القاهرة للتراث الثقافي غير المادي، ليصبح واحدًا من الأنشطة الدورية للمجلس الأعلى للثقافة إلى جانب ملتقى الرواية العربية وملتقى الشعر، وقد بدأ الملتقى باسم ملتقى الفنون الشعبية ثم حمل اسم ملتقى المأثورات الشعبية، واستقر أخيرًا باسم ملتقى القاهرة للتراث الثقافي غير المادي، الاسم الأثير لدى أحمد مرسي، وقد عقد الملتقى دورته السابعة هذا العام، وحملت الدورة اسم الدكتور أحمد مرسي الذي رحل قبل شهور قليلة، وفي هذا بعض الاعتراف بفضل الرجل.


 لقد كان أحمد مرسي في الدورات التي عملت فيها معه في هذا الملتقى يحرص على متابعة كل كبيرة وصغيرة طوال مراحل الإعداد وحتى انتهاء أعمال المؤتمر والاطمئنان إلى صدور أبحاثه في كتاب، فلا يضيع الجهد هباءً كما يحدث في كثير من المؤتمرات العلمية والثقافية.


 لم يقتصر اهتمام الدكتور أحمد مرسي في المجلس الأعلى للثقافة على لجنة الفنون الشعبية والتراث اللامادي فقط، بل شارك في عدد كبير من أنشطة المجلس، سواء في فترة أمانة صديقه وزميله الدكتور جابر عصفور للمجلس أو في فترات من تولوا بعده، وكان مبادرًا دومًا لتقديم كل ما يخدم الثقافة المصرية من خلال مساهمته في أنشطة المجلس الذي أصبح عضوًا في هيئته في السنوات الأخيرة، وأتذكر هنا مساهمته في التمهيد لتوقيع برتوكول تعاون بين المجلس الأعلى للثقافة والمركز الثقافي الإسباني لإنشاء جائزة للترجمة بين العربية والإسبانية، والتي كانت تشكل دعمًا مهمًا لحركة الترجمة.

 غاب الجسد وتبقى الذكرى حية بما قدمه أحمد مرسي من عطاء متواصل منذ ستينيات القرن الماضي للثقافة، ولمجال التراث الثقافي اللامادي على وجه الخصوص.

 مقالي في عدد يولية 2023 من مجلة الفنون الشعبية

 

 

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...