الخميس، 11 يونيو 2020

أمي معلمتي الأولى في مدرسة الحياة

أمي معلمتي الأولى في مدرسة الحياة


 دومًا كان لدي إحساس بالذنب تجاه أمي رعاية الله حلمي (24 ديسمبر 1923 – 28 أكتوبر 2014) التي أعتقد أنها أسهمت في تكويني بشكل كبير، فقد أرتبط اسمي دائمًا بأبي كناقد تشكيلي ومثقف شارك في الحياة المصرية منذ مطلع الأربعينات، وارتبط أيضًا بخال أبي مختار الذي أوصف دائمًا بأني حفيد له، ولم أعرف كيف أقدم أمي للحياة العامة التي ابتعدت عنها لسنوات طويلة، رغم أنها تستحق أن أُعّرِف بها مثلما أُعّرف بأبي، فأمي نحاته ومصورة متميزة، ليس في تقديري بل في رأي كل من شاهد أعمالها الفنية في منزل الأسرة أو في منزلنا أو على صفحتي على الفيس بوك، ابتعدت عن أضواء المعارض الفنية وركزت جهدها في عملها كمدرسة للتربية الفنية في مدرسة السنية ثم كموجهة بعد ذلك، وكم أسعد عندما ألتقي في الحياة بتلميذاتها فيتحدثن معي عنها، وكانت منهن زميلات لي في العمل السياسي ثم في العمل الوظيفي في الجامعة وفي المجلس الأعلى للثقافة.


 لقد كنت منذ طفولتي أشعر بفخر داخلي وزهو بأن أمي إمرأة عاملة، وربما جاءت الفرصة لي لأعلن هذا الزهو على الملأ، أمي رعاية الله حلمي كانت دائمًا مصدر فخر لي، كنت سعيد جداً أن أمي تعمل، وكان عملها يشعرني بأني متميز، لأن أمهات زميلاتي وزملائي في المدرسة الإبتدائية أغلبهن من غير العاملات، أغلب الأطفال كانت أمهاتهم يحضرن للسؤال عنهم في المدرسة، أما أنا فلا، لم يكن هذا يضايقني على العكس كان يعطيني شعور بالاختلاف والفخر بها، خاصة وهي مدرسة مثل أولئك المدرسات اللاتي يقمن بتعليمنا.


 لم يؤثر عملها أبدًا على اهتمامها بنا، الأبناء الثلاثة مختار وأنا ونادية، بقدر ما كانت المرأة العاملة المتفانية في عملها المخلصة له، كانت الأم الحنونة المعطاءة، حضورها في الأسرة دائم، ولمساتها في المنزل واضحة، تعلمنا وتوجهنا بشكل غير مباشر، ترعى اهتمامتنا الصغيرة والكبيرة، كانت رعاية الله بحق، اسم على مسمى.


 كانت تحببنا في الفن وتهتم بما نرسمه وتشجعنا دومًا، وكان يوم عيد بالنسبة لنا عندما تعطينا علبة ألوانها الفلوماستر العريضة التي أتت بها من فرنسا لنرسم بها، فلم يكن هذا النوع من الألوان موجود في مصر وقتها، وكنا نسميها "الألوان السحرية".
 في بعض الأحيان تجمع "لوحاتنا" وتنظم لنا بها معرضًا على جدران غرفة من غرف المنزل، وتضع شريطًا على بابها، ثم تدعو أبانا لافتتاح المعرض، وربما يمنحا بعض "اللوحات" جوائز، أو يقرروا إقتنائها، مثلما تقتني الدولة أعمال الفنانين.


 عندما كانت تسافر مع أبي مرة كل عامين لحضور بينالي الإسكندرية لفنون البحر المتوسط، ويتركانا في بيت جدي لأمي القريب من بيتنا، ينظما لنا مسابقة في القرأة الحرة، يقرأ كل منا نحن الثلاثة ما يشاء من كتب، ويكتب عنها، وبالطبع كانت الجوائز من نصيب ثلاثتنا، يختاروا عرضًا واحدًا من عروض الكتب التي قدمنها، عرض واحد لكل منا ويمنحوه جائزة عليه.

 عندما كبرنا بعض الشيء كانت أجازة الصيف بالنسبة لي ولنادية فرصة لنشاركها المطبخ، نطهو معها الكيك ونتعلم الطبخ، تعلمت منها كثير من الطبخات وبرعت فيها، لكني نسيت كيف يصنع الكيك، أما نادية فمازالت ماهرة في صناعته.
 عندما صرت أكبر أدركت ما ضحت به من أجلنا، فنها، إبداعها في مجال النحت والتصوير المائي والزيتي، توقفت تقريبًا منذ عام 1955، لم تكن قادرة أن تترك عملها الذي تحبه في التدريس، ورأت أن عليها أن تختار بين اثنين من ثلاثة: الأبناء والتدريس والفن، فاختارتنا واختارت التدريس.

 رغم قسوة تجربة فقد الابن التي مرت بها بعد وفاة أخي الأكبر في حادث سيارة عام 1979، فقد حاولت رغم حزنها على رحيل مختار أن تتماسك من أجلنا، أبي ونادية وأنا، واصلت الحياة، بعد أشهر استقالت من عملها، لكنها حاولت أن نعيش حياة طبيعية بقدر طاقتها، وبعد أن فقدنا أبي حاولت أن تتماسك مرة أخرى من أجلنا أيضًا، رغم المرارة التي تركها فقد الابن ثم الزوج شريك الحياة في أقل من أربع سنوات، كانت تحاول أن تبدو طبيعية، لكنها نادرًا ما كانت تفصح عما بداخلها، عن إحساسها بأنها فقدت جزء منها بعد وفاة مختار، وفقدت كل شيئ بعد وفاة بدر.


 ربما أعطاها الأحفاد مريم وسلمى وسامح دفعة جديدة للحياة، تابعتهم يكبرون ويشقون طريقهم ويختارون مستقبلهم، كانوا مصدر سعادة لها، تتجدد بهم طاقتها، تبث فيهم القيم الجميلة، وتفخر بما يحققوه.



 تعلمت منها الكثير من أيام الطفولة والصبا، فهي معلمتي الأولى، تعلمت منها التأمل، والسعي للتعرف على التفاصيل الصغيرة، والبحث عن الجمال في كل ما يحيط بنا، والحرص على إتقان العمل.
 غابت بجسدها في خريف عام 2014 لكنها حاضرة دومًا بما زرعته فينا.



عماد أبو غازي
مجلة الإذاعة والتلفزيون مارس ٢٠٢٠

أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا

  أسئلة العميد الماضي الذي ما زال حيًا عماد أبو غازي   إذا كنا نحي هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به ت...