الثلاثاء، 27 فبراير 2024

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

 

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

عماد أبو غازي

 إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به تمر هذا العام؛ ففي شهر ديسمبر يكون قد مر خمسة وثمانون عامًا على صدور كتابه المهم "مستقبل الثقافة في مصر"، وقد أثار الكتاب عند صدوره معارك فكرية واسعة النطاق، كما طرح على العقل المصري أسئلة مهمة، ورغم مرور كل هذه السنوات إلا أن أصداء هذه المعارك ما زالت تتردد إلى يومنا هذا، كما أن الأسئلة التي طرحها الكتاب ما زالت ملحة في حياتنا لم تلق إجابة بعد.



 فمن اللافت للنظر أن الكثير من القضايا التي طرحها طه حسين في كتابه ما زالت مطروحة للنقاش، وبعض المشكلات التي تعرض لها وقدم تصوراته لحلولها عالقة إلى الآن لم تجد لها حلًا، فالكتاب رغم مرور كل هذه السنوات ما زال مثيرًا للنقاش، ليس فقط باعتباره علامة من علامات تاريخ الفكر والثقافة في مصر، بل كذلك لأن القضايا التي طرحها حية إلى الآن.

 لقد استحضرنا الكتاب عند المنعطفات المهمة واللحظات الحرجة في تاريخنا، ففي عام 1992، وفي مواجهة موجة الإرهاب التي شهدتها مصر، صدرت طبعة مصورة عن الطبعة الأولى للكتاب، وفي عام 1996 صدرت طبعة ثانية من الكتاب بمناسبة اقتراب الذكرى الستين لصدور طبعته الأولى، وفي أعقاب ثورة 25 يناير صدرت عدة طبعات للكتاب، وما زالت الطبعات تتوالى.

 واليوم ونحن نتذكر طه حسين بعد خمسين عامًا من رحيله، علينا أن نتوقف عند الكلمات التي ختم بها طه حسين كتابه:

"فإن مصر التي انتصرت على الخطوب، وثبتت للأحداث وظفرت بحقها من أعظم قوة في الأرض في هدوء وأناة وثقة بالنفس وإيمان بالحق، خليقة أن تنتصر على نفسها وتظهر على ما يعترض طريقها من العقاب، وترد إلى نفسها مجدًا قديمًا عظيمًا لم تنسه ولن تنساه".

 ونتساءل: هكذا كان الحلم وكان الأمل، فترى إين نحن منهما بعد مرور خمسة وثمانين عامًا؟

  وعلينا أن نطرح على أنفسنا مجموعة من الأسئلة التي طرحها الرجل لكنها لم تجد إجابة شافية إلى الآن، لن نناقش كتاب طه حسين بل نناقش الأسئلة الجوهرية التي طرحها الرجل على معاصريه، لكنها لم تلق إجابة بعد.

أول هذه الأسئلة وأهمها: سؤال المستقبل؛ هل نملك رؤية واضحة للمستقبل؟ هل وضعنا سيناريوهات بديلة لمستقبل هذا الوطن في عالم يموج بالمتغيرات؟

 ربما يمكن أن نعتبر أن كتاب الدكتور طه حسين الذي صدر سنة 1938 "مستقبل الثقافة في مصر" من أقدم الخطط المستقبلية على المستوى القطاعي في مجتمعنا، ورغم أنه لم يكن يشغل موقع المسئولية التنفيذية في ذلك الحين إلا أنه من واقع خبراته الحياتية ورؤيته كمفكر منحاز للتقدم نجح في أن يقدم هذه الخطة المستقبلية التي سعى إلى تنفيذ بعضها عندما تولى منصب وزير المعارف العمومية في حكومة الوفد الأخيرة (12 يناير 1950-27 يناير 1952).

 فماذا عن خططنا المستقبلية منذ ثلاثينيات القرن الماضي؟ وما مدى جديتها؟ وما قدر التزامنا بها؟

السؤال الثاني: سؤال الهُوية، وأظنه سؤال مثير للاستغراب، ففي بلد يمتد تاريخه المكتوب لما يزيد عن خمسة آلاف عام ما زلنا نتساءل حول الهوية!

 وفي مستقبل الثقافة في مصر انطلق طه حسين أيضًا من الماضي ليبني تصوراته للمستقبل، مستقبل الثقافة، التي رأى فيها مدخلًا لمستقبل الوطن؛ لقد بدأ طه حسين كتابه بالبحث في الهُوية، هُوية مصر وانتمائها، ربما كانت الفصول التي تدور حول الهوية هي أكثر ما أثار الجدل والنقاش حول كتاب مستقبل الثقافة في مصر، في حين صدور الكتاب، وإلى الآن، بل حول طه حسين نفسه.

 ناقش طه حسين قضية الهوية في وقت كانت مصر قد انسلخت حديثًا انسلاخًا كاملًا من الإطار العثماني، واستكملت بناء هويتها القومية المصرية بعد ثورة 1919 التي توجت نضالًا ممتدًا من أواخر القرن الثامن عشر، لكن كانت هناك بقايا لمقاومة فكرة القومية المصرية، وكانت هناك تيارات ترفض الجديد وتحاول إعادة مصر إلى زمن سابق، وإذا كان البحث عن الهُوية مفهومًا في تلك الفترة التي كانت مصر تمر فيها بمنعطفٍ تاريخيٍ، فالغريب أن يستمر البحث عن هويتنا بعد مرور كل هذه السنوات، وأن تصبح قضية الهوية محورًا للصراع السياسي والاستقطاب المجتمعي.

ثالث الأسئلة يدور حول الموقف من التراث، هل تراثنا قابل للنقد؟ هل نجحنا أن نعيش عصرنا فكرًا وممارسةً، أم أننا مازلنا رهائن للماضي؟

  لقد كان طه حسين مفكرًا مهمومًا بالمستقبل، مستقبل وطنه، ومستقبل الأجيال الجديدة، ومستقبل الفكر والعلم والثقافة، وهو مثل الكثير من المستقبليين ينطلق إلى المستقبل من دراسة الماضي، وكان ينظر إلى الماضي من زاويتين: الزاوية الأولى الماضي/التاريخ/التراث كحجر عثرة في طريق التقدم بسبب أسلوب تعاملنا معه، وتحويله إلى مقدس غير قابل للنقد والنقض، والزاوية الثانية الماضي/التاريخ/التراث كنقطة انطلاق نحو المستقبل نتعامل معه برؤية نقدية ونأخذ منه بقدر احتياجنا ونبني عليه.

 للأسف ما زلنا نعيش في مجتمع ماضوي تحكم تفكيرنا أفكار الموتى من قبورهم، مجتمع يقدس الماضي ويتركه يتحكم في حاضرنا ومستقبلنا، مجتمعنا يتعارك حول أي ماضٍ ينبغي أن نستلهمه ونجعل منه مرجعية لحياتنا المعاصرة ولمستقبلنا، بدلًا من أن تدور معركتنا حول مستقبل جديد، ما زلنا عالقين في فخ الماضي.

 كيف نواجه العلم الكاذب؟

سؤال رابع طرحه طه حسين وما زلنا في حاجة إلى الإجابة عليه، كان طه حسين يرى في العلم الكاذب شرًا يهدد الأجيال الصاعدة، فقال: "إذا كان هناك شر يجب أن نحمي منه أجيال الشباب فهو هذا العلم الكاذب، الذي يكتفي بظواهر الأشياء ولا يتعمق حقائقها، فلننظر كيف نرد عن أجيال الشباب هذا الشر، وليس إلى ذلك سبيل، إلا أن نقيم ثقافة الشباب على أساس متين."

 هل نجحنا بعد أكثر من ثمانين عامًا أن نتمكن أو نُمكن الأجيال الجديدة من أدوات مواجهة العلم الكاذب؟ أظن أننا في موقف أسوأ مما كان عليه الحال عندما كتب طه حسين عبارته تلك، فقد أتاحت ثورتا المعلومات والاتصالات المجال واسعًا أمام نشر العلم الكاذب من خلال أدوات العصر الجديد.

هل نحن في مجتمع يحترم قيمة العمل؟

  في عام 1938 كان أحد هموم طه حسين الدعوة لاحترام "العمل الصادق النافع"، كان ينادي بضرورة   "أن نأخذ أمورنا بالحزم والجد، وأن نعرض عن الألفاظ التي لا تغني، إلى الأعمال التي تغني، وأن نبدأ في إقامة حياتنا الجديدة من العمل الصادق النافع على أساس متين." فهل يحترم مجتمعنا بعد مرور هذه السنوات قيمة العمل؟

 أسئلة التعليم...

 تشكل أسئلة التعليم المحور الأساسي عند طه حسين؛ واللافت للنظر أننا بعد مرور ثمانية عقود على مشروع طه حسين أصبحنا في وضع متراجع في التعليم عما كان عليه الحال زمن صدور الكتاب، فالقسم الأكبر والأهم من كتابه يناقش فيه قضايا التعليم في مصر، وما يعانيه من مشكلات، وما يقترحه من حلول لها، واعتبر أن التعليم يلعب الدور الأكبر في التكوين الفكري والمعرفي للإنسان.

 ويدور فكر طه حسين عن التعليم حول ثلاثة محاور رئيسية، أولها التعليم والهوية القومية، وثانيها دور التعليم في الحفاظ على الديمقراطية والاستقلال الوطني، وثالثها التعليم والعدالة الاجتماعية، ومن خلال هذه الركائز الثلاثة في فكر الرجل نستطيع أن نفهم كل أفكاره حول المستقبل المرجو للتعليم.

 فهل نملك اليوم تعليمًا يسهم في تكوين وعي الأجيال بانتمائهم الوطني؟

 وهل نجحت منظومة التعليم في بناء الديمقراطية وحمايتها؟ وهل لدينا اليوم عدالة اجتماعية في نظامنا التعليمي؟

 هل نجحنا في دمج منظومة التعليم الديني داخل منظومة تعليمية وطنية؟

 وهل نملك جامعات تتمتع بالاستقلال الصحيح كما دعا إليه طه حسين؟ وهل لدينا احترام لحرية البحث العلمي؟ وهل ننفق على التعليم والبحث العلمي ما ينبغي أن ننفقه؟

 أزعم أن الإجابة على كل هذه الأسئلة ليست في صالحنا.

  أسئلة الثقافة

  أما مستقبل الثقافة في مصر الذي يحمل كتاب طه حسين عنوانه فقد رسم له خارطة طريق لصيقة الصلة بمستقبل مصر المستقلة الديمقراطية، إنه مستقبل يرتكز على تكوين المواطن المصري بالتعليم والثقافة؛ ويؤكد طه حسين أن الثقافة ليست محصورة في المدارس والمعاهد، وأن تنظيم شئون التعليم وحده ليس كافيًا من أجل تحقيق المستقبل الذي نرنو إليه للثقافة المصرية، وهو يرى أن العمل الثقافي مسئولية مشتركة بين الدولة والشعب، ينبغي أن تتجه نحو تمكين المثقفين من أن ينتجوا ما يضيف إلى الثقافة المصرية ويجددها، وأن يتعاونوا على تحقيق الصلة بين مصر والثقافات العالمية، ويدعو لتطوير العمل الأهلي في مجال الثقافة ودعمه.

 فكيف يمكن أن نرى حال ثقافتنا في عالم اليوم؟ ما الذي حققناه؟ وما الذي فشلنا في تحقيقه؟ وهل ثقافتنا اليوم بخير؟

مقالي في أخبار الأدب في ملف طه حسين أكتوبر 2023

الاثنين، 11 سبتمبر 2023

عبد اللطيف إبراهيم في ذكراه

 

عبد اللطيف إبراهيم في ذكراه

عماد أبو غازي

ولد الأستاذ الدكتور عبد اللطيف إبراهيم يوم 29 إبريل سنة 1926، واسمه بالكامل عبد اللطيف إبراهيم علي مصطفى الدخاخني، وأمضى طفولته وشبابه في المنزل المملوك لأسرته في حي الجيزة، وكان الثاني بين ثلاثة أبناء وابنة، أنهى دراسته الثانوية بالمدرسة السعيدية بالجيزة، والتحق بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول ـ القاهرة حاليا ـ في العام الجامعي 1945-1946، في فترة كانت مصر تموج فيها بمد وطني معاد للاستعمار، شاركت فيه كل القوي السياسية بمختلف توجهاتها، وقد انخرط الشاب عبد اللطيف إبراهيم في النشاط السياسي الطلابي، وتعرض بسبب ذلك للملاحقة البوليسية، وقد انقطعت صلته بالنشاط السياسي المنظم في مرحلة مبكرة من حياته، هذا وقد تخرج عبد اللطيف إبراهيم من قسم التاريخ في عام 1949، وبعد تخرجه عمل لفترة قصيرة بالتدريس في التعليم الثانوي، كما التحق بالمعهد العالي للتربية فحصل على دبلوم التربية عام 1950، ثم اتجه إلي دراسة الآثار الإسلامية، في معهد الآثار التابع لكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، وحصل على الدبلوم العالي في تخصص الآثار الإسلامية سنة 1952، ومن هنا بدأت رحلته مع الوثائق العربية، ويعد الدكتور عبد اللطيف إبراهيم المؤسس للمدرسة الأكاديمية لدراسة الوثائق العربية غي مصر والعالم العربي، وقد أمتد إسهامه في هذا المجال منذ منتصف الخمسينات من القرن العشرين حتى نهاية صيف العام الأول من القرن الجديد، قبيل وفاته في سبتمبر 2001؛ فقد توفي الأستاذ الدكتور عبد اللطيف إبراهيم صباح 11 سبتمبر 2001، وكان يراجع رسالة ماجستير لأحد تلاميذه في الساعات القليلة السابقة على دخوله للمستشفى يوم الخميس 6 سبتمبر 2001.

ويمكن أن نلخص جهود الدكتور عبد اللطيف إبراهيم في ثلاثة مجالات رئيسية:

  المجال الأول: ما قدمه من دراسات وأبحاث في الوثائق العربية بدأ من رسالته للدكتوراه عن وثائق السلطان الأشرف قانصوه الغوري وانتهاء بآخر أبحاثه المنشورة عن إعداد المشتغلين بالأرشيف، وكانت رسالته أول رسالة في الوثائق جمعت الدراسة الدبلوماتية والتاريخية والأثرية والأرشيفية، وعندما سجل رسالته للدكتوراه بعنوان دراسات تاريخية وأثرية في وثائق من عصر الغوري، فكانت أول رسالة أكاديمية في تخصص الوثائق، رغم أنها سجلت في قسم الآثار الإسلامية، وقد تتابع في الإشراف عليها أساتذة رواد في مجالات تخصصهم وهم: أدولف جروهمان ومحمد مصطفى زيادة وفريد شافعي، وقد حصل عليها بمرتبة الشرف الأولي من كلية الآداب ـ جامعة القاهرة ـ قسم الآثار، وقدم خلال مسيرته العلمية أكثر من ثلاثين بحثًا في مجالات تحقيق الوثائق ونشرها، والدراسات الأرشيفية، والآثار والفنون الإسلامية.

 المجال الثاني: الرسائل الأكاديمية التي أشرف عليها في تخصص الوثائق طوال أربعة عقود متوالية، تنوعت فيها الرسائل بين مجالات الدراسة الثلاث في علوم الوثائق، تحقيق ونشر الوثائق، إدارة الوثائق الجارية.

 المجال الثالث: ما قدمه من جهود في مجال تطوير الدراسة في تخصص الوثائق في جامعة القاهرة، وغيرها من الجامعات المصرية وفي بعض الجامعات العربية كذلك.

 ولم تقتصر جهود الدكتور عبد اللطيف إبراهيم على ما قام به في مجال تأسيس مدرسة أكاديمية للوثائق العربية في مصر بل امتدت إلى الأشراف العلمي على الرسائل الأكاديمية في تخصصات الآثار والتاريخ بالإضافة إلى جهوده في تأسيس المؤسات الأرشيفية في الوطن العربي وتطويرها.


 

الخميس، 27 يوليو 2023

أحمد مرسي حارس التراث الشعبي

 

أحمد مرسي حارس التراث الشعبي

عماد أبو غازي

 عرفت الدكتور أحمد مرسي منذ ما يزيد عن خمسين عامًا بقليل، عندما التحقت طالبًا بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وتحديدًا في يوم 14 أكتوبر 1972 اليوم الأول في الدراسة للعام الجامعي 1972/1973، كان الدكتور أحمد مرسي في استقبال الطلاب الجدد بالمبنى الرئيسي للكلية مع أعضاء اتحاد الطلاب وبعض المعيدين وأعضاء هيئة التدريس وعددًا من طلاب الأسر الجامعية، يرحبون بالطلاب الجدد ويرشدونهم إلى عالمهم الجديد الذي يدخلون إليه، في حفل استقبال بهيج كانت كلية الآداب تتميز به بين كليات الجامعة، وبعد هذا الاستقبال الحافل توجهنا لمدرج 78 الذي كان يحمل وقتها اسم الشهيد عمر شاهين، أحد شهداء المقاومة الشعبية في القناة في يناير 1952، واستمعنا إلى كلمة عميد الكلية الدكتور يحيى هويدي.


 وقتها كان الدكتور أحمد مرسي مدرسًا شابًا بقسم اللغة العربية وآدابها، لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد، وفي الوقت نفسه كان رائدًا للجنة النشاط السياسي والثقافي باتحاد طلاب الكلية، ورائدًا للشباب بالكلية، وقد كانت هذه الصفة الأخيرة التي جعلته في مقدمة مستقبلينا في يومنا الأول بالكلية.


في مناقشة رسالة د. رضوى عاشور

 كان أحمد مرسي قريبًا في السن من الطلاب، فقد كان من أصغر المدرسين في الكلية، وكان يجمع بين الحزم والقدرة على إدارة الحوار واستيعاب المختلفين معه، وأظن أن هذه كانت مبررات اختياره رائدًا للشباب، ورائدًا للجنة النشاط السياسي والثقافي، فقد كانت الجامعات تموج بالحراك السياسي وحركات الاحتجاج منذ تفجرت مظاهرات الطلاب والعمال في فبراير 1968، كانت روح التمرد بين الشباب جزء من حركة التمرد التي اجتاحت العالم في عام 1968، رغم تعدد الدوافع واختلافها، وكانت كلية الآداب بجامعة القاهرة من الكليات التي تشهد نشاطًا سياسيًا واسعًا يلغب فيه اليسار الشيوعي دورًا رئيسيًا، بل إن مجلس اتحاد طلاب الكلية كان يقوده طلابًا ينتمون إلى اليسار، وكان الأمر يحتاج إلى درجة عالية من الحكمة في التعامل مع الطلاب، وكان أحمد مرسي يتميز بقدر عالٍ من الحكمة، ورغم اختلاف المواقف معه خلال سنوات النشاط السياسي الطلابي وهو رائد للاتحاد، لم يصل خلاف أبدًا مع الطلاب إلى حد الصدام والقطيعة، رغم أنه في نظر الطلاب يمثل الإدارة، لكنه عرف دومًا كيف يدير الخلاف بحكمة، حتى ألغيت الريادة في العام الجامعي 1975 / 1976، وتحرر من صورة ممثل الإدارة.

 عرفته في سياق آخر بعيدًا عن النشاط الطلابي، عرفته مدرسًا جامعيًا متميزًا، فقد كان من حسن حظي أن جاء توزيعي في مادة اللغة العربية ضمن المجموعة التي يقوم الدكتور أحمد مرسي بالتدريس لها، كنا وقتها عندما نلتحق بكلية الآداب ندرس دراسة عامة في السنة الأولى ثم نتخصص في السنة الثانية، وكان من ضمن مقررات السنة الأولى مقرر الأدب العربي، وكان يقوم بالتدريس لنا في المحاضرات العامة أربعة من كبار الأساتذة، كل واحد منهم يُدّرس موضوعًا مختلفًا، موضوعًا في الرواية العربية مع الدكتورة سهير القلماوي، وموضوعًا في الغزل العفيف مع الدكتور يوسف خليف، وموضوعًا في الأدب الشعبي مع الدكتور عبد الحميد يونس، وموضوعًا بعنوان الطبيعة والشاعر العربي مع الدكتور حسين نصار، أما التطبيقات فكان يتولى تدريسها مجموعة من المدرسين، ويختار كل واحد منهم موضوعًا مختلفًا لندرسه معه، وكنت ضمن طلاب المجموعة السابعة التي تدرس مع الدكتور أحمد مرسي، وقد اختار قصيدة البحتري عن الربيع موضوعًا للدراسة، واللافت هنا أنه لم يختر موضوعًا في الأدب الشعبي، بل موضوعًا يرتبط بمحاضرات الدكتور حسين نصار عن الطبيعة والشاعر العربي، لذلك لم أعرف إلا بعدها بسنوات أن تخصصه الدقيق كان في الأدب الشعبي، كانت محاضراته من أكثر المحاضرات إمتاعًا بالنسبة لي، ورغم أن كثير من طلاب المجموعة انتقلوا إلى مجموعات أخرى، ربما هربًا من جدية الدكتور أحمد مرسي والتزامه الصارم في المحاضرات، وربما لأن موعد المحاضرة كان من الخامسة إلى الثامنة مساءً، ورغم أني كنت أتردد كثيرًا على المجموعة التي كان يُدّرس لها الدكتور عبد المنعم تليمة الذي اختار رواية بداية ونهاية لنجيب محفوظ لتدريسها، لكني كنت من المجموعة التي واظبت حتى نهاية العام الدراسي مع الدكتور أحمد مرسي، وقد تعلمت كثيرًا من محاضراته.


 إذًا فقد عرفت أحمد مرسي مسئولًا عن النشاط الطلابي ومعلمًا منذ خريف عام 1972، أما هو فلم يعرفني إلا في مطلع عام 1984، بعد أن أصبحت معيدًا في الكلية بعدة أشهر، فقبل ذلك كنت مجرد واحدًا من بين مئات الطلاب الذين يتعامل معهم دون أن يعرفهم كلهم عن قرب، ربما أكون قد قابلته مرات قليلة في منزل الدكتور عبد المحسن طه بدر الذي كنت أتردد عليه باستمرار بعد تخرجي من الكلية، لكن من المؤكد أنه لم ينتبه إليّ.

 لقد بدأت العلاقة الحقيقة بيننا أثناء تجدد الحراك الطلابي الذي واكبه حركة واسعة بين أعضاء هيئة التدريس في الجامعات المصرية للمطالبة بتعديل قانون الجامعات ولائحته التنفيذية، في العام الجامعي 1983 / 1984، ووصل الحراك ذروته في مطلع عام 1984، نجح الحراك الطلابي في تغيير اللائحة التي كان الرئيس السادات قد وضعها لتقييد النشاط الطلابي في أواخر السبعينيات، ونجح في إعادة اتحادات الطلاب التي كانت قد ألغيت، كما نجحت حركة أعضاء هيئة التدريس في انتزاع زيادة كبيرة في مرتبات أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة، ووعد بقانون جديد لتنظيم الجامعات، وكنت ناشطًا في هذه الحركة، وأصبحت عضوًا في اللجان التي شكلها مجلس الكلية لوضع مشروع قانون جديد لتنظيم الجامعات، ثم وضع لائحة جديدة للدراسات العليا بالكلية، كممثل للمعيدين، وجاء ذلك بترشيح من أساتذتي الدكتور عبد المحسن طه بدر والدكتور مصطفى سويف، في سياق هذا الحراك تعرف عليّ الدكتور أحمد مرسي عندما اقترح عميد الكلية وقتها الدكتور محمد الجوهري أن يشكل المعيدين أسرة لهم، وكلف الدكتور أحمد مرسي بالإشراف على تأسيس الأسرة، على مدى عدة أشهر من الاجتماعات واللقاءات توثقت علاقتي به، حقًا لم ير مشروع أسرة المعيدين النور، لكني خرجت منه بصداقة مع الدكتور أحمد مرسي استمرت قرابة أربعين سنة.


 في عام 1999 عندما انتدبت للعمل في المجلس الأعلى للثقافة مشرفًا على اللجان الثقافية بدأت علاقة جديدة مع الدكتور أحمد مرسي، عرفت فيه شخصية حارس التراث الشعبي الحريص على الحفاظ عليه وعلى توثيقه وإتاحته، وذلك من خلال عضويته في لجنة الفنون الشعبية لسنوات، ثم توليه لمنصب مقرر اللجنة، وفي الحالتين كان يقدم النموذج في الحرص على تراثنا الشعبي والعمل من أجل إلقاء الضوء على جوانبه المتعددة والتعريف به، وعندما أصبح مرشحًا ليكون مقررًا للجنة كان أول ما طالب به تغيير اسم اللجنة من لجنة الفنون الشعبية إلى لجنة الفنون الشعبية والتراث اللامادي، ولم يكن هذا مجرد تغيير شكلي في اسم اللجنة، بل تحول في مسار عملها، فانتقل بها إلى آفاق أرحب في اهتماماتها، وكانت اللجنة في فترته من أنشط لجان المجلس الأعلى للثقافة.


 ومما يحسب للدكتور أحمد مرسي في مجال الاهتمام بالفنون الشعبية والتراث اللامادي سعيه الدؤوب لتنظيم ملتقى القاهرة للتراث الثقافي غير المادي، ليصبح واحدًا من الأنشطة الدورية للمجلس الأعلى للثقافة إلى جانب ملتقى الرواية العربية وملتقى الشعر، وقد بدأ الملتقى باسم ملتقى الفنون الشعبية ثم حمل اسم ملتقى المأثورات الشعبية، واستقر أخيرًا باسم ملتقى القاهرة للتراث الثقافي غير المادي، الاسم الأثير لدى أحمد مرسي، وقد عقد الملتقى دورته السابعة هذا العام، وحملت الدورة اسم الدكتور أحمد مرسي الذي رحل قبل شهور قليلة، وفي هذا بعض الاعتراف بفضل الرجل.


 لقد كان أحمد مرسي في الدورات التي عملت فيها معه في هذا الملتقى يحرص على متابعة كل كبيرة وصغيرة طوال مراحل الإعداد وحتى انتهاء أعمال المؤتمر والاطمئنان إلى صدور أبحاثه في كتاب، فلا يضيع الجهد هباءً كما يحدث في كثير من المؤتمرات العلمية والثقافية.


 لم يقتصر اهتمام الدكتور أحمد مرسي في المجلس الأعلى للثقافة على لجنة الفنون الشعبية والتراث اللامادي فقط، بل شارك في عدد كبير من أنشطة المجلس، سواء في فترة أمانة صديقه وزميله الدكتور جابر عصفور للمجلس أو في فترات من تولوا بعده، وكان مبادرًا دومًا لتقديم كل ما يخدم الثقافة المصرية من خلال مساهمته في أنشطة المجلس الذي أصبح عضوًا في هيئته في السنوات الأخيرة، وأتذكر هنا مساهمته في التمهيد لتوقيع برتوكول تعاون بين المجلس الأعلى للثقافة والمركز الثقافي الإسباني لإنشاء جائزة للترجمة بين العربية والإسبانية، والتي كانت تشكل دعمًا مهمًا لحركة الترجمة.

 غاب الجسد وتبقى الذكرى حية بما قدمه أحمد مرسي من عطاء متواصل منذ ستينيات القرن الماضي للثقافة، ولمجال التراث الثقافي اللامادي على وجه الخصوص.

 مقالي في عدد يولية 2023 من مجلة الفنون الشعبية

 

 

الجمعة، 23 يونيو 2023

"حكايات فلسطينية" آن لها أن تحكى

 

"حكايات فلسطينية" آن لها أن تحكى

 عماد أبو غازي

https://www.palestinianstories.com/?fbclid=IwAR07ZUv4Qs_oBdfh_ocTMo7JLpnOfAjScD9yIPr-xlHMzIJDZICfxiXU6Yo

 موقع "حكايات فلسطينية" مبادرة مهمة ومميزة في حفظ تاريخ فلسطين من خلال مصادر أولية مختلفة عن المصادر الرسمية التقليدية، إنها محاولة لكتابة التاريخ بأصوات صناعه الحقيقيين من الناس الذين كانوا يحيون حياتهم اليومية العادية، وداهمتهم النكبة فتغيرت مسيرة حياتهم، إنها محاولة جادة لحفظ الذاكرة كي لا تضيع وتندثر، يأتي انطلاقها مواكبًا للذكرى الخامسة والسبعين للنكبة مؤكدة أن الذاكرة الفلسطينية ستظل يقظة.

 هذا وتتنوع مصادر كتابة التاريخ تنوعًا كبيرًا وفقًا لموضوعات البحث وللعصور التاريخية التي نتعامل معها وللمناهج التي نتبعها في تحليل الظاهرة التاريخية التي ندرسها؛ وفي مقدمة هذه المصادر الأرشيف، الذي يلعب دورًا مهمًا في كتابة تاريخ الأمم والشعوب، ويسهم في حفظ الذاكرة الجمعية للبشر، إنه كما يقال بحق ذاكرة للتاريخ.

 ومن بين المصادر الأرشيفية المذكرات واليوميات والأوراق الخاصة والشخصية التي تحتفظ بها العائلات والتي يمكن أن نطلق عليها اسم الأرشيفات الشخصية أو أرشيفات العائلات، والمقصود بأرشيفات العائلات، الوثائق والأوراق الشخصية والمراسلات والبطاقات البريدية والصور الفوتوغرافية والتسجيلات الصوتية والمشاهد المصورة والتذكارات وغيرها من المواد الأرشيفية التي تتراكم لدى عائلة من العائلات من خلال النشاط الطبيعي لأفرادها، وتضم أرشيفات العائلات عادة أوراق شخصية، ومراسلات خاصة، لكنها قد تضم كذلك وثائق أخرى غير الأوراق الخاصة، فقد تكون بعض محتويات هذه الأرشيفات من الوثائق الرسمية مثل: شهادات الميلاد وعقود الزواج وشهادات الوفاة والأحكام القضائية والشهادات الدراسية وغيرها من الأوراق الرسمية التي يحوزها الأفراد خلال مراحل حياتهم المختلفة، كما قد تحوي نسخًا من الأوراق الناتجة عن نشاطهم في العمل الحكومي أو الأهلي أو الخاص.

 في البداية كان اهتمام المؤرخين ينصب على أرشيفات العائلات الكبيرة التي يلعب أفرادها أدوارًا سياسية،
 لكن الاتجاهات الجديدة في دراسة تاريخ حياة "الناس العاديين" دفعت المؤرخين إلى الاهتمام بدراسة الأوراق المتراكمة لدى عائلات من مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية.

 لقد أصبح الاعتماد على الأرشيفات الشخصية في توثيق الأحداث التاريخية مقدّرًا من الناحية الأكاديمية، واتجه البحث التاريخي بقوة إلى الاعتماد على مثل هذه الأرشيفات مع تطور مناهج دراسة التاريخ ومدارسه، وتكمن أهمية الأرشيفات العائلية والشخصية التي يتسلمها جيل وراء جيل، في أنها تسجل جزءًا مهمًا من الذاكرة، لا يظهر عادة في الكتابات الرسمية، كما أنها تسهم بشكل كبير في كتابة التاريخ والحفاظ على الذاكرة في ظل غياب الأرشيفات الرسمية وتغييبها.

 وتعد الأوراق الشخصية والأرشيفات العائلية في حالة فلسطين أحد المصادر المهمة لدراسة التاريخ الحديث والمعاصر، حيث تغيب الوثائق الرسمية في كثير من الأحيان، إما بفعل غياب الوعي الأرشيفي أو بسبب قيود الإتاحة أو بسبب السطو عليها وتدميرها عمدًا من جانب العدو في محاولة لمحو الذاكرة الوطنية الفلسطينية وتغييب السردية الفلسطينية.

 تكمن أهمية مبادرة "حكايات فلسطينية" في أنها ذاكرة تقاوم النسيان، إننا أمام مبادرة مهمة في توثيق التاريخ الشعبي الفلسطيني، بعيدًا عن التاريخ السياسي الرسمي، وتشكل نقطة انطلاق مهمة للغاية يمكن البناء عليها لمشروع أكبر يحمي الذاكرة الشعبية الفلسطينية ويحافظ عليها من الغياب.

 والجديد في هذه المبادرة والملهم فيها في الوقت نفسه أنها بدأت بجهد فردي من مؤسستها سمر دويدار عندما اكتشفت أوراق جدها لأمها علي شعث، فبدأت تفكر في طريقة لتنظيم هذه الأوراق وإتاحتها للكافة، ونظمت أكثر من حدث بهذا الأرشيف، وأضافت له ما يحوله إلى حدث تفاعلي، بمعاونة متطوعين من الأصدقاء، لتتطور الفكرة وتصبح هذا الموقع الذي يتيح لنا معايشة تاريخ حي للشعب الفلسطيني.

 والنماذج الحاضرة في ذاكرتي والتي تعتمد على الأرشيفات العائلية قامت بها مؤسسات كبيرة، ولم تقم بجهود فردية، وتحضرني تجربة مشروع ذاكرة مصر المعاصرة الذي دشنته مكتبة الإسكندرية، وبدأ بالاهتمام بجمع أوراق العائلات والشخصيات العامة في مختلف المجالات الأمر الذي لفت الانتباه إلى أهمية أرشيفات العائلات وأنقذ الكثير منها من الضياع.

 وإذا كنا في لحظة انطلاق مبادرة حكايات فلسطينية أمام أرشيف لشخصية واحدة، فمن المهم أن ندرك أن هناك صعوبات فنية قد تواجه القائمين على المشروع في ترتيب مثل هذه المجموعات من الأوراق الشخصية وأرشيفات العائلات عندما تضاف إليها مجموعات لأشخاص آخرين من نفس العائلة أو أرشيفات لعائلات أخرى؛ فما لم تكن العائلة صاحبة الأرشيف قد نظمت أوراقه ومواده المختلفة – وهذا نادرًا ما يحدث – فإن على الأرشيفي أن يفكر في حلول مبتكرة للتعامل مع هذه المواد، فمن ناحية ربما لم تتراكم المجموعة بشكل طبيعي، فقد تكون تجمعت من عدة أماكن، وفي مراحل مختلفة، وربما اختلطت بعض المواد الخاصة بأفراد العائلة ببعضها البعض، ومن ناحية أخرى من الوارد أن تضاف إليها وثائق جديدة.

 فهل يتم ترتيب الوثائق وفقًا للمصدر (المكان) الذي جاءت منه؟ أم على أساس الأشخاص الذين تنتمي إليهم؟ أم تُرتب وفقًا لأجيال العائلة؟  أم حسب أنواع المواد الأرشيفية؟ إنها مشاكل يوفر لها الحلول اختيار البرامج المناسبة للحفظ والاتاحة، الأمر الذي حققه فريق المشروع بالفعل، وفي الوقت نفسه امتلاك الرؤية والفهم لطبيعة المجموعات التي ستضاف للمبادرة.

 كلمة أخيرة... إن مبادرة "حكايات فلسطينية" ترحب بكل مشاركات العائلات الفلسطينية، وهذا الموقع مفتوح لكل أبناء فلسطين وبناتها، لكل عائلاتها للمشاركة في بناء أرشيفاتهم العائلية من خلاله، فكلما اتسع الموقع، وكلما انضمت إلى مكوناته أوراق وأرشيفات شخصية وعائلية، كلما اتسعت مساحة الذاكرة الفلسطينية التي نحفظها ونحافظ عليها من الضياع، فهذا الموقع في حقيقته أرشيف شعبي تقوم ببنائه العائلات الفلسطينية بنفسها لنفسها، لحاضرها ولأجيالها القادمة.

  وتؤكد مبادرة "حكايات فلسطينية" على أن من أهم قيم المبادرة، الحفاظ على خصوصية الوثائق والبيانات المقدمة، فكل أسرة سيكون لها وبشكل حصري إمكانية الاطلاع على أرشيفها الخاص، وما ستوافق عليه فقط هو ما سيتم نشره على الموقع، ولا توجد أي سلطة لأحد في السماح أو منع النشر إلا أصحاب الأرشيف أنفسهم.

 كما يؤكد القائمين على المبادرة إيمانهم بأهمية التشبيك والتعاون فيما بين كل المعنيين بالتاريخ الشفهي وبالأرشيفات العائلية الفلسطينية.

 فليبني أبناء فلسطين وبناتها معًا ذاكرة للمستقبل لأبناء هذا الجيل ولأبناء الأجيال القادمة، وليحكوا "حكايات فلسطينية" آن لها أن تُحكى.

الثلاثاء، 6 يونيو 2023

رعاية حلمي... حكاية فنانة توقفت في منتصف الطريق

 

 

رعاية حلمي... حكاية فنانة توقفت في منتصف الطريق

عماد أبو غازي


 تنتمي رعاية حلمي (24 ديسمبر 1923-28 أكتوبر 2014) إلى جيل تفتح على الدنيا في ظلال ثورة 1919، واستفاد كثير من إبناء ذلك الجيل وبناته من منجز الثورة، كان ترتيبها الرابعة من بين سبع شقيقات وشقيقين، ولدت وأمضت طفولتها وصباها وسنوات شبابها الأولى في ضاحية حلوان، والدها محمد حلمي أحمد حلمي درس القانون، والتحق بالعمل بالإدارة القانونية بوزارة المعارف، انخرط منذ شبابه في صفوف الحركة الوطنية المطالبة بالجلاء والدستور، وانضم إلى الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، وكان حريصًا على استكمال كل البنات والأبناء لدراستهم حتى نهاية التعليم العالي، ولم يفرض على أي منهم أو منهن طريق للدراسة؛ اختارت هي دراسة الفنون، فقد تفتحت موهبتها الفنية في الرسم في مرحلة مبكرة، فاتجهت إلى دراسة الفنون والتحقت بمعهد الفنون الجميلة للبنات، في عام 1941، ولحقت بها شقيقتها الأصغر منها مباشرة، الفنانة منحة حلمي.


محمد حلمي أحمد

 في ذلك الزمن كانت قد تغيرت نظرة المجتمع للفن بشكل عام، فبعد أن كانت علاقة الفتاة بالفن قاصرة على بعض الطبقات العليا في المجتمع التي تعلم البنات بعضًا من فنون الموسيقى أو التطريز أو التصوير على أيدي مدرسين خصوصيين بالقصور والبيوت، كنوع من استكمال "الوجاهة" الغربية، أصبح من المقبول أن تدرس الفتاة الفنون في معاهد العلم خاصة مع ظهور مؤسسات تعليمية تُدرّس الفن، لقد كان لإنشاء تلك المعاهد وامتداد إشراف وزارة المعارف عليها أثرًا واضحًا في تقبل الأسرة المصرية لإلحاق بناتها بتلك المعاهد، كما كان لاقتران الفن التشكيلي بالثورة الوطنية (ثورة )1919 من خلال تمثال نهضة مصر وحركة الاكتتاب الشعبي من أجل إقامته أثرًا أيضًا في تغير نظرة المجتمع للفن.

  تأسس في البداية معهد عالي للمعلمات وبه قسم لمعلمات الفنون، ثم مع بداية الأربعينيات تأسس معهد الفنون الجميلة للفتيات، وكانت الدراسة به ثلاث سنوات بعد التوجيهية تحصل الطالبة بعدها على دبلوم الفنون الجميلة، ومن ترغب في التخصص في تدريس الرسم، تستمر لعام رابع، أما من يريدن التخصص في التصوير أو النحت فكان عليها ـن تمكث في الدراسة لعامين إضافيتين، وقد اختارت رعاية حلمي التخصص في النحت.








 وفي أواخر الأربعينيات ارتبطت رعاية حلمي بناقد فني شاب كان قد بدأ يشق طريقه في الكتابة في النقد الفني وتاريخ الفن في بعض الصحف والمجلات، كما صدر له في عام 1949 كتابه الأول "مختار حياته وفنه"، وهو بدر الدين أبو غازي، وتزوجا في صيف عام 1950؛ إذن أنا أكتب عن أمي.




 هذا بعض ما كتبته "فضولية" عن رعاية حلمي وبدر الدين أبو غازي، في مجلة صباح الخير عام 1956 في باب "بيت مصري": "البيت الذي أتسلل إليه هذا الأسبوع في المعادي، إنه بيت الأستاذ بدر الدين أبو غازي، مدير مكتب وكيل وزارة المالية لشئون الضرائب، والزوجة رعاية الله حلمي، خريجة معهد الفنون الجميلة، والمدرسة بمدرسة المنيرة الثانوية للبنات، إنه بيت فن، مصري، عصري، يجمع جمال تنسيقه بين الهدوء، والتفاهم العائلي؛ فالأستاذ بدر الدين رغم تخرجه من كلية الحقوق عام 1941، فإن نفسه كانت تعشق الفن، ولا عجب فإن خاله هو المثال الخالد مختار، وله في الفن بعض المؤلفات.

 كان يهوى النحت والتصوير وقراءة القصص، ويحرص على حضور المعارض الفنية وسماع المحاضرات، فكان يلتقي عادة خلال هذا النشاط بالسيدة رعاية، وهي إذ ذاك لا تزال طالبة بالمعهد العالي للفنون الجميلة، أثناء اشتراكها بإنتاجها في إقامة بعض المعارض، وعن طريق هذه المعارض الفنية عرفا بعضهما، وتوطدت بينهما أواصر الصداقة، فالحب... وتقدم فعلًا بدر الدين لعائلتها، وتزوجها بأسلوب جديد، بلا مهر، ولا شبكة، ولا زيطة فرح، ولا تقاليد عتيقة، بلا شيء من كل هذا، سوى تعاونهما معًا في تأسيس المنزل، وفي الاستمتاع بحياة زوجية هادئة بسيطة في جو فني.

 إذا دخلت هذا البيت ستشاهد الإنتاج الفني للسيدة رعاية، تماثيل وتبلوهات بديعة ولوحات فنية، وتحف عادت بها من جولتها الفنية بين معارض لندن وباريس، التي عادت منها منذ فترة قصيرة، كما ستشاهد أيضًا إنتاج هذا الزواج، زواج التفاهم والفن، والتعاون المشترك، طفلين صغيرين لا تفارق الابتسامة وجهيهما، وهما يمرحان ويضحكان باستمرار.

 وأجمل حجرة في البيت حجرة المكتب المفروشة بالحصير، والمؤثثة بذوق فني مصري بسيط."






 خلال سنوات الأربعينيات وحتى منتصف الخمسينيات ظلت رعاية حلمي تمارس فن النحت الذي تميزت فيه إلى جانب الرسم والتصوير، تميزت رعاية حلمي كنحاته في فن البورتريه، أما أعمالها في التصوير والرسم، فإلى جانب فن البورتريه، كانت تدور في غالبيتها حول تصوير الطبيعة في المدن المصرية التي زارتها، وتركت أعمالًا تصور مشاهد من أسوان ورأس البر والنيل في القاهرة، كذلك قدمت عددًا من الأعمال في التصميم والزخرفة.




  اتخذت في منتصف الخمسينيات قرارها بالتوقف عن أن تكون فاعلة الحياة الفنية، رغم أنها كانت نحاته ومصورة متميزة، في رأي كل من شاهد أعمالها، ابتعدت عن أضواء العرض في المعارض، واعتزلت النحت والتصوير، وركزت جهدها في عملها الذي أحبته كمدرسة للتربية الفنية في مدرسة المنيرة ثم في المدرسة السنية، لكنها لم تنقطع عن متابعة المعارض والحركة الفنية عمومًا، ودعوة طالباتها لمتابعة المعارض الفنية وزيارة المتاحف، بل والكتابة عن هذه المعارض لطالبتها في مجلة المدرسة التي كانت الطالبات تحررنها، واستمرت في التدريس إلى أن انتقلت في مطلع السبعينيات لتعمل موجهة للتربية الفنية حتى تقاعدت في نهاية عام 1979، بعد وفاة أكبر أبنائها في حادث سير.

أما مع طالباتها في المدرسة السنية، فكان تركيزها إلى جانب تدريس التذوق الفني وتعريفهن بتاريخ الفن، كانت تركز على أعمال الحفر باستخدام الخشب والجلد والطباعة على الورق والنسيج.




 لم يؤثر عملها أبدًا على اهتمامها بنا، الأبناء الثلاثة مختار وأنا ونادية، بقدر ما كانت المرأة العاملة المتفانية في عملها المخلصة له، كانت الأم الحنونة، حضورها في الأسرة دائم، ولمساتها في المنزل واضحة، تعلمنا وتوجهنا بشكل غير مباشر، ترعى اهتماماتنا الصغيرة والكبيرة، كانت تحببنا في الفن وتهتم بما نرسمه وتشجعنا دومًا، وكان يوم عيد بالنسبة لنا عندما تعطينا علبة ألوانها الفلوماستر العريضة التي أتت بها من فرنسا لنرسم بها، فلم يكن هذا النوع من الألوان موجود في مصر وقتها، وكنا نسميها "الألوان السحرية"، في بعض الأحيان تجمع "لوحاتنا" وتنظم لنا بها معرضًا على جدران غرفة من غرف المنزل، وتضع شريطًا على بابها، ثم تدعو أبانا لافتتاح المعرض، وربما يمنحا بعض "اللوحات" جوائز، أو يقرروا اقتنائها، مثلما تقتني الدولة أعمال الفنانين.












 وفي عام 2005 وبعد رحيل شقيقتها منحة حلمي طُلب منها أن تكتب كلمة لكتالوج المعرض الفني لمعرضها بقاعة أفق الملحقة بمتحف "محمد محمود خليل وحرمه"، ورغم أن الكلمة شخصية لكنها تعكس تفكير جيلها، وهذا بعض ما جاء فيها: "جمعني بمنحة مصير واحد وعلاقة مركبة، لم تكن مجرد شقيقتي التي تصغرني مباشرة، فقد كنت أكبر منحة بعامين، كنا في الوسط بين تسعة أشقاء، ولدان وسبع بنات، كان تقارب السن بيني وبينها وسط أسرة كبيرة العدد دافعًا إلى توطد علاقتنا، ثم كان تقارب الميول والاتجاه نحو دراسة الفنون نتيجة لتلك العلاقة الحميمة وسببًا ـ في نفس الوقت ـ لمزيد من تعميق العلاقة، كان اختيارنا للفنون مجالًا لدراستنا العليا في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي نتاج نشأتنا في بيئة أسرية تحترم الفكر والثقافة، كان الأب حريصًا على تعليمنا جميعا التعليم الذي نرغب فيه ويتوافق مع ميولنا، اهتم بتعليم البنات بنفس قدر اهتمامه بتعليم الأولاد، في فترة كان التحاق الفتيات بالتعليم الجامعي في مصر في بداياته الأولى، وكانت الأم تعمل دائمًا على توفير الأجواء الملائمة لنا لنحقق ذواتنا ونتقدم في حياتنا.

 كنا دائمًا ـ- منحة وأنا - مع بعضنا متلاصقتان، ينادوننا دومًا: منحة ورعاية أو رعاية ومنحة، لم نكن نفترق أبدًا، معًا في اللهو في مرحلة الصبا، معًا في الدراسة وفي استلام شهادات التفوق الدراسي حتى المرحلة الثانوية، ثم في المعهد حيث اتجهت منحة لدراسة فن التصوير، واتجهت أنا لدراسة فن النحت، وبعد بعثتها إلى إنجلترا تخصصت في فن الحفر وتميزت فيه دون أن تترك أساسها الأول كمصورة بارعة، استمرت تبدع أعمالها الفنية حتى السنوات الأخيرة من حياتها عندما توقفت عن ممارسة فن الحفر بسبب الحساسية التي أصابتها من التعامل مع الأحماض والمواد الكيميائية التي يتطلبها الإبداع في هذا الفن، وإن واصلت عملها كأستاذة بكلية التربية الفنية تخرج أجيالًا وراء أجيال.

 وفي مرحلة الدراسة تعلمنا على يد مجموعة من الأساتذة المتميزين الذين ساهموا في تكوين فنانات جيلنا، كان ممن درسن لنا: مارجريت نخلة ومدام عياد ومدام راينر وكوكب يوسف وزينب عبده.

 على مر الأيام جمعت بيننا جولتنا المشتركة في المعارض والندوات الثقافية والفنية، التي كانت تذخر بها الحياة المصرية في الأربعينات، كانت حواراتنا حول المعارض التي نزورها وحول الفن وقضاياه، حتى عندما تزوجنا، كان اختيارنا لشخصين متشابهين في كثير من الصفات، اخترت أنا بدر الدين أبو غازي ناقدًا تشكيليًا شابًا دارسًا للقانون، واختارت هي عبد الغفار خلاف طبيبًا شابًا وهب حياته لخدمة الفقراء والدفاع عن قضاياهم، كانا متشابهين في الطموح الشديد كل في تخصصه ومجاله الوظيفي، إلى جانب اهتمام بالثقافة والفن والأدب، ومشاركة فاعلة في العمل العام، وتميزا إنسانيًا باحترام شديد للحياة الأسرية وللزوجة ولعملها، وعرفنا معهما مساندة دائمة لنا."


 في سنواتها الأخيرة عادت مرة أخرى للرسم والزخرفة على نطاق ضيق في المنزل، كانت موهبتها ما زلت حية ونابضة.













مجموعة من أعمال رعاية حلمي في مراحل مختلفة

 كما اهتمت بإعادة صب ما تبقى من أعمالها النحتية للحفاظ عليها للأبناء والأحفاد، الذين أورثت واحدة منهم الموهبة.


الحفيدة مريم أبو غازي

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...