الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

في وداع حسين نصار
عماد أبو غازي


 اليوم غاب واحد من جيل الأساتذة العظام، غاب عنا اليوم علم من أعلام دراسات اللغة العربية وآدابها؛ الأستاذ الدكتور حسين نصار؛ بعد أن ترك لنا تراثًا علميًا تفخر به الثقافة المصرية.
 عرفت الرجل للمرة الأولى عندما التحقت طالبًا بكلية الآداب في عام 1972، كانت مادة اللغة العربية لطلاب السنة الأولى ـ التي كانت الدراسة فيها عامة دون تخصص ـ يقوم بتدريسها أربعة من كبار الأساتذة في قسم اللغة العربية: الدكتورة سهير القلماوي والدكتور عبد الحميد يونس والدكتور يوسف خليف والدكتور حسين نصار، كل منهم يُدرّس لنا موضوعًا من موضوعات الأدب العربي، وقد اختار حسين نصار موضوعًا عن الشاعر العربي والطبيعة، كان الرجل صاحب أداء هادئ ورصين، تعرفنا من خلال محاضرته على جوانب جديدة في الشعر العربي القديم، كنا ننتظر محاضراته يوم الاثنين من كل أسبوع متشوقين للاستماع إليه، وعلى تناول مختلف للشعر عما اعتدناه في مراحل التعليم العام؛ من خلال محاضراته ومحاضرات الأساتذة الكبار الثلاثة الأخرين تكونت لدينا صورة جديدة عن دراسات اللغة العربية وآدابها، دفعت البعض منا إلى الالتحاق بقسم اللغة العربية وآدابها.
 عندما التحقت بقسم التاريخ لم أكن أتصور أن علاقتي به ستتجدد ثانية، لكني اكتشفت أثناء دراستي في السنة التمهيدية للماجستير بشعبة التاريخ الإسلامي أن للدكتور حسين نصار كتابًا صغيرًا عن الثورات الشعبية في مصر الإسلامية، كان الكتاب على صغر حجمه كبير القيمة فيما يحتويه من معرفة تاريخية، أتت من عالم كبير لم يقتصر علمه على تخصصه الدقيق في اللغة والأدب بل امتد إلى مجال الدراسات التاريخية، يبرز الكتاب الذي ألقى فيه حسين نصار أضواء على أشكال الاحتجاج فيما يعرف في تاريخ مصر بعصر الولاة امتلاك حسين نصار للمنهج التاريخي وقدرته على استخدامه بصورة تفوق بعض أقرانه من دارسي التاريخ، رصد الرجل صور الاحتجاج السلبي، والاحتجاج من خلال نصوص أدبية شعرية، ليصل إلى رصد الثورات التي توالت في مصر بين عامي 106 و217 للهجرة، والتي كان أخرها الثورات الكبرى التي شملت أرجاء مصر كلها، ومنها ثورة البشموريين، التي دفعت الخليفة المأمون إلى المجيء لمصر بنفسه للقضاء على الثورة، ونجح في النهاية في الانتصار على الثوار بعد مذبحة راح فيها آلاف من المصريين؛ كان الكتاب وقتها قد صدر في سلسلة المكتبة الثقافية، وقد أعيد نشرها بعد ذلك عدة مرات؛ لقد فتح هذا الكتاب عيني على مساحة في التاريخ المصري لم يتح لي التعرف عليها خلال دراستي بقسم التاريخ، ودفعني لاختيار موضوع بحثي في السنة التمهيدية للماجستير عن ثورات المصريين في عصر الولاة، ورغم أن البحث أجيز حينها إلا أن رغبتي في دراسة الموضوع بشكل موسع في رسالة الماجستير أدى إلى رفض التسجيل لي نهائيًا في شعبة التاريخ الإسلامي.
 بعدها بسنوات، وفي عام 1980 عندما التحقت للدراسة بدبلوم الوثائق، درست على يدي أستاذي الدكتور حسين نصار مقرر علم اللغة العام، وكنت أدرس مع طلاب ماجستير اللغة العربية، وكان عددنا قليل، آحاد من الطلاب، فكانت فرصة لتعامل عن قرب مع الدكتور حسين نصار، والتعرف عليه مباشرة والاستزادة من علمه، كان الموضوع الذي ندرسه موضوعًا تطبيقيًا في علم اللغة، الأضداد في اللغة العربية، اكتشفت خلال دراستي جوانب جديدة في اللغة العربية، وعرفت فيه جانبًا جديدًا من جوانب أستاذي، فبعد أن عرفته أستاذًا يدرس الأدب، وبعد أن قرأت له في مجال التاريخ، ها أنا أعرفه عالمًا لغويًا.
 كان حسين نصار وقتها عميدًا لكلية الآداب، وأتذكر وقوفه إلى جانبي عندما اعتقلت في العام الدراسي الثاني لي في دبلوم الوثائق، عام 1981/1982، كان من الممكن أن أحرم من استكمال الدراسة، لكن تفهمه كعميد للكلية كان سببًا في استمراري ثم تعيني بعد ذلك معيدًا بقسم المكتبات والوثائق، لقد كنت الطالب الوحيد في السنة الثانية بالدبلوم؛ فسمح لي بتعويض ما فاتني مع أساتذتي الذين تفهموا جميعا الظرف الاستثنائي، وسمح لي بدخول الامتحانات.
 في هذه الفترة أيضًا، مطلع الثمانينيات، طرح بإلحاح موضوع إلغاء مجانية التعليم الجامعي، وكانت الدولة تسعى إلى ذلك بقوة، كما امتلأت الصحف وقتها بمقالات لصحفيين وكتاب وأساتذة جامعات تنادي بإلغاء المجانية؛ وكان حسين نصار واحدًا من أبرز وأشجع من تصدوا لهذه الحملة، فكتب مقالًا أسهب فيه في الدفاع عن مجانية التعليم الجامعي وفند حجج دعاة إلغاء المجانية، وفضح لا أخلاقية الدعوة من ناحية ومخلفتها للمصلحة العامة من ناحية ثانية، وطرح الحلول العملية لتطوير التعليم الجامعي دون المساس بالمجانية.
 مع مرور السنوات تعرفت عليه أكثر وأكثر خلال عملي بكلية الآداب، ثم بالمجلس الأعلى للثقافة، حيث كان حسين نصار مشاركًا دائمًا في أنشطة المجلس وعضوًا بلجانه، كذلك من خلال مركز تحقيق التراث بدار الكتب والوثائق القومية الذي أشرف عليه لسنوات، وكان هذا المجال العلمي الرابع الذي عرفت فيه حسين نصار، اسمًا من الأسماء اللامعة في تحقيق التراث.
 أخر الذكريات في الصيف الماضي عندما شد الرحال إلى الخارج لزيارة أبنائه اتصل بعميد كلية الآداب ليستأذنه في السفر حتى لا يترك الكلية دون إخطار مسبق؛ لكنه اليوم غاب عنا دون أن يستأذن في الغياب.

الأربعاء، 18 أكتوبر 2017

مقال قديم

مقال قديم
المقال ده نشرته في الدستور في أبريل 2008، مش عارف ليه بانشره تاني؟
مخربشات
قانون جديد يستحق الخرق!
عماد أبو غازي
 في 31 مارس الماضي كللت جهود لجنة التعليم بمجلس الشعب بإصدار قانون جديد استغرق إعداده شهورًا، القانون يحمل رقم 112 لسنة 2008، إنه قانون ينبغي أن يعرفه كل مصري فكلنا نقع تحت طائلته، وكلنا عرضه للعقاب بمقتضاه، إنه قانون بتعديل بعض أحكام القانون رقم 14 لسنة 1982 بإصدار قانون إعادة تنظيم مجمع اللغة العربية، لكن ما علاقة تنظيم مؤسسة علمية عريقة كمجمع اللغة العربية بعقاب المواطنين؟
 التعديل القانوني ببساطة يضيف إلى وسائل مجمع اللغة العربية لتحقيق أغراضه، إلزام دور التعليم والجهات المشرفة على الخدمات الثقافية والوزارات والهيئات العامة ووحدات الإدارة المحلية وغيرها من الجهات الخاضعة لإشراف الجهات المشار إليها بتنفيذ ما يصدره المجمع من قرارات لخدمة سلامة اللغة العربية، وتيسير تعميمها وانتشارها، وتطوير وسائل تعليمها وتعلمها، وضبط نطقها الصحيح، وتوحيد ما فيها من مصطلحات، وإحلالها محل التسميات الأجنبية الشائعة في المجتمع.
 أي أن القانون ينطبق على كل العاملين في الدولة بأجهزتها المختلفة، فبعد أن بدأ التعديل بالتخصيص متحدثا عن "التعليم والثقافة" عاد ليعمم الإلزام على الوزارات والهيئات، وكي لا يفلت أحد من طائلة هذا القانون أكد المشرع على خضوع وحدات الإدارة المحلية له.
 ويستطرد التعديل مؤكدًا على أن هذا الالتزام يرقى إلى مستوى الواجبات العامة، حيث ينص بشكل واضح وقاطع على ما يلي: "ويعتبر هذا الالتزام أحد الواجبات العامة الملقاة على العاملين كل في حدود اختصاصاتهم"! مكتوبة كده في القانون، والأقرب للحس والذوق أن نقول كل في حدود اختصاصه، ما علينا!
 لكن ماذا يحدث لو تجاسر واحد من الغلابة العاملين على عدم الالتزام بما يصدره مجمع اللغة العربية الموقر؟ ماذا يقول التعديل في ذلك؟
 يقول المشرع في القانون: "يترتب على مخالفة هذا الالتزام انعقاد المسئولية التأديبية للمخالف". وهذا النص في الحقيقة يكشف عن رحمة مجلس الشعب بنا فلله الحمد لم يعتبر المجلس عدم الالتزام جناية أو جنحة بل اكتفى باعتباره مخالفة، ولم يشرع المجلس عقوبة الإعدام أو السجن المشدد أو الحبس على من لا يلتزم بما أقره المجمع، بل اكتفى بالنص على تأديبنا، والعقوبات التأديبية مقدور عليها تبدأ من التنبيه وتمتد إلى الخصم من المرتب، وقد تصل إلى الرفت أو العزل من الوظيفة إذا إحيل الموضوع إلى النيابة الإدارية ومنها إلى المحكمة التأديبية، وطبعًا هذا لن يحدث إلا للموظف معتاد الإجرام الذي يصر على نصب المجرور أو رفع المنصوب، الذي يخلط بين الفاعل والمفعول، أو الذي يرتكب جريمة تعريف المضاف بألف لام التعريف وهي جريمة شائعة بين المصريين، كذلك قد يجد أيًا منا نفسه ماثلًا أمام جهات التحقيق إذا أصر على جريمة استخدام "التسميات الأجنبية الشائعة في المجتمع"، فلو دخلت إلى "لا مؤخذة" كافيتريا وطلبت ساندويتش جبنة فأنت آثم مؤثم لأنك دخلت كافتيريا ولم تدخل المطعم، وطلبت ساندوتش ولم تطلب "شاطر ومشطور وبينهما طازج"! ولو شاهدت التلفزيون أو السينما أنت مخالف لأنك لم تشاهد المرناة أو الخيالة!
 لكن كيف لنا نحن الموظفين والمدرسين والعاملين في الوحدات المحلية أن نعرف ما يصدره المجمع من قرارات لخدمة سلامة اللغة العربية حتى نلتزم بها؟
 لم يفت المشرع ذلك، فقد نص التعديل الجديد للقانون على أن "يصدر قرار من الوزير المختص ـ وهو وزير التعليم العالي الذي يتبعه المجمع ـ ينشر بالوقائع المصرية" ويتضمن هذا القرار ما يصدره المجمع من قرارات، وطبعًا هدف النشر في الوقائع المصرية أن يعرف الكافة تلك القرارات! إذًا علينا جميعا أن نشتري الوقائع المصرية أو نشترك فيها حتى لا نعرض أنفسنا للعقاب التأديبي إذا فاتنا قرار صدر عن المجمع، فالجهل بالقانون لا يعفي من العقوبة، والمجمع يصدر في كل عام قرارات جديدة بمصطلحات جديدة وصيغ لغوية جديدة، وإذا لم نعرف بها ولم نستخدمها نكون من الآثمين ـ حاشا لله ـ فلا تنسوا الاشتراك في الوقائع المصرية، فالأمر جد وليس هزل، والاشتراك ميسر جدًا، من خلال المكتبة التابعة لهيئة المطابع الأميرية، التي تبيع القوانين والتشريعات، ومقرها بميدان الأوبرا بوسط البلد.
 لكن كيف سيطبق القانون ومن سيعرف أنك لست "ضليع في اللغة العربية" على قول سليمان نجيب، أو إنك ارتكبت خطأ في اللغة العربية، أو وقعت في مخالفة عدم الالتزام بقرارات المجمع المبجل؟ دي كمان لها حل عند المشرع، لقد نص القانون على إنشاء مكتب بمجمع اللغة العربية لتلقي الشكاوى بشأن المخالفات التي ترد على هذا الالتزام وتحقيقها، نحن أمام محكمة تفتيش جديدة، وأصبح في مقدور أي حد متغاظ من أي حد يقدم ضده بلاغ لهذا المكتب ويوديه في داهية.
 وزيادة في الدقة والالتزام بالالتزام سيصدر المجمع تقريرًا سنويًا عن حالة اللغة العربية وما تتعرض له قراراته من مخالفات.
أيها الناس انتبهوا لقد صدر هذا القانون ونشر بالجريدة الرسمية في 31 مارس 2008 وبصم بخاتم الدولة، وأصبح ساريًا من اليوم التالي لتاريخ نشره يعني من أول إبريل!!!!
الدستور أبريل 2008


الاثنين، 11 سبتمبر 2017

من أوراق بدر الدين أبو غازي (5)

من أوراق بدر الدين أبو غازي

يوم 27 مارس 1934

(5)


النهار ده 11 سبتمبر 2017 مرت 34 سنة على رحيل أبويا بدر الدين أبو غازي، وأنا بأرتب في أوراقه لقيت مفكرة صغيرة، مفكرة الكشاف لسنة 1934، كان سن أبويا وقتها 14 سنة، وكان تلميذ في مدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية في شارع نوبار في السيدة زينب، وساكن في المنيل في نفس البيت اللي فضلت فيه جدتي وعماتي لغاية رحيل أخر واحدة فيهم سنة 2005.


 وفي البيت ده لقيت المفكرة.



 سنة 1934 كانت سنة فاصلة في حياة أبويا، فاصلة بكل معنى الكلمة، في السنة دي وتحديدا يوم 27 مارس رحل محمود مختار خال أبويا، واللي تولى أمر العيلة من ساعة وفاة جدي محمود أبو غازي سنة 1926، بوفاة مختار أصبحت حياة العيلة صعبة، جدتي وأختها اللي هما أخوات مختار وأمهم ومعاهم أربع أطفال أكبرهم أبويا اللي كان عمره 14 سنة، أسرة فقدت عائلها فجأة في زمن ما كانش يعرف نظام ثابت للضمان الاجتماعي، وفجأة أصبح الصبي بدر الدين أبو غازي مسؤول معنويا عن العيلة دي، كمان بقى عنده شعور بالمسؤولية ناحية تراث خاله، وبدأ يجمع كل اللي بيتكتب عنه في الجرايد والمجلات، في الأول سلوى لأمه وخالته وجدته، وبعدين لتحقيق فكرة بدأت تتبلور في ذهنه في السن المبكر ده، إنه يكتب كتاب عن خاله محمود مختار، ويتعرف على أصدقاء مختار.


أبويا وأمي مع محمود سعيد بعد أكتر من 20 سنة من وفاة مختار
ومن هنا بدأت رحلة كتابه الأول اللي صدر بعدها بخمستاشر سنة: مختار حياته وفنه، ومن هنا برضه كان ميلاد مشروع الناقد الفني بدر الدين أبو غازي.
 أرجع للمفكرة تاني اللي عمرها 80 سنة:
 لما قلبت فيها لقيت بدر كاتب في يوم الاثنين 26 مارس:
 "أول يوم العيد. يوم قضيته سعيدًا من أوله إلى آخره."
 وفي يوم الثلاثاء 27 مارس كتب:
 "آه آه يوم أوله سرور وآخره حزن وشؤم أبدي إذ تلقينا حوالي الساعة الرابعة والنصف من المستشفى الفرنساوي أن المثال مختار عاوزنا فذهبنا وإذا بروحه البريئة آخذه في فراق جسده الطاهر. واستسلم الروح في الساعة 7 إلا ربع".
  وفي يوم الأربعاء 28 مارس كتب:
 "تشييع جنازة النابغة مختار ـ ذهبنا صباحا إلى المستشفى ـ خرجنا الساعة 4 وربع تقريبا مع النعش أنا وخالي وبابا عوض بك [وصلنا المحطة الساعة 4,5] [سارت الجنازة الساعة 4,45]. 


 وفي الصفحات الأولى من المفكرة كتب نص مفصل أكتر في أربع صفحات ونص، قال فيه:
 "آه يا لها من ذكرة تعيسة. يا له من شقاء أبدي. يا له من حزن دائم بعد ذلك. كنت جالسا أنا ثاني يوم العيد حوالي الساعة الرابعة والنصف. دق تليفون منزل عوض بك وكنت هناك. إذ كنت ذاهبا إلى السينما مع عبد القادر، فأجابته جليلة هانم، وإذ به عيد الخادم، خادم المثال مختار يسأل عن عوض بك، وكان في المحلة، قائلا أن المثال يريده فسألته هل نذهب نحن عوضا عنه، فتكلم ثانيا وقال دعوهم يحضروا، فذهبنا، وإذا بروحه البريئة الطاهرة آخذه في الصعود ـ فذهبنا وإذا بروح الفن آخذه في الصعود ـ ثم أسلم الروح في الساعة السابعة إلا ربع تقريبا عندما ضربت المدافع إيذانا بحلول ميعاد صلاة المغرب، وذلك في يوم الثلاثاء 27 مارس سنة 1934 الموافق 12 ذو الحجة سنة 1353 الموافق ثاني يوم العيد.
مصر بنت النيل تبكيك    وباريس أم النور ترثيك


 ذهبنا صباح 28 مارس إلى المستشفى الفرنسي (أنا ـ طنط ـ أنه ـ ستي ـ طنط ج) وركبنا ثورنيكروفت إلى القصر العيني ـ ركبنا عربة الأسطى محمد إلى عمارة مكاوي ـ ناديت أبلة روحية وركبنا معا في العربة قاصدين المستشفى ـ اشترينا الجهاد والأهرام ـ وصلنا المستشفى فلم نجد أحدا، ودخلنا الحجرة وقرأنا الفاتحة وبكينا ـ حضر عيد الخادم الأمين للمثال العظيم ـ حضر خالي وأبلة سرية بعد عمل التلغرافات ـ إلتف الجميع حول جسد مختار العظيم باكين سائلين الله أن يرحمه ـ حضر حوالي الساعة العاشرة صباحا الأساتذة محمد فؤاد حمدي بك وشقيقه مصطفى حمدي بك ومحمود حمدي بك ـ محمود سعيد بك ـ المسيو جان نيقولا بيدس المهندس المعماري وقد أخذ الأخيران عناوين بعض أصدقاء المثال لإحضارهم.

 وفكروا في فكره وهي أخذ masque لوجه المثال مختار، وانصرف الجميع، بعد نصف ساعة حضر المسيو شارل دونيه مدير المستشفى الفرنسي ومعه رئيسة الراهبات فدخل في الحجرة ورفع الملاءة المغطى بها وجه المثال العظيم وأحدق النظر في وجه صديقه العظيم ثم انصرف والدموع تحوم في عينيه ـ حضر عوض بك من المحطة ـ حضر الشيخ الفاضل الأستاذ مصطفى عبد الرازق ومعه شاب وجيه، فسأل عن ميعاد قيام الجنازة وانصرف وهو بوده الدخول لوداع مختار وداعا أبديا لكنه لم يقل ـ حضر أحد أصدقاء مختار الأجانب سائلا عن ميعاد قيام الجنازة وانصرف.


 حضر حوالي الساعة الواحدة الأساتذة أنطون حجار ـ محمود سعيد بك ـ المسيو جان نيقولا بيدس لأخذ masque وقد بكوا بكاء مرا حينما رأوا مختار راقدا ممد الأيدي لا يتحرك ولا ينبض، فأخذوا يبكون، وابتدأ الأستاذ أنطون في عمله وقد حضر الدكتورين إبراهيم العيسوي ومحمد حلمي والمهندس (         ) ودخلوا في الحجرة الراقد فيها مختار ومعهم عوض بك وخالي ماشتريا جبسا، ونفدت الزهرة، فأخذ خالي زهرة من المستشفى، ولم يقوى الأستاذ سعيد على رؤية مختار وهم يضعون الجبس على وجهه وهو راقد ممد فخرج وجلس في حديقة المستشفى، وقرب انتهاء العمل خرج المسيو جان وجلس مع سعيد بك ـ ولما انتهى الأستاذ حجار من عمله قبل مختار في وجهه وقال: "مع السلامة يا سي مختار" وقد عزى الحاضرين وأخذ معه نموذج اليد والوجه الذي عملهما وانصرف الجميع.


 وأقيمت عملية الغسل ثم كفن، ولم يقو عوض بك على رؤية ذلك المنظر الذي حضرته ستي وخالي فخرج وقد أجهش بالبكاء
والدة مختار
 ـ ثم وضع المثال في تلك الأثواب كالعادة وغطي عليه. وفي تلك اللحظة كان وداعا مؤثرا من أسرته التي لن تراه بعد ذلك الحين إلا في جنة الخلد والرضوان إن شاء الله، ثم وضع في النعش وغطي عليه، وفي تلك اللحظة احتجب مختار عن العالم واحتجب العالم عن مختار ـ ثم انصرفت الوالدة والسيدات جميعا ليروا الجنازة وركبنا...



 انتهى

بدر الدين أبو غازي في زيارة لمقبرة مختار

شقيقتا مختار في زيارة لمقبرته بعد نقل رفاته للمتحف

الاثنين، 21 أغسطس 2017

تقرير الأستاذة ثريا

تقرير الأستاذة ثريا

عماد أبو غازي

ده تقرير عملته السيدة ثريا حبيب مدرسة ثانوي، عن تجربتها في مدرسة الجيزة الثانوية للبنات السنة الدراسية 1954 / 1955 تجربتها في تدريس منهج البيئات لسنة أولى ثانوي، يا ريت تشوف أزاي مدرسة حديثة التخرج حاصلة على ليسانس آداب قسم جغرافيا سنة 1946 ودبلوم آثار سنة 1949 بتقدم تجربة رائدة في التدريس وبتعمل تقرير بتقيم فيه تجربتها.
أنا لقيت التقرير وأنا بأرتب أوراق العيلة، لقيته في أوراق عمتي الدكتورة ضياء أبو غازي اللي كانت زميلة الأستاذة ثريا نفس دفعتها بس من قسم تاريخ ودخلوا معهد الآثار مع بعض وفضلوا متواصلين لسنين رغم إن كل واحدة اشتغلت في مجال مختلف، الأستاذة ثريا اشتغلت مدرسة في مدارس وزارة المعارف وعمتي اشتغلت في مصلحة الآثار في المتحف المصري، وواضح أن الأستاذة ثريا أهدت نسخة من التقرير لصديقته، وتاريخ الإهداء بمكتوب خط إيد ضياء أبو غازي في صفحة العنوان على الشمال فوق 13/7/1955.
الطريف إن ماري بنت الأستاذة ثريا كانت زميلتي في مدرسة المعادي القومية في أولى ابتدائي بعدها بخمس سنين.
 التقرير بيبتدي بصفحة عنوانها "الهدف وتقسيم العمل" أول نقطة فيها:


 بدأ العام الدراسي بدون كتاب مدرسي.
بدا الميل شديدًا لدى التلميذات نحو التعرف على الحياة البشرية في جهات بعيدة عنهن، تطورت الفكرة من مجرد التحصيل إلى رغبة في البحث والاستطلاع"
الأستاذة ثريا كانت بتدرس لست فصول قسمت البيئات البشرية المختلفة على الفصول الستة كل فصل بيئة.


الصفحة التانية بتتكلم عن مصادر البحث؛ بتقول إيه الأستاذة ثريا:
"أولًا: بدأت تلميذات كل فصل يشعرن بالرغبة الشديدة في التعرف على حياة سكان بيئتهن، ويأخذن على عاتقهن جمع المعلومات والوصول إلى الحقائق بأنفسهن.
ثانيًا: وأستتبع ذلك مناقشة الوسائل المختلفة للوصول إلى الهدف، وحددت الوسائل فيما يلي:
أ – مراجع عربية وهي قليلة جدًا معظمها قليل الفائدة.
ب _ مراجع إنجليزية بسيطة قامت المدرسة بشرائها.
ج _ أفلام سينمائية.
د _ زيارة المفوضيات والسفارات والحصول منها على معلومات ومطبوعات.
هـ _ زيارة مكاتب السياحة وشركات الطيران والحصول منها على صور ومطبوعات.
و _ صور كبيرة تمثل حياة الشعوب في البيئات المختلفة قامت المدرسة بشرائها.
ز _ صور صغيرة لمختلف أنواع الحيوانات والطيور.
ح _ اتصالات شخصية بأفراد زاروا بالفعل هذه البيئات."
بعد كده بتتكلم عن طرق التنفيذ وتقسيم العمل بين التلميذات في كل فصل، وبتحكي عن تفاعل التلميذات مع التجربة ومع بعض.




وبعدين بتحدد العقبات بوضوح.




وعوامل النجاح.




وإيه أبرز ما حققته التجربة.



وفي الأخر بتقدم مجموعة اقتراحات، بعضها موجه للمدارس وبعضها للدولة بشكل عام زي تشجيع التأليف والترجمة في ميدان الجغرافية الاجتماعية.



 يا ترى لو اهتمينا بالنوع ده من التجارب كان هيبقى حال التعليم ايه؟
 ولو حاولنا النهار ده بإمكانيات عصر ثورة المعلومات والاتصالات نبتكر تجارب جديدة في أساليب التعلم ممكن نتطور؟؟؟

الأحد، 13 أغسطس 2017

حكاية الزنزانة رقم 9

حكاية الزنزانة رقم 9

رسالة من وراء الزمن
عماد أبو غازي

من عشر سنوات وشهور كنت أكتب في جريدة الدستور في إصدارها الثاني باب أسبوعي بعنوان مخربشات، وكان عام 2007 عام الاحتفال بمئوية النادي الأهلي فكتبت في أسبوعين ورا بعض عن تأسيس النادي الأهلي وتاريخه، وقادني الحديث عن النادي الأهلي إلى حديث عن نادي المدارس العليا، ومن هنا كتبت سلسلة مقالات عن بدايات الحركة الطلابية المصرية من أول القرن العشرين، من بين المقالات في السلسلة دي كان فيه مقال عن إضراب مدرسة الفنون الجميلة واللي كان بيقوده الطالب محمود مختار، وفي ختام المقال أشرت لمشاركة تانية سياسية مبكرة لمختار، وقلت:
 "هذا ولم تكن مشاركة مختار وقيادته لحركة طلبة مدرسة الفنون الجميلة أول إسهام له في النضال الطلابي، فقبلها بشهور شارك مختار مع زملاء له في مظاهرات عامة مطالبة بالدستور ومنددة بالقيود على حرية الصحافة، وقد صادف صديقي وجاري في السكن وفي صفحة الرأي بالدستور محمد حاكم نصًا في مذكرات سعد أرشدني إليه يتحدث فيه عن تلك الواقعة، يقول سعد الذي كان ناظرًا للمعارف وقتها:
 "في 31 مارس 1909 تظاهر كثير من الناس والطلبة، وطافوا الشوارع بعد أن خطبوا خطبًا مهيجة في حديقة الجزيرة، وألقوا أشعارًا غاية في الحماسة، وتقرر محاكمة الخطباء على تهيجيهم، وطعنهم في الخديوي ووزارته.
 وقبض على تلميذ من الخديوية يدعى عباس حلمي، وآخر من يدعي مختار، من مدرسة الفنون الجميلة، وحكم على كل منهما ـ في اليوم التالي ـ بالحبس 20 يومًا، نظير تعديهما على رجال البوليس بالضرب، وقد رفت الأول لذلك."


 ده رابط المقال على مدونتي التانية مخربشات

بورتريه للدكتور حافظ عفيفي باشا

بورتريه للدكتور حافظ عفيفي باشا

عماد أبو غازي


 اليوم أثناء ترتيب لأوراق العيلة لقيت غلاف أشبه بالمظروف، يبدو إنه كان في الأصل غلاف كتالوج لمكتبة شاعر فرنسي عاش بين القرنين الخمستاشر والستاشر؛ مطبوع عليه بالفرنساوي:
BIBLIOTHÈQUE
JEAN PAUL BARBIER
Poètes français
Des XVe et XVIe siècles

 على ضهر الغلاف اسم أبويا وعنوانه بالفرنساوي بخط أنا بقيت عارفه كويس من كتر شغلي في أرشيف العيلة؛ خط صديقة مختار الفرنسية مارسيل دوبري، اللي توطدت صلتها بالأسرة مرة تانية من ساعة ما قابلت أبويا وأمي في زيارة لهم لفرنسا سنة 1968، وبدأت تبعت تذكارات مختار الي فضلت محتفظة بيها من يوم وفاته في 27 مارس سنة 1934، وبعد وفاة أبويا سنة 1983 استمرت تبعت لعمتي تدريجيًا كل اللي عندها لغاية وفاتهم هما الاتنين في وقت متقارب بداية القرن الجديد.



 فتحت الغلاف لقيت فيه مفاجأة صورة (بورتريه) للدكتور حافظ عفيفي باشا، اللي كان صديق مختار من أيام الدراسة في باريس، الصورة للدكتور حافظ عفيفي في شبابه، رسمها الفنان الفرنسي بول ماتييه (Paul Mathey) اللي عاش بين سنة 1844 و1929، وعلى ضهرها توثيق من أبنه Jacques Mathey الخبير بمحكمة الاستئناف في باريس.


 مع الصورة جواب من مارسيل لأبويا تاريخه 26 يونيو 1980.


 ولقيت مع الغلاف واللي فيه، كارت من مارسيل تاريخ سنة 1984، بعتاه لأبويا ما كانش وصلها خبر وفاته، وكمان جوابين لمارسيل من اتنين من أصدقاء مختار، واحد من الشيخ مصطفى عبد الرازق والتاني من عزيز باشا المصري، ودول هانشرهم مره تانية.


الخميس، 27 يوليو 2017

المؤسسات الثقافية وأزمة الحداثة في مصر

المؤسسات الثقافية وأزمة الحداثة في مصر
                                                   عماد أبو غازي
 عندما شرفني قسم علم النفس وكلية الآداب بأن أكون أول المتحدثين في المحاضرة التذكارية للأستاذ الدكتور مصطفى سويف أحسست بعبء المسئولية وبمقدار ما شرفتني به كليتي وأسرة الدكتور سويف، وأحسست بالحيرة في الوقت نفسه، فما الموضوع الذي يمكن أن أتحدث فيه في مثل هذه المناسبة؟ فأنا باحث في التاريخ والوثائق، والدكتور سويف علامة في الدراسات النفسية له مكانته العالية ليس في مصر فقط، إذًا لابد أن أبحث عن مدخل مشترك، وعن قضية تليق بجلال المناسبة وبقدر صاحبها.


 أخذتني الذاكرة بعيدًا إلى السنوات التي عرفت فيها الدكتور سويف، لقد عرفت الاسم قبل أن أعرف الرجل، كان اسم الدكتور سويف يتردد في منزلنا منذ كنت صبيًا، فقد كان أبي ضمن الفريق الذي يقوده الدكتور سويف لإنشاء أكاديمية الفنون في أواخر الستينيات من القرن الماضي، عندما كان الرجل منتدبًا من الجامعة ليشغل منصب وكيل وزارة الثقافة لشئون المعاهد الفنية، وقد وجدت مؤخرًا في أوراق أبي ملفًا يتضمن محاضر اجتماعات اللجنة التي كانت مكلفة بإنشاء الأكاديمية برئاسة الدكتور مصطفى سويف، وسوف أعمل على نشرها في بحث علمي يكشف عن جانب من جهود مصطفى سويف في بناء مؤسسات هذا الوطن، ويكشف المسافة الشاسعة بين الحلم الذي كان يراوده ووضع له الأسس القومية، والحال الذي انتهينا إليه.
 عندما التحقت بكلية الآداب طالبًا عام 1972 رأيت الرجل للمرة الأولى، لكني لم أتعامل معه عن قرب إلا في عام 1984 عندما شكل مجلس الكلية لجنة لإعداد تصور لقانون جديد لتنظيم الجامعات – لم يصدر إلى يومنا هذا – وكانت اللجنة برئاسة الدكتور مصطفى سويف، وكنت ممثلًا للمعيدين فيها، ومن ثم فقد قمت بأعمال سكرتارية اللجنة باعتباري أصغر أعضائها سنًا ودرجة، وخلال عمل اللجنة الذي تواصل لعدة أسابيع عرفت الدكتور سويف عن قرب وتعلمت منه الكثير في إدارة العمل والتنظيم والدقة، وربما تصلح أوراق هذه اللجنة التي ما زلت أحتفظ بصورة منها موضوعًا لبحث آخر يرتبط أيضًا بالأمل والمآل.
 اقتربت منه أكثر وتواصلت علاقتي به عندما انتدبت إلى المجلس الأعلى للثقافة، وكان الدكتور سويف عضوًا بالمجلس الأعلى للثقافة ومقررًا للجنة علم النفس به، التي أصر عندما تولها على فصلها عن لجنة التربية احترامًا للتخصص العلمي الدقيق، وبعد أن تركت العمل العام في نهاية 2011 وحتى قبيل غيابه عن بأسابيع قليلة، كنت ألقاه في منزله على فترات تتقارب أو تتباعد وفقًا لظروفه الصحية، ألقاه لنتحاور في الشأن العام، ولأستمع منه عن آماله فيما بقي له من عمر، وأحلامه لهذا الوطن أن يكون وطنًا يحترم قيم الحق والعدل والحرية، ويحترم الإنسان الذي كان الارتقاء بشأنه هم مصطفى سويف الأول طوال مسيرته.
 اخترت لهذه المحاضرة موضوعًا يتعلق بجانب من اهتمامات الأستاذ الدكتور مصطفى سويف؛ مؤسسات العمل الثقافي وأزمة الحداثة في مصر؛ فقد كان الرجل مشتبكًا مع مؤسساتنا الثقافية ساعيًا لإصلاحها راصدًا لجوانب القصور في عملها، كما كان في كتاباته العامة مهمومًا بقضية انتقال مصر إلى العصر الحديث ومواطن الخلل في هذا الانتقال.
 ومن هنا اخترت أن يكون موضوعي عن الحداثة المشوهة من خلال قراءة في تاريخ مؤسسات الدولة الحديثة في مصر، واخترت له عنوانًا: "المؤسسات الثقافية وأزمة الحداثة في مصر".
 لقد بدأ اهتمامي بإشكالية/الحداثة منذ أكثر من عشرين عامًا، وفي ظني أن الإحباطات المتوالية والانتكاسات التي أصابت مشروعات التحديث ومحاولات النهضة في مصر والمنطقة العربية ما زالت تلقى اهتمامًا من المشتغلين بدراسة تاريخ المنطقة، ومن المعنيين بمستقبلها على حد سواء، فقضية "أزمة النهضة" هي هم مستقبلي بقدر ما هي مبحث تاريخي، والاشتباك مع الإشكالية له زوايا متعددة، رغم أن زمن الحداثة قد ولى.
تنطلق هذه المحاضرة من مسلمة وفرضية...
 المسلمة أن مجتمعنا المصري - وكذلك المجتمعات العربية - قد فشلت على مدى ما يزيد على قرنين من الزمان في إنجاز مهام الحداثة والتحديث، فشلت في مشروع نهضتها المرة تلو المرة.
 أما الفرضية فتتلخص في أن فشل تجارب الحداثة المتوالية ربما يرجع إلى عوامل داخلية أكثر مما يرجع إلى أسباب خارجية.
 لقد جئت إليكم بأفكار وفروض قابلة للإثبات أو النفي، آملًا في أن تكون مناقشاتكم وتعليقاتكم هادية لي في استكمال بحثي.
  ما هي النهضة المقصودة عند الحديث عما وقع منذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؟
  إنها التحديث أو الانتقال من حضارة الموجة الأولى (حضارة الثورة الزراعية) – إذا استعرنا تعبيرات المستقبلي الأمريكي أولفن توفلر – إلى حضارة الموجة الثانية (حضارة الثورة الصناعية) في وقت كانت فيه مقدرات تلك الثورة قد أصبحت في يد الغرب والشمال بالكامل أو كادت..
 ويستدعى السؤال الأول سؤالا ثانيا؛ هل من الضروري أن تمر كل المجتمعات الإنسانية بنفس المراحل التاريخية؟
 وهل كان حتمًا ولزامًا على مجتمعاتنا الشرقية أن تتحول إلى حضارة الموجة الثانية؟ أو بمعنى آخر هل كان علينا أن نخوض تجربة الحداثة، وأن نتحول إلى مجتمعات صناعية حديثة؟
 لقد كان الرأي السائد منذ القرن التاسع عشر أن إعادة صياغة العالم على شاكلة الغرب الأوروبي بات الطريق الوحيد إلى التقدم، إلا أن بعض مدارس نقد الاستشراق حاولت أن تجيب على هذا السؤال إجابة مغايرة، أن تجيب عليه بالنفي، وأن تبرز فكرة الطريق الخاص لتطور كل مجتمع بغض النظر عن النموذج الأوروبي أو الغربي للتطور، وظهرت مقولات ترفض فكرة التقدم المستمر للبشرية، أو على الأقل فكرة الارتباط الحتمي بين التقدم والتحديث على النمط الغربي.
 لكن استقراء أحداث التاريخ الإنساني – للأسف في تقديري – ليس في صالح هذا الاتجاه، فبقدر ما في الاتجاه الأول من سعى لفرض قوالب خارجية وافدة من الغرب الأوروبي على أرجاء العالم المختلفة، بقدر ما في الاتجاه الثاني من تأييد للتخلف في مجتمعاتنا.
 فلكل عصر "كلمة سره" والمجتمعات التي تملك كلمة سر عصر من العصور هي التي يكون لها السبق والريادة، وهى التي تسود في ذلك العصر، لقد كان لمجتمعاتنا في شرق وجنوب المتوسط السبق والريادة في حضارة الموجة الأولى – حضارة الثورة الزراعية – فمعظم إنجازات هذه الثورة قد تحققت في مصر وبلاد الرافدين وآسيا الصغرى للمرة الأولى (الزراعة – استئناس الحيوان – ابتكار الكتابة والأبجدية والأرقام - الدولة) ومن هنا انتقلت تلك المنجزات إلى أنحاء العالم المعروف حينذاك، ومن هنا أيضا كان لمجتمعاتنا السيادة على ذلك العالم لبضع آلاف من السنين، وكان نموذجنا الحضاري هو المثل الأعلى في تلك الحقبة.
 واستمر الحال على ذلك حتى بعد أن انتقلت منجزاتنا الحضارية إلى "الآخر" في الشمال والغرب.. ما تغير فقط هو التنافس والصراع الذي وصل إلى الصدام العنيف في أحيان كثيرة، لكنه صدام بين أنداد، وقد ترجح الكف هنا مرة وترجح هناك مرة أخرى، لكن الأطراف متقاربة في القوة والقدرة.
 وعندما بدأت حضارة الموجة الثانية - حضارة الثورة الصناعية – تغيرت كلمة سر العصر، وفاتنا – للأسف – الإمساك بمقدرات تلك المرحلة الجديدة.
 وعندما أفقنا على تلك الحقيقة؛ وقفنا نتساءل، في البداية كان السؤال: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟
 ثم تبدل السؤال وأصبح: وهل كان من الضروري أن نسير وفقًا لنمط التطور الأوروبي؟
القضية في تقديري ليست نمطًا أوروبيًا أم نمطًا شرقيًا، ولكنها قضية إنجاز حضاري متمثل في الثورة الصناعية وفى مجموعة من القيم والمبادئ والأفكار التي واكبت عصرها، نسميها "الحداثة" شكلت في مجملها مقدرات القوة في تلك الحقبة؛ وقد أنجز الغرب هذه الثورة ولم ننجزها نحن.
لقد حدث هذا الإنجاز في الغرب انطلاقًا من تطور ذاتي، وكانت الإمكانية الوحيدة لتحقق هذا الإنجاز في الشرق أن نمر به – نحن كذلك – انطلاقًا من تطورنا الذاتي؛ لكن هذا لم يحدث، كما لم يتحقق لنا كذلك النجاح في إنجاز هذا التطور اقتباسًا من الغرب بإرادتنا، أو بالإقحام والفرض علينا.
لماذا إذن كان نصيبنا الفشل؟
 كنت أعتقد دومًا أن السبب في الفشل يرجع إلى عوامل خارجية بالأساس، كنت أبحث عن إجابة على هذا السؤال في تأثير القوى الاستعمارية الغربية وسعيها الدائم لإفشال مشروعات نهضتنا.
 وكانت فكرتي الأساسية تدور حول أن الجذور التاريخية لأزمة "النهضة"، أو لنقل لأزمة التحديث في مصر، تعود إلى ما يقرب من ثلاثة قرون سابقة على التاريخ الذي أعتدنا أن نعتبره بداية لعصر التحديث في مصر والمشرق العربي، وقد أقمت هذا التصور استنادًا إلى رصد تحولات شهدتها مصر في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر كان من الممكن أن تشكل أساسًا اجتماعيًا لتحديث البلاد، وتتلخص مؤشرات التحول في المجتمع المصري، التي حدثت في تلك الفترة المفصلية في تاريخ العالم (أعنى أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر) في تغير في شكل الحيازة الزراعية في مصر لصالح قوى اجتماعية جديدة، وفى تحلل مقومات المجتمع الإقطاعي الشرقي الذى ساد لعدة قرون سابقة لصالح مجتمع جديد، كان الوزن النسبي للقوى المدنية فيه ينمو على حساب القوى العسكرية، كما شهدت البلاد كذلك مؤشرات ثقافية وفكرية مهمة منذ أوائل القرن الخامس عشر يغفلها كل من يبحثون عن الجذور التاريخية للتحديث في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث ظهرت أعمال متميزة في مجالات التأليف التاريخي والتحليل الاقتصادي الاجتماعي لمشكلات المجتمع؛ كانت هذه الأعمال منبئة بتطورات فكرية مهمة فى دلالاتها، خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا ما حدث من تحولات على المستوى الاجتماعي.
 إلا أن تلك التحولات والمؤشرات لم يقدر لها أن تستمر بسبب الاحتلال العثماني للمشرق العربي وشمال أفريقيا، والذى قطع الطريق عليها وأدى إلى إجهاضها، فتأجلت مشروعات تحديث المنطقة العربية لما يقرب من ثلاثة قرون، وحينذاك كانت كل محاولات النهضة أو التحديث محكومًا عليها بالفشل، لأن أوانها كان قد فات، بسبب تغير الظروف التاريخية في المنطقة، وبسبب التحولات التي حدثت في  الغرب؛ لقد كانت كل هذه المحاولات المتأخرة لإدراك ما فات مساع صادقة للنهضة لكنها "النهضة المستحيلة"، إنها النهضة التي لا يمكن أن تتحقق مهما حسنت النوايا وتوالت المساعي.
 فقد الاحتلال العثماني قطع الطريق على تطورات اجتماعية وثقافية كانت تختمر في مصر والشام، في وقت كان العالم يتشكل فيه بصورة جديدة، وعندما بدأت محاولات التحديث مرة أخرى مقترنة بمشروعات الاستقلال عن الدولة العثمانية، كان الآخر هناك في الغرب قد وصل إلى نقطة من التطور أمتلك معها القوة التي مكنته من إعاقة التطور المستقل في مناطق أخرى من العالم ومن هنا كانت النهضة حينذاك قد أصبحت "نهضة مستحيلة".
 ومن هنا كان جل تركيزي على العنصر الخارجي في المسئولية عن إعاقة عمليات النهضة أو التحديث في مجتمعنا:
 فتجربة محمد علي باشا التي بدأت في مطلع القرن التاسع عشر أجهضتها معاهدة لندن التي فرضتها الدول الأوروبية على الباشا فحجمت مشروعه وأعادته إلى حدوده.
 كذلك أنهت أزمة الدين الخارجي المحاولة الثانية للنهضة والتي بدأت في عهد سعيد باشا مرتبطة بالإطار العثماني للتحديث وتطورت بشكل واضح في عصر الخديوي إسماعيل، ووصلت ذروتها مع الثورة العرابية، وانتهت هذه المحاولة بالاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882.
 أما التجربة الثالثة التي بلغت ذروتها في المرحلة الليبرالية فقد أسهم في إجهاضها بشكل واضح مساندة سلطة الاحتلال لمساعي الملكية الاستبدادية للاعتداء على الدستور المرة بعد المرة، لتنتهي هذه المرحلة بفشل التجربة.
 كذلك انتهت التجربة الرابعة في العصر الشمولي بعدوان عسكري إسرائيلي مدعوم بشكل واضح من الولايات المتحدة في عام 1967.
 كان العنصر الخارجي واضحًا في كل التجارب، لكن سنوات من البحث جعلتني أتوجه وجهة أخرى، فربما يرجع جزء كبير من مسئولية الفشل إلى عوامل داخلية، مكنت الآخر الخارجي من تحقيق أهدافه، عوامل ترتبط بشكل أساسي بالمنظومة الثقافية في مجتمعنا؛ المؤسسات والقيم، وعندما أتحدث عن المؤسسات هنا أعني مؤسسات الثقافة والتعليم التي تتحمل المسئولية عن تشكيل الأساس الفكري والمعرفي لبناء المجتمع الحديث بدولته القومية القائمة على مبادئ المواطنة.

 السؤال هنا، ما الهدف من إنشاء هذه المؤسسات؟ وهل نجحت في تحقيق هذا الهدف؟
 افتتاحية المحاضرة التذكارية للدكتور مصطفى سويف الاثنين 17 يوليو 2017 كلية الآداب.

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...