رحلة مع حكاية المصريين والدستور ( 17 )
انتصار الشعب وهزيمة الطغيان
عماد أبو غازي
في اليوم التالي لتشيع الجراحي اجتمعت اللجنة التنفيذية العليا
للطلبة واتخذت قرارات منها: فتح باب الاكتتاب لإرسال وفد من الطلبة إلى مقر عصبة
الأمم للمطالبة باستقلال مصر والسودان، والاحتجاج على إجابة الدعوة لزيارة الأسطول
البريطاني لمصر، ولم يتهمهم أحد بالاستقواء بالخارج، ومن هذه القرارات كذلك المطالبة
بمحاكمة المسئولين عن التصدي للمتظاهرين بعنف، كما أعلنت اللجنة مواصلة الطلاب
لنضالهم حتى تحقيق كل مطالب الأمة.
ورغم إحالة عدد من الطلاب المتظاهرين إلى المحاكم، استنادًا لقوانين
استحضارتها الحكومة لضرب حركة الطلاب، إلا أن الحركة تصاعدت واتسع نطاقها لتشمل
عددًا كبيرًا من المدن المصرية، واتخذ الطلاب قرارًا بأن يكون يوم الخميس 21
نوفمبر يومًا للإضراب العام حدادًا على أرواح الشهداء، ونجح الإضراب رغم جهود
الحكومة والإنجليز لإفشاله، فاحتجبت الصحف عن الصدور، وأغلقت المحال التجارية،
وأضرب المحامون، وخرجت المظاهرات إلى الشوارع تتقدمها الطالبات وتوجهت إلى بيت
الأمة حيث ألقت أم المصريين كلمة في الجموع المحتشدة أشادت فيها بالحركة الطلابية
الصاعدة التي تسعى نحو عودة الدستور والاستقلال، وفي نفس اليوم توجهت لجنة من
سيدات الوفد إلى مقابر الشهداء لوضع باقات الزهور، ثم زرن أسر من استشهدوا في
المظاهرات.
أم المصريين
وكان رد الحكومة مد قرار إغلاق الجامعة أسبوع ثم
أسبوعًا أخرًا لتستمر الجامعة مغلقة حتى يوم 7 ديسمبر، وخلال الأسبوعين سارت
الحركة في مسارين مختلفين:
فمن ناحية انضمت هيئات جديدة إلى حركة الاحتجاج
فأرسل القضاة رسالة للملك ورئيس وزرائه تؤكد رفضهم لغياب الحياة النيابية ولتدخل
بريطانيا في شئون مصر، وتوالت بعد ذلك بيانات الاحتجاج من أساتذة الجامعة، بدأت
بكلية الآداب وتلتها كليات الهندسة والتجارة والحقوق والطب والعلوم، وأصدر الأطباء
والمحامون بيانات تطالب بالدستور والاستقلال، واستمرت المظاهرات والمؤتمرات
السياسية رغم تعطيل الدراسة في الجامعة والأزهر وكثير من المدارس.
ومن ناحية أخرى بدأ انشقاق واضح في المعارضة،
فالوفد يرى أن المطلب الأساسي عودة دستور 23 وإجراء انتخابات نيابية تمهيدًا
للدخول في مفاوضات من أجل الاستقلال، بينما رأى الأحرار الدستوريين وبعض الأحزاب
الصغيرة تقديم مطلب الاستقلال على عودة الدستور، وانعكس الانقسام على حركة الطلاب
فظهرت اللجنة القومية من طلاب الأحرار ومصر الفتاة في مواجهة اللجنة التنفيذية
التي كان الوفد يسيطر عليها، وبدأت الاجتماعات الطلابية تشهد تراشقًا بالكلمات ثم
بالبيانات، ووصل الخلاف إلى ذروته في الأسبوع الأول من ديسمبر، واعتقدت بريطانيا
أن الأزمة إلى زوال قريب وأن الأمور ستعود إلى سابق عهدها، وتصورت حكومة نسيم
"إنه مولد وانفض"؛ وبالتالي لم تر مبررًا لتأجيل الدراسة مرة أخرى،
فالخلاف بين الطلاب أصبح أشد من خلافهم مع الحكومة، لقد كان الطلاب يعدون لإقامة
نصب تذكاري للشهداء بساحة الجامعة يزاح عنه الستار يوم افتتاح الدراسة صباح 7
ديسمبر، وكان متوقعًا أن يتحول الاحتفال إلى معركة على من يتقدم الحفل طالب الحقوق
محمد فريد زعلوك زعيم الطلبة الوفديين أم طالب الطب نور الدين طراف زعيم الجبهة
المعارضة للوفد، لكن رياح الشعب أتت بما لم تشتهه سفن الاحتلال والملك والحكومة،
انقلب الخلاف إلى اتفاق مرة أخرى، ومر حفل إزاحة الستار بسلام ووقف فيه طرفا
الخلاف متكاتفان، وصدر البيان الذي يعلن وحدة الصفوف، ويدعو قادة الأحزاب إلى الاتحاد
حول مطلبي الدستور والاستقلال معًا، ونشر البيان في الصحف صباح السبت 7 ديسمبر؛
وجاء فيه:
"لقد قام الشباب بحركته الأبية يوم عيد
الجهاد، صارخًا من اعتداء الاستعمار، مطلقًا صوته القوي داويًا مجلجلًا في أنحاء
العالم ـ بعد أن نفذ معين صبره، وتمزق أخر ستار عن رياء الإنجليز وخداعهم، ورأى
الشباب أن خير وسيلة لمجابهة هذا العدو المشترك، هو أن تكون صفوف الأمة كلها قلبًا
واحدًا ويدًا واحدة، كالبنيان المرصوص، أمام طغيانه وبهتانه ﴿إن الله يحب الذين
يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص﴾ ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾ ولما
ساروا في طريقهم اعترضهم خلاف برئ في الرأي، أوجد بعض الأمل عند المستعمرين في فشل
حركتهم، فراحوا يتغنون بذلك في صحفهم.
واليوم وقد بدا من تصريح وزير خارجية إنجلترا في
مجلس العموم أمس إصرار الإنجليز على إهدار حقوق الوطن، رأى الطلبة من واجبهم أن
يوحدوا جبهتهم ويجمعوا كلمتهم على أن يواصلوا السعي:
أولًا: للاستقلال لمصر والسودان
استقلالًا تامًا، وتحقيق جميع المطالب الوطنية، ومن بينها دستور 1923 مؤكدين العزم
على تقديم كل تضحية مهما غلت في سبيل ذلك.
ثانيًا: دعوة جميع الأحزاب والهيئات
إلى ترك المناقشات والخلافات الحزبية، وأن يوجهوا جميع قواهم إلى عدو الشعب
المشترك وهو الإنجليز، وأن يعملوا على تكوين جبهة وطنية قوية ضدهم".
وقد وقع على البيان أعضاء اللجنة التنفيذية
للطلبة.
وفي صباح 7 ديسمبر احتفل الطلاب، بحضور مدير
الجامعة أحمد لطفي السيد، بإزاحة الستار عن النصب التذكاري للشهداء، ثم خرجوا في
مظاهرة "لا يحدها النظر"، حسب وصف أحد المعاصرين، متوجهين إلى القاهرة
عبر كوبري عباس، فأمر قائد قوة البوليس بفتح الكوبري، وتصور أنه نجح في وقف
المظاهرة، إلا أن طلاب كلية الهندسة استقلوا القوارب إلى عوامة التحكم في الكوبري،
وأغلقوه لتعبر المظاهرة إلى منيل الروضة، الذي تحول إلى ساحة لمعركة حربية بين
الطلاب والبوليس وأصيب لوكاس بك مساعد
حكمدار العاصمة الإنجليزي إصابة خطيرة، كما أصيب مفتش البوليس نوبل في ساقه بطلقات
نارية كانت قواته تطلقها على الطلاب الذين أصيب العشرات منهم، واعتقل 78 طالبًا،
وكان البوليس شديد العنف في تعامله مع الطلاب فلجأ الكثيرون منهم للاختباء في بيوت
الحي.
استمرت المظاهرات لأيام واتسع نطاقها رغم إغلاق
الجامعة، واستجاب قادة الأحزاب للطلاب، وأعلنوا تأليف الجبهة الوطنية برئاسة مصطفى
النحاس باشا، وشاركت فيها كل الأحزاب السياسية وبعض المستقلين، ولم يبق خارجها سوى
حركة مصر الفتاة ذات الميول الفاشية وجماعة الإخوان المسلمين ـ بالطبع ـ فقد كان
موقفها دائمًا في الجبهة المعادية للشعب وحركته.
وصباح الأربعاء 11 ديسمبر 1935 صاغ قادة الجبهة
خطابين الأول للملك يطلب عودة دستور 1923، والثاني للمندوب السامي البريطاني يطلب
بدأ المفاوضات من أجل الجلاء، وسط ذهول الملك والإنجليز من التحول السريع في
المواقف، ولم ينقض يوم الخميس 12 ديسمبر 1935 إلا وكانت حكومة توفيق نسيم قد قدمت
استقالتها، وأصدر الملك أمرًا ملكيًا بعودة الدستور، وانتصر الشعب.
لقد ظلت أفكار عبدة السلطان الذين
باعوا ضمائرهم وعلمهم للمستبدين ملهمة لكل من يسعى إلى سلب الأمة حقوقها والتعدي
على حرياتها، وفي المقابل ستظل تضحيات شهداء الأمة من أمثال عبد الحكم الجراحي
وزملائه، وأفكار وقيم الحرية التي رفع راياتها ودافع عنها وضحى من أجلها العقاد
وطه حسين ومختار ومصطفى النحاس وويصا واصف وعدلي يكن وأحمد لطفي السيد وغيرهم،
هادية للشعب المصري مهما مر الزمن ومهما حاول المستبدون طمس هذه القيم وإخفائها
تحت التراب، لقد ذهبت أسماء من صنعوا دستور 30 إلى مزبلة التاريخ مع دستورهم، بينما
ظلت وستظل أسماء من قاوموا نهج الاستبداد ساطعة في سماء الوطن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق