الاثنين، 27 يوليو 2015


إضراب مدرسة الحقوق الخديوية

صفحات منسية من تاريخ الحركة الطلابية المصرية

عماد أبو غازي

 تواكب تأسيس نادي المدارس العليا في ختام سنة 1905 وافتتاح مقره وبداية ممارسته لنشاطه في أبريل 1906 مع ميلاد الحركة الطلابية المصرية، ففي الوقت الذي ظهر فيه النادي إلى الوجود كأول تنظيم طلابي مصري، شهد شهر فبراير من عام 1906 أول إضراب طلابي شامل في مصر تشارك فيه مدرسة من المدارس العليا بأسرها، وفقًا لمؤرخنا عبد الرحمن الرافعي المعاصر لتلك الأحداث.
 هذا وترجع البدايات الأولى لذلك الإضراب إلى شهر يناير من عام 1906، عندما وضعت نظارة المعارف نظامًا جديدًا لمدرسة الحقوق الخديوية بهدف التضييق على الطلاب ومحاصرة أنشطتهم، وبمقتضى ذلك النظام تحولت مدرسة الحقوق العليا في أسلوب معاملتها لطلابها إلى ما يشبه أسلوب معاملة تلاميذ المدارس الثانوية وربما الابتدائية، وكان مستر دنلوب الذي شغل منصب السكرتير العام لنظارة المعارف في ذلك الحين وراء هذا النظام الجديد، وأخذت احتجاجات الطلاب تتصاعد إلى أن وصلت ذروتها في فبراير من نفس العام عندما قرر الطلاب الإضراب عن الدراسة إلى أن تتراجع النظارة عن النظام الجديد وتعود إلى اللائحة القديمة.
 ويذكر عبد الرحمن الرافعي الذي شارك في الإضراب أن الطلبة أجمعوا على الانقطاع عن الدراسة، وشكلوا لجنة تمثل جميع فرق المدرسة لتنظيم حركة الإضراب، الذي كان موجها ضد سياسة التعليم التي وضعها الاحتلال وفرضها دنلوب على المدارس العليا المصرية، وكان الهدف الأساسي من وراء تلك السياسة الحيلولة دون ظهور نخبة مصرية مثقفة تستطيع قيادة الأمة في سعيها نحو الدستور والاستقلال، وقد أشار سعد زغلول الذي كان ناظرًا للمعارف في مذكراته إلى أن نظارته عرفت سياستين متقابلتين ومتعارضتين تعارضًا تامًا سياسته التي تسعى للتوسع في التعليم الوطني وسياسة المستشار دنلوب التي "ترمي إلى تضييق دائرة التعليم حتى لا تشمل إلا عددًا محصورًا من المتعلمين، ومقدارًا محدودًا من المعلومات، وإلى أن تكون وظائفه محصورة في الإنجليز خاصة، وإلى منع مواهب المصري من الظهور والنمو، حتى يبقى على الدوام ضعيفًا، قاصرًا عن إدارة شئون بلاده". وبالمناسبة فإن تلك المذكرات التي بدأ تحقيقها ونشرها نشرًا علميًا الدكتور عبد العظيم رمضان وأصدرتها وزارة الثقافة من خلال مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، على أجزاء متتابعة منذ عام 1987 في الذكرى الستينية لوفاة سعد باشا، تعد عملًا علمًيا مهم يستحق التحية والتقدير، وقد شكل صدورها إضافة للمكتبة التاريخية المصرية وخدمة لكل المشتغلين بدراسة تاريخ مصر الحديث والمهتمين به.
 
 

 ولنترك سعد ومذكراته لنعود لإضراب الطلاب، عقد الطلاب اجتماعًا في حديقة الأزبكية، التي كانت في ذلك الوقت مركزًا للنشاط الثقافي والفني والسياسي في القاهرة، عقد الاجتماع يوم 26 فبراير سنة 1906 وألقيت فيه الخطب الحماسية، وقرر الطلاب في الاجتماع الاستمرار في الإضراب إلى أن تجاب مطالبهم.
 وفي مواجهة حركة الطلاب أصدر اللورد كومر أوامر مشددة إلى نظارة المعارف لمواجهة الإضراب بالشدة، فأعلنت النظارة تعطيل الدراسة لخمسة أيام وأنذرت من يتخلف عن الانتظام في الدروس بالفصل النهائي، وقد أبدى طلاب المدارس العليا الأخرى تتضامنهم مع طلاب مدرسة الحقوق، لكن الأزمة انتهت يوم 3 مارس بعد وعد من المستشار القضائي للنظارة بالنظر في مطالب الطلاب.
 ورغم انتهاء الإضراب وانتظام الدراسة إلا أن آثار الأزمة تعددت في أكثر من اتجاه، فمن ناحية تمت مكافأة دنلوب بترقيته مستشارًا لنظارة المعارف، ومن ناحية أخرى أدى الإضراب إلى ارتباط لم تنفصم عراه لسنوات بين الحركة الطلابية والحركة الوطنية، فقد كان تأييد جريدة اللواء لسان حال الحركة الوطنية المصرية لحركة الطلاب وتبنيها لمطالبهم جسرًا ربط بين الحركة الوطنية والحركة الطلابية في مصر، وسرعان ما أصبحت قيادة الحركة الوطنية المصرية في يد الطلاب الأمر الذي استمر حتى سبعينيات القرن العشرين، أما النتيجة الثالثة فكانت عزل الأستاذ جرانمولان ناظر المدرسة بنهاية العام الدراسي، وقد حل محله ناظر جديد هو إدوار لامبير الفرنسي الذي أحبه الطلاب واحترمه المجتمع المصري لذلك لم يعمر كثيرًا في منصبه، حيث استقال مع نهاية العام الدراسي 1906 ـ 1907 احتجاجًا على سياسة المستشار دنلوب.
وقد وصف الناظر لامبير ما حدث في مقال نشره بالفرنسية بجريدة لطان الباريسية عقب استقالته احتجاج على سياسة دنلوب فقال: "إن المستر دنلوب وضع لهؤلاء الطلبة الذين بلغوا سن الرجال نظامًا من النظامات الموضوعة لصغار تلاميذ المدارس الابتدائية، وأخذ يعاملهم بقسوة متناهية، ويستعمل معهم سياسة وخز الإبر، سياسة اضطهاد دنيء، فكانت نتيجة ذلك أن انضم إلى الحزب المعارض للإنجليز فئة متعلمة راقية، وأن يسود على أفئدة الشبيبة الحقد والبغض للإدارة الإنجليزية، وأن تتحول مدرسة الحقوق معقلًا للوطنية المصرية بحيث لا تكاد ترى بين الأربعمائة تلميذ الموجودين بها الآن عشرة لا يؤمنون كل الإيمان بمبادئ مصطفى    كامل باشا".
 ويذكر لامبير في مقاله كذلك أن دنلوب كان يضغط عليه لاتخاذ مواقف مضادة لسعد زغلول ناظر المعارف في سياسته للنهوض بالتعليم الوطني، وقد أشار سعد في مذكراته إلى أن دنلوب فتح معه موضوع هذا المقال الذي وثق فيه لامبير دسائس دنلوب ضد سعد محاولًا تكذيب لامبير والاستعانة بسعد في الرد عليه، لكن سعد زغلول تهرب منه.
 لم يكن إضراب طلاب مدرسة الحقوق الخديوية نهاية المطاف لحركة الطلاب بل بداية قوية لتلك الحركة الوليدة، وكانت إيذانًا بربط المطالب الطلابية الخاصة بلوائح الدراسة ونظم التعليم بالمطالب الوطنية العامة وفي مقدمتها الدستور والاستقلال.

الجمعة، 24 يوليو 2015


نادي المدارس العليا...

عماد أبو غازي
 في خريف عام 1905 تبلورت لدى مجموعة من شباب مصر من طلبة المدارس العليا وخريجيها فكرة إنشاء نادٍ للمدارس العليا يجمع في عضويته بين الطلاب والخريجين، وجاءت هذه المبادرة في سياق نمو متصاعد للوعي الوطني شهدته مصر منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وقد أخذ هذا النمو عدة مسارات متوازية، منها تنظيم هذا الوعي في أطر مؤسسية تدفع بحركة المجتمع إلى الأمام، ومن بين هذه الأطر المؤسسية كان نادي المدارس العليا.
 وكانت المدارس العليا في ذلك الوقت معاهد للتعليم العالي، وتعتبر أعلى مؤسسات التعليم المدني درجة في مصر، فلم تكن الجامعة قد أُنشئت بعد، ومن أهم تلك المدارس التي كانت قائمة والتي يرجع تأسيس بعضها إلى عصر محمد علي: مدرسة الطب والمهندسخانة (الهندسة) والحقوق والمعلمين والألسن، والتي تخرج منها على مدار سنوات أجيال من مثقفي مصر الذين حملوا على عاتقهم تمهيد الأرض وتهيئة المناخ لأهم الثورات في تاريخ مصر الحديث، ثورة 1919.
 في أكتوبر من عام 1905 تألفت لجنة تأسيسية للنادي برئاسة الدكتور عبد العزيز نظمي بك، وأعلنت اللجنة عن فتح باب الاكتتاب لتأسيس النادي، وتبنت جريدة اللواء، جريدة مصطفى كامل الدعوة، وكتب مصطفى كامل معضدًا لها في 19 أكتوبر فقال: "نرى من أوجب الواجبات إعانة هذا النادي ممن يقدرون العلم وذويه"، ونظمت اللجنة التأسيسية عرضًا تمثيليًا بدار التمثيل العربي ذهبت حصيلته لتمويل المشروع، وقد بلغت حصيلة الاكتتاب حتى آخر نوفمبر 1905 281 جنيها.
 وفي 8يوم الجمعة  ديسمبر 1905 اجتمعت أول جمعية عمومية للنادي في صورة جمعية تأسيسية، وقد عقد الاجتماع بإحدى قاعات مدرسة الطب، وبلغ عدد الحاضرين من طلبة المدارس العليا مائتي طالب، بالإضافة إلى عدد من الخريجين، وانتخبت الجمعية العمومية مجلس الإدارة الأول برئاسة عمر بك لطفي، وضم المجلس في عضويته ممثلين للطلاب والخريجين، وبلغ عدد أعضائه 14 عضوًا، وكان من بينهم عبد الخالق ثروت رئيس وزراء مصر فيما بعد ممثلًا لخريجي مدرسة الحقوق وأمين سامي صاحب كتاب تقويم النيل من خريجي المهندسخانة وحافظ عفيفي الطالب بمدرسة الطب والذي أصبح فيما بعد أحد أعضاء الوفد المصري ثم خرج عليه وصار رئيسًا للديوان الملكي في أواخر عصر فاروق.
 
 

 وبعد اكتمال الاكتتاب تم افتتاح مقر النادي يوم الخميس 5 أبريل سنة 1906، وكان المقر يقع في المنزل رقم 4 بشارع قصر النيل و"كان بناءً فخمًا تحيط به حديقة غناء" وفقًا لوصف المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي وهو مصدرنا حول هذه الوقائع، ومصدر الصور الفوتوغرافية كذلك، فقد كان شاهد عيان وعضوًا مؤسسًا للنادي باعتباره طالبًا في مدرسة الحقوق، وكان بالمبنى عدة غرف واسعة تستخدم بعضها للمحاضرات والبعض الآخر كصالونات للجلوس، كما كان النادي يضم قاعة للمكتبة وأخرى للبلياردو وقاعات للألعاب المباحة التي لم يحددها الرافعي، وإن كان قد ذكر أن مبادئ النادي كانت تمنع تقديم الخمور ولعب القمار.
 وقد حضر حفل الافتتاح عدد من رجال الحكومة منهم: حسين فخري باشا ناظر المعارف، الذي ألقى كلمة في حفل الافتتاح، ويعقوب أرتين باشا وكيل المعارف، ومحمود صدقي باشا محافظ العاصمة ونظار المدارس العليا ووكلائها، والغريب أن بعض المستشارين الإنجليز للنظارات المصرية قد حضروا الاحتفال منهم مستشار المعارف دنلوب والذي كان نموذجا للغطرسة الاستعمارية وكانت بينه وبين القيادات المصرية الوطنية لنظارة المعارف صدامات عديدة، كما حضر الحفل كذلك متشل أنيس وكيل وزارة المالية والذي أصبح بعدها بعام واحد أول رئيس للنادي الأهلي، كان حفل افتتاح المقر تدشينًا لنشاط ثقافي وفني وعلمي وسياسي استمر على مدى ثماني سنوات، وخلال هذا النشاط الذي شمل تنظيم المحاضرات والرحلات والمسابقات والأنشطة الاجتماعية، من خلاله تأسست جمعية لرعاية الأطفال، وفيه امتزج طلاب المدارس العليا بخريجيها وتفاعلوا لخدمة مصر، ومن هذا النادي خرجت مجموعة من المشروعات المهمة ففي قاعاته اجتمعت لبعض الوقت لجنة إنشاء الجامعة المصرية، وفيه تأسست مدارس الشعب لتعليم العامة، وقام أعضاء النادي بالتدريس فيها، وربما كان هذا المشروع الذي أطلقه الزعيم محمد فريد أول مشروع لمحو الأمية في مصر، وفي النادي أيضًا أنشأ عمر بك لطفي رائد الحركة التعاونية المصرية مشروع النقابات الزراعية.
 
 

 عندما تأسس النادي كان عدد أعضائه 240 عضوًا بلغوا في نهاية عام 1906 471 عضوًا، ومع نهاية العقد الأول من القرن العشرين كان عددهم قد ناهز ثمانمائة عضو.
 وقد استمر النادي الذي يعد أول تنظيم طلابي مصري يمارس نشاطه حتى قامت الحرب العظمى سنة 1914، وأعلنت بريطانيا الحماية على مصر، فأصدرت السلطة العسكرية البريطانية قرارها بإغلاق النادي قبل أن تنتهي سنة 1914، فقد تواكب مع إنشاء النادي نموًا للحركة الطلابية المصرية سواء الحركة الخاصة بالمطالبة بإصلاح التعليم ولوائحه أو النشاط السياسي للطلاب المدافع عن مصالح الوطن والمناهض للاحتلال والمطالب بالجلاء والدستور والحريات العامة، ولهذا حديث آخر.

الثلاثاء، 21 يوليو 2015


 

الأهلي نادي الانتصارات

 النهار ده بمناسبة الفوز المعتاد للنادي الأهلي على الزمالك بأعيد نشر مقالتين كتبتهم سنة 2007 في الاحتفال بالمئوية الأولى للنادي الأهلي في مخربشاتي بجريدة الدستور....

الأهلي وقرن من تاريخ مصر

عماد أبو غازي
 
 

هذا العام عام النادي الأهلي، ففي شهر أبريل القادم تمر مئة سنة على أول اجتماع لمجلس إدارته، وإذا كان تاريخ النادي الأهلي في الأمجاد الرياضية معروف، إنه نادي القرن العشرين أفريقيًا، وأكثر النوادي المصرية فوزًا ببطولتي الدوري العام وكأس مصر في كرة القدم بفارق كبير عن النادي الذي يليه، وأكثرها فوزًا بالبطولات الإفريقية، حقق عشرات البطولات المحلية والقارية في كرة القادم قاربت المئة، وحقق انتصارات في مباريات دولية مع أهم فرق العالم، فضلًا عن عشرات من البطولات في ألعاب رياضية أخرى، كما كان النادي الأهلي أول نادي مصري يعرف نظام الاحتراف ويقدم محترفًا مصريًا يلعب كرة القدم في أوروبا، وذلك عندما احترف نجمه العظيم صالح سليم في منتصف الستينات في النمسا، وكان أول لاعب كرة قدم ـ في حدود علمي ـ يؤلف عنه كتاب في حياته، كان الكتاب يحمل عنوان "كرة صالح"، وما زال النادي الأهلي يحصد البطولات ويحطم الأرقام القياسية رقمًا بعد رقم على صعيد الرياضة.
 
  ويعتبر النادي الأهلي صاحب أكبر جمهور يشجع فرقه بين الأندية المصرية على وجه الإطلاق، ويمتد جمهوره الذي يشجع فريقه الكروي بامتداد العالم العربي.
 
 
 
 لكن قصة النادي الأهلي التي تمتد لقرن كامل لم تكن قصة انتصارات رياضية وبطولات تتحقق في هذه اللعبة أو تلك، أو قصة جماهير غفيرة تتسع يومًا بعد يوم، أو قصة قيم وأخلاقيات رياضية تسعى القلعة الحمراء إلى ترسيخها وإرسائها في تعاملاتها مع مؤسسات العمل الرياضي ندر أن نصادف مثلها في ناد آخر؛ إن قصة النادي الأهلي تحمل كل ذلك، لكنها تحمل أبعادًا أكثر من ذلك بكثير، فهي تشكل جزء من قصة نضال الشعب المصري من أجل امتلاك مقدراته.
 

سهم النادي الأهلي
 لقد تأسس النادي الأهلي في عام 1907 في فترة محورية من تاريخ مصر، ولم يكن إنشاء النادي الأهلي مجرد تأسيس لنادي للرياضية البدنية والنشاط الاجتماعي، بل جزء من حركة عامة في المجتمع المصري بدأت مع مطلع القرن العشرين، تواكب فيها نمو الحركة الوطنية وصعودها التدريجي مع بناء المؤسسات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني الحديثة، فقد شهدت تلك السنوات تأسيس الأحزاب السياسية التي تعبر عن التيارات الأساسية في المجتمع ويسعى كل حزب منها بطريقته لتحقيق أهداف النضال الوطني في الدستور والجلاء، وكان أبرزها حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية الموالي للخديوي عباس حلمي، وقد أسسه الشيخ علي يوسف ولسان حاله جريدة المؤيد، وحزب الأمة باتجاهه الليبرالي وقد أسسه أحمد لطفي السيد، وكانت جريدة "الجريدة" لسان حاله، ثم الحزب الوطني باتجاهاته الجذرية في العداء للاستعمار البريطاني، وقد أسسه مصطفى كامل سنة 1907، وكان الحزب تيارًا متصاعدًا في الحياة السياسية المصرية منذ صدرت جريدة "اللواء" سنة 1900.
 كما شهدت تلك السنوات أيضًا تأسيس نادي المدارس العليا كناد سياسي اجتماعي نقابي يجمع طلاب المدارس العليا وخريجيها في تنظيم واحد يدافع عن مصالحهم وينمي الروح الوطنية بينهم، وكان هذا النادي الذي عقدت جمعيته العمومية الأولى في ديسمبر 1905 وافتتح رسميًا في أبريل 1906 أول شكل من أشكال التنظيمات الطلابية في مصر، وقد لعب دورًا مهمًا في النضال الوطني حتى جمدت سلطات الاحتلال نشاطه مع قيام الحرب العظمى سنة 1914.
 نفس الفترة عرفت الدعوة لإنشاء الجامعة الأهلية وافتتاح الدراسة بها بالفعل في ديسمبر من عام 1908، لتكون نواة للجامعات المصرية الحديثة فيما بعد، وليتخرج منها مجموعة من رواد حركة التحديث التي انتعشت موجه جديدة من موجاتها في أعقاب الثورة المصرية، ثورة 1919، وعام 1908 نفس العام الذي شهد افتتاح مدرسة الفنون الجميلة التي أسسها الأمير يوسف كمال أحد رعاة النهضة الثقافية في مصر وجعل مقرها قصر من قصوره بحي درب الجماميز بالقاهرة، وهي المدرسة التي كان من بين طلاب دفعتها الأولى رواد الفن الحديث في مصر، مختار وراغب عياد ويوسف كامل ومحمد حسن.
 وتأسست في 1909 "نقابة عمال الصنائع اليدوية" بدعم من الزعيم محمد فريد الرئيس الثاني للحزب الوطني لتبدأ بذلك مرحلة جديدة في تاريخ الحركة العمالية المصرية.
 وفي نفس الحقبة تأسست مجموعة من الجمعيات الأهلية كان من أبرزها الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع والإحصاء التي ما زالت قائمة نشطة إلى يومنا هذا.
 

حفل افتتاح النادي الأهلي
 في هذا السياق الذي شهد صحوة على كل الأصعدة في المجتمع المصري تأسس النادي الأهلي ليكون ناديًا وطنيًا، رغم وجود بعض الأجانب بين أعضائه، لكن فكرته الأساسية هي إنشاء نادي رياضي اجتماعي للمصريين في مواجهة نادي الجزيرة الذي كان ناديًا للأجانب، ومن هنا اتخذ النادي الأهلي اللون الأحمر شعارًا له، فقد كان علم مصر وقتها أحمر اللون.
 

 مجلس إدارة النادي
وبهذا المعنى كان النادي الأهلي جزءًا من المشروع الوطني الكبير الذي مهد الأرض للصحوة الكبرى التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وبلغت ذروتها بقيام ثورة 1919، وإذا كان نادي الجزيرة ناد للأجانب والنادي الأهلي ناد للأهالي ومن هنا أخذ أسمه، فإن النادي المصري الكبير الثاني "نادي الزمالك"، حاول أن يجمع بين الفئتين وحمل اسمه في مرحلته الأولى اسم "النادي المختلط"، ثم أصبح اسمه بعد ذلك نادي فاروق ورأسه حيدر باشا قائد الجيش، ثم تحول بعد 23 يوليو إلى نادي الزمالك وإن ظلت رئاسته في يد قيادة الجيش وأسرة حيدر باشا من خلال تولي المشير عبد الحكيم عامر رئاسته، ومن هنا فقد ظل النادي الأهلي مرتبطًا بالحركة الوطنية وبالشعب، وربما كان هذا سر جماهيريته الواسعة التي لا نظير لها.
 ولاشك في أن الاحتفال بالمئوية الأولى للنادي الأهلي والتي أوشكت فعالياتها على الانطلاق، سوف تكون على مستوى تاريخ هذا النادي الكبير باعتباره جزءًا من تاريخ الوطن.

الأهلي مدرسة للرياضة والفن ....

  طوال التاريخ المئوي للنادي الأهلي والذي لم ينتقل فيه من مقره بالجزيرة، كان النادي مركزًا للنشاط الفني بقدر ما كان مركزًا للنشاط الرياضي، وإذا كان عام 1911 شهد تكوين أول فريق لكرة القدم بالنادي الأهلي والذي ضم اللاعب الفذ حسين حجازي، فإن الأهلي بدأ في فترة مقاربة تنظيم الحفلات الفنية بشكل منتظم، وقد شارك في إحياء الحفلات الغنائية بالنادي الأهلي عبر تاريخه نخبه من نجوم الفن في مصر، في مقدمتهم صالح عبد الحي وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ونجاة الصغيرة ووردة الجزائرية، وقد شاركت أم كلثوم وعبد الوهاب في حفلات النادي الأهلي وهما في مستهل حياتهما الفنية.
 
 ويذكر الكاتب الراحل الأستاذ فكري أباظة، الذي انضم لعضوية النادي الأهلي سنة 1913 بعد تأسيسه بست سنوات وظل عضوًا به حتى وفاته، في مقالة له عن النادي الأهلي نشرت ضمن كتيب صغير أصدرته مجلة صباح الخير في مارس سنة 1966 ضمن سلسلة "حكايات صباح الخير"، إن النادي الأهلي كان السبب في احتراف الفنان الكبير نجيب الريحاني للفن، والعهدة على الراوي، الذي قال: "إن الأهلي كان يقيم منذ سنة 1916 حفلات ساهرة تحت اسم سموكنج كونسرت، يلقي فيها أعضاء فرقة التمثيل بالنادي مقطوعات كوميدية وتراجيدية وموسيقية، وكانت من أنجح الحفلات في المجتمع المصري في ذلك الوقت"، وممن شاركوا فيها يوسف وهبي ومحمد عبد القدوس وسليمان نجيب وحسن فائق، ووفقًا لرواية فكري أباظة، فإن نجيب الريحاني الذي كان موظفًا ببنك كريدي ليونيه حضر واحدة من تلك الحفلات فقرر  الاستقالة من عمله وتأسيس فرقته المسرحية.

فكري أباظة
 وبالمناسبة فإن فكري أباظة هو الذي كتب نشيد النادي الأهلي، وترجع القصة إلى عام 1957، أي منذ خمسين عامًا، عندما احتفل النادي الأهلي بعيده الذهبي يومها كتب فكري أباظة نشيدًا للنادي الأهلي لحنه الموسيقار الكبير محمود الشريف، يقول النشيد:

قوم يا أهلي شوف ولادك والبنود ...
شوف كتايبك ... شوف جنودك والحشود...
شوف آيات النصر في كل العهود...
شوف وسجل بيها أمجاد الخلود...
إنت ديمًا ... إنت دايمًا ... إنت دايمًا في الأمام...

***
كل نعمة في رحابك عندنا دي مشيئة وإرادة ربنا
من شيوخك اكتسبنا مجدنا
وبشبابك احتفظنا باسمنا
إنت ديمًا ... إنت دايمًا ... إنت دايمًا في الأمام...

***
الرياضة دي غريزة في طبعنا...
من زمان جريتها جري في دمنا...
والبطولة منبتها في أرضنا...
أهديناها للجميع من عندنا...
إنت ديمًا ... إنت دايمًا ... إنت دايمًا في الأمام...

***
لما نادنا المنادي بالفداء...
في البحار وفي القفار وفي السماء...
استجبنا واكتسبنا بالدماء...
واحتسبنا فرقة للشهداء...
إنت ديمًا ... إنت دايمًا ... إنت دايمًا في الأمام...

***

فكري أباظة مع لاعبي الأهلي في السبعينيات
  ولفكري أباظة وللنادي الأهلي الحق بأن يفخر بتاريخه وحاضره، فبعد سنوات قليلة من تأسيس النادي كان يضم 18 لعبة رياضية دفعة واحدة، إلى جانب فرق الموسيقى والتمثيل والرسم والتصوير، وفرقة الرحلات، كما أن النادي منذ تأسيسه جمع بين أسواره الأمراء والنبلاء من أبناء أسرة محمد علي مع الكتاب والمثقفين والفنانين والمهنيين، جنبا إلى جنب مع أبناء الطبقات الشعبية من الرياضيين.
 

 وكان أول رئيس للنادي الأهلي ميتشيل أنسي، ثم نص قانون النادي على أن يرأس الجمعية العمومية للنادي ناظر المعارف ومن هنا رأسها سعد باشا زغلول وغيره من نظار ووزراء المعارف، إلا أن أبرز رؤساء النادي في تاريخه الطويل رجل الصناعة والاقتصاد أحمد عبود باشا، والفريق أول عبد المحسن مرتجي قائد القوات البرية في الستينات.
 عبود باشا
 
الفريق مرتجي
 ثم صالح سليم ابن النادي ولاعبه الدولي المميز الذي بدأ مشواره الكروي بالنادي عام 45 وبعد أقل من ثلاث سنوات كان يلعب في الفريق الأول ليصبح بعدها بعشر سنوات رئيسًا للفريق، وكان صالح لاعبًا وإداريًا ثم رئيسًا للنادي المحافظ على تقاليده العريقة كمؤسسة من مؤسسات المجتمع المستقلة، وربما يكون الاحتفال بمئوية الأهلي مناسبة لإقامة تمثال لصالح سليم في أحد المواقع القريبة من النادي، أو على الأقل داخله.
صالح
 لقد تأسس النادي الأهلي سنة 1907 كنادي رياضي اجتماعي للمصريين، ووفقا لرواية فكري أباظة فإن سلطات الاحتلال البريطاني شجعت إنشاء النادي ظنًا منها بأنه سوف يجذب الشباب بعيدًا عن نادي المدارس العليا الذي كان مصدر قلق للإنجليز بسبب نشاطه الوطني، لكن ظن الإنجليز قد خاب وأصبح الأهلي مصدر قلق جديد لهم، إلى جانب "زميله" الأكبر نادي المدارس العليا، ولذلك النادي قصة أخرى!

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...