الأربعاء، 25 فبراير 2015


النص الكامل لورقة: السياسات الثقافية في زمن التحولات، دون حذف، الورقة منشورة في كتاب "الثقافة أثناء الفترات الانتقالية" الصادر عن مركز الدراسات الإستراتجية بالأهرام، الجزء المحذوف مناقشة مواد الثقافة في الدستور الجديد. 
السياسات الثقافية في زمن التحولات

عماد أبو غازي

 مدخل:

 تستدعي التحولات السياسية الكبرى في المجتمعات دومًا الحاجة إلى صياغة سياسات ثقافية جديدة تتلاءم مع عملية التحول وتأتي في سياقها، كما أن التحولات الكبرى أيضًا تمهد لها تغيرات ثقافية في المجتمع؛ فالثورة فعل ثقافي في المقام الأول؛ الثورة تغيير يبدو مفاجأً في السلوك الجمعي لقطاع واسع من الناس، لكنه رغم ما يبدو من مظهر المفاجأة فيه يأتي دائما نتاج تراكم تلعب الثقافة بمعناها الواسع ـ أي منظومة السلوك والقيم ـ وبمعناها الضيق ـ أي الإبداع ـ كذلك دورًا أساسيًا في تحققه، والعلاقة بين الثقافة من ناحية والسياسة من ناحية أخرى علاقة تفاعلية، بل نستطيع القول أن السياسة ممارسة وأفكارًا هي جزء من ثقافة المجتمع.

*****
 لكن في البداية لابد من تحديد المقصود بالسياسة الثقافية؛ السياسة الثقافية واحدة من السياسات العامة في دولة من الدول، ومفهوم السياسات العامة من المفاهيم التي اهتمت بها العلوم السياسية بعد الحرب العالمية الثانية.

 وهناك عدة تعريفات لمفهوم السياسة العامة فقد عرّفتها الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية بأنها: "مجموعة من الأهداف تصاحبها مجموعة من القرارات أو البرامج الأساسية تحدد كيف تصنع الأهداف وكيف يمكن تنفيذها."

 كما تُعرّف السياسة العامة بأنها: "القرارات الحكومية الأساسية التى تحدد وترسم حياة المواطنين". وفي تعريف ثالث يركز على عناصر السياسة العامة تُوصف بأنها: "هدف أو مجموعة من الأهداف ومجموعة من الأفعال تقود إلى هذه الأهداف مع توافر إعلان النية حولها". وفي تعريف رابع يُركز على أهمية الاختيار يتحدد مفهوم السياسة العامة بأنها: "الاختيار المتروي المدروس لأهداف جماعية ولوسائل تحقيق هذه الأهداف اعتمادًا على قرارات عامة لها صفة سلطوية ملزمة لكل أعضاء المجتمع". وأخيرًا فإن السياسة العامة هي "التخصيص السلطوى للقيم على مستوى المجتمع ككل".

 ومفهوم السياسة الثقافية حديث نسبيًا بدأ مع تبني اليونسكو لهذا المفهوم الذي تطور مع مرور الزمن ليواكب تطور مفهوم الثقافة مما جعل نطاقه اليوم أوسع بكثير بحيث يشمل، إلى جانب الفنون والآداب، أنماط الحياة، وأساليب العيش معًا، ومنظومات القيم، والموروثات، والمعتقدات.

 والسياسة الثقافية مثلها مثل غيرها من السياسات العامة تحتاج إلى تحديد الرؤى، كما تحتاج إلى اتخاذ قرارات بشأن الخيارات المطروحة أمام متخذ القرار، وأحيانا تحتاج لاتخاذ قرارات صعبة، الأمر الذي نحتاج إليه في مصر الآن.

 تبدأ عملية رسم السياسة الثقافية بتحديد الأهداف، في إطار أهداف السياسة العامة للدولة، وبالتقاطع مع سياسات عامة أخرى، ثم اقتراح الخطط والبرامج المطلوبة لتحقيق هذه الأهداف، وأخيرا ابتكار وسائل لقياس مدى نجاح البرامج في تحقيق الأهداف، ومدى رضاء الجمهور المستهدف من السياسة عن النتائج المتحققة، مع أهمية التعديل الدوري لتلك السياسة بما يناسب التطورات المجتمعية.

 وعندما قامت ثورات الربيع العربي، ومن بينها ثورة 25 يناير 2011 في مصر، أصبح من الضروري إعادة النظر في السياسات العامة لدول تلك الثورات، ومن بين هذه السياسات العامة السياسات الثقافية؛ وهذا ما عرفته مصر عقب كل تحول كبير في تاريخها الحديث، حتى قبل أن يظهر مفهوم السياسات العامة يمكن أن نرصد تغيرات جوهرية في مجال الثقافة تمهد للتحولات الكبرى وتعقبها.

 وقد عرفت مصر قبل ثورة 25 يناير ثلاث ثورات شعبية كبرى في تاريخها الحديث كان لها آثارها في المجال الثقافي كما كانت لها مقدمتها الثقافية والفكرية، ثورة 1805 التي أطاحت بالباشا العثماني ونصّبت محمد علي حاكمًا على مصر، والثورة العرابية في 1881، وثورة 1919.

  الثقافة في زمن التحولات ـ نظرة في التاريخ:

 في نهاية القرن الثامن عشر كانت مسام المجتمع المصري تتفتح لتقبل الجديد، فقد شهدت مصر تغيرات اجتماعية وفكرية وثقافية مهمة توجتها انتفاضة شعبية في يوليو 1795 فرضت على أمراء المماليك توقيع حجة شرعية تعهدوا فيها بالتوقف عن فرض الجبايات والعودة إلى المشايخ كممثلين للناس قبل اتخاذ إجراءات تؤثر في حياتهم. كانت تلك السنوات تمهيدًا للمرحلة التي أعقبت الحملة الفرنسية على مصر، كما شكلت الحملة الفرنسية نفسها استفزازًا أطلق الطاقات الكامنة في المجتمع سياسيًا وفكريًا، فعاشت مصر الخمس سنوات الأولى من القرن التاسع عشر في حراك سياسي مستمر وحالة من الغليان انتهت بثورة شعبية كبيرة في مايو سنة 1805 أرغمت السلطان العثماني على عزل خورشيد باشا وتولية محمد علي مكانه وفقًا لشروط اشترطوها على الأخير، وكانت المرة الأولى التي اختار فيها المصريون حاكمهم بأنفسهم.

 وبعد ثورة 1805 التي أتت بمحمد علي إلى حكم مصر اتبع الباشا تدريجيًا سياسات جديدة أعادت صياغة المجتمع المصري استنادًا إلى التراكمات التي حدثت في السنوات السابقة، وفي هذا السياق ظهرت النواة الأولى للمؤسسات الثقافية الحديثة في مصر، التي ترتبط ببناء الدولة القومية؛ أعني: الأرشيف القومي والمتحف القومي والمكتبة القومية، وقد تطورت هذه المؤسسات في عهود خلفائه، كما دخلت مصر في عهده إلى مضمار الصناعات الثقافية بدخول المطبعة، ولم ينتهي القرن التاسع عشر قبل أن تكتمل في مصر بنية هذه المؤسسات الثقافية الكبرى، ومع بعثاته للخارج والمدارس الحديثة التي أنشأها تكونت نخبة ثقافية جديدة، كما بدأ مشروع الترجمة الذي قاده رفاعة الطهطاوي معتمدًا على هذه النخبة التي تعلمت تعليمًا أوروبيًا حديثًا.

 ورغم أن كل هذه المشروعات الثقافية إرتبطت بمشروع محمد علي السياسي وتأرجحت نموًا وانحسارًا بتأرجح مشروعه، إلا أنها صنعت بمعنى ما مصر جديدة مختلفة ثقافيًا عن تلك التي كانت في بداية عهده.

 الأمر الثاني الذي أسهم في تغيير المجتمع كان التجنيد الإجباري للفلاحين المصريين، فرغم مقاومتهم للتجنيد وسعيهم للتهرب منه؛ إلا أن المحصلة النهائية لسياسة محمد علي الجديدة أدت إلى ظهور نخبة عسكرية مصرية إلتحمت مع النخبة البيروقراطية التكنوقراطية التي تخرجت من المدارس الحديثة ومع كبار الملاك المصريين الذين تبلوروا في عصر سعيد باشا ليقودوا معا موجة جديدة من موجات التغيير بلغت ذروتها بالثورة العرابية سنة 1881.

 فقد شهدت مصر في السنوات السابقة على قيام الثورة العرابية حراكًا ثقافيًا طوال عقد ونصف من الزمان على الأقل، شارك في صنعه مجموعة من أبناء النخبة المصرية الجديدة التي تكونت تدريجيًا منذ عصر محمد علي، مع انتشار التعليم الحديث وعودة البعثات التي أرسلها الباشا إلى أوروبا، ثم توطدت اجتماعيًا بالتغيرات التي شهدها عصر سعيد باشا، خاصة مع قرار إلغاء الجزية الذي أسهم في تحقيق الانصهار الوطني، ولائحة الفلاح التي غيرت وضع الحيازة الزراعية في مصر وسمحت بظهور طبقة من كبار الملاك الزراعيين ومتوسطيهم من المصريين. كذلك لعب المثقفون الشوام الذين هاجروا إلى مصر مبتعدين عن السطوة العثمانية دورًا مهما في هذا الحراك.

 وتمثل هذا الحراك الثقافي في تيار وطني في الصحافة وكتابات متعددة تدعو إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي والتعليمي، كما ظهرت أنواع أدبية وفنية جديدة على الساحة المصرية كالمسرح والمقال الصحفي وفن الكاريكاتير، إلى جانب أنواع قديمة كالشعر والزجل والنثر الأدبي، ومن ملامح التغيير الثقافي في تلك الفترة الكتابة بالمصرية الحديثة التي يُطلق عليها العامية المصرية.

 كانت هذه الأنواع الأدبية والفنية سلاحًا لنقد السلطة وللمساهمة في تكوين رأي عام يسعى لتحقيق شعار تلك المرحلة "مصر للمصريين"، ذلك الشعار الذي كان يعني بالدرجة الأولى حق المصريين في إدارة شئونهم بأنفسهم، ومواجهة الآمتيازات الأجنبية والتدخل الأوروبي في أمور البلاد.

 ورغم تعرض كثير من الصحف والأعمال المسرحية للمصادرة والمنع، وتعرض القائمين عليها وبها للملاحقة والنفي، إلا أن تلك النهضة الثقافية أثمرت تغيرات واضحة في المجتمع المصري، وتضافرت مع حركة سياسية وطنية دستورية، مهدتا معًا للحدث الأكبر والأهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعني الثورة العرابية.

 فقد شهدت نهاية السبعينيات من القرن التاسع عشر تحولًا مهما في نضال الشعب المصري من أجل الدستور، حيث طرحت الحركة الوطنية الصاعدة التي ضمت قادة النخبة السياسية الجديدة الدستور والرقابة البرلمانية على الحكومة والمشاركة في التشريع على رأس مطالبها، وكانت تلك النخبة الجديدة تضم نوابًا تمرسوا في العمل البرلماني منذ عام 1866، وبعضًا من أعيان الريف، ومجموعة من الكتاب ورجال الفكر والصحافة، وعناصر من الجهاز البيروقراطي للدولة، ومن ضباط الجيش خاصة من ذوي الأصول المصرية، وقد إرتبطت المطالبة بالدستور منذ ذلك الحين بقضية استقلال القرار الوطني ومواجهة التدخلات الأجنبية في شئون البلاد.

 لقد أسهمت روافد عدة في تغيير المجتمع وثقافته آنذاك، في تلك السنوات التي مهدت للثورة العرابية؛ فمن ناحية لعبت كتابات الإصلاحيين وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي، وآخرها كتابه "المرشد الأمين للبنات والبنين"، الذي صدر بعد وفاته بثلاث سنوات، في عام 1875، دورًا في هذا التغيير.

 ومن ناحية أخرى كان للأفكار السياسية للأفغاني الوافد إلى مصر ولتلاميذه وفي مقدمتهم الإمام محمد عبده، دورها في التمهيد للتغيير الثقافي وللثورة، وقد استمر نضال الأفغاني وعدد من تلاميذه داخل مصر وخارجها ضد الاحتلال بعد هزيمة الثورة. كذلك كان للنضال السياسي للعناصر التي تمرست في العمل البرلماني منذ 1866 دورها البارز في تغيير الواقع المصري.

 كما برزت في تلك المرحلة أسماء مثل يعقوب صنوع ربيب القصر الذي انقلب محرضًا ضد الاستبداد من خلال مقالاته ورسومه الكاريكاترية ومسرحياته، فانتهى به الأمر منفيا خارج البلاد. وعبد الله نديم خطيب الثورة العرابية ولسان حالها الذي انتهى به الحال هو الآخر منفيا خارج الوطن.

 لقد بدأ صنوع مسرحه في عام 1869 وأنشأ فرقته الخاصة لتقديم مسرحياته وقدم أعمالًا مسرحية كوميدية تنتقد السلوكيات الاجتماعية الخاطئة، وعرض مسرحياته على منصة مقهى موسيقي كبير بحديقة الأزبكية وفي فرقته ظهرت النساء لأول مرة على خشبة المسرح، فكان رائدًا لثورة اجتماعية في اتجاه تغيير مفاهيم المجتمع، ومن أعماله: "أنسة على الموضة"، و"غندورة مصر"، و"الضرتان"، وسمح له الخديوي بإنشاء مسرح قومى لعرض مسرحياته على عامة الشعب، وقد عرض على هذا المسرح أكثر من مائتي عرض لاثنتين وثلاثين مسرحية ألفها، إلى أن قدم مسرحية "الوطن والحريه" فغضب عليه الخديوي إسماعيل لأنه سخر فيها من فساد القصر ثم أغلق مسرحه ونفاه إلى فرنسا سنة 1878، حيث عاش هناك حتى وفاته سنة 1912. وقد أنشأ صنوع عددًا من الصحف في مصر ثم في باريس بعد نفيه، أهمها: "أبو نضارة" التي اضطر إلى إعادة إصدارها باسم "أبو نظارة زرقاء"، ثم صحيفة "الوطن المصري" و "أبو صفّارة" التي تغيير اسمها إلى "أبو زمّارة"، وصحيفة "الثرثارة المصرية"، وجميعها كانت تبث روح الثورة في المجتمع، واستمر في دعايته قبل الثورة وبعدها.

 أما عبد الله نديم فقد خرج من قلب الطبقات الشعبية وعبر عن آمالها وأحلامها، بل عن آمال الوطن كله وهمومه من خلال خطبه ومقالاته وأشعاره الناقدة الساخرة عبر مجلة "التنكيت والتبكيت"، وصار خطيبا للثورة العرابية، وأصبحت جريدته "الطائف" لسان حالها، وانتهى به الحال بعد هزيمة الثورة هاربًا وملاحقًا لمدة تسع سنوات ثم منفيًا، لكنه عاد من المنفى في تسعينيات القرن بعد أن تولى عباس حلمي الثاني مقعد الخديوية؛ فواصل نضاله مصدرًا ثالث مجلاته "الأستاذ"، واستمر في دعوته للتغيير منتقدًا ما يراه من مثالب في ثقافة المجتمع، ومحرضًا على مواجهة سلطات الاحتلال، ليعود للمنفى مرة ثانية حيث مات غريبًا بعيدًا عن الوطن، لكنه ترك بذرة أسهمت في التحضير للثورة التالية، ثورة 1919.

 ومع بدايات القرن العشرين شهدت مصر تحولات ثقافية مهدت للثورة، كان أبرزها تأسيس مدرسة الفنون الجميلة والجامعة الأهلية، وحركة إبداعية واجهت سلطات الاحتلال بالشعر والمسرح والغناء، واستمرت حتى قيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914، وعقب انتهاء الحرب وإعلان الهدنة في نوفمبر 1918 بدأت موجة ثورية جديدة في مصر، تصاعدت تدريجيًا إلى أن انفجرت ثورة 1919 في مارس عقب نفي سعد زغلول ورفاقه إلى مالطة، وقد واكب الثورة جيل من المبدعين ولد معظمهم في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين، وقد تميز أبناء ذلك الجيل بأنهم نبغوا في مرحلة الشباب المبكر، فأغلبهم قدم إنجازًا مهمًا وهو بعد في العقد الثالث من عمره، كما أنهم عرفوا كيف يتمردون على الثوابت ويتجاوزوا الواقع متطلعين إلى المستقبل، فكانوا بذلك بناة نهضة حقيقية، ثم جاءت ثورة 1919 لتطلق أقصى طاقاتهم الإبداعية، حيث إرتبطوا بالثورة وبالحركة الوطنية المصرية وأصبحوا لسان حالها في الفن والأدب والثقافة، لقد حولتهم الثورة التي اندمجوا بمسيرتها إلى شموس في سماء الوطن، ومن بين هؤلاء سيد درويش الذي كان صوت الثورة وأغنيتها وكان في ذات الوقت ثورة في النغم والغناء، ومختار الذي عبر عن الثورة نحتا وشق للفن التشكيلي طريقًا جديدًا في مصر، ومن هذا الجيل أيضًا العقاد الذي يعد من أبرز مثقفي هذا الجيل ومبدعيه الذين عاشوا حياتهم مدافعين عن قيم الديمقراطية والدستور، وطه حسين الذي كرس حياته لتشييد قيم ثقافية جديدة في المجتمع، كذلك كان الحكيم الذي يعتبر بحق واحدًا من آباء المسرح المصري الحديث. أما الجيل الذي تفتح وعيه على الثورة فمن أبرز رموزه يحيى حقي ونجيب محفوظ وفتحي رضوان، وغيرهم ممن أثروا في الحياة الثقافية والسياسية في سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي.

 وربما كان سيد درويش ومختار من بين أبناء جيلهما، هما الأكثر تعبيرًا في مجال الفنون عن الثورة المصرية وقيمها، والأبلغ في التعبير عن أبناء الشعب البسطاء صانعي الحضارة من فلاحين وحرفيين وعمال، والأقدر على استلهام أعمالهما من روح هذا الشعب وتراثه، وعلى حل إشكالية الأصالة والمعاصرة.

 ولا يختلف مجال الإبداع الفني والأدبي عن غيره من المجالات التي تفاعلت مع الثورة، عبرت عنها وتأثرت بها؛ فبقدر ما ساهمت الأعمال الإبداعية في الحشد للثورة والتعبير عنها وإيصال رسالتها للجماهير، أو اتخذتها موضوعًا لها في السنوات التالية، بقدر ما كانت التغيرات المجتمعية التي أحدثتها الثورة في مصر دافعًا لتطور الإبداع الأدبي والفني ومعه الوضع الثقافي العام.

 وقد اختلف التفاعل بين الفن والثورة من نوع فني أو أدبي إلى نوع آخر، فبينما كان تعبير بعض الأنواع عن الثورة ابن اللحظة التاريخية للثورة وحاشدًا للجماهير حولها ووسيلة من وسائل حمل أهداف الثورة إلى الناس، أي آداة من أدوات الدعاية الثورية مثلها في ذلك مثل منشورات الثورة، كانت أنواع أخرى مُوثِقة للثورة ومسجلة لها من خلال النوع الأدبي أو الفني، عبر استخدام حدث الثورة موضوعًا للإبداع بعد إنتهاء الحدث.

 فإذا كانت فنون الشعر والموسيقى والغناء قد واكبت الثورة وعبرت عنها وكانت آداة للتحريض الثوري في صفوف الجماهير، فإن الأعمال الروائية المهمة التي اتخذت ثورة 1919 موضوعًا لها كانت في معظمها بعيدة زمنيًا عن الحدث، ولعل أجلى التعبيرات الأدبية عن الثورة جاءت من خلال "عودة الروح" للحكيم و"قنطرة الذي كفر" لمشرفة والجزء الأول من ثلاثية محفوظ "بين القصرين".

 أما الفن التشكيلي والذي كانت أجلى تعبيراته عن الثورة تمثال نهضة مصر لمختار فقد جمع بين الخاصيتين، ففكرة التمثال كانت وليدة اللحظة الثورية وتعبيرا عنها، لكن تنفيذ العمل الذي استغرق ثمان سنوات حتى يستوى كتمثال ميدان في باب الحديد، جعل منه تخليدًا لها عبر الزمن، كذلك كان تمثالي سعد زغلول في القاهرة والإسكندرية لمختار توثيقًا لحدث الثورة بعد سنوات على وقوعها.

 وقد أعقب الثورة تحولات ثقافية مهمة في المجتمع وبدأت الدولة من خلال وزارة المعارف العمومية تلعب دورًا متزايدًا في مجال الثقافة إلى جانب النشاط الأهلي والأنشطة الثقافية الربحية التي شهدت جميعًا إنطلاقة قوية في العقود الثلاثة التالية للثورة.

 وبعد نجاح حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952 وسيطرتها الكاملة في أعقاب أزمة مارس 1954 بدأت مرحلة جديدة في تاريخ مصر السياسي انعكست بشكل واضح على الساحة الثقافية، فتعاظم دور الدولة في العمل الثقافي وتراجع دور العمل الأهلي على الأقل في العقدين الأولين من هذه الحقبة، كما تأثرت الصناعات الثقافية وخضع الكثير منها لسيطرة الدولة.

 واليوم ما الذي يتطلع إليه المجتمع المصري في مجال السياسات الثقافية بعد ثورة شعبية جديدة رفعت شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، وبعد 60 عاما من الحكم الشمولي؟

 لا شك في أن الإجابة على هذا السؤال تستدعي استعراضًا لبنية المؤسسات الثقافية الحديثة في مصر منذ نشأتها مع التركيز على السنوات الستين للحكم الشمولي التي ظهرت فيها وزارة الثقافة وتعاظم دور الدولة في العمل الثقافي.

نشأة المؤسسات الثقافية الحديثة وتطورها في مصر:

 

 عرفت مصر المؤسسات الثقافية الحديثة في القرن التاسع عشر، بداية من عصر محمد علي باشا، وينسب لعصره وضع أسس الدولة المصرية الحديثة عموما، ومن بينها المؤسسات الثقافية، مثل: المطبعة والمكتبة والأرشيف والمتحف؛ ففي عام 1829 أنشأ محمد علي باشا كتبخانة (مكتبة) بالقلعة لاستخدامه الشخصي واستخدام كبار رجال دولته، كانت نواة للكتبخانة الخديوية فيما بعد، وفي نفس العام أنشأ ديوان الدفترخانة الذي أصبح بمثابة الأرشيف القومي للدولة لسنوات طويلة، وبعدها بسنوات تأسس أول متحف للآثار القديمة استجابة لدعوة رفاعة الطهطاوي، وكانت مصر قد عرفت كذلك في عهده الصناعات الثقافية الحديثة عندما أنشأ مطبعة بولاق سنة 1822 لتدخل مصر عصر الكتاب المطبوع، ولم يقتصر الدور الذي قامت به الدولة في القرن التاسع عشر على ذلك، ففي عصر إسماعيل تأسست دار الأوبرا المصرية، والكتبخانة الخديوية، كما عرفت مصر كذلك ظهور المصالح الحكومية ذات الصلة بالثقافة بداية بمصلحة الآثار، وفي النصف الأول من القرن العشرين توالى إنشاء المتاحف التابعة للدولة، كما تأسست إدارة للفنون الجميلة بوزارة المعارف العمومية، التي حملت مسئولية جزء من القطاع الثقافي التابع للدولة.

 ثم عرفت مصر وزارة الثقافة تحت هذا المسمى لأول مرة عام 1958، لتكون بذلك أول وزارة للثقافة في العالم العربي والقارة الإفريقية بل ومن أوليات وزارات الثقافة على مستوى العالم. وكان النظام الجديد بعد يوليو 1952 قد أنشأ وزارة باسم وزارة الإرشاد القومي تولاها عند تأسيسها في نوفمبر 1952 السياسي المخضرم فتحي رضوان مؤسس الحزب الوطني الجديد، والذي كان قد شارك في الثلاثينات في تأسيس مصر الفتاة، ويبدو أن فكرة وزارة الإرشاد القومي جاءت باقتراح منه، والاسم الذي حملته الوزارة يحمل دلالة مهمة، فهي وزارة تتولى مسئولية التوجيه وصياغة العقل المصري، وتدريجيا تم تأسيس مؤسسات حكومية جديدة للعمل الثقافي أضيفت لما سبق تأسيسه منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، فتأسست مصلحة الفنون ثم المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وفي أكتوبر عام 1958 أصبح مسمى الوزارة وزارة الثقافة والإرشاد القومي، وتولاها أحد ضباط يوليو الدكتور ثروت عكاشة الذي يعتبر بحق الأب المؤسس لوزارة الثقافة ومؤسساتها في مصر، وخلال مرحلة الستينيات تناوب على الوزارة شخصيتان من أصول عسكرية تبنى كل منهما سياسة مختلفة عن الآخر: الدكتور ثروت عكاشة والدكتور عبد القادر حاتم، ففي الوقت الذي تعامل فيه الأول مع الثقافة باعتبارها صناعة ثقيلة ينبغي أن توليها الدولة اهتمامًا واضحًا، كان تركيز الثاني على مجال الإعلام، وقد حرص في أغلب فترات توليه للوزارة أن يجمع بين الإعلام والثقافة تحت مظلة واحدة. وطوال تلك الفترة كانت الدولة تقوم برسم السياسة الثقافية وتشرف على تنفيذها، وتراجع النشاط الأهلي حيث خضعت الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخاصة لقيود مشددة من الدولة، كما تراجعت الصناعات الثقافية الخاصة مع موجة التأميمات في مطلع الستينيات، حيث طال التأميم كثير من دور النشر الكبرى وشركات الإنتاج السينمائي، ودخلت الدولة بقوة في مجال الصناعات الثقافية من خلال وزارة الثقافة، لكن هذا لا يعني أن الدولة نجحت نجاحًا كاملًا في استخدام الثقافة في السيطرة على العقول، فقد كانت هذه مهمة الإعلام بالدرجة الأولى، لكن وزارة الثقافة نجحت في استيعاب أعدادًا من المثقفين والمبدعين من مختلف الاتجاهات داخل مؤسساتها، كما قامت الثقافة الجماهيرية التي انتشرت فروعها في مختلف محافظات مصر بدور مهم في نشر الثقافة الرسمية، لكنها في الوقت ذاته وفرت ساحات للنشاط الثقافي في مناطق حرمت من الخدمات الثقافية لسنوات، ومن الجدير بالذكر هنا أن المحاولات التي قام به بعض العاملين في الثقافة الجماهيرية لتقديم ثقافة مختلفة تمت محاصرتها والتعامل معها من قبل الجهات الأمنية.

  أما حقبة السبعينيات فقد شهدت تغيرًا واضحًا في اتجاهات العمل بوزارة الثقافة، فمن ناحية غلب الميل لاتجاه الإعلام على حساب الثقافة، ومن ناحية أخرى اتسعت الفجوة بين قطاع من النخبة المثقفة ومؤسسات الدولة الثقافية، حيث تم تدريجيًا استبعاد المبدعين والمثقفين المنتمين لليسار بمختلف اتجاهاته من مؤسسات الوزارة منذ مايو 1971، وفي نفس الوقت تراجع دور الدولة في العمل الثقافي لتنتهي تلك المرحلة بإلغاء وزارة الثقافة ليحل محلها المجلس الأعلى للثقافة مع الإبقاء على هيئة الآثار وهيئة الكتاب وتحويل تبعية قصور الثقافة للمحليات، وتحول وزير الثقافة إلى وزير دولة للثقافة والإعلام، وقد جاء ذلك في سياق سياسة جديدة للدولة لإلغاء الوزارات الخدمية وتحويلها إلى وزارات دولة، وتولي المحليات جزءًا أساسيًا من مسئولية القطاع الخدمي. وكان لهذ الاتجاه وجهه الإيجابي حيث برز اتجاهًا متصاعدًا لظهور تيار ثقافي مستقل يعمل بعيدًا عن مؤسسات الدولة وفي مواجهتها أحيانًا، وكانت البوادر الأولى لهذه الظاهرة ولظهور هذا التيار قد بدأت عقب نكسة يونيو 1967، لكنها اتسعت بشكل واضح في النصف الثاني من السبعينيات.

 ومع السنوات الأولى للثمانينيات وعقب اغتيال الرئيس أنور السادات بدأت سياسة ثقافية جديدة للدولة، قامت على استخدام الثقافة كمدخل لاستعادة وجود مصر في العالم العربي بعد المقاطعة التي بدأت مع كامب ديفيد، وعلى مستوى الداخل السعي نحو التصالح مع المثقفين بمختلف اتجاهاتهم والعمل على استعادتهم لمؤسسات الدولة الثقافية، وقد تصاعد هذا الاتجاه بشكل واضح منذ آواخر الثمانينيات، لكن الأمر لم يطل حيث شهدت السنوات السابقة على الثورة عودة الانقسام إلى الساحة الثقافية ونمو تيار الثقافة المستقلة.

 طوال الأعوام الستين للحكم الشمولي كانت الثقافة تستخدم بأشكال مختلفة لترسيخ سلطة الدولة وللترويج لقيم النظام القائم، لكن المحصلة النهائية لم تؤد إلى نجاح النظام في فرض سياسة محددة بدليل ما نعيشه الآن.

 ومنذ تأسست وزارة الثقافة المصرية عام 1958 مرت بتطورات متعددة في هياكلها التنظيمية، خاصة في علاقتها بوزارة الإرشاد القومي (الإعلام فيما بعد)، فما بين الدمج والفصل بين الوزارتين تغيير وضع وزارة الثقافة أكثر من مرة، إلى أن استقرت كوزارة للثقافة منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وفي أعقاب ثورة 25 يناير 2011 تم فصل الآثار عن الثقافة وأصبح هناك وزير دولة للآثار يشرف على عمل المجلس الأعلى للآثار.

 لقد ضمت وزارة الثقافة منذ البداية مجموعة من الكيانات الحكومية التي كانت قائمة وتتبع وزارات أخرى، كما استحدثت الوزارة كيانات جديدة، وضمت إليها بعض الكيانات الخاصة العاملة في مجال الصناعات الثقافية، والتي تم تأميمها في الستينيات، وطوال أكثر من خمسين عامًا من عمر هذه الوزارة تغيرت هياكلها التنظيمية عدة مرات إلى أن استقرت مؤخرا على الوضع الذي

يوضحه الشكل التالي:

 


 

الهيكل الحالي لهيئات وزارة الثقافة وقطاعاتها الرئيسية

 

 وإذا كانت وزارة الثقافة هي الوزارة المنوط بها بشكل أساسي أعباء العمل الثقافي الحكومي في مصر، فإنها بالتأكيد لا تنفرد بتشكيل ثقافة المجتمع أو ثقافة المواطن، فهناك وزارات ومؤسسات حكومية أخرى تلعب دورًا مهمًا في هذا المجال أو يفترض فيها أن تقوم بهذا الدور؛ خاصة وزارات الإعلام والتربية والتعليم والأوقاف والاتصالات والسياحة والآثار، وهناك أيضًا الجامعات والمجلس القومي للشباب والمجلس القومي للأسرة والسكان والمجلس القومي للمرأة والمجلس القومي لحقوق الإنسان، كل في مجال اختصاصه.

 

 ومنذ البداية سار العمل الثقافي في ثلاثة مسارات متوازية ومتفاعلة في آن واحد: المسار الحكومي والمسار الأهلي والمسار الخاص الربحي المرتبط بالصناعات الثقافية؛ ففي القرن التاسع عشر بدأت مصر تعرف الصناعات الثقافية الحديثة في مجالات صناعة الكتاب والنشر، ثم صناعة الموسيقى والغناء، كما ظهرت الفرق المسرحية الخاصة، وبعد اختراع السينما في أواخر القرن التاسع عشر بسنوات قليلة ظهرت صناعة السينما في مصر، وقد بدأت هذه الصناعات على أيدي غير المصريين لكن سرعان ما دخل المصريون إلى عالمها.

 وفيه أيضا ظهرت الجمعيات الأهلية العاملة في المجال الثقافي، وأسهمت بعض هذه الجمعيات خلال النصف الأول من القرن العشرين في إنشاء بعض المشروعات الثقافية الكبرى في مصر.

 وإلى جانب هذه القطاعات الثلاثة العاملة في المجال الثقافي: القطاع الحكومي والقطاع الخاص والقطاع الأهلي، هناك أيضا جماعات المصالح من نقابات واتحادات وغرف صناعة وجمعيات والتي تعبر عن العاملين في الحقل الثقافي وتدافع عن مصالحهم.

 ورغم أن العمل الثقافي ظل دومًا قائمًا على هذه القطاعات مجتمعة إلا أن المرحلة الشمولية شهدت سيطرة للدولة على كل القطاعات من خلال بنية تشريعية تخضع كل هذه المؤسسات لأشكال متعددة من رقابة الدولة وقدرتها على التدخل في عملها.

 حيث تتحكم في العمل الثقافي في مصر بنية تشريعية تتضمن مجموعة من القوانين واللوائح والقرارات الجمهورية والقرارات الوزارية التي صدرت على مدار السنوات السابقة، وتنقسم هذه التشريعات إلى:

1.     القوانين والقرارات المنشئة لهيئات الوزارة وقطاعاتها ومراكزها المختلفة، والتي تحدد اختصاصاتها ووظائفها وهياكلها الإدارية وأسلوب إدارتها.

2.     قوانين إنشاء النقابات الفنية واتحاد الكتاب باعتبارها نقابات مهنية لابد لتأسيسها من صدور قانون من المجلس النيابي التشريعي.

3.     مجموعة من القوانين التي سُنت من أجل تحقيق أهداف الحفاظ على التراث القومي، مثل: قانون الآثار وقانون إنشاء دار الوثائق القومية التاريخية وقوانين الحفاظ على سرية الوثائق ولائحة محفوظات الحكومة وقانون المخطوطات وقانون الحفاظ على التراث المعماري.

4.     مجموعة التشريعات التي تنظم عمليات حماية حقوق الملكية الفكرية.

5.     القوانين المنظمة لعمليات الرقابة على الإنتاج الثقافي.

6.     القوانين العامة التي تتماس مع العمل الثقافي، مثل قوانين الضرائب والجمارك، والقوانين التي تنظم عمل الجمعيات الأهلية والمؤسسات الخاصة، ومواد قانون العقوبات التي تجرم بعض أشكال التعبير عن الرأي.

 وهذه المجموعات من القوانين والتشريعات صدرت على مدى ما يقرب من قرنين من الزمان وأدخلت عليها تعديلات متعددة، وكثير من هذه التشريعات يحتاج إلى المراجعة الآن للتخلص من آثار الحقبة الشمولية في التشريع، ولتعبر هذه التشريعات عن مرحلة جديدة بحق، وربما كان من أول التشريعات التي تحتاج إلى التغيير القوانين المنظمة للرقابة وقانون الحفاظ على سرية الوثائق وقوانين النقابات الفنية التي ترهن الحق في ممارسة المهن الإبداعية على عضوية تلك النقابات أو الحصول على تصريح منها، ومواد قانون العقوبات المتعارضة مع حرية التعبير، كما أن هناك حاجة إلى إصدار قوانين جديدة ربما في مقدمتها قانون حرية تداول المعلومات.

 كذلك فإن الدستور الأخير الذي صدر في ديسمبر 2012 وتم تعطيله في الثالث من يوليو 2013، مثله مثل أغلب الدساتير المصرية السابقة عليه معيب فيما يختص بتعليقه كثير من الحريات والحقوق على نصوص القوانين، فيأخذ بيد ما يعطيه باليد الأخرى، ومن هنا فقد كان لا بد من مراعاة ذلك عند إجراء التعديلات الدستورية المنتظرة أو إصدار دستور جديد.

 فهل تحقق هذا؟ في الحقيقة استمر في الدستور المعدل أو دستور 2014 تعليق كثير من الحقوق والحريات على نصوص القوانين التي يصدرها المجلس التشريعي، لكن الدستور الجديد تضمن نصا غاية في الأهمية حيث نصت المادة 92 على أن: "الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلًا ولا انتقاصًا، ولا يجوز لأى قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها"، كذلك نصت المادة 226 الخاصة باجراءات تعديل الدستور على أنه لا يجوز تعديل المواد المتعلقة بمبادئ الحرية أو المساواة ما لم يكن التعديل متعلقًا بالمزيد من الضمانات.

 

 هذا وقد أولى دستور 2014 اهتمامًا غير مسبوق في الدساتير المصرية بقضايا الثقافة؛ حيث تضمن الباب الثاني الذي يحمل عنوان "المقومات الأساسية للمجتمع" فصلًا عن المقومات الثقافية يتكون من أربع مواد، إلى جانب عدة مواد في باب الحقوق والحريات والواجبات العامة، وبمعنى ما تعد هذه المواد أساسًا من أسس السياسة الثقافية للدولة في المرحلة القادمة، في حالة ما إذا تم احترام نصوص الدستور والالتزام بها.

 وتركز المواد ذات الصلة بالثقافة في الدستور على التزام الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية، واكدت النصوص على تنوع الروافد الحضارية للهوية المصرية، الأمر الذي أشارت له مواضع أخرى في الدستور رسخت مبدأ الاعتراف بالتنوع الثقافي في المجتمع المصري، كما أكدت على التزام الدولة بحماية الآثار والحفاظ عليها، كذلك على التزامها بحماية الرصيد الثقافي المعاصر بتنوعاته المختلفة، ويعد هذا تطورا مهمًا ولافتًا في صياغة الدساتير المصرية منذ الخمسينيات.

 كما ألزم الدستور الدولة بدعم الثقافة، حيث نصت المادة ٤٨ من الدستور على أن: "الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة وتلتزم بدعمه وبإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب، دون تمييز بسبب القدرة المالية أو الموقع الجغرافي أو غير ذلك، وتولي اهتمامًا خاصًا بالمناطق النائية والفئات الأكثر احتياجًا."

 وفي باب الحريات أكدت مواد الدستور على أن حرية الاعتقاد مطلقة، وعلى كفالة حرية الفكر والرأي والتعبير وحرية البحث العلمي، وإذا كان الدستور نص في مادته السابعة والستين على أن حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة، والزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب وبرعاية المبدعين وحماية إبداعهم، وتوفير وسائل التشجيع لهم إلا أن نفس المادة فتحت بابًا خطيرًا لمصادرة الإبداع، حيث نصت المادة في وسطها على أنه "لا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة"، ورغم أن الدافع وراء هذه الصياغة إغلاق الباب أمام دعاوى الحسبة، إلا أن واقع الحال أنها أقرت مصادرة الأعمال الإبداعية و"دسترت" هذه المصادرة وهذا تراجع خطير في مجال حرية الإبداع. 

 ومن النصوص الإيجابية في الدستور فيما يتعلق بالمجال الثقافي والمعرفي المادة ٦٨ المتعلقة بحق الشعب في الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والتي أكدت على دور دار الوثائق القومية في حفظ وثائق الدولة وإتاحتها، كما نصت المادة ٦٩ على التزام الدولة بحماية حقوق الملكية الفكرية بشتى أنواعها. 

 إن مواد الدستور المتعلقة بالثقافة في مجملها تلزم الدولة بسياسة ثقافية تسهم في تحقيق ديمقراطية الثقافة باستثناء الجزء المعيب من المادة ٦٧.

 لكن الأمر سيتوقف في النهاية على مدى احترام الدولة ومؤسساتها لمواد هذا الدستور وتطبيقها في الواقع، فالخبرة التاريخية في مصر فيما يتعلق باحترام السلطات للدساتير منذ دستور 1923 سلبية، وما شهدته الأيام التي تلت الموافقة على الدستور من خروقات لبعض مواده تدعو للقلق، لكن فرض احترام الدستور والقانون يتوقف على وعي الشعب بالأساس وتمسكه بحقوقه، إنها معركة متواصلة بين قوى الثبات والاستبداد وتيارات التغيير الديمقراطي، فمن سينتصر؟ هذا ما سوف تكشف عنه الأيام القادمة. 

ثورة 25 يناير والثقافة ـ مقدمات ونتائج:

 لقد شهدت السنوات التي سبقت ثورة 25 يناير 2011 ظواهر ثقافية كانت بمثابة التمهيد للثورة وشق الطريق أمامها؛ فمنذ عام 2005 عرفت مصر تغيرا واضحا في ثقافة المجتمع السياسية، ومهد الطريق للثورة السلوك الاحتجاجي في الشارع وظهور حركات معارضة لمشروع التوريث والتمديد ومواجهة الفساد والدعوة للتغيير، مثل حركة "كفاية" وحركة "شايفنكو" وحركة "6 أبريل" و"مصريين ضد الفساد" و"الجمعية الوطنية للتغيير" فضلا عن النقابات المستقلة، وقد شارك في هذه الحركات وأنشطتها المختلفة رموز ثقافية وإبداعية بارزة، وكان جزء من حركتهم موجها ضد السياسة الثقافية للدولة.

 كما اتسع نشاط الجماعات الثقافية المستقلة وأضحت ظاهرة من ظواهر الحراك العام في المجتمع، وسعت لتقديم ثقافة بديلة للثقافة الرسمية، وظهرت ساحات جديدة للنشاط الثقافي نجحت في جذب قطاعات متزايدة من الجمهور رغم الحصار الأمني، وأصبح شعار التغيير والمطالبة به شعارا مطروحا على كل المستويات، كما عرفت مصر مظاهر جديدة للسلوك الاحتجاجي في شكل الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات الصغيرة المتفرقة والإضرابات، وكان نجاح إضراب 6 إبريل 2008 دالا على تغيير أساسي في سلوك المجتمع وثقافته السياسية.

 وعلى مستوى الإبداع ظهرت في السنوات السابقة على الثورة أعمال عديدة فضحت فساد النظام وحرضت على الثورة عليه، سواء في مجال السينما أو المسرح أو الأنواع الأدبية المختلفة، وربما نشير هنا إلى أفلام مثل "هي فوضى" ليوسف شاهين "وحين ميسرة" لخالد يوسف و"بنتين من مصر" لمحمد أمين و"عين شمس" لابراهيم البطوط، وروايات مثل: "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني و"أسفار الفراعين" لعز الدين شكري فشير و"مقتل الرجل الكبير" لإبراهيم عيسى و"طلعة البدن" لمسعد أبو فجر و"أمريكنلي" لصنع الله إبراهيم و"أجنحة الفراشة" لمحمد سلماوي التي صدرت قبل الثورة بأيام قليلة، كما شهدت الساحة الروائية أسماء جديدة من جيلي التسعينيات والألفية الثالثة كانت أعمالهم ثورة في مجال الرواية المصرية، وفي الشعر تجدد العطاء الشعري لشعراء كبار من أمثال عبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب وحسن طلب وجهوا نقدا مباشرا للنظام، كما واصل شعراء جيل السبعينات والأجيال التالية له من الشعراء الثوريين إسهامهم المتجدد، إلى جانب أجيال جديدة من الشعراء الشبان الذين اقتحموا الساحة بجسارة، أما المسرح فقد أصبحت حركة فرق المسرح المستقل ظاهرة لافتة على الساحة المسرحية المصرية سواء بما تقدمه من تجريب على مستوى الشكل المسرحي أو ما تتناوله من موضوعات ساهمت في حرث التربة الثقافية قبل الثورة، وعلى صعيد الموسيقى والغناء لعب جيل محمد منير وعلي الحجار دورا مهما بتقديم أغاني ناقدة، كما ظهرت أصوات جديدة مثل فيروز كراوية وفرق فنية جديدة مثل وسط البلد ومسار إجباري وإسكندريللا التي أعادت إحياء أغنية الثورة فقدمت سيد درويش والشيخ إمام كما قدمت أعمالا جديدة معبرة عن اللحظة، إن هذه مجرد أمثلة دالة على التغيير في الحالة الإبداعية قبل الثورة.

 كما أخذ التدوين كظاهرة ونوع إبداعي جديد يحتل مكانًا ومساحة، ويكتسب قدرة متزايدة على التأثير، والتدوين منتج من نواتج حضارة الموجة الثالثة، إنه وليد عصر ثورة المعلومات والاتصالات بكل ما أتت به من منجزات فتحت مجالا أمام الفرد للمشاركة المباشرة في المجال العام، ويجمع التدوين بين الإبداع والكتابة السياسية والتعبير عن الذات، وقد فتح التدوين مجالا للتواصل بين أبناء الجيل الجديد من خلال التواصل المباشر والتفاعل، فالتدوين يحقق إزالة الحاجز بين المبدع وجمهوره، أو ربما بمعنى آخر، يتحول الجميع إلى مشاركين في إنتاج هذا النوع الجديد.

 وإذا كان التدوين يعد بحق النوع الإبداعي لعصر مجتمع المعرفة، فإن ثورات الربيع العربي تعد التعبير الأول عن ثورات هذا العصر، بغض النظر عن ما سوف تأول إليه الأحوال في النهاية، لكن المؤكد أن هذه الثورات في مقدماتها ودوافعها وآليات التحضير لها وأسلوب إنجازها تعبر عن هذا العصر، كما أن المدونين لعبوا من خلال مدوناتهم دورا مهما في التحضير للثورة ومن أمثلة هذه المدونات "الوعي المصري" و"منال وعلاء" و"مدونة بهية" غيرها، كما لعبت أيضا مواقع التواصل الاجتماعي دورًا أساسيًا في التحضير للثورة وإنجازها، بصورة عكست تغير في ثقافة قطاع كبير من المجتمع.

 وفي أعقاب قيام الثورة شهد الواقع الثقافي والإعلامي حراكًا على مستويات متعددة، فمن ناحية انتشرت ظواهر إبداعية جديدة تعبر عن الحالة الثورية، كان أبرزها في مجالي الغناء والفن التشكيلي، ويمكن أن نعتبر أن الجرافيتي الذي غطى حوائط مصر سلاحًا من أسلحة الثورة وتوثيقا لها في ذات الوقت، وخرج من رحم الثورة مبدعون جدد تفاعلوا مع الحدث، وازدات جرأة لغة الإبداع وأدواته ولم يعد يحدها سقف، كذلك عاد الفن والإبداع إلى الشارع ليحتك بالجماهير مباشرة، من خلال تجارب كان أبرزها "الفن ميدان" تلك التجربة الرائدة التي استلهمت المشاركات الإبداعية في أيام الثورة الثمانية عشر، وقد ابتكرها إئتلاف الثقافة المستقلة الذي برز مع الثورة وضم مجموعات ثقافية عملت طوال السنوات السابقة على الثورة ومهدت لها، كذلك رعت وزارة الثقافة بعد الثورة قوافل الثورة الثقافية، وقوافل أفراح الثورة، ومسرح الشارع، وكلها تجارب لم يقدر لها الاستمرار طويلا، لكنها كشفت عن تشوق الجمهور للثقافة والإبداع، ولم تستمر إلى الآن إلا تجربة الفن ميدان التي تحولت إلى مشروع ثقافي راسخ.

 وظهرت في أعقاب الثورة أعمال سينمائية ومسرحية توثق أحداث الثورة سواء في أفلام روائية أو تسجيلية، أو مسرحيات لفرق المسرح المستقل ومسرح الهواة ومسرح الدولة اتخذت من حدث الثورة موضوعًا لها.

 وعلى مستوى الشعر والتدوين والمقال الصحفي ظهرت مئات الأعمال التي استوحت الثورة وتحدثت عنها أو بلسانها، أما الأعمال الروائية فكان أبرزها باب الخروج لعز الدين شكري فشير، والتي قادته المخيلة الروائية فيها إلى مصر 2020.

 وعلى الصعيد الرسمي بدأت وزارة الثقافة مشروعًا للمقرطة، من خلال تغيير أساليب الإدارة، ومشاركة المجتمع المدني فيها، وإعادة توزيع الموازنات بشكل يحقق تلبية أكثر لاحتياجات المناطق المحرومة من الخدمة الثقافية، وتعديل برامج الأنشطة وتحديد الأولويات.

 وفي المقابل تطورت مبادرات المجتمع المدني والمجموعات الثقافية المستقلة في اتجاه بلورة سياسة ثقافية جديدة تلبي الاحتياجات الثقافية لكل المصريين، وظهرت عقب الثورة العديد من المشروعات والرؤى والمبادرات لتطوير مؤسسات العمل الثقافي ووضع سياسة ثقافية جديدة.

 هذا وقد أطلقت إدارة المرحلة الانتقالية القوى التي تنتمي لتيارات الإسلام السياسي خاصة التيارات السلفية من عقالها، وتغاضت عن أفعال ارتكبوها تضعهم تحت طائلة القانون، منها أمور تمس ثقافة المجتمع مثل: هدم الأضرحة ونبش قبور الأولياء، والتعدي على التماثيل في أكثر من موقع، فضلًا عن الدعوة لهدم الآثار.

ولا شك في أن للقوى "الإسلامية" أو جماعات الإسلام السياسي استراتجية واضحة في مواجهة الثقافة والإبداع وفي مجال الإعلام، وتسعى هذه الجماعات إلى فرض ثقافة أحادية على المجتمع، وإلى السيطرة على الإعلام وتوجيه الخطاب الإعلامي، إنها تمثل بحق الثورة المضادة لأنها تقف في وجه القيم الثلاثة للثورة المصرية: الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.

 وتعتمد تيارات الإسلام السياسي باتجاهاتها الثلاثة الرئيسية: الإخوان المسلمون، والسلفيون، والجهاديون منهج السمع والطاعة، ولا تقبل بالفكر النقدي، كما أنها ترفض مبدأ حرية الفكر والتعبير والإبداع وتفترض في نفسها حق الوصاية على المجتمع وعلى الأفراد. إن تيارات الإسلام السياسي تهدف إلى الانفراد بإدارة الدولة والمجتمع، وإلى بناء مجتمع منقاد لا يناقش ولا يعترض، ويُعد المدخل الثقافي والتعليمي مدخلًا أساسيًا في هذا الجانب.

 من جانب آخر استطاعت هذه الجماعات أن تخرج بخطابها الثقافي والإبداعي والإعلامي إلى النور بشكل واسع في أعقاب الثورة، وطرح هذه القوى لرؤها الثقافية كان من الممكن أن يتيح فرصة للتفاعل والحوار، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن هذه الجماعات ترى أنها تملك الحقيقة وحدها، لذلك سعت إلى استبعاد الآخر.

 إن هذه الجماعات كانت تسعى من خلال سيطرتها على مفاصل الدولة ومن بينها مؤسسات الثقافة، لتوجيه العقل المصري في اتجاه أفكارها، ولإعادة انتاج قيم شمولية جديدة ربما تكون أكثر ميلا لاستبعاد المختلف مما ساد طوال السنوات الستين الماضية، إنها تحمل لمصر قيما ثقافية غير متوافقة مع قيم المجتمع وثقافته؛ بل إن هناك تهديدا للأسس التي قامت عليها الثقافة المصرية، بل قامت عليها الحضارة المصرية منذ أقدم العصور، فقد قامت الثقافة المصرية على التعدد والتنوع وقبول الاختلاف، وهذا تحديدا ما تسعى تلك الجماعات إلى هدمه.  كما كان هناك تهديد واضح لحرية الرأي والتعبير وحرية الإعلام، وهذا التهديد نتاج تخطيط واضح من جماعات سعت للسيطرة على مقدرات البلاد، وكانت ترى أنه لن يتحقق لها التمكين دون أن تخرس كل الأصوات المعارضة وتكمم الأفواه. وربما لإننا لم نعد أمام مخاوف بل أمام ممارسات فعلية وملاحقات قانونية ومشروعات قوانين ودستور معيب، وملاحقة من خلال نفس أسلوب النظام السابق، بل ربما بضيق أفق يفوق كل ممارسات نظام مبارك، فقد عجل هذا بخروج الملايين للمطالبة برحيل ذلك النظام الذي اصطدم بكل أجهزة الدولة وبالبيروقراطية العريقة وبقيم المجتمع التي تكونت بالتراكم عبر سنين طويلة، وكان اعتصام المثقفين الناجح ضد أجراءات أخر وزراء الثقافة في زمن الرئيس مرسي مؤشرا لما آلت إليه الأمور في الثلاثين من يونيو والأيام التالية له.

 وفي هذا السياق نستطيع أن نقول أن الشهور التي أعقبت الانتخابات البرلمانية والرئاسية شهدت تهديدًا حقيقيًا يواجه الإبداع والمبدعين من قبل جماعات الإسلام السياسي المختلفة التي حققت الفوز في تلك الانتخابات، فسيطرت هذه القوى على السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية للمرة الأولى في تاريخ مصر، فأصبح في قدرة هذا التيار إصدار تشريعات تقييد من حرية التعبير والإبداع، وسلطة الملاحقة والمصادرة، ورغم أن هذا لم يحدث بشكل واضح إلى لحظة سقوط هذا التيار في 30 يونيو 2013 وما أعقبه، بسبب يقظة الجماعة الثقافية وحالة الحراك السياسي في المجتمع، إلا إننا كنا أمام خطر حقيقي على الثقافة المصرية، وإلى أن تستقر الأوضاع بشكل نهائي في البلاد ما زالت ظلال هذا الخطر جاسمة في المشهد، خاصة ما قد تستدعيه مواجهة العنف المحتمل من جماعات الإسلام السياسي من إجراءات قد تمس الحريات العامة في المجتمع، إن مصر تعيش لحظة تحول حبلى باحتمالات متعددة ومتعارضة.

 فمنذ ظهرت في الأفق ملامح مشروع هذه الجماعات المعادي لقيم المجتمع المصري بدأت مجموعات من المبدعين والإعلاميين في تنظيم أنفسهم في جماعات للدفاع عن حرياتهم في مواجهة الهجمة التي يتعرضون لها.

 إن المجتمع المصري يعاني الآن من انشطار ثقافي حقيقي يهدد كيانه ووجوده، ربما نكون أمام حالة غير مسبوقة في التاريخ المصري، لكن المجتمع المصري قادر على المواجهة باستنفار طاقاته الإيجابية والاستناد إلى مخزونة الحضاري. ولن ينجح منطق الوصاية في انتاج مشروعه الثقافي إلا إذا استكان المبدعون والمتلقون للإبداع للوصاية.

 رسم السياسات في زمن التحولات:

 بدأت في مصر محاولات لأكثر من مشروع لرسم سياسة ثقافية جديدة في السنوات التي سبقت الثورة، كانت المؤسسة الرسمية تسعى من خلال المجلس الأعلى للثقافة لتنظيم مؤتمر للمثقفين يقترح سياسة ثقافية جديدة، وفي المقابل كانت هناك مجموعة من المثقفين المستقلين قد بدأت بالفعل في تقييم السياسات الثقافية القائمة في إطار مشروع تبنته مؤسسة المورد الثقافي في سبع دول عربية، وفي صيف 2010 عُقد في بيروت مؤتمر لمناقشة التقارير التي انجزتها مجموعات العمل في البلدان العربية السبع، وانتهى المؤتمر إلى التوصية بتشكيل مجموعات وطنية للسياسة الثقافية في كل بلد من البلدان السبعة تقوم برسم سياسة ثقافية لبلدها، وبدأت المجموعة الوطنية المصرية عملها في خريف 2010، في البداية كانت المجموعة تضم ممثلين للجماعات الثقافية المستقلة إلى جانب ممثلين لوزارة الثقافة، وبعد الثورة تم استبعاد ممثلي الوزارة من المجموعة، وتوشك المجموعة أن تنهي عملها في وضع مشروع سياسة ثقافية لمصر لمدة ثلاث سنوات.

 وقبل أن نطرح عناصر السياسة الثقافية لمرحلة التحول لابد من إلقاء نظرة سريعة على تطور مشروعات السياسة الثقافية في مصر.

تطور السياسات الثقافية في مصر:

 رغم أن مفهوم السياسة الثقافية مفهوم حديث نسبيا ظهر مع ظهور منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، إلا أن بوادره الأولى ظهرت قبل ذلك بكثير، وفي مصر نستطيع أن نرصد عدة محاولات في مجال وضع ما يمكن أن نسميه سياسة ثقافية ظهرت جميعها مرتبطة بسياسات التعليم، حيث ارتبطت في تلك المرحلة المبكرة مؤسسات الثقافة بمؤسسات التعليم، واستقرت تحت مسمى "المعارف"، ومصطلح "المعارف" يحمل دلالات واسعة تشمل التكوين الفكري للإنسان بما فيه من تعليم وثقافة.

  ونستطيع أن نرصد ثلاثة كتب تندرج بمعنى ما تحت فكرة رسم السياسات، الأول "المرشد الأمين للبنات والبنين" لرفاعة الطهطاوي والذي صدر في سبعينيات القرن التاسع عشر، والثاني "القول التام في التعليم العام" ليعقوب أرتين وقد صدر في تسعينيات نفس القرن، أما الثالث فكتاب "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين، وصدر في عام 1938.

 وارتبط صدور الكتب الثلاثة بنقاط مهمة في تاريخ مصر السياسي وتطلعها نحو تحقيق نهضتها، فالكتاب الأول صدر مواكبًا لمشروع الخديوي إسماعيل للتحديث ولبدايات صعود الحركة الوطنية المصرية في سبعينيات القرن التاسع عشر، وصدر الثاني بعد تولي الخديوي عباس حلمي الثاني لحكم مصر وبدء صدامه مع المعتمد البريطاني وظهور بذور مد وطني جديد في مواجهة المستعمر، أما الكتاب الثالث فقد صدر عام 1938؛ فجاء في أعقاب ثورة الشباب سنة 1935، وبعد توقيع معاهدة 1936 ومعاهدة مونترو والتي حصلت مصر بمقتضاهما على درجة من درجات الاستقلال والاعتراف الدولي وأنهتا الامتيازات الأجنبية.

 وبعد إنشاء وزارة الثقافة وضع أربعة من وزراء الثقافة سياسة ثقافية منشورة، ثروث عكاشة في عام 1968 باسم السياسة الثقافية، وبدر الدين أبو غازي في عام 1971، باسم برنامج العمل الثقافي، كما وضع عبد المنعم الصاوي عندما كان وكيلا أولا لوزارة الثقافة مشروعا لسياسة ثقافية، وجدت طريقها للتنفيذ عندما تولى الوزارة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ثم فاروق حسني عندما تولى وزارة الثقافة في عام 1987، ثم في سنة 1998 وقد صدرت في كتاب بعنوان الثقافة ضوء يسطع في سماء الوطن،أعقبها بخطة ثانية عام 2003، باسم الثقافة بنية وتوجه.

 هذا وقد اتسمت سياسات العمل الثقافي في مصر برؤية امتدت على مدار ما يزيد على العقدين من الزمان، ارتكزت عناصر هذه السياسة على ثلاثة محاور أساسية: رؤية شاملة لماهية الثقافة ودورها في المجتمع، سياسات نابعة من هذه الرؤية تحول الإطار الفلسفي إلى خطط تفصيلية، مشاريع فعلية بمثابة الترجمة العملية للسياسة النظرية.

 لكن رغم ما حققته هذه السياسة الثقافية من إنجاز على مستوى البنية الأساسية، فإن شكوك وتساؤلات قوية مطروحة حول مدى ما حققته هذه السياسة في المحصلة النهائية، ومدى نجاحها في تحقيق أهدافها، وفي تطوير الواقع الثقافي المصري.

 لقد انتهت المرحلة السابقة على الثورة وهناك مجموعة من المشكلات الخطيرة على الساحة الثقافية:

 انتهت بحالة من الانقسام في الجماعة الثقافية المصرية حول السياسات الثقافية للدولة، وبوضع يشوبه قدر كبير من عدم الثقة بين وزارة الثقافة وقطاع مهم من المثقفين والمبدعين.

 انتهت بوزارة تدعم الأنشطة الثقافية المستقلة، لكن دون رؤية واضحة أو منهج محدد أو سياسة ثابتة مستقرة.

 انتهت بموازنة ضعيفة للثقافة، أغلبها موجه للأجور، وأقلها للأنشطة الثقافية، ويتم توزيع هذا القسم المخصص للأنشطة الثقافية بشكل غير عادل على مستوى الوطن، حيث تبتلع أنشطة العاصمة الجزء الأكبر منها.

 انتهت بوزارة متضخمة بجهاز بيروقراطي يضم عشرات الآلاف من العاملين، الكثير منهم غير مؤهلين للعمل بالأجهزة الثقافية.

 انتهت ببنية أساسية تشمل مئات المواقع الثقافية على مستوى مصر، لكن ما يقرب من نصفها متوقف عن العمل، والبعض منها يقوم على إدارته عناصر غير مؤهلة، أو معادية للثقافة والإبداع. وبمشروعات للتوسع في هذه البنية الأساسية لكنها مشروعات أكبر من الموازنات المعتمدة مما أدى إلى استمرار العمل فيها لسنوات دون انجاز.

كيف نقوم بعملية رسم سياسة ثقافية وطنية؟

 تطرح عملية رسم السياسة الثقافية الوطنية مجموعة من التساؤلات، وهذه الورقة تعتمد في طرح التساؤلات على ما تم تقديمه في مؤتمر السياسات الثقافية العربية الذي عقد في بيروت في صيف 2010. وهذا الطرح الذي قُدم في مؤتمر بيروت اعتمد بدوره على ورقة بعنوان: إحدى وعشرون إشكالية استراتيجية في السياسات الثقافية وضعها فرانسوا ماتاراسو وتشالز لاندري، تعكس جزءا من تجربة الاتحاد الأوروبي في رسم السياسات الثقافية.

 وهنا يمكن أن نطرح بعض الأسئلة الأولية لتحديد المسار الذي يمكن أن تتم على أساسه عملية رسم سياسة ثقافية، والإجابة على هذه الأسئلة ضرورية قبل البدء في عملية رسم السياسة الثقافية، فالإجابات سوف تحدد المسار الذي تتم على أساس منه عملية رسم السياسة الثقافية.

 في البداية من الذي سيقوم بوضع محتوي السياسة الثقافية الوطنية؟ هل سيقوم بوضعها فريق عمل من مجالات متعددة، أم مشاركون من القطاع الحكومي والأهلي والخاص، أم أصحاب المصالح؟

 لقد ظلت مسئولية رسم السياسات الثقافية في مصر منذ الستينات تقتصر على الوزير المسؤل عن الثقافة، وربما على حلقة ضيقة من الخبراء والمسئولين في القطاع الحكومي.

 وقد بات واضحا أن ما نحتاجه اليوم لرسم سياسة ثقافية، ليس السياسة الثقافية كما يقترحها المسؤول التنفيذي؛ بل السياسة الثقافية التي يقوم بصياغتها فريق من المهتمين بالشأن الثقافي العام، من خارج القطاع الرسمي بالاستعانة بخبراء من هذا القطاع، مع ضرورة إشراك المستفيدين، أي المبدعين ومنتجي الصناعات الثقافية، ثم المواطنين الذين توجه لهم الخدمات الثقافية.

 هنا نطرح السؤال حول  الكيفية التي يمكن أن تتم بها الاستشارات المطلوبة في عملية رسم السياسة الثقافية الوطنية؟ يمكن أن يتحقق ذلك من خلال إجراء استطلاعات الرأي، وتلقي المداخلات، وعقد جلسات الاستماع العامة، والمؤتمرات والندوات.

 وإذا تسألنا عن الأبحاث والوثائق اللازمة لرسم سياسة ثقافية وطنية؟ فلا شك أنها تشمل التشريعات المنظمة للعمل الثقافي، والإحصائيات الخاصة بالأنشطة وبالصناعات الثقافية، ومسح للموارد المتاحة والهيئات والمؤسسات أي للبنية التحتية للعمل الثقافي، فضلا عن الوثائق المحلية والإقليمية والدولية للسياسات الثقافية، والتي سيتم البناء عليها.

 أما أشكال الدعم التي سوف يتم الاستعانة بها في عملية وضع السياسة الثقافية، فتتنوع ما بين موارد مالية، وموارد تقنية، وشراكات.

 هناك بعد ذلك أسئلة في المحتوي، مصاغة في واحد وعشرين سؤالًا في شكل مجموعة من الإشكاليات:

أولا: إشكاليات أطر العمل:

١ ما نطاق ما يجب أن تغطية السياسة الثقافية؟ هل تغطي الثقافة بصفتها الفن أم الثقافة بصفتها طريقة الحياة؟

 ٢ ما التصور السياسي للسياسة الثقافية؟ هل نسعى لتحقيق الديمقراطية الثقافية أم الثقافة الديمقراطية؟

٣ ما القدر التنموي الذي يجب أن تحمله السياسة الثقافية؟ هل نسعى إلى الثقافة كقيمة تحمل مسوغاتها داخلها أم الثقافة كجزء من عملية التنمية الشاملة والمستدامة؟

٤ ما درجة حيادية الفن كما نتصوره؟ هل الفن سلعة عامة أم الفن نشاط اجتماعي لازم؟

ثانيا: إشكاليات التطبيق:

٥ كيف يجب تحديد السياسة الثقافية؟ بالتشاور أم بالمشاركة الفعالة؟

٦ كيف يجب أن يوزع التمويل الثقافي؟ التحكم المباشر في إطار السياسة العامة للدولة أم يتم توزيع المخصصات بمعزل عن العملية السياسية؟

٧ ما التوازن السليم بين تدخل القطاع العام في النشاط الثقافي ونشاط القطاع الخاص؟ هل تكون الغلبة لدور القطاع العام أم الغلبة لدور القطاع الخاص؟ وما دور القطاع الأهلي؟

٨ أين يجب أن تركز الدولة أولويات مواردها الثقافية؟ المركز أم المجتمعات المحلية؟

٩ هل ينبغي أن يتجه اهتمام السياسة الثقافية إلى الثقافة القومية أم إلى الثقافات  العالمية؟

ثالثا: إشكاليات التنمية الاجتماعية:

١٠ كيف يجب علي السياسات الثقافية الاستجابة للتعبير عن هويات الأقليات في المجتمع؟ هل تفسح المجال لثقافات المجتمعات المحلية أم تركز على المشترك العام في المجتمع؟

١١ إلى أي حد يجب أن تروج السياسة الثقافية للتنوع الثقافي؟ هل تعترف بالتنوع الثقافي وتتدعمه أم تتبنى الثقافة الأحادية؟

١٢ إلى أي مدى ينبغي أن تهتم السياسة الثقافية بتوجيه الموارد من أجل العناية بالجوانب التراثية في مقابل توجيهها نحو التجارب المعاصرة؟

١٣ أين يجب أن يكون تركيز السياسة الثقافية؟ على الاهتمام بما يقدم للسياحة الثقافية القادمة من الخارج أم للمواطنين؟

١٤ هل ينبغي أن تهتم السياسة الثقافية بصورة المجتمع في الخارج أم تتوائم مع متطلبات الواقع في الداخل؟ وبأي قدر يتم تقديم الثقافة للاستهلاك الداخلي أو للاستهلاك الخارجي؟

رابعا: إشكاليات التنمية الاقتصادية:

١٥ ما الأساس لتقديم الدعم الحكومي للثقافة؟ الدعم غير المستعاد أم الدعم من أجل الاستثمار؟

١٦ كيف يمكن للدولة توفير الرعاية المثلى لكل من إنتاج الثقافة واستهلاك الثقافة؟

خامسا: إشكاليات الادارة:

١٧ في أي يد يجب أن تتركز قرارات تطبيق السياسة الثقافية؟ هل تكون مركزية أم تعتمد اللا مركزية في الإدارة؟

١٨ كيف يمكن تقديم الخدمات الثقافية؟ بالتقديم المباشر للخدمات أم بالتعاقد مع آخرين لتقديمها؟

١٩ في أي اتجاه ينبغي أن يتجه الترويج في السياسة الثقافية للفن أم للفنانين؟

٢٠ كيف يمكن توزيع الموارد الثقافية ما بين المرافق (الحاويات) والأنشطة (المحتوي)؟ بصيغة أخرى هل يتجه التمويل نحو البنية التحتية أم نحو الأنشطة؟

٢١ من بنبغي أن يتولى مسئولية الإدارة الفاعلة للنشاط الثقافي؟ الفنانون أم المدراء؟

 

السياسة الثقافية الجديدة:

 الوظيفة الأساسية للدولة في مجال الثقافة في النظم الديمقراطية تتلخص في ثلاثة أهداف أساسية:

الأول: حماية التراث الثقافي المادي واللامادي بما فيه من آثار ومخطوطات ووثائق وموروث ثقافي شعبي تراكم عبر الزمن، بالإضافة إلى التراث الفني الحديث بتنويعاته المختلفة، وتشمل وسائل الحماية إقامة مؤسسة لجمع هذا التراث وحفظه، كما تشمل أعمال الصيانة والترميم، والتشريعات القانونية التي تحقق هذه الحماية.

 الثاني: حماية حقوق الملكية الفكرية للمبدعين، وتشجيع الصناعات الثقافية الحديثة والحرف التراثية والإنتاج الثقافي والإبداعي بمختلف أنواعه الأدبية والفنية، بما في ذلك الحماية ضد المصادرة.

 الثالث: توفير الخدمات الثقافية للمواطنين، وتوفير البنية الأساسية لممارسة الأنشطة الثقافية والاستمتاع بها.

 واليوم وبعد ثورة 25 يناير وما نتطلع إليه من تغيرات سياسية نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وبناء الدولة المدنية الحديثة لابد من أن نطرح سياسة ثقافية جديدة، تعتمد هذه الأهداف الثلاثة وتستبعد فكرة التوجيه واستخدام المؤسسات الثقافية المملوكة للدولة/الشعب في الترويج لسياسات بعينها واستبعاد سياسات أخرى، مثلما كان عليه الحال بدرجات متفاوته طوال الأعوام الستين الماضية، ومثلما كان يبدو في الأفق من سياسات نظام الإخوان، ومثلما يطالب البعض في الجماعة الثقافية الآن.

 ينبغي للسياسة الثقافية الجديدة أن تحافظ على وجود دور للدولة في العمل الثقافي دون أن يكون هذا الدور موجِهًا أو مُسيطرًا، بل يكون هذا الدور داعمًا للنشاط الثقافي الأهلي والمستقل، ومشجعًا للصناعات الثقافية، مدافعًا عن حرية التعبير والإبداع والحق في المعرفة والوصول للمعلومات، وحاميًا للتراث الثقافي، وساعيًا إلى الوصول بالخدمات الثقافية للمواطنين؛ وفي هذا الإطار تتم إعادة هيكلة مؤسسات الدولة العاملة في مجال الثقافة بما يلائم تحقيق السياسة الثقافية الجديدة، ويُعاد النظر في التشريعات الثقافية بما يتماشى مع هذه السياسة التي تسترشد بمجموعة من المبادئ الأساسية التي يمكن أن نعتبرها أهدافا مبتغاة للسياسة الثقافية، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:

·        الإسهام في تنمية الوجدان المصري، ليكون هذا الوجدان قادرًا ومبادرًا ومبدعًا ومعبرًا عن ذاته بحرية دون وصاية أو تدخل.

·         البحث في التراث الثقافي المصري واستجلاء جوانبه، للاستفادة من هذه الجوانب في تأهيل المواطن ليصبح عضوًا فعالاً في مجتمعه.

·        المساهمة في نشر القيم الثقافية التي تؤدي إلى ترسيخ الانتماء لأمة ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، تعيش الآن تحديات عصر جديد، يحتاج إلى إنسان مصري منتم إلى حضارته ومنجزاته الحضارية ومؤسساته القومية، وتطلعاته المستقبلية من خلال رؤى مستقبلية يشارك في صنعها كل المصريين.

·         الترويج لقضايا النوع الاجتماعي الثقافية وتقديم رسالة ثقافية تعلي من قيمة المرأة ودورها في بناء المجتمع وفي تحقيق التنمية الشاملة.

·         المساهمة في تأهيل الأطفال والأجيال الجديدة عمومًا للمشاركة الثقافية.

·         الاهتمام بثقافة كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والعمل على دمجهم في أنشطة المجتمع الثقافية.

·         دعم النمو الفكري والوجداني والروحي عند الفرد بتشجيع الإبداع ورعايته، وتوفير البنية الأساسية التي تكفل تحقيق التواصل بين المبدع وجمهوره، وبناء الآليات التي تضمن حماية حقوق الملكية الفكرية للمبدعين، وحماية حرية التعبير والإبداع.

·        الانفتاح على الثقافات العالمية، والتفاعل معها وإشاعة ثقافة التسامح وتقبل الآخر، والاحتكاك المباشر بتيارات الفكر والثقافة والإبداع في العالم.

·         المساهمة في تدعيم قيم التعددية الثقافية وقبول التنوع؛ فالتباين في الفكر والاعتقاد أمر مشروع بين الناس، وحرية التعبير وحرية الاعتقاد هما الأساس الذي تقام عليه حرية الوطن وحرية المواطن.

·         المساهمة في تأصيل قيم الديمقراطية، فالديمقراطية تنمو وترسخ بإيمان الناس بأن التباين حق مشروع، وبأن التحديات التي تعيشها مصر تحتاج لآراء وأفكار المصريين جميعًا.  

·        التأكيد على القيم المرتبطة بالعلم وذلك بالحرص على المنهج والتفكير العقلاني وتطهير العقل من كل ما يكبله ويعوق حركته للانطلاق.

·         تعميق ثقافة الإبداع فالإبداع تجسيد للمستقبل، لأنه يقوم على تجاوز الحاضر وتحدياته إلى المستقبل.

·         المساهمة في نشر الوعي البيئي والدعوة للاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية.

 

 آليات تنفيذ السياسة الثقافية:

تتلخص الآليات التنفيذية للسياسة الثقافية المقترحة في عشرة عناصر:

 

أولا: تحقيق ديمقراطية الثقافة: إن تحقيق ديمقراطية الثقافة هدفا أساسيا من أهداف السياسة الثقافية وفي نفس الوقت آلية من آليات تحقيق السياسة الثقافية الجديدة، أي هدف ووسيلة في ذات الوقت، وتستند ديمقراطية الثقافة على عدة عناصر :

·         العدالة في توزيع الخدمات الثقافية على مستوى مصر، وإنهاء حالة المركزية الشديدة في العمل الثقافي، وتوفير الخدمات للمناطق المحرومة، والاهتمام بدور المواقع الثقافية التابعة لوزارة الثقافة والمنتشرة في جميع محافظات مصر.

·         احترام التعددية الثقافية والاهتمام بحماية التنوع الثقافي داخل الوطن والعناية بالثقافات الفرعية (النوبة ـ سيناء ـ سيوه ـ حلايب وشلاتين ـ قبائل الساحل الشمالي)، وحماية التعدد اللغوي وصيانته من الاندثار (القبطية ـ النوبية ـ الأمازيغية السيوية) والتعامل مع هذا التنوع باعتباره عنصر إثراء وقوة للثقافة المصرية، يضيف إليها ولا ينتقص منها.

·         الاهتمام بقطاعات المجتمع المختلفة في الأنشطة والخدمات الثقافية، على أساس النوع والمراحل العمرية والفئات الاجتماعية والمناطق الجغرافية.

·         حماية حرية الإبداع والدفاع عنها، وتوفير المناخ الثقافي الملائم للإبداع ورعايته وتشجيعه، وإلغاء القيود القانونية على حرية الإبداع والتعبير.

·         ديمقراطية الإدارة الثقافية من خلال جماعية الإدارة عن طريق مجالس إدارة ومجالس أمناء لقطاعات الوزارة والبيوت والمراكز الفنية والمتاحف؛ وإحياء دور المكاتب الفنية؛ واعتماد تجربة انتخاب مديري الفرق الفنية، وإدارة المواقع الثقافية التابعة للدولة بمشاركة المستفيدين من الخدمة الثقافية.

·         الرقابة على الإنفاق الحكومي في المجال الثقافي من خلال مجلس منتخب من الجماعات الثقافية.

 

ثانيا: التكامل بين مؤسسات الدولة العاملة في مجال الثقافة: من منطلق أن مهمة تثقيف المجتمع لا تقع على وزارة الثقافة فقط، بل هي مسئولية تضامنية بين سائر الوزارات وبخاصة التربية والتعليم، والتعليم العالي، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والآثار، والأوقاف، والسياحة، والقوى العاملة، والتضامن الاجتماعي، والمجلس القومي للشباب، واتحاد الإذاعة والتلفزيون، والمجلس القومي للأسرة والسكان، وغيرها، حيث تفرض التحديات الراهنة على هذه المؤسسات العمل معًا أكثر من أي وقت مضى، والعمل معًا يعني تجميع الطاقات وتبادل الخبرات والمعلومات ووضع الرؤى والخطط المشتركة.

 مع التركيز على تحقيق الربط بين التعليم والثقافة من ناحية، والربط بينهما وبين الإعلام من ناحية أخرى والسعي إلي تحقيق التكامل بين الثقافة والتعليم والإعلام باعتبار إنتاج الثقافة مجالاً أساسيًا من مجالات المعرفة، والتعليم أداة لاكتسابها، والإعلام وسيلة من وسائل من وسائل نشرها.

 

ثالثا: التفاعل بين مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الخاصة والجماعات الثقافية المستقلة: ينبغي أن تسعى الوزارة إلى التعاون مع الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني والجماعات الثقافية المستقلة ودعمها بكل قوة، بهدف تمكين المجتمع المدني من المشاركة في الأنشطة الثقافية وفي تنفيذ المشروعات وتنظيمها، وإدراج المسار الديمقراطي والتشاركي لإدارة الشأن العام واتخاذ القرارات، بهدف تحقيق التنمية المستدامة والرفاهية، وتقديم الدعم لهذه المنظمات وفقا لقواعد شفافة وواضحة، وإتاحة المراكز والمواقع التابعة لوزارة الثقافة لتقدم من خلالها هذه الكيانات الثقافية المستقلة أنشطتها. حتى يتحقق في النهاية دور أكبر للجمعيات الأهلية والكيانات الثقافية المستقلة في مجال العمل الثقافي.

 

رابعا: تعظيم دور مصر الدولي والإقليمي من خلال سياسة ثقافية خارجية جديدة: وذلك من خلال الاستمرار في التواصل الثقافي بين مصر ودول العالم من خلال قطاع العلاقات الثقافية الخارجية التابع لوزارة الثقافة، في خدمة السياسة الخارجية للدولة بالتعاون والتنسيق مع وزارة الخارجية.

فتقوم وزارة الثقافة بتنظيم مجموعة من الأنشطة الثقافية الدولية بالتعاون مع الجماعات الثقافية المستقلة، تقدم من خلالها صورة مصر الجديدة إلى العالم الخارجي، وتحمل مجموعة من البرامج الثقافية الموجهة لمناطق بعينها من العالم يختلف المحتوى فيها وفقاً للإقليم الذي توجه إليه الرسالة الثقافية، مع التركيز على : العالم العربي – القارة الأفريقية – دول الكومنولث السوفيتي السابق – المنطقة الأورومتوسطية – الجاليات المصرية في الخارج.

خامسا: دعم الصناعات الثقافية الحديثة: دعم الصناعات الثقافية وحمايتها بحزمة من التشريعات تتضمن الحماية ومواجهة القرصنة من ناحية، والتشجيع بالإعفاءات الجمركية والضريبية من ناحية أخرى، وإلغاء القيود الرقابية على الإبداع، انطلاقا من القناعة بأن الصناعات الثقافية تشكل ميزة تنافسية أساسية لمصر، كما يمكن أن تشكل قيمة مضافة للاقتصاد القومي المصري، خاصة صناعة السينما وصناعة الكتاب والنشر وصناعة الموسيقى والغناء.

 وفي هذا الصدد ينبغي أن تسعى الوزارة إلى استرداد أصول السينما المصرية المملوكة للمجلس الأعلى للثقافة والتي انتقلت إدارتها منذ التسعينيات من القرن الماضي إلى شركات تابعة لوزارة قطاع الأعمال العام ثم وزارة الاستثمار، وتضم هذه الأصول دور العرض والمعامل والاستوديوهات والنسخ السالبة من تراث السينما المصرية الذي أنتجته مؤسسة السينما في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

سادسا: تنمية الصناعات التراثية والحرف التقليدية: العمل على تنمية الصناعات التراثية والحرف التقليدية والحفاظ عليها باعتبارها جزءا من التراث الثقافي من ناحية، وفي نفس الوقت مجالًا للتشغيل وموردًا اقتصاديًا مهمًا، وفي هذا السياق من الممكن أن نتبنى مشروعًا لإنشاء مجلس قومي للحرف التقليدية يعمل على رعايتها وتطويرها ويجمع المهتمين بها والقائمين عليها والمشتغلين فيها.

 سابعا: المساهمة في توفير الأدوات اللازمة لتحقيق القدرة على إنتاج المعرفة، بالتوسع في إنشاء المكتبات العامة من ناحية، والعمل على توفير الكتاب بسعر مناسب لمختلف قطاعات المجتمع من ناحية أخرى، ودعم إنتاج المواد الثقافية بأشكالها المختلفة، والتوسع في سياسة النشر الرقمي، وزيادة الاتصال بين الأفراد والمجموعات وتيسير سبله، من خلال الاتجاه إلى تقديم الخدمات الثقافية بصورة رقمية، عبر المواقع التابعة للوزارة على الإنترنت.

 

ثامنا: تعديل التشريعات الثقافية: إجراء مجموعة من التعديلات التشريعية في القوانين واللوائح المنظمة للعمل الثقافي، لتحقيق الأهداف التي تسعى إليها الجماعة الثقافية، والتي تناسب المرحلة الجديدة في تاريخ مصر.

  وفي مقدمة هذه القوانين قانون الحفاظ على الوثائق وإتاحتها، وقانون جوائز الدولة واللوائح المنظمة لها، وقانون الرقابة على المصنفات الفنية، وقانون حماية الملكية الفكرية.

تاسعا: تنمية قدرات العاملين في المؤسسات الثقافية: ضرورة العمل على تنمية قدرات العاملين من خلال دورات تدريبة وتثقفية تنمي مهارتهم وتحولهم إلى منشطين ثقافيين، بالتوازي مع العمل على تحسين الدخل بالنسبة لهم.

عاشرا: إعادة الهيكلة: تحتاج قطاعات وزارة الثقافة إلى إعادة هيكلتها حتى تتوافق مع المرحلة الجديدة في تاريخ مصر، ومع تطلعات الجماعة الثقافية المصرية، ومع الاحتياجات الفعلية لتطوير العمل، وفي مقدمة هذه المؤسسات التي يجب إعادة النظر فيها: المجلس الأعلى للثقافة الذي ينبغي أن يتحول إلى مجلس مشكل من أسفل إلى أعلى بشكل من أشكال الانتخاب من داخل الجماعة الثقافية ومنظماتها المستقلة ومؤسساتها الأكاديمية والنقابية، على أن يكون له استقلاله عن وزارة الثقافة ويتولى مراقبة آداء الهيئات الحكومية العاملة في المجال الثقافي، وهيئة قصور الثقافة حيث يجب أن تدار قصورها وبيوتها في محافظات مصر المختلفة من خلال مجالس منتخبة من رواد قصور الثقافة، وقطاع الإنتاج الثقافي بما يتبعه من بيوت فنية ومراكز قومية تحتاج إلى أسلوب جديد في إدارتها، وهي إجراءات ينبغي أن تتم في على مراحل وتراعي إعادة النظر في حجم العمالة التي تشكل عبءًا على مؤسسات الوزارة في إطار رؤية شاملة لسياسة التشغيل في الدولة.

  لكن لابد من أن نضع في اعتبارنا أن هناك مجموعة من العقبات التي تواجه تطبيق السياسة الثقافية الجديدة، يمكن تلخيصها على النحو التالي:

1.     المفاهيم التي سادت لسنوات طويلة حول دور وزارة الثقافة التي بدأت كوزارة للإرشاد القومي بما يحمله هذا من مفهوم التوجيه السياسي المأخوذ عن النظم الشمولية في أوروبا في مرحلة ما بين الحربين ثم في مرحلة الحرب الباردة، وبغض النظر عن مدى نجاح الوزارة التي ظهرت إلى الوجود في ظل نظام شمولي عاتي في تحقيق هدفها في التوجيه فإن هذا المفهوم ما زال سائدا بقوة بين العاملين في الحقل الثقافي.

2.     الهياكل الإدارية المعقدة التي تحتاج إلى إعادة النظر فيها، والتي تكونت حولها مصالح متكلسة تقاوم أي محاولة جادة للإصلاح.

3.     التضخم في الجهاز الإداري في وزارة الثقافة والذي يحتاج إلى إعادة النظر فيه، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار سياسة عامة للدولة في مجال التشغيل.

4.     صعود تيارات سياسية معادية لحرية الفكر والإبداع تحاول فرض وصايتها على المجتمع، الأمر الذي يشكل تهديدا واضحا لعناصر أساسية للسياسة الثقافية الجديدة.

5.     ضعف المخصصات المالية لوزارة الثقافة في الموازنة العامة للدولة، فدون زيادة هذه المخصصات لا يمكن تحقيق أي نجاح للسياسة الثقافية الجديدة.

 

*****


أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...