الاثنين، 29 يونيو 2015


جريمة الاغتيال السياسي
قراءة سريعة في تاريخنا الحديث

عماد أبو غازي

 الاغتيال ـ أيًا كان مرتكبة وأيًا كانت دوافعه ـ جريمة مرفوضة لا يمكن تبريرها، فالقاتل الذي يغتال خصمه نصب من نفسه محقق ومدع وقاض وجلاد في نفس الوقت، وارتكب جريمته بشكل خسيس. بالنسبة لي سلب حياة إنسان تحت أي دعوى من الدعاوى، إهدار للحق في الحياة، أسمى حقوق الإنسان.
 وإذا كانت المواجهة القانونية لجرائم الاغتيالات أمرًا أساسيًا، فإن الخطوة الأهم والأكثر تأثيرًا في مواجهة هذا النوع من الإرهاب واقتلاع جذوره من تربتنا تكمن في مواجهة أنفسنا مواجهة فكرية وثقافية وسياسية، ومراجعة ما نغرسه في نفوس أبنائنا من قيم ومبادئ تجعل من تبني مثل هذه الأفكار الإجرامية أمرًا سهلًا يسيرًا، ففي تاريخنا الحديث عشرات من جرائم الاغتيالات السياسية التي ارتكبت باسم الوطنية مرات وباسم الدين مرات أخرى، وقد اعتدنا ـ أو اعتاد بعضنا على الأقل ـ على أن يقدم مرتكبي هذه الجرائم باعتبارهم أبطالًا، رغم أنهم في الحقيقة إرهابيون نصبوا من أنفسهم مدعين وقضاة وجلادين، اتهموا، وحاكموا دون دفاع، وأدانوا، ونفذوا حكمهم، فعندما نقدم إبراهيم الورداني قاتل بطرس باشا غالي باعتباره بطلًا وطنيًا، ويكتب شوقي ـ المحافظ الموالي للخديوي ـ فيه قصيدته التي مطلعها: صداح يا ملك الكنار ويا أمير البلبل، ونقدم حسين توفيق وزملاءه الذين اغتالوا أمين عثمان كأبطال ويكتب إحسان عبد القدوس ـ الوطني الليبرالي ـ روايته "في بيتنا رجل" ليمجد جريمتهم، وتتحول هذه الرواية إلى فيلم سينمائي يدفعنا جميعًا للتعاطف مع الشاب الذي ارتكب جريمة الاغتيال، وحين يطلق بعض الإسلاميين والقوميين على خالد الإسلامبولي قاتل أنور السادات لقب الشهيد، عندئذ لا بد أن تختل الموازين، ومن هنا تأتي البداية في تكوين الصورة المزيفة للبطولة في وجدان شبابنا وأطفالنا، في تقديم القاتل باعتباره بطلًا وطنيًا أو شهيدًا في سبيل الله، وهذه مجرد أمثلة على حالات الخلل في المعايير والقيم التي تسمح لنا بصناعة أبطال هم في الحقيقة قتلة مهما تخفت جرائمهم وراء دوافع وطنية وشعارات نبيلة، إنهم يقتلون خصومهم لاختلافهم معهم في الرأي أو الرؤية أو منهج العمل السياسي، أو لأنهم يرون فيهم مجرمين ارتكبوا انتهاكات تقتضي الاقتصاص منهم، فهم يمنحون صكوك الوطنية والإيمان، ويعطون أنفسهم الحق بغير حق في إصدار الأحكام بالخيانة والكفر على خصومهم.
 علينا أن نمتلك الشجاعة لتصحيح تلك المفاهيم الملتبسة ومواجهة دعاة الابتزاز الوطني، علينا أن نكف على تقديم القتلة باعتبارهم أبطالًا، علينا أن نمتلك الشجاعة لنتوقف عن عبارات ندين ولكن، وعن الصياغات التي تبرر الإرهاب بدعوى أنه رد على العدوان، ولو قاس هؤلاء الأمر بمنطق المكسب والخسارة فهذه الجرائم  دائمًا ما تكون شديدة الضرر على التطور الديمقراطي.
 لقد عرفت مصر جرائم الاغتيال السياسي في العصر الحديث مع جريمة اغتيال بطرس باشا غالي رئيس وزراء مصر في عام 1910، التي ارتكبها صيدلي شاب ينتمي للحزب الوطني (حزب مصطفى كامل) بدعوى منع بطرس غالي وحكومته من اتخاذ قرار مد امتياز قناة السويس، وانتقامًا منه لدوره في محاكمات دنشواي قبلها بأربع سنوات، وللأسف فإن عدد من الأقلام الوطنية وقتها بررت الجريمة بل أشادت بالقاتل، وقد شجع هذا عديد من شباب الحزب الوطني بعد ذلك على تكرار ارتكاب مثل هذه الجرائم أو محاولة ارتكابها خلال سنوات العقد الثاني من القرن العشرين، وكانت أشهر محاولات الاغتيال الفاشلة هي تلك التي تعرض لها السلطان حسين كامل (1914 ـ 1917).
 وفي أعقاب ثورة 1919 وقعت عدة جرائم من هذا النوع، فشل بعضها ونجح البعض الآخر، أشهرها المحاولات الفاشلة لاغتيال اثنين من رؤساء الوزارات: يوسف باشا وهبة ومحمد باشا سعيد،  واغتيال إسماعيل زهدي بك حسن باشا عبد الرازق القياديين المؤسسين بحزب الأحرار الدستوريين.
 كما تعرض الزعيم سعد زغلول لمحاولة اغتيال فاشلة عام 1924 أثناء رئاسته لمجلس الوزراء.
 كان استخدام أسلوب الاغتيال للخصوم المختلفين سياسيًا خطيئة من خطايا الحركة الوطنية في مصر، كانت جرائم لا يفسرها سوى ضيق الأفق والتعصب والجهل في صفوف بعض الشباب المنتمي إلى الحركة الوطنية، ومن كانوا يوجهونهم من القادة السياسيين في ذلك الوقت.
 لكن أخطر الاغتيالات السياسية وأشدها تأثيرًا وضررًا على الحركة الوطنية المصرية كان اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري والحاكم العام للسودان، في 19 نوفمبر سنة 1924، وأدت هذه الجريمة إلى استقالة حكومة الشعب، حكومة سعد زغلول الأولى والأخيرة، رفضا للشروط التي فرضتها السلطات البريطانية على الحكومة المصرية. وسقطت مصر بعدها في براثن الانقلابات الدستورية التي ظلت السمة المميزة لعصر الملك أحمد فواد حتى وفاته في سنة 1936.
 ولم تنفرد مصر بهذا السلوك الإجرامي الذي اقترن زورًا وبهتانًا بالوطنية، فأن معظم الحركات الوطنية في العالم منذ القرن التاسع عشر عرفت هذا النوع من الجرائم، بل كان السبب المباشر لقيام الحرب العالمية الأولى واحدة من هذه الجرائم.   
 تراجعت الظاهرة في العشرينات والثلاثينات وبدأت معظم الأحزاب والقوى الوطنية تتبرأ منها، لكن قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية عادت الظاهرة من جديد وبقوة هذه المرة، وعاشت مصر قرابة خمس سنوات صعبة، ففي خلال السنوات من 1945 إلى 1949 شهدت البلاد موجه من الإرهاب الدموي ارتكبت خلالها عدة جرائم اغتيالات وتفجيرات للمحال التجارية ودور العرض السينمائية، وهي جرائم قامت بغالبيتها جماعة الإخوان المسلمين، وببعضها تنظيمات صغيرة من الشباب الراديكالي الذي ابتعد عن طريق النضال الوطني إلى طريق الإجرام السياسي.
 كان مفتتحها بجريمة اغتيال رئيس الوزراء أحمد باشا ماهر في البهو الفرعوني بمبنى البرلمان، على يد شاب من شباب الحزب الوطني اسمه محمود العيسوي ثبت فيما بعد أنه كان خلية نائمة لجماعة الإخوان المسلمين داخل الحزب الوطني، وكان المبرر الذي ساقه القاتل لجريمته أن ماهر يتجه لإعلان الحرب على ألمانيا واليابان، وكانت الحكومة المصرية قد اتخذت هذا القرار حتى تتمكن مصر من الانضمام للأمم المتحدة عضوًا مؤسسًا.
كانت هناك عدة أطراف تمارس هذه الجريمة، جريمة الاغتيال السياسي:
 الطرف الأول شباب يحسب نفسه على الحركة الوطنية ويقرر أن يغتال من يرى أنهم متعاونين مع الاحتلال، وقد شكل هؤلاء الشباب تنظيمات سرية صغيرة لارتكاب هذه الجرائم، وكان من أشهر هذه التنظيمات المجموعة التي شكلها حسين توفيق وارتبط بها أنور السادات، والتي قامت باغتيال أمين باشا عثمان.
 الطرف الثاني الحرس الحديدي الذي يقال أن الملك فاروق شكله ـ أو بارك تشكيله على الأقل ـ للتخلص من خصوم الملك، وكان من أبرز ضحاياه الضابط الوطني عبد القادر طه. كما يشاع دائما أن البوليس السياسي وبعض الأجهزة الأمنية مارست عمليات لتصفية المعارضين تحت ستار حوادث السيارات، ومن أبرز من راحوا ضحية لحوادث يشتبه في أنها مدبرة، وأن لم يثبت ذلك أبدًا، البرلماني عزيز فهمي أحد قادة الطليعة الوفدية في العصر الملكي، والمحامي الشيوعي زكي مراد في سبعينيات القرن الماضي.
 وكان صاحب النصيب الأكبر من محاولات الاغتيال الفاشلة الزعيم مصطفى النحاس، تعرض للطعن بالسونكي أثناء الانقلاب الدستوري الذي قاده صدقي باشا سنة 1930، وانقذه منها سنيوت حنا، كما تعرض لعدة محاولات للاغتيال، إبان سنوات الإرهاب، تلك السنوات التي راح ضحيتها اثنان من رؤساء الوزارة، ووزير سابق، ومرشد جماعة الإخوان، ووكيل محكمة استئناف مصر، وحكمدار العاصمة، وعديد من المواطنين اللذين تصادف وجودهم في ساحة الأعمال الإرهابية الإجرامية. لكن النحاس باشا خرج منها جميعًا بسلام رغم خطورتها، كانت أبرز محاولات الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها ثلاث محاولات، الأولى في 6 ديسمبر 1945 قام بها الشاب حسين توفيق الذي ألقى قنبلة على سيارة النحاس أثناء مروره في شارع قصر العيني في طريقه إلى النادي السعدي، ولم يصب النحاس في الحادث، ولم يعرف الجاني إلا بعدها بأسابيع عندما اعترف حسين توفيق بأنه مرتكب الحادث أثناء التحقيقات في قضية اغتيال أمين عثمان، أما المحاولة الثانية فوقعت في 25 أبريل 1948 عندما انفجرت سيارة ملغومة بجوار قصر النحاس باشا بجاردن سيتي، ويشغله الآن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ولم يصب أحد في الحادث وإن كانت بعض أركان الدار قد تعرضت للتلف، ولم يستدل على الجناة، ثم في نوفمبر من العام نفسه هاجمت سيارة مسلحة النحاس باشا أثناء عودته إلى منزله مساء فقتلت اثنين من حرسه وجرحت ثلاثة أخرين ولم يعرف الجناة أيضا.
 أما الطرف صاحب النصيب الأكبر في جرائم الاغتيالات فكان تيار الإسلام السياسي وعلى راْسه جماعة الإخوان المسلمين، لقد قتلوا في سنوات الإرهاب الخمس عشرات من المصريين الذين سقطوا ضحية لإجرامهم، واغتالوا بشكل مباشر المستشار الخازندار بتوجيه من مرشدهم ومؤسس جماعتهم حسن البنا، واغتالوا اللواء سليم باشا زكي حكمدار العاصمة، وعندما أصدر رئيس الوزراء النقراشي باشا قرار حل الجماعة بسبب جرائمها الإرهابية قتلوه، ودبروا لقتل جمال عبد الناصر سنة 1954 عندما اختلفوا معه. ومن عبائتهم خرجت جماعات جهادية عدة مارست الإرهاب والاغتيال، وبررته ودعت إليه، وادعته نهجًا شرعيًا.
 وطوال سبعين عامًا ظل هذا التيار يمارس جرائمه في حق الإنسانية وفي حق الوطن، هذا التيار الذي لم يعتذر أبدًا عن جرائمه، ولم يتخل عن هذا الأسلوب بل ظل يعتبره منهجًا من مناهج عمله يستخدمه عندما يرى بأفقه الضيق أنه في حاجة إليه، ويتوقف عنه عندما يتصور أن بمقدوره تحقيق أهدافه بدونه، لكنه لا يدينه أبدًا.
 لا يمكن بالطبع استباق التحقيقات وإدانة طرف محدد بارتكاب جريمة اغتيال النائب العام، لكن المؤكد أنه أيًا من كان مرتكب هذه الجريمة فهي عمل مدان من كل إنسان يحترم قيم الإنسانية وحقوق الإنسان ويسعى لبناء مصر جديدة ديمقراطية.

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...